الحريات الدينية

peshwazarabic19 نوفمبر، 20100

تأتي مادة الحرية الدينية في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان استجابةً للتطور الفكري للإنسان واستخلاصا للتجربة البشرية المتراكمة عبر المكان والزمان.من الضرورة هنا أن نشير إلى أن مصطلح الحرية الدينية ومفهومه الحديث لم يكن مستخدما في القرون الوسطى ,إلا أن ذلك لا يعني غياب الظاهرة وتجلياتها وتداعياتها. بل على العكس, فإننا نرى في المشهد الإسلامي القروسطي غنىً و تنوعاً يجعله خير موضع للدراسة والبحث والتحليل واستخلاص العبر والقوانين ويتطلب ذلك ملجدات ومجلدات.ولكنني سأكتفي هنا بتحليل ثلاثة نقاط:ما هو موقف القرآن/”الإسلام النصي” من الموضوع؟ وما هو موقف “الإسلام التاريخي” أو ما استقر عليه فهم المسلمين البشري للنص الإلهي في تلك الحقبة التاريخية؟ وكيف كانت ممارستهم العملية لهذا المفهوم؟ سنستعرض للموضوع بجانبيه: موقف الفرق الإسلامية فيما بينها (الآخر الملي) وموقفهم من أتباع كل الديانات الأخرى (الذمي).أما المعالجة فهي إجمالية للظاهر والأعم.
شكلت الدعوة الإسلامية المبنية على القرآن ثورةً في القرون الوسطى ,من حيث النظرة القرآنية المتميزة للإنسان والكون والله والمتقدمة بأشواط كبيرة على سائر الكتب الدينية والدنيوية.ومن أهم منجزات هذه الدعوة هي تقديم نظرية حية لما يصطلح عليه الآن ب “المجتمع المدني” من حيث حقوق الفرد والحريات والمشاركة والتعايش بين المجموعات القبلية والدينية والعرقية المختلفة,والتعاقد والتكافل.ولعل أبرز ما يميز القرآن هو تشديده على قيمة الحرية الإنسانية ومن بينها حرية الإيمان,كنتيجة حتمية للحكمة الإلهية التي تقضي بتكليف الإنسان العاقل وتقريره مصيره بنفسه في الآخرة بناءا على خياراته في الدنيا:”لا إكراه في الدين,قد تبين الرشد من الغي” “وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر”.
فقد اعتمدت دعوة الرسول على معجزة الكتاب ذو الأساليب البلاغية والحجج المنطقية والقيم الإنسانية و البراهين الدامغة,وكانت طريقته من جنس أدلته: “أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن”.وطالما أنه قد ظهر الحق,فلن يضره إيمان من آمن ولا كفر من كفر,فالمسألة شخصية بامتياز إذ يقول تعالى:” إنا أنزلنا عليك الكتاب للناس بالحق, فمن اهتدى فلنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها,وما أنت عليهم بوكيل”.وتتكرر الآيات القرآنية التي يحجب فيها الله عن رسوله صفة الرقابة الدينية عن كل الرافضين لاعتناق دينه,فلله وحده الحق في حساب الناس والقضاء بينهم يوم القيامة ولا شأن لأحدٍ بمحاكمة إنسانٍ على دينه في دنياه.وبما أنه اعترف لهم بحقهم بالوجود و الاختلاف وممارسة دينهم كما يريدون,فإنه قبل عضويتهم في المجتمع وفرض لهم حقوقا طالما أنهم راغبون بأن يكونوا جزءا من المجتمع المسلم,إذ يقول تعالى:”لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم,إن الله يحب المقسطين”.هذه هي رؤية الإسلام النصي للحرية الدينية التي عاشها العهد النبوي.
في الجانب الآخر,لم يكن الناس في العصور الوسطى مؤهلين كفايةً لاستيعاب كافة تداعيات النقلة النوعية التي أحدثها الإسلام.فصاغوا فهماً إسلامياً على قدر عقولهم يوافق أوضاعهم ورؤاهم السياسية والاقتصادية-الاجتماعية  في تلك الفترة التاريخية, وذلك ما نسميه “الإسلام التاريخي”. ويبدو هذا جليا من خلال فشل تجربة الشورى والحرية السياسية التي أقرها القرآن وكرسها رسول الله عندما مات ولم يستخلف من بعده,فدب القتال بعد 25 سنة من موته وعادت القبلية من جديد تنافس المجتمع المدني الذي تركه النبي,وتحولت الخلافة إلى ملك.
وفي خضم التجاذبات السياسية, كان لا بد للآراء السياسية أن تتحول لاحقاً إلى آراء دينية,تغذي السياسة وتحميها والعكس صحيح. وبدأت “صناعة الدين” بتحجيم القرآن ابتداءاً من أدلجة التفاسير و صناعة الحديث واستعماله كسلاح سياسي, وصولاً إلى إضافة مصادر تشريع بشرية جديدة تنافس القرآن في سلطته : فبعضهم يشرع القياس وآراء الصحابة والشرائع السابقة والإجماع, وبعضهم يشرع أقوالا ينسبها لأئمة معصومين, يأمرون وينهون كالله في كتابه.فتعددت مصادر استسقاء الشريعة بنسب متفاوتة بين الفرق الإسلامية, رغم تحريم الله لذلك في عدة آيات قرآنية.
والمثير للاهتمام أنهم وبالرغم من اختلافاتهم السياسية والعقائدية,اتفقوا على تشريع حكم جديد اسمه “حد الردة” ,حيث يجوزون إكراه من ولد لأبٍ مسلمٍ على أن يكون معتنقاً لهذا الدين,وإلا فمصيره القتل.إذ أنه ليس من حقه الكفر أو الخروج عن الدين بخلاف من ولد من أتباع الديانات الأخرى,إذ يحق له أن يختار ما يشاء من عقائد بحرية تامة.والواقع التاريخي يثبت أن هذا الحكم إنما استخدم لتكفير بعضهم البعض لأسباب سياسية بالدرجة الأولى وليس إزاء أشخاصٍ تركوا الإسلام فعليا.ولم يقف الأمر عند هذا الحد النظري,فإن تكفير المسلم في نظرهم يستدعي استباحة دمه وماله بخلاف الكافر الأصلي المقيم في المجتمع المسلم.ومن هنا تبدو المفارقة في الحرية الدينية:تعصب مقيت بين الفرق الإسلامية إزاء الآخر الملي, وتسامح لا مثيل له في القرون الوسطى, إزاء أتباع الديانات الأخرى.
لكن مجتمعات القرون الوسطى لم تفهم مبدأ الحرية الدينية كقيمة إنسانية معزولة عن السياسة والنظام والسلطة,فكفلوها لكل الكفار وأنكروها للمسلم.وأعتقد أن السبب في ذلك هو الاعتقاد بأن الكافر هو أصلا خارج مفهوم الحقيقة والنور الذي نزل,وبالتالي فلا يضر سواء بقي على دينه أم أسلم أم اعتنق ديانةً أخرى أم ألحد.أما المسلم المخالف فهو منافس في تعريف هذه الحقيقة وامتلاكها واحتكارها, وبالتالي فإن القضاء عليه أسهل من فتح باب هذه المنافسة,لذلك فالخصومة هنا أشد.حقا,من العجيب أن نعلم أن صلاح الدين الأيوبي,ذاك القائد العظيم, قد أرسل طبيبه الخاص لمعالجة ريتشارد قائد الصليبيين الذين فتكوا بالمسلمين واحتلوا بيت المقدس,ذاك القائد هو نفسه الذي أمر بقتل الفيلسوف السهرودي.من العجيب أن كلاهما سني شافعي,ولكن السهرودي ذو ميول صوفية اشراقية تستوجب القتل عند صلاح الدين.
كذلك,فإن الأقليات الدينية سواء كانت مسيحية أو يهودية أو صابئة أو هندوسية,تبقى أقليات مهما ارتفع شأنها فلن تصبح يوماً على رأس الهرم.أما الآخر-الملي ,فإنه متى ما استحكم وقويت شوكته,صار مرشحا لاستلام السلطة واضطهاد الفرق الأخرى من ملته.ومثال على ذلك ما فعله أمير العراق خالد القسري.بنى لأمه المسيحية الرومية كنيسةً كي تتعبد وذويها فيها.بينما هو نفسه الذي نحر يوم العيد أخيه المسلم الجعد بن درهم,فقط لأن مذهب الأخير يخالف أيديولوجيا النظام الحاكم. والتاريخ يشهد بأنه كلما زادت السلطة في إضطهاد فرقة ما,كلما زادت هذه الفرقة في جرعة تسييس الدين.وكلما تدخل النظام بالشؤون الدينية,كلما تقلصت الحرية الدينية.وبعيدا عن الدوائر السياسية,فإن المثقفين من كل الفرق الإسلامية كانوا يتنقلون بين المذاهب ويتجادلون ويتناظرون بحرية وتسامحٍ كبيرين.أما أهل الذمة من سائر الأديان,فقد ظلوا يتمتعون باستقلال داخلي يضمن لهم تطبيق شريعتهم لدرجة أنهم كان يسمح لهم بما هو محرم على المسلمين.وقد كانوا مصانين أيضاً في دمائهم وأموالهم وأعراضهم,ينافسون المسلمين في المناصب الإدارية والتربوية والعلمية والثقافية.
وأخيراً,وتأكيداً لما نظّرت له,أقول: إن البنيان السياسي الاجتماعي الذي سمح لليهود بتكوين عصرهم الذهبي في الأندلس,هو نفسه الذي سمح بإحراق بعض كتب ابن حزم الأندلسي ,حتى قال:
فإن تحرقوا القرطاس لا تحرقوا الذي    تضمنه القرطاس بل هو في صدري
يسير معي حيث استقلت ركائبي              وينزل إن أنزل ويدفن في قبري

