طارق حجي

peshwazarabic21 نوفمبر، 20101

الأستاذة الدكتورة البروفيسور آمال … سعدت وشرفت بلقاءك امس . وهو لقاء تأخر عدة سنوات . وقد استمتعت بالحوار الذى استمر لقرابة اربع ساعات أيما إستمتاع . ليلة أمس ، امضيت الساعات السبع من العاشرة مساءا للخامسة صباحا مع سفرك الفخم الضخم (ذى الألف صفحة) عن الاختلاف فى الثقافة العربية ، والذى طالعت (حتى الآن) بنهم وشغف متناهيين (وبالكامل ، ومع قراءة متأنية للمصادر) حتى منتصفه . عزيزتي : ماهذه الأبهة المعرفية والصولات العقلية والفحولات التحليلية ؟ ولما كانت أطروحتك تتصل (فى الأساس) بعالم كان هو احد اهم عوالمي منذ قرابة اربعين سنة ، فقد كان شغفي (وفرحي) بما كنت اطالع عارما . حصيلتك المعرفية بالموضوع هى كالمحيط الواسع مترامي الاطراف ‘ بعيد القاع ، بل غائر الاعماق . سيدتي : كنت (منذ سنوات) قانطا من ان اطالع نصا بهذه الروعة وبقلم من احاط بالفقه والتاريخ الاسلاميين كما انت محيطة بهما . كنت اضحك (فرحا) وانا اطير (بعينين محدقتين) فوق مصادرك ! فها أنذا مع عناوين اسفار عشت معها طويلا منذ اكثر من ثلاثة عقود . أمس (وكأنني “يوحي الي”) قلت لك (اثناء العشاء الياباني) انني احلم بان يفرغ مثقف كبير باحد المجتمعات الناطقة بالعربية لتوضيح دور العقل الذكوري العربي فى مسار (او مسارات) الفقه الاسلامي ! هل كنت أتنبأ بأن هذا ما سوف اطالعه (فى شكل عبقري) بعد ساعات (وربما ، بعد دقائق) ؟ … وما هذه اللغة المضفرة بروح الموضوع ، ورحيق زمن انفجار بركان الفقه الاسلامي (من القرن الثامن للقرن 11 الميلاديين) ؟ وما هذه الأبهة البلاغية ؟ كنت وانا اقرأ لك (ليلة امس) يخالجني شعور (مبهر ومضحك فى آن) انك كنت تكتبين وقد استلبك تقمص روح الثقافة والذهنية التى كنت تكتبين عنهما . فعندما تبدلين المترادفات (كالوطء والباه والمباشرة والتغشي …. الخ ) انما تعبرين عن درجة من فهم الذهنية العربية لا اظن ان احدا بلغها الا ثلة من الافذاذ . كذلك كانت هناك (وراء لغتك) رقيقة مذهلة من السخرية . خلال سنواتي الاكاديمية الثلاث بفاس (فى سبعينيات القرن المنصرم) قرأت بنهم وشغف وولع معظم محتويات مكتبة القرويين المتصلة بالفقه الاسلامي بوجه عام ، وبفقه الحدود والقصاص والتعزير بوجه خاص . وبالتوازي ، فقد جذبنى فقه النكاح الذى لاشك عندي انك احطت به احاطة عبقرية – وهو فقه ذكوري بامتياز ( يا سلام على عبقريتك عندما تثبتين ان مقدمات الجماع التى تناولتها النصوص لم تكن ابدا من منطلق مراعاة حق المرأة ، وانما من منطلق اكمال متعة الذكر وتحريكه واشعال النار فى شهوته ) . ان هذه الاطروحة (والتى سأواصل قراءتها اليوم) هى مهرجان معرفي وتحليلي شهد تفكيك مكونات الثقافة الذكورية العربية الجندرية التى كانت (ولاتزال) محطة انطلاق جل ما كتب فى الفقه الاسلامي فيما تناوله بحثك الفذ الذى حلق فى سماء العبقرية بجمعه بين الثراء المعرفي وقوة (وذكاء وألمعية ولوذعية ) الربط والتحليل . وكعاشق للشعر العربي (وان كنت ادرك عيوبه ومثالبه والمتعلقة جلها بتشخيصه للآفات الثقافية لبيئته البدوية القبلية الذكورية ) فقد راقت لي (لأقصى حد) اختيارتك الشعرية المجسدة لفحوى ما كنت تقولينه … وما اشد اعجابي بذكرك للبحر (الوزن – العروض) مع كل استشهاد . وما هذا بمستغرب من سيدة هى أم لمهيار وكثير . ومما أثلج صدري امس (ابان اللقاء واثناء المطالعة) اننى رأيت بأم عيني صوابية يقيني ان مجتمعاتنا بحاجة ماسة لعلم وكتابة مثل علمك وكتابتك ، وليس للغثاء الأحوي الذى تفرزه مدرسة الشتامين – وهى مدرسة مكوناتها هى الغضب الأحمق المضفر بالهزال المعرفي والضحالة العلمية والاسفاف الفكري واللغوي … مع فيض من الاعجاب والاحترام والتقدير والمودة – طارق حجي 20 يونيه / حزيران 2010

peshwazarabic19 نوفمبر، 20100

إنني أؤمن بأن الحضارة الغربية في قسم كبير منها انسانية اكثر من كونها غربية … أؤمن ان هذه الحضارة هي الوحيدة “الحضارة الحية”، بينما يصح وصف سائر الحضارات بعكس ذلك… أؤمن بكل ما تعنيه الكلمة بالتعددية في كل مناحي الحياة والعلم والمعرفة والثقافة والفنون …  أؤمن بالغيرية كقيمة عظمي منبثقة من ايماني العتيد بالتعددية …  أؤمن بعالمية او كونية العلم والمعرفة …   أؤمن ان “النقد” و “النقد الذاتي” و “العقل النقدي” هم من اعظم الانساق القيمية التي طورتها الحضارة الغربية غداة انتصارها على الثيوقراطية …   أؤمن ان الاديان كانت وستبقي عنصرا او عاملا بالغ الاهمية كمصدر للقيم، ولكن ذلك لا ينبغي ان يمتد خارج نطاق “الشأن الخاص”، اما الشأن العام كله فلا ينبغي ان يحكم بغير العلم، ولا شيء غير العلم، وان رجال الدين يجب ان يمنعوا من محاولات تحكمهم في الشأن العام لكونهم يفتقرون لألف باء التكوين المعرفي اللازم …   وأؤمن بأن خلط الدين (أيا كان اسمه) بالسياسة هو مدخل مؤكد للحروب، فمُلاك الحقيقة المطلقة لا يمكن الا وان يُحارِبوا …  وأؤمن بالتعايش المشترك حتى بين من كانوا في حالة عداوة مطلقة …   وأؤمن ان