peshwazarabic19 نوفمبر، 20100

لقد كانت مشاهد تراجيدية و مؤثرة تلك التي شهدها ميناء الدار البيضاء في الستينات من القرن الماضي عندما كانت أفواج من اليهود تغادر المغرب في اتجاه فرنسا أو كندا أو إسرائيل. حالات من التمزق و البكاء على فراق وطن عاش فيه أجدادهم منذ قرون، على الأقل منذ دفعهم التعصب الديني و محاكم التفتيش إلى مصاحبة المسلمين إلى شمال إفريقيا. إنها لمفارقة غريبة حقا هذه التي تجعل أناسا يحزنون لمغادرة بلد عاشوا فيه كأقلية دينية وسط أغلبية ساحقة من المسلمين. هل كان شعورهم مثل أي يهودي في القرون الوسطى لا يعتقد أن بإمكانه العيش في دار أخرى غير دار الإسلام كما يقول الكاتب الفرنسي جاك أتالي على لسان بطل روايته التاريخية “زاوية المستنيرين”؟  هل مجرد شعور الحزن هذا الذي صاحب رحيلهم يعطينا الحق في الجزم أنهم عاشوا في وضعية جيدة بين المسلمين؟ هل تواجد المسيحيين و اليهود بكثافة  في الشرق الأوسط و شمال إفريقيا يدل على أنهم تمتعوا بحرية كاملة في المجتمع الإسلامي الذي عاشوا فيه؟
إن الإجابة عن هذه الأسئلة تتطلب تحليلا دقيقا و موضوعيا لوضعية الأ قليات الدينية و هامش الحرية الذي تمتعوا به في المجتمعات الإسلامية في القرون الوسطى.
أهل الديانات الأخرى في التشريع الإسلامي
إن الإسلام يقوم على مبدأ نشر الدعوة أي دفع غير المسلمين إلى اعتناقه. .لكن و في مقابل ذلك أقر وضعا خاصا لأصحاب الديانات السماوية الأخرى من النصارى و اليهود و الصابئة.  فاعتبر من عاش بينهم تحت حكم المسلمين أهل ذمة.  أي  أولئك الذين أعطوا العهد من طرف الدولة الإسلامية على حماية عرضهم و دينهم و مالهم مقابل ضريبة يدفعوها لبيت مال المسلمين تسمى “الجزية”. ويدهب البعض إلى أن هذه الضريبة هي تمييز في حق أصحاب الديانات الأخرى وإمعان في إذلالهم بعد استيلاء  المسلمين على أراضيهم.  في حقيقة الأمر إن الضريبة التي كان يدفعها غير المسلمين من اليهود و النصارى كانت تعفيهم من أداء فريضتين من الفرائض الواجبة على المسلمين و هما الجهاد و الزكاة. وإذا أخذنا بعين الإعتبار كيف كانت الحروب أمرا شائعا في القرون الوسطى و ما تشكله المشاركة فيها من تهديد حقيقي على حياة الإنسان فإن الإعفاء من هذا الأمر لا يقدر بثمن.  و قد دهبت بعض المصادر إلى أن أفراد القبائل اليهودية والنصرانية ممن حاربوا في صفؤق المسلمين قد أعفوا من أداء الجزية.  و نذكر في هذا الصدد حالة أهل الحيرة الذين كانوا يعتنقون النصرانية و كانوا يعيشون على حدود الدولة الإسلامية مع الروم، فعندما جمع هرقل الجيوش لحرب المسلمين الذين لم يقووا على حربه في هذه الفترة أمر الخليفة ولاته برد أموال الجزية إليهم.
أما عن حرية أهل الذمة في ممارسة شعائرهم الدينية فصحيح أنهم لم يكونوا يتمتعوا بالحرية الكاملة في بناء الكنائس و البيع فإنهم كانوا يتوفرون علي  قدر معقول من الحرية في أداء فرائضهم الدينية.  كما حا فظت الدول الإسالامية المتعاقبة على الكنائس التي ظلت قائمة منذ قرون لكي تقام فيها شعائر المسيحيين.
و قد يبدو هذا الأمر عاديا إذا ما قارناه بالبيئة المتسامحة للديمقراظيات الغربية الحالية لكن إذا عدنا إلى دولة دينية كتلك القائمة تحت حكم الملوك الكاثوليكيين في إسبانيا خلال القرون الوسطى لوجدنا كل المساجد قد تحولت إلى كنائس بعد استرجاع المسيحيين للأندلس.  ناهيك عن تنصير اليهود و المسلمين و طرد من رفض منهم إلى شمال إفريقيا.  و على النقيض من ذلك نرى كيف أن استرجاع المسلمين للقدس على يد صلاح الدين لم يغير المعالم المسيحية للمدينة التي لا تزال قائمة لحد الآن.
الوضعية الإجتماعية و السياسية لليهود و النصارى داخل المجتمعات الإسلامية في القرون الوسطى
في البداية لا بد من الإشارة إلى أنه كانت هناك قواعد مجتمعية يمكن اعتبارها تمييزية في حق اليهود و النصارى. و هي أقرب إلى العادات و التقاليد منها إلى التشريعات و النظم. و من ذلك أن منازل أهل الذمة لا يجب أن تتجاوز في  العلو منازل المسلمين كما يمنع عليهم البناء قرب المساجد.  و من أجحف هذه التقاليد في نظرنا تلك التي كانت تلزم اليهودي بالنزول من فوق دابته إذا مر بجانبه مسلم.
إذن فأهل الذمة لم يكونوا يوما رعايا متساوي الحقوق و الواجبات مع باقي أفراد المجتمع من المسلمين. لكن وبدون شك فإنهم تمتعوا بهامش من الحرية يعتبر الأكثر جرأة في مجتمعات القرون الوسطى حيث كان الإستيلاء على الأراضي وتهجير ساكنيها أمرا شائعا.  و يتضح هذا الأمر جليا في المقولة التالية للمستشرق المعروف برنارد لويس :” إذا ا قارننا بين الإسلام  النظري و التطبيقي و الديموقراطيات الغربية الحالية فإن نتائجه ستكون باهتة لكنه سيتفوق بسهولة على المجتمعات المسيحية التي سبقت التطور الديموقراطي في أوروبا. ليس في الإسلام ما يشبه أفكار الإدماج و القبول التام بالآخر لكن ليس فيه أيضا ما يشبه ا لطرد الجماعي لليهود و المسلمين و محاكم التفتيش في إسبانيا انكاتوليكية”.  لقد كان أفراد الأقليات الدينية هم الضحايا الأوائل لأعمال النهب و التخريب التي عادة ما تصاحب الفتن و القلاقل. لكن و في فترات الإستقرار السياسي كانو ا يعيشون بسلام وسط المسلمين. أما في فترات الإزدهار المتميزة في تاريخ الحضارة الإسلامية كالخلافة العباسية ببغداد و الأموية بالأندلس، فهناك شبه إجماع بين المؤرخين على نشوء بيئة حفزت على الخلق و الإبتكارفي مجالات العلوم و الآداب. بيئة شارك فيها غير المسلمين من اليهود و النصارى فألفوا الكتب و مارسوا التجارة و ا حتلوا المناصب العليا في بلاط السلاطين.
فهذا الفيلسوف اليهودي موسى ابن ميمون  الذي ولد في قرطبة و عاصر ابن رشد و سار على نهجه في شرح أرسطو و التقريب بين الفلسفة و الدين، لكن مصيره كان أفضل منه حين هاجر إلى مصر و أصبح الطبيب الخاص للسلطان صلاح الدين.  وفي عصر الخلافة الأموية في الأندلس أصبج اليهودي حصداي ابن شتروت الطبيب الخاص و المستشار الأول والمكلف الفعلي بالعلاقات الخارجية و ا اتجارة في بلاط عبد الرحمن الناصر. أما المسيحيون فقد برعوا في عهد الدولة العباسية في ترجمة كتب الإغريق من اليونانية إلى السريانية إلى العربية وقد كانت أهم مراكز الترجمة بالموصل و الرها وقنسرين. أما المترجمون المسيحيون قكان من أشهرهم إسحاق ابن حنين و متا ابن يونس و يوحنا ابن البطريق.
إن هذا الموضوع يجر نا إلى الفترة الراهنة و إلى نقاش عقيم غالبا ما يدور بين الإسلاميين و العلمانيين. ففي الوقت الذي يعتمد فيه الإساميون على قراءة انتقائية للتاريخ الإسلامي تركز على الفترات الزاهرة فيه، لا ينصف العلمانيون الإسلام بالإصرار على مقار نته بالديمقراطياث الحديثة و ما تمنحه من مواطنة كاملة للأقليات الدينية.  و الحقيقة تبقى بين هذين النقيضين، فعلي المسلمين أن يعتزوا بهامش الحرية الذي وفرته الدولة الإسلامية لليهود و النصارى في القرون الوسطى و في نفس الوقت  يجب عليهم أن يعملوا على رفع كل أشكال الحيف و الميز التي تطال أفراد الأقليات الدينية بل يجب الاتجاه نحو تحقيق مساواة كاملة في الحقوق و الواجبات بين كل المواطنين. إن خلق بيئة تتسم بالتسامح و الحرية و التعددية لكفيل بإعادة روح الخلق و الإبتكار و الإبداع إلى المجتمعات الإسلامية.  روح قد تساعد على إطلاق د ينامية اقتصادية تخرج البلدان الإسلامية من براثين التخلف و تدفع بها نحو إرساء دعائم تطور اقتصادي و سياسي.

peshwazarabic19 نوفمبر، 20101

رغم تأكيد وتشديد الشرعة الدولية لحقوق الإنسان على حرية المعتقد فضلا عن حرية التعبير، كما يتجلى في المادتين الثامنة عشر والتاسعة عشر من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، إلا أن الأنظمة السياسية الحاكمة والأنظمة الثقافية والدينية السائدة لا تزال تتوجس الخطر والريبة في كليهما، فكما أن حرية التعبير عن العقائد والأفكار ستهدد استقرار السياسي المرتجف، فإن حرية المعتقد ذاك الاعتقاد الباطن الساكن، الذي لا يمكن لغير صاحبه الحسم به أو السيطرة عليه، سيهدد مستقر القداسة السائد الذي تدين به الجماعة الثقافية الغالبة!
ليست الشرعة الدولية وحدها التي نصت على حرية التعبير والمعتقد، بل إن الطبيعة الإنسانية والسنن الحضارية والتاريخية، تؤكد عليها كذلك، وهما حرية مقدسة لا يعني اغتيالها إلا حياة نيرانها، وكم من عقائد انتصر لها الحكام ماتت واندثرت حيث لم تقو على مصارعة الزمان واختباراته، وكم من عقائد انتفض ضدها الحكام ورجال الدين لكنها انتصرت ولم تنهزم أمامهم، وظلت شاهدة على من صلبوا أصحابها أو كفروهم أو رموهم بما شاءوا..
إن التاريخ والزمن هما المختبر الحقيقي للأديان والمعتقدات، وليس يجدي قمعها أو وأد ممثليها، فقد قتل مزدك ولكن لم تمت المزدكية بموته ولكن ماتت بفعل التاريخ الذي لم تصمد بنيتها وحيويتها في وجه حياته وحركته، وحورب الأنبياء والمرسلون دائما، وقتل كثير منهم ولكن لم تمت الأديان بموتهم بل انتشرت وسادت ودبت فيها الحياة، لأن حيويتها كانت الأقوى والأقدر على فعل التاريخ وكان عمرها أضعافا لا تنتهي من أعمار جلاديها!
ربما كان لا بد من هذه المقدمة قبل الدخول في موضوعنا حول الحريات الدينية في العالم العربي، والذي نرى أنه قد غدا ذا أهمية خاصة بعد صعود مسألة التحولات الدينية كأبرز أشكال الاحتقان الطائفي في بلد كمصر في العام المنصرم سنة 2008، وخاصة في التحولات من الإسلام إلى المسيحية أو العكس،  كما شهد العامان الأخيران استقطابا واحتقانا في العلاقة بين السنة والشيعة الإمامية، الطائفتين الأكبر بين المذاهب والفرق الإسلامية المعاصرة، نتيجة ما نسبه الدكتور يوسف القرضاوي، المرجعية السنية الصاعدة في الأعوام الأخيرة عبر قناة الجزيرة، لحكومة الثورة الإيرانية، التي احتفلت في فبراير سنة 2009 بمرور ثلاثين عاما على قيامها، بممارسة ما دعوه التبشير الشيعي، وهو ما لم يقف عند التبشير الفردي في بلدان ذات أغلبية سنية شأن مصر وقطر وغيرهما، بل يراه البعض الآخر تبشيرا منظما في بلاد كسوريا، التي ترفع النخبة العلوية الحاكمة فيها شعارا يراه البعض ميلا وشرعنة للتشيع والاستبصار، أي التحول من السنية إلى الشيعية، وهو شعار عودة الفرع إلى أصله، أي عودة العلوية النصيرية إلى أصلها الشيعي الإمامي، وهو ما يتزامن مع شراكة سياسية بين النظامين الحاكمين في البلدين!
هكذا يتعمق النقاش ويمتد حول مسألة الحريات الدينية ليكون استقطابا بين الأديان( المعرفة) وبين السلطة،  لتغدو المعرفة سلطة والسلطة معرفة، ولكل نزوع نحو الهيمنة والتوجس من الحرية الدينية وتحديدا حرية المعتقد، وحرية التعبير عنها، هذا التوجس الذي لا يناسب تطور الدولة الحديثة ولكن يمكن رده إلى خوف القبيلة على حرمها أو العذراء على بكارتها، ليس أكثر..
إن الصحة والياقة السياسية والمجتمعية لنظام سياسي أو مجتمعي أو ثقافي ما لا تمكن قراءتها إلا في مرآة استيعابها الاختلافات داخل وحدتها، وكذلك السماح والتسامح تجاه الحركة التفاعلية بين هذه الاختلافات، دون التقييد والتسفيه والاتهام لأحدها، أو التحريم والتجريم لآخر، وعيا وتأسيسا على حق تاريخي وطبيعي أن المرء والجماعة تعتقد ما تراه أفضل لها، ولا يمكن إجبارها على اعتقاد لا تعتقده، فلا سلطان على القلوب، إلا لمن يملك وما يملك القلوب! من هنا نرى أن الآية القرآنية” لا إكراه في الدين” لا تحدد سبيل الدعوة فقط ولكن تقرر حقيقة واقعية أنه لا يمكن إكراه أحد على الدين.. فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، هذه هي الحقيقة وغيرها هو الاستثناء.
وكم من مؤمن بدين يظن من أتقيائه وليس يبطن سوى عدائه، وكم من مستقيم على طريقة انقلب عليها وخرج عنها، عرفناه في تاريخ كل الأديان، كقصة السامري المشهورة في الكتب الدينية، وقصة يهوذا الإسخريوطي، وقصص في صدر الإسلام كقصة عبيد الله بن جحش أول المتنصرين من المسلمين، أو الرجال بن عنفوة أول المرتدين في بني تميم ومناصر مسيلمة الكذاب، بعد أن شهد له وفتن الناس بشهادته.
وعلى رجال الدين ألا يكابروا بكونهم حراسه فالدين يحرس نفسه، وقوته من داخله وليست خارجة عنه، فالأديان تنتصر وتنهزم بقوانين الأديان وليس بقوانين الدنيا، وكم من أصحاب دين هزموا ونكل بهم ولكن انتصرت أديانهم ومعتقداتهم وهم شرود في الأرض يبحثون عن ملجأ، فلم يعتنق قسطنطين( 272-337 ميلادية) المسيحية بقوة المسيحيين، ولم يضطره أحد إلى إصدار مرسوم ميلانو سنة 313 ميلادية قاضيا على أشكال اضطهادهم خوفا منهم، كما لم يعتنق المغول في القرن الثالث الميلادي أو السلاجقة في القرن الحادي عشر الإسلام لقوة المسلمين لغلبتهم، ولكن طواعية لما رأوه في هذا الدين من مناسبة واقتناع لهم، كما يلاحظ السير توماس أرنولد.
يروى ابن كثير في أحداث عام 622 هجرية أن طغرلبك حاكم الموصل أمر ابنه بالتنصر من أجل تزويجه بأميرة انطاكية المسيحية وضم المملكتين، أو إسلام أحد ملوك الصرب غزلا للعثمانيين، ولكن لم يسلم الصرب! إن للأديان قوانين لا يمكن السيطرة عليها أو توجيهها بأدوات القوة والملك، لأنها اعتقاد مبطن في القلب، يختاره صاحبه ولا يمكن خلعه منه إلا إذا كان سهلا خلعه أو هينا اعتقاده دون اضطرار!
كم من داعية للإسلام انقلب حاله فصار داعية للمسيحية، شأن الأب ميخائيل منصور ت 1918، وكم من مبشر بالمسيحية صار داعية للإسلام شأن الفرنسي إبراهيم أحمد والكندي جاري ميلر، وكم من يهودي أسلم ونافح عن الإسلام طواعية شأن عبيد الله بن سلام و محمد أسد، وكم من آخرين أظهروه ولم يبطنوه مثل أتباع شبتاي صبي( يهود الدونمة)..
إن حوادث التاريخ ملأى بحالات التحول والحوار الديني والمذهبي، وهناك أسماء كثيرة دالة على ذلك في التراث العربي والإسلامي، مثل ليون الإفريقي وابن زرعة الفقيه وحبييب بن الأشرس وغيرهم، وإنكار مثل ذلك إنما هو منطق القبيلة لا منطق التاريخ!
كما شهد مسجد المنصور في القرن الرابع الهجري جدالا منتظما بين أنصار ورموز المذاهب والأديان المختلفة آنذاك، فكان يجتمع المسلم والمسيحي والمجوسي واليهودي والصابئي في المسجد يتبادلون الحجج والبراهين دون تعصب أو تزمت أو كراهية!
بل نزيد ونقول أن بعض منتقدي الإسلام وأشد مناوئيه شأن منصور بن سرجون المعروف بالقديس يوحنا الدمشقي ت 947 هجرية صاحب أول كتاب في نقد القرآن وهو ” الهرطقات المائة” لم يكن سوى صديق مقرب من البلاط الأموي كما كان والده وزيرا لمعاوية بن سفيان!
أمثلة كثيرة يمكن أن نسوقها تؤكد على أن الحرية الدينية حق طبيعي ومعيار للسلامة المجتمعية والمواطنية وتاريخ طويل أريد له النسيان والاستبعاد في الدولة العربية الحديثة!!.

peshwazarabic19 نوفمبر، 20101

كثيرا ما يتم تصوير المجتمع العربي الإسلامي في العصور الوسطى، من قبل المؤرخين العرب الكلاسيكيين ومن قبل علماء الدين، على انه نموذج المجتمع القائم على التسامح والحريات الدينية،حيث يضربون المثل، عن قصص التسامح هذه، ومع أن الأمر لا يخلو من بعض الحقيقة، ولكن لا نظن أن صور التسامح الديني آنذاك، قد تطورت إلى مستوى الحريات الدينية، ولذلك يجب عدم المبالغة في الحديث عن الحرية الدينية التي سادت مجتمع دولة الخلافة، لأنها كانت حرية جزئية وانتقائية ونسبية، فرضتها الظروف التي رافقت الدعوة الإسلامية في مختلف مراحلها. فالدين الإسلامي إلى جانب روحانيته اعتمد منذ بداياته على التنظيم والفكر السياسي، وقد اشتغل المؤسسون الأوائل على التكتيك والاستراتيجيا آخذين بعين الاعتبار الظروف الموضوعية التي تؤثر في اتخاذهم القرارات المصيرية أو تبني المواقف من المسائل الهامة التي واجهتهم، ومن هذا المنطلق حددوا مواقفهم من مسألة الحريات الدينية. فعلى الجانب النظري مبدئيا وردت نصوص شرعية تعترف بالحرية الدينية ” ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفانت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين” ومن هنا جاءت مقولة لا إكراه في الدين، التي تؤكد الحرية الدينية، فهل اقروا الحرية الدينية عن قناعة أم كانت نتيجة ظروف معينة تطلبت التساهل مع غير المسلمين.
من خلال تتبع مسار الدعوة الإسلامية يمكن ملاحظة حركية موقف العرب المسلمين، من الحرية الدينية، الذي لم يكن أكثر من تكتيكات مرحلية، وضعت لخدمة الأهداف النهائية، ولهذا نجد بعد اشتداد عود الدعوة، خروقات كثيرة للحرية الدينية، على صعيد الواقع، وهذا يعني أن الحرية الدينية لم تأتي من إيمان وقناعة بل كانت مناورة سياسية – عسكرية لا بد منها، فقد ارتبط الموقف من الحرية الدينية بسير الأحداث والظروف على ارض الواقع وفق المراحل التالية :
أولا – مرحلة تأسيس الدعوة : كان المسلمون مستضعفون لذلك اكتفوا بالهدايا ولم يكرهوا الناس على الدخول في الدين الجديد، تجنبا لأذى قريش، ورغبة في إعطاء جمهور مكة انطباعا بان الإسلام دين التسامح واليسر، حتى يكسبوا الأنصار إلى صفوفهم، لذلك تساهل المسلمون الأول مع اليهود والنصارى والمشركين، على قاعدة لا إكراه في الدين.
ثانيا – مرحلة التوطيد : اكتسب المسلمون شيء من القوة بعد الهجرة إلى يثرب وصار لهم نواة دولة تستطيع الدفاع عنهم، فلم يعودوا بحاجة ماسة إلى مهادنة الآخرين، وعلى هذا الأساس تبنوا نشر دينهم بين القبائل بحد السيف، وكان انتصارهم الكبير بدخول مكة وإرغامهم غالبية سكانها على اعتناق الإسلام، والقضاء على العبادة الوثنية وتحطيم الأصنام، وهذا مخالف كليا للحرية الدينية، وفي هذه الأثناء تم التخلص من اليهود بحجة تآمرهم على الإسلام، مع أن النصوص الشرعية تنص على حقوق أهل الكتاب.
ثالثا – مرحلة القوة والتوسع : تطلع العرب المسلمون إلى انتزاع أملاك دولتي الفرس والروم وهما اكبر قوتين في عالم العصور الوسطى، ولهذا لم يعتمدوا على الدافع الديني و القوة العسكرية وحدهما في الصراع مع هذه الدول، بل درسوا الجغرافية البشرية والدينية لسكان المنطقة، فوجدوا طوائف من أهل الكتاب في العراق وسوريا ومصر، إلى جانب الزرادشتية والصابئة في العراق وكردستان وإيران، وهذه كلها ديانات عريقة راسخة في أفئدة الناس، فكان على العرب المسلمين تجنب الدعوة إلى إكراه هؤلاء الناس على الدخول في الإسلام، حتى لا ينضموا إلى صفوف الروم أو الفرس لحماية أديانهم من الدين الجديد، ولهذا خاطب العرب المسلمون سكان تلك البلاد على أساس لا إكراه في الدين كدعاية سياسية لما نسميه اليوم بالحرية الدينية، وحين دخل العرب مدن الشام ومصر فقد تعاقدوا مع أهل الكتاب على الحرية الدينية، ذلك لأنهم لم يحققوا انتصارا حاسما على دولة الروم المسيحية، التي بقيت متاخمة لحدود دولة الخلافة، وقد بقي المسيحيون من رعايا دولة الخلافة يتطلعون إلى بيزنطة كحامية لهم، يمكنهم الاستنجاد بها والتعاون معها على محاربة دولة الخلافة فيما لو انتهكت حريتهم الدينية. ولهذه الاعتبارات السياسية والإستراتيجية فقد حرصت دولة الخلافة على منح المسيحيين قدر ثابت من الحرية الدينية وذلك بالسماح لهم في البقاء على دينهم وأداء عباداتهم في مجتمعاتهم المحلية وعدم التدخل في شؤونهم الملية، ولكن الحرية الدينية بقيت منقوصة وقد تعرضت لانتهاكات كثيرة، فقد حولت العديد من المعابد اليهودية والمسيحية إلى مساجد ومنها الجامع الأموي بدمشق، وتم إتلاف الكثير من الرموز الدينية من إيقونات وصلبان وتماثيل، ولكن اخطر الانتهاكات كانت تلك التي اعتبرت اليهود والمسيحيين من أهل الذمة، يعني مواطنون من الدرجة الثانية عليهم دفع ضريبة إلى دولة الإسلام مقابل إقامتهم فيها وحفاظهم على دينهم، وكل هذه الممارسات مخالفة للحرية الدينية، هذا بالنسبة لليهود والمسيحيين الذين يعتبرهم النص الشرعي من أهل الكتاب ويعترف بحقوقهم صراحة. أما بالنسبة لأتباع الديانات الأخرى فقد تمت مصادرة حقوقهم الدينية كاملة، حيث وجدوا أنفسهم أمام خيارات صعبة وهي إما القبول بدخول الإسلام أو القتل، لم يتساهل العرب المسلمون مع أتباع الديانات القديمة في كردستان والعراق وإيران، فقد كافحوا الزرادشتية والمجوسية واعدموا كتبها المقدسة ودمروا معابد النار واعتبروا المؤمنين بها مشركين وكفرة وأجبروهم على اعتناق الإسلام. وحين حاول هؤلاء إحياء ديانتهم القديمة الصقت بهم تهمة الزندقة ليتم إعدام الكثيرين منهم في عهد الخليفة العباسي المهدي، وكان الاستثناء الوحيد في هذا الجانب هو سماح الخليفة عمر بن الخطاب للصابئة بالبقاء على دينهم، وكان التشدد تجاه هذه الأديان نابعا من زوال دولة الفرس وبالتالي لم يكن للعرب المسلمين مخاوف من التجاء السكان إلى دولة أخرى، فانفردوا بهم وقضوا على دياناتهم، وهذه ممارسات منافية للحرية الدينية.
لقد نال أهل الكتاب شيء من الحرية الدينية في بعض مراحل دولة الخلافة، كاليهود في الأندلس وهذا يرجع إلى خوف العرب المسلمين من الإساءة إلى اليهود فيتحالف هؤلاء مع أعداء المسلمين من الأسبان فيخلقون لهم القلاقل، وهناك صورة أخرى للحرية الدينية تظهر في تسامح صلاح الدين الأيوبي مع المسيحيين بعد دخوله القدس، وهذا يرجع إلى شخصية هذا السلطان الذي اشتهر بالتسامح والعفو، إلى جانب نظرته السياسية الثاقبة، فقد أراد أن يحيد المسيحيين كي لا يقاتلوا إلى جانب الصليبيين، فأعلن منحهم حريتهم الدينية، ولكن لم يكن العرب المسلمين كرماء بهكذا مع أتباع الديانات الأخرى، أو مع المسلمين أنفسهم فالردة ممنوعة وعقوبتها القتل، وكذلك فان أتباع المذاهب الإسلامية كانوا وما زالوا يكفرون بعضهم بعضا، فأين هي الحرية الدينية التي يتحدثون عنها.
* زاكروس عثمان الفائز بالجائزة الأولى لمسابقة منبر الحرية 2009.
© منبر الحرية، 05 مايو 2009

peshwazarabic19 نوفمبر، 20100

بات من المؤكد والضروري أن نشر ثقافة التسامح والتعايش وقبول الآخر المختلف حاجة أساسية وملحة يجب زرعها في نفوس وعقول الجيل النشء، لأنها تساهم بشكل فعال في خلق جيل واع قادر على تحمل أعباء المسؤولية وقيادة المرحلة القادمة بشكل ايجابي وسليم، لأن مثل هذه الثقافة تشكل ترسيخاً قوياً لمعالم الوحدة الوطنية التي ينبغي بناؤها على أساس من الثقة وبعيداً عن الهواجس وحسابات الربح والخسارة.
لأن الثقافة بشكل عام هي ثقافة إنسانية، لذلك لا توجد ثقافة عديمة القيمة كلياً، أو ثقافة كاملة مكملة تحتكر الحقيقة الإنسانية وتختزل ثراء الوجود وتمتلك حق فرض معاييرها وإيديولوجيتها وأجندتها السياسية على الآخرين، بما في ذلك الليبرالية. لذلك نرى بأن السبب الكامن وراء الاستقرار النسبي والغنى الثقافي لمعظم المجتمعات الغربية يعود بالضبط إلى حقيقة أنها لا تعتمد على عقيدة سياسية وحيدة أو وجهة نظر واحدة للعالم.
ولا يتحقق التسامح وقبول الآخر، إلا بالحوار والتواصل، والمشاركة الحقيقية في اتخاذ القرار، لأن إقامة حوار بناء، وخلق فضاء للنقد والفكر المستقل يسود المجتمع حالة من الاستقرار والسلام والتعايش مهما اختلفت أعراق ومعتقدات أبنائه.
وإن الحوار والتواصل دائماً وأبداً هو الطريق الصحيح لحل كافة القضايا العالقة، وهو  البديل الصحيح عن فرض الرأي بالقوة، وبالحوار نحافظ على التواصل والمحبة والسلام، ونعمق معاني الديمقراطية والتعاون، ولا يكفي لنجاح الحوار مجرد الدعوة إليه دون اتخاذ خطوات عملية تترجم ما اتفق عليه من قبل الأطراف المتحاورة على أرض الواقع، وتنمي الثقة بين المتحاورين، فإذا لم يطمئن المتحاورين إلى المصداقية في إجراء الحوار، وإذا لم تستبعد العوائق والموانع فيصبح الحوار بدون غاية أو هدف، أو مجرد حوار من أجل الحوار.
إن المجتمع المتجانس ثقافياً يتمتع بقوة مميزة خاصة به، ويخلق مناخاً تشترك فيه الثقافات المختلفة لحوار مثمر يعود بالنفع على الجميع، ويساعد على إقامة حس مجتمعي تكافلي، وبذلك يسهل عملية التواصل الداخلي بين أبناءه، ويغذي ثقافة كثيفة متماسكة ويمدها بأسباب الحياة.
وإن قبول ثقافة الآخر المختلف لا يعني بالضرورة الاقتناع بها، إنما هو إقرار بوجود الاختلاف معها وبوجود هذه الثقافة وقبولها من قبل الآخر، شرط أن لا تكون تلك الثقافة مبنية على حساب حقوق الآخر أو وجوده، كما ويجب النظر إلى الآخر المختلف من دون تمييز بسبب الجنس أو الدين أو القومية أو الخلفية الاجتماعية أو الاتجاه السياسي أو أي سبب آخر، وطالما أن الاختلاف لا يكون على حساب وجود الآخر أو حياته، فالآخر هو فرد مواطن، له نفس الحقوق وعليه نفس الواجبات، فيجب احترام هذا الاختلاف والعمل على تعزيز قبول ثقافة الآخر المختلف مهما بلغت درجة الاختلاف، وتفعيلها بشكل طبيعي بما تنسجم مع واقعنا ومتطلباته.
وإن التسامح والديمقراطية لهما اتجاهان أي اخذ وعطاء وتفاعل ايجابي مع قيم إنسانية جديدة بعيدة عن روح التعصب والكراهية وشطب الآخر المختلف.
حيث إن غياب الديمقراطية تنعدم إمكانية تكافؤ الفرص في التعبير عن الرأي, وإن غياب العدالة السياسية تنقطع فرص الحوار والتواصل بين مكونات المجتمع, وإن غياب سلطة القانون يقع الضرر على الجميع بدون استثناء.
في المجتمعات الغربية توجد مئات من المجلات والكتب والجمعيات والهيئات والمواقع التي تمارس النقد المعرفي للدين، ويتقبلها الوسط الثقافي والاجتماعي الغربي برحابة صدر، دون أن يضيق بها أحد أو يدعو إلى الحد من حريتها، أما في مجتمعاتنا فيواجه النقد المعرفي للدين بالرفض والاستهجان، بل وبالدعوة إلى محاكمة من يمارسه بحجة إهانة (للمشاعر الدينية وللمقدس).. لأننا لم نصل بعد إلى أمر هام وهو أنه في النقد المعرفي لا توجد مقدسات تعلو على النقد.
إن مثل هذه الثقافة مفهومة، لأنها رد الفعل الطبيعي لمن لم يتعلم بعد ثقافة الاختلاف والتعددية الفكرية، ولم يعتد على قبول الآخر المختلف، ولذلك من الطبيعي أن نسمع من يصف النقد المعرفي للإسلام وبنيته الفكرية بأنه إهانة للمقدسات.
ولكن غياب ثقافة التسامح وقبول الآخر المختلف هو من أكثر عوامل الواقع الذي يعاني منه مجتمعنا في الوقت الحاضر، وهذا يمثل مسؤولية يجب أن يضطلع بها الجميع من قوى سياسية ومنظمات مجتمعية ومؤسسات ثقافية وحتى علماء دين، ولكن بعض ما تم ذكرها هو فاقد لما عليه أن يعطيه للمجتمع، وحيث أن فاقد الشيء لا يعطيه بأي حال من الأحوال.
وإن الاعتراف والإقرار بثقافة التسامح وقبول الآخر والاعتراف به هو أمر جيد ومقبول نظرياً ولكن يجب العمل والنضال من أجل ترسيخ قيمة هذه الثقافة وتطبيقها في الحياة اليومية بشكل يعود بالفائدة على الجميع دون استثناء.
من أجل العمل على نشر هذه الثقافة لا بد من اتخاذ بعض الخطوات العملية في هذا المجال ألا وهي:
– تبني برامج علمية وذلك لتنمية وعي مجتمعي…
– وضع مناهج تعليمية جديدة لإعداد جيل واع قادر على تحمل أعباء المرحلة…
– إيجاد أدوات إعلامية متطورة على جميع الأصعدة…
– نبذ كل أشكال التطرف والتخلف والتشدد في المجتمع عن طريق إقامة دورات تعليمية وندوات تثقيفية…
إن فكرة التسامح وقبول الآخر، واللجوء إلى الحوار وإلغاء فكرة شطب الآخر والثأر وإناطتها بالقانون، يعتمد على استعداد الأطراف التي تريد بناء مستقبلها على أساس تغليب المصلحة العامة على الخلافات الشخصية والمشاعر الدفينة البعيدة عن التعقل والتروي في نتائجها.
وهنا لا بد من الإشادة إلى بعض الشخصيات التاريخية المتسامحة:
– المهاتما غاندي: صاحب سياسة المقاومة السلمية (فلسفة اللاعنف) وتسامحه ومن أقواله:
“أين يتواجد الحب تتواجد الحياة.”
“إن اللاعنف هو القوة العظمى لدى الإنسان. وهو أعظم من ما أبدعه الإنسان من أكثر الأسلحة قدرة على التدمير.”
توفي مقتولاً برصاص شخص هندوسي متعصّب لم ترق له عظمة التسامح الغاندية.
– القائد الكردي مصطفى البرزاني المعروف بتسامحه وتعامله الإنساني مع الأسرى، فعبر ذات مرة بصريح العبارة عن إستراتيجيته العسكرية قائلاً: ( إن عقيدتي هي تحقيق مطالب شعبي وأن أفدي روحي في سبيل قضيتي …. وان حزبنا ليس ضد العرب ولا ضد أي قومية أخرى، ولا نشارك في ثورة من أجل اسم أو شهرة، إن العرب والأكراد أخوة، ولا يجوز التفرقة بين الأخوة، إننا لم نهاجم أحداً بل ندافع عن حقوق شعبنا الكردي).
– بابا الفاتيكان والكاثوليك المسيحيين في العالم يوحنا بولص الثاني:  تعرض لحادثة اغتيال عام 1981 من قبل تركي متعصب يدعى (علي أقجا) فخرج على أثرها بجروح بالغة، وادخل المستشفى واخضع لعمليات جراحية كادت تودي بحياته، لكنه بالرغم من ذلك التقى بقاتله وعفا عنه وأخلى سبيله بكل رحابة صدر !!!
انه لمن الضروري نشر ثقافة الحوار و التعددية مهما كانت الضريبة، وبفضل العولمة والتقنية الحديثة، لا يمكن لأي مجتمع اليوم عزل نفسه عن المؤثرات الخارجية، خصوصاً مع انتقال رأس المال والتكنولوجيا والقوى العاملة والأفكار وما إلى ذلك بحرية عبر الحدود الإقليمية وبالتالي إنتاج صيغ جديدة للتفكير والحياة.
هذا هو مسار التغيير الذي يمكن أن يصالح الأنظمة العربية مع شعوبها و يمنحها القوة للتعبير عن مواقفها بثبات في المحافل الدولية. إن احترام الدول العربية لرأي شعوبها سيضفي قوة و شرعية على تمثيلية مؤسساتها السياسية. و سيجعل الدول الأخرى و على رأسها الدول الغربية تستمع لمواقفها و تحترم قضاياها.
© منبر الحرية،02 أبريل 2009

peshwazarabic19 نوفمبر، 20100

لا يمكن للمرء أن يخفي شعوره بالحيرة حيال ما يذهب إليه البعض من رأي غريب حول العمل لتحقيق “مصالحة” بين الإسلام والمسيحية. الكلام عن “المصارحة” ثم المصالحة بين هذين الدينين الكبيرين (باعتبار عدد الأتباع والإنتشار الجغرافي) تنطوي على وجود ثمة “خصومة”. ولا يدري المرء من أين أتت هذه الخصومة: هل هي من أصول وسيطة تضرب بجذورها في عصري الفتوحات الإسلامية ثم الحروب الصليبية، أم أنها من أصول معاصرة متطرفة تشتق فكرة العمل السياسي من إفتراض وجود صراع ديني؟ هذه أسئلة تستحق المناقشة، ذلك أنها تفرض على الصراعات الجارية اليوم أطراً دينية وحيدة الجانب. وهذه ليست حقيقة أو جوهر الأمر.
إن فكرة “الخصومة” بين الإسلام والمسيحية لا يمكن أن تكون مقبولة إلا بحسب معايير مختلة وخطيرة تنتشر هذه الأيام، ومن أهمها المعيار المعتمد على تقليص صراع الحضارات أو الحوار الثقافي إلى جزئية دينية مبتسرة ومخلة. فإذا ما كان هذا التقليص المشوب بالعصبية الطائفية وبالخلل يعتمد الإختلاف في الأنظمة الدينية، نكون قد قدنا أنفسنا نحو خصومات جديدة لسنا بحاجة إليها ولا تخطر على بال أحد. إن ثنائية التنافر/الخصومة قد تقودنا إلى حال من نوع أننا في خصومة مع الديانات العالمية الكبرى الأخرى كالهندوسية والبوذية والكونفشيوسية، من بين سواها من الأنظمة الدينية القديمة والتي يحتضنها الملايين من البشر. ولكننا ندرك جيداً أننا كمسلمين لسنا أعداء للهندوس ولا للبوذيين ولا للقبائل البدائية التي تؤمن بأنظمة روحية من أنواع مختلفة. إذاً، هل تنطلق المصالحة مع المسيحية من حقائق جغرافية/تاريخية قادت إلى إرتطامات بين كينونات مسلمة وأخرى مسيحية، نظراً لحقائق الجوار الجغرافي بين العالمين الإسلامي والأوربي المسيحي. ولنا في فتح الأندلس والبقاء العربي/الإسلامي المتحضر في شبه جزيرة إيبريا لثمانية قرون نموذجاً للطبيعة “الدورية” للتاريخ التي ترفع الأمم وتخفضها (حسب معايير التفوق والتقدم) على إيقاع أنماط تكرار تقدمها حركة الزمن في تيار التاريخ. ولنا، ثانية، في العصر الذهبي للكولونياليات الأوربية نموذجاً آخر يتغذى على حقائق وقوع العالم العربي والإسلامي تحت إحتلالات ووصايات إمبراطوريات أوربية، كبريطانيا وفرنسا وإسبانيا والبرتغال وإيطاليا، ذات تركيبات سكانية مسيحية.
ولكن لماذا يخلط المرء بين التفوق الذي تفرزه حركة التاريخ عبر هرمية وجود الأمم المتنوعة من ناحية ثانية، وبين التنوع الديني، من الناحية الثانية. مثل هذا الخلط يمكن أن يقودنا إلى مشاكل فكرية وسياسية يصعب الإفلات منها. إن الأدلة عديدة على أن حركة الإستعمار الأوربي كانت تتحاشى الإحتكاك بالإسلام، ديناً ونظاماً روحياً وإجتماعياً. بل أن اية دراسة متعمقة لتاريخ الإمبراطورية البريطانية في الهند تعكس إنحيازاً واضح المعالم من قبل الإدارة الإمبراطورية البريطانية للمسلمين الهنود على حساب الهندوس. وقد كرس اللورد ماكولي Macaulay، برغم نظرته الدونية للحضارات الشرقية عامة، هذا الإنحياز عندما وقف أمام الإختيار بين المسلمين والهندوس (في مناسبة خلافية) داعياً إلى نصرة المسلمين لأنهم “أقرب إلى معتقداتنا”، بمعنى أنه إعتمد عقائداً مثل التوحيد والإيمان بالآخرة وسواها من العقائد الدينية المتشابهة مع العقائد المسيحية كتبرير لذلك الإنحياز. وتدل المدونات التاريخية للإمبراطوريات الأوربية أنها كانت تتحاشى وبدقة متناهية الإساءة للإسلام في الأمم التي فرضت عليها الوصاية. لقد كان ضباط الإحتلال يسارعون دائماً إلى الإتصال بطبقة العلماء المسلمين من أجل تهدئة المخاوف الدينية وتجنب الإحتكاكات ذات الطابع الطائفي. لذا لم تعتمد أهم حركات التحرر من الإستعمار الأوربي على خطاب ديني وحيد الجانب.
إن الجدل الذي إستعر في العصر الذهبي للإمبراطورية البريطانية حول الإسلام إنما كان مهماً للغاية. ويمكن تتبعه من خلال السجال الذي دار بين المستشرق المهم رتشارد بيرتن Burton (أفضل مترجم لألف ليلة وليلة) وبين التبشيريين. لقد دعا التبشيريون الإنجيليون إلى أن يسبق المبشرون جنود الإحتلال البريطاني في الأصقاع الأفريقية التي يتم إحتلالها. وعلى نحو معاكس لذلك، دعا العلمانيون (ومنهم بيرتن نفسه) إلى أن يسبق الجندي المبشرين، خشية إثارة الحساسيات الدينية. وهذا ما حدث فعلاً، بالرغم من أن الخوف الهاجسي الذي كان يستشعره رجال الدين في بريطانيا وفي سواها من الدول الأوربية حيال الإنتشار السريع للإسلام في أفريقيا وجنوب شرقي آسيا، خاصة بين القبائل الوثنية. بيد أن علينا أن نتوقف عند حقيقة إستبعاد التبشير الديني المسيحي من “وليمة الإستعمار” عبر القرنين التاسع عشر والعشرين.
لم تكن الإدارات الإمبراطورية في باريس أو لندن ترنو إلى “سحق” الإسلام، ديناً ونظاماً إجتماعياً، ذلك أنها كانت تريد الهيمنة الإستعمارية والإقتصادية، وليس إلحاق “الهزيمة” بدين معين. والأدلة كثيرة على ذلك، ولكن أهمها كان قد قدمه أول المستعمرون القادمون إلى شرقنا العربي الإسلامي، نابليون بونابرت، الذي سارع فور وصول القاهرة إلى الإدعاء بأنه قد إعتنق الإسلام، واضعاً العمامة على رأسه ومتردداً على بعض الزوايا الصوفية هناك! لقد كان الجنرال الفرنسي يتصرف في مصر على أساس مصالح باريس، وليس على أساس مصالح الفاتيكان الذي تهيمن عقائده الكاثوليكية على أكثرية الشعب الفرنسي.
إن البناء على إفتراض خصومة أو نزاع ديني إسلامي / مسيحي قد يقودنا إلى معضلات خطيرة أخرى إذا ما وسعنا مداركنا، ومن أهمها معضلة طريقة التعامل مع الأقليات المسيحية الموجودة في العالم العربي الإسلامي، تلك الأقليات التي لا تشوب وطنيتها ودورها الإجتماعي البنّاء اية شائبة. والأدلة على ذلك أكثر مما يتوقع المرء. بيد أنه من المهم إستحضار نظرية الكاردينال “جون هنري نيومن” Newman Cardinal في كتابه المهم (تصويرات تاريخية: الترك وعلاقتهم بأوربا) Historical Sketches، ذلك أنه كان يصب جام غضبه على المسيحيين الشرقيين (الأتراك والعرب) لأنهم كانوا أخطر أعداء الكنيسة الكاثوليكية (حسب تعبيره) عبر سنوات الحروب الصليبية. لذا فأنه كان يكنيهم بأقسى النعوت، ذاهباً إلى أنهم كانوا أكثر خطورة في الحملات الصليبية على الأوربيين، مقارنة بالمسلمين أنفسهم. هذا الرأي هو الذي قاد نيومن إلى خلاصة مفادها أن الحملات الصليبية نفسها كانت قد فقدت بعدها الديني، الأمر الذي يبرر رأياً آخر يفضي إلى أن تشجيع الملوك الأوربيون للحملات الصليبية كان قد نبع، ليس من إيمأنهم الديني، وإنما من شعورهم بضرورات عسكرة المجتمع والتخلص من فائض القوة وطاقات التمرد من خلال إطلاق الحملات الصليبية نحو عالم آخر وتحت شعارات دينية عاطفية. وهكذا فقدت الحملات الصليبية، حسب هذا الرأي الحصيف، حتى معناها الديني لتغدو إجراءً سياسياً يعكس تحالف السلطة مع الكنيسة لخدمة أهداف أوربية داخلية لا صلة حقيقية لها ببيت المقدس، الأمر الذي يفسر الإحترام والتقدير العالي الذي خص به ملوك أوربا القائد المسلم صلاح الدين الأيوبي، حيث أنهم عدّوه مثالاً لفروسية رفيعة تفتقدها أوربا الآرية المسيحية آنذاك!
إن التاريخ يعكس شيئاً مثيراً للدهشة في تعامل الثروة والسلطة مع العواطف الدينية، حيث يوظف رأس المال هذه المشاعر لخدمته. وهذا يقود المرء إلى أن آليات الصراعات التي جرت وتجري بين أقاليم العالم الإسلامي والجوار الغربي لم تكن في جوهرها دينية، بقدر ما كانت ذات طبيعة سياسية وإقتصادية ركبت موجة العصبيات الدينية والطائفية لخدمة أغراضها الخاصة. وهذا حسب المعطيات المعاصرة الأكثر دقة هو ما يجري اليوم، ذلك أن رأس المال، الباحث عن المكاسب المادية، يرنو إلى دفع العالم نحو غياهب الصراعات الدينية والطائفية من أجل إرتقائه قمة الهرم الكوني.
© منبر الحرية، 1 مارس 2009

peshwazarabic19 نوفمبر، 20100

“لا إكراه في الدين”
القرآن الكريم، سورة 2، الآية 256


إن الفكرة الأساسية بأن حرية الفرد في الاختيار سوف تطور المجتمع بشكل كبير هي حجر أساس للفلسفة السياسية وللنظرية الاقتصادية للعالم الغربي. لقد أيّد الفلاسفة السياسيون الأوائل مثل جون ستيوارت ميل والاقتصاديون الأسطوريون مثل آدم سميث طريقة منفعية للحياة السياسية والاقتصادية، بحيث أن التحسن في مصالح ومنافع الفرد الواحد يساعد كذلك الآخرين. إن الحرية متعددة الاتجاهات، فالجوانب الاقتصادية والسياسية والاجتماعية مرتبطة ببعضها البعض، لكنها لا تُظهر توافقاً تاماً، فعلى سبيل المثال، هناك بلدان كالصين وسنغافورة سبقت فيها الحرية الاقتصادية الحرية السياسية.
يساهم هذا المقال في مجمل ما كتب عن الموضوع من خلال تقييم ومناقشة تأثير الحرية الدينية التي هي من الحقوق المدنية الأساسية، والتي تشمل حرية العبادة، والتحرر من الاضطهاد الديني، وحرية الصحافة الدينية، وحرية التعبير الديني، وحرية التنظيم الديني والانتساب للمنظمات الدينية. إن الأعمال التجارية العالمية يجب أن تُعنى بالحرية الدينية لأنها تؤثر على البيئة العامة للعمل، والعلاقات السياسية بين الدول، ورأي المستهلك بالشركات المنفذة للعمل في الدول التي تقمع الحرية الدينية. فحديثاً، اضطرت الشركة الصينية النفطية المحلية، العاملة مع جولدمان ساكس، إلى تقليل حجم خطتها لجمع الأموال مع مستثمرين أمريكيين بحوالي سبعة بلايين دولار بسبب ارتباطات الشركة بالسودان، والتي وصفتها الحكومة الأمريكية بأنها أكبر دولة منتهكة للحرية الدينية في العالم (شيا، 2000).
الحرية الدينية، مخاطر الدولة، والثقافة

لقد بحثت العديد من الدراسات في تأثير الحرية الدينية والثقافة على مناخ العمل، حيث قام ألون وسبتزر (2003) بالنظر في تأثير الحرية الدينية على عدة أشكال من مخاطر الدول، بحيث أنهم قارنوا بين حدة مخاطر الدولة ومستوى الحرية الدينية بالإضافة إلى العديد من المتغيرات الأخرى كذلك. وقد أظهرت نتائجهم بأن الحرية الدينية تؤثر في عوامل مخاطر الدولة إذا تم إدراكها من خلال الأعمال وليس من خلال البنوك. وقام لافوي وشاملي-رايت (2000) بوضع الدين ضمن سياق ثقافي أوسع وبحثوا العلاقة بين الثقافة وحوافز السوق، وجادلوا بأن هناك حاجة لإعطاء المزيد من الاهتمام للجانب “الروحي” للاقتصاد وعناصر أخرى من الثقافة، مثل “الروح الدافعة للمغامرة والريادية”.
وفي دراسة حول النمو الاقتصادي، وجد جونسون ولينارتوفيتش (1998) علاقة مهمة إحصائياً بين مقياسين للثقافة ومُعامل الحرية الاقتصادية. وأخيراً، بحث إستيرلي وليفين (1997) الاختلافات في بلدان ذات معدلات عالية من التنوّع العِرقي—والذي هو عنصر من البيئة الاجتماعية المتعلقة بالدين—ووجدوا أن استقطاب الجماعات العرقية يؤدي إلى سلوك نازع نحو الانشقاق ويُضعف الأداء الاقتصادي.
الحرية والرخاء

إننا في هذا المقال نستخدم عدة نماذج إنحدار لنرى كم من التنوع بين الدول من حيث حصة الفرد من الناتج المحلي الإجمالي (حسب تعادل القوة الشرائية) من الممكن تفسيره من خلال الحرية الدينية والحريّات الأخرى. إن تعدد التسامت الذي يؤثر على تحليل الإنحدار من خلال قياسه بعامل التباين في التضخم قد تم اختباره وبشكل عام لم يكن مهماً إلاّ في المواضع التي تم الإشارة فيها إليه. بعد بارو ومكليري (2003) تم تحويل جميع المتغيرات لوغارتمياً لتقليل التوزيع غير المتساوي للتباين المحتمل وقوعه ولتحويل معاملات الإنحدار إلى مقاييس المرونة أو التمغط. لقد تم عكس قيم الحرية الاقتصادية من أجل التفسير البديهي للنتائج بحيث يشير المعامل برقم موجب إلى علاقة إيجابية بين الحرية الدينية والمتغير التابع لها.
لقد استخدمنا مقياس معهد فريزر للحرية الاقتصادية ﻠـ123 دولة. إن معامل الحرية الاقتصادية يضم خمسة عناصر أساسية: حجم الحكومة؛ والهياكل القانونية وأمن حقوق الملكية؛ والسياسة النقدية المستقرة؛ وحرية التجارة مع الأجانب؛ وتنظيم الائتمان والعمال والأعمال. وتضم هذه المجالات الواسعة 37 عنصراً مختلفاً.[1]
لقياس الحرية الدينية، قمنا بالاعتماد على مارشال (2000)، الذي قيّمت النسخة المحررة منه وضع الحرية الدينية في 75 دولة تضم أكثر من 90% من سكان العالم، وقد أعطيت كل دولة رقماً ما بين 1 إلى 7 بناءً على مستوى الحرية الدينية فيها، بحيث ركّز المقياس على إنكار حق الفرد في ممارسة دينه.
وبالنسبة للبيانات المتعلقة بالحريات السياسية والمدنية فقد اعتمدنا فريدم هاوس وتم إعطاء قيمة ما بين 1 إلى 7 لكل من هذين النوعين من الحريات. عند تحليل الحريات المدنية فإن فريدم هاوس تركز على الحقوق الفاعلة وليس فقط على الضمانات الدستورية، وتضم تلك الحقوق التعبير والعقيدة، وحقوق التنظيم والانتساب للمنظمات، وسيادة القانون وحقوق الإنسان، والاستقلال الشخصي والحقوق الاقتصادية. وقد تم عكس جميع متغيرات الحرية بحيث أن الرقم الأكبر يدل على حرية أكثر.
والمتغير التابع في جميع الإنحدارات هو حصة الفرد الواحد من الناتج المحلي الإجمالي بالدولارات الأمريكية حسب تعادل القوة الشرائية. وقد تم الحصول على هذه البيانات من مؤشرات التنمية العالمية للبنك الدولي. وبعد حذف الحالات ذات البيانات الناقصة تبقى لدينا بيانات حول 54 دولة التي تتوفر جميع متغيراتها. يبين الجدول 1 مصفوفة الارتباط للمتغيرات المختلفة.
إن هناك ارتباطاً وثيقاً بين معظم المتغيرات، وأقل قيمة للإرتباطات هي 0.57 لحصة كل فرد من الناتج المحلي الإجمالي حسب تعادل القوة الشرائية والحرية السياسية، وتتجاوز أعلى قيمة 0.92 للحرية السياسية والحريات المدنية. إن الترابط القوي بين المتغيرات المستقلة يشير إلى أن الحريات عبر الأبعاد المتعددة متعلقة ببعضها البعض بشكل قوي. إن العلاقات بين المتغيرات لها التوجه الذي تم توقعه. يستطيع المرء الملاحظة من البيانات بأن المستويات المرتفعة من الحريات تترابط مع المستويات المرتفعة من دخل الفرد الواحد.
إن للحرية الاقتصادية أعلى ارتباط مع حصة الفرد الواحد من الناتج المحلي الإجمالي وتليه الحريات المدنية، والحرية الدينية، والحرية السياسية. وترتبط الحرية الدينية بالشكل الأكبر مع الحريات المدنية، تليها الحرية السياسية. من خلال ترابط بيرسون ﺑـ 0.82 فإن الحريات المدنية تستطيع تفسير حوالي 67% من التباين في متغير الحرية الدينية.


من الناحية المبدئية، فإن الترابط بين المتغيرات المستقلة يمكن أن يحدث نتيجة التداخل في التعريف والقياس، فعلى سبيل المثال إن عنصرين من الحريات المدنية هما وجود مؤسسات دينية حرة ووجود تعبير ديني حر في القطاعين الخاص والعام. وبشكل معاكس، فإن العديد من مكونات الحرية الدينية هي في الحقيقة مجموعات فرعية من الحريات المدنية، فمثلاً، حرية الصحافة تضم بالضرورة حرية الصحافة الدينية.
إننا نعرض في جدول 2 النتائج لخمسة من المواصفات النموذجية البديلة بين الحريات وحصة الفرد من الناتج الإجمالي المحلي. لقد كان إحصائي-F في جميع الإنحدارات كبيراً، مما يشير إلى أن لدى جميع النماذج قدرة تفسيرية كبيرة.
يظهر النموذجان (أ) و(ب) مقارنات مزدوجة لنماذج لمتغير مستقل واحد باستخدام الحرية الاقتصادية والحرية الدينية مقابل حصة الفرد من الناتج المحلي الإجمالي حسب تعادل القوة الشرائية، وتحمل المعامِلات الإشارات المتوقعة وتعتبر مهمة من الناحية الإحصائية على مستوى 1%.
يضم النموذج (ج) الحرية الاقتصادية والحرية الدينية في تفسير حصة الفرد الواحد من الناتج المحلي الإجمالي حسب تعادل القوة الشرائية. إن ضم هذين المتغيرين في نموذج واحد قد زاد R تربيع المُعَدل للنموذج إلى 52%، مما يشير إلى أن بُعدي الحرية مع بعضهما البعض من الممكن أن يفسرا بشكل أفضل الرخاء الاقتصادي للفرد. وهنا أيضاً يحمل كلا المتغيرين الإشارات المتوقعة وهما مهمان إحصائياً.
يدمج نموذج (د) جميع متغيرات الحرية ولكن R تربيع المُعَدّل يتراجع إلى 51%. إن عامل التباين في التضخم للحريات المدنية كان 10.61، مما يدل على وجود مشكلة محتملة مع تعدد التسامت، ولتصحيح هذه المشكلة تم إسقاط متغير الحريات المدنية في نموذج (هـ) وكانت الحرية الاقتصادية مهمة إحصائياً على مستوى 1%، بينما كانت الحرية الدينية مهمة إحصائياً على مستوى 10%.
إن حجم المعامِلات في النماذج من (أ) إلى (هـ) يخبرنا كذلك معلومات إحصائية، وبما أننا حسبنا القيمة اللوغارتمية لجميع المتغيرات فإن المعاملات تمثل المرونة. إن مرونة متغير الحرية الاقتصادية قد تنوّع ما بين 3.28 في النموذج (د) إلى 4.29 في النموذج (أ)، وضمن المعدل، فإن معامل الحرية الاقتصادية كان 3.58، مما يعني أن زيادة 1% في الحرية الاقتصادية يزيد حصة الفرد من الدخل بمقدار 3.58%. لقد كان تأثير الحرية الدينية أقل بكثير من ذلك، وتراوح ما بين 0.51 في نموذج (د) إلى 1.50 في نموذج (ب)، وبمعدل مقداره 0.84. إن الحجم النسبي لمتغير الحرية الاقتصادية هو ما يقارب 4.26 ضعف ما يقابله في الحرية الدينية، مما يعني أن للحرية الاقتصادية تأثير أكبر من الحرية الدينية على التقدم الاقتصادي.

الخاتمة

من خلال النظر إلى المتغيرات عبر النماذج المختلفة فإن معامل متغير الحرية الاقتصادية كان دائماً مهماً ويحمل الإشارة المناسبة. ووفق المعدل، فإن الدول ذات حرية اقتصادية أكبر تنتج أفراداً أكثر غنىً، ويبدو أن تأثير الحرية الاقتصادية على مستوى دخل الفرد يفوق ذلك للحرية الدينية والحريات الاجتماعية والسياسية الأخرى. وكما من الممكن التنبؤ به، فإن حجم المعامل قد انخفض من خلال إدخال متغيرات جديدة للحرية، ولذلك فإن النتيجة النهائية الأخرى هي أن الحرية الاقتصادية تبقى واحدة من المتغيرات الأكثر تأثيراً على الرخاء الاقتصادي، وهذه النتيجة بديهية بالطبع لأنه من الأرجح أن متغيراً اقتصادياً مستقلاً سوف يفسر بالشكل الأفضل التغيرات في متغير اقتصادي تابع. لقد كانت الأنواع الأخرى من الحريات التي تم البحث فيها سياسية واجتماعية بطبيعتها.
إن نتائج الإنحدار لمتغير الحرية الدينية واعدة، حيث كانت جميع النماذج التي استخدمت الحرية الدينية كمتغير تفسيري تحمل الإشارة المتوقعة في معاملاتها، وقد أظهرت النماذج الثلاثة من ضمن الأربعة والتي استخدمت متغير الحرية الدينية نتائج مهمة. ومع أن نتائجنا أولية، إلاّ أنها تشير إلى أن للحرية الدينية تأثيراً إيجابياً على الرخاء الاقتصادي للبلد.
من الممكن نصح الشركات التي تبحث عن مواقع مربحة لمنتجاتها البحث في الحريات السالف ذكرها والتي تتعلق بدخل زبائنها في الأسواق الأجنبية. إن مستوى مختلف من الحرية الدينية سوف يؤثر على الإدارة للعمليات في بلاد أجنبية، لكن الشركات العالمية تستطيع كذلك أن تؤثر على البيئة الاجتماعية والسياسية للأسواق المضيفة. إن استراتيجيات المصادر البشرية العالمية—على سبيل المثال—من الممكن أن تحسن الحرية الدينية بالإضافة إلى الحريات الأخرى بمنافعها المرافقة، والإصرار على وجود بيئة عمل متنوعة والترقية بناءً على الجدارة بدلاً من الانتساب الديني من الممكن أن يعزز إحداث الحرية الدينية.
قد أظهر التاريخ أن التسامح الديني يترافق يداً بيد مع الأنواع الأخرى للحرية، ومن ضمنها الحرية الاقتصادية. وتقترح دراستنا أنه من المصلحة الاقتصادية للأمة وعلى الأمد البعيد أن توسّع ليس فقط الحرية الاقتصادية بل والحرية الدينية كذلك. ومن ناحية أخرى، لابد ألاّ تستند تلك الحقوق بشكل نهائي على المنطق الاقتصادي أو المنفعي لوحده.
ملاحظات:

[1] إن لدى هيريتيدج فاونديشن كذلك مقياساً للحرية الاقتصادية، والذي تمخض عنه نتائج مماثلة عند استخدامه في النماذج.
© معهد كيتو، مصباح الحرية، 3 شباط 2006.

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

تواصل معنا

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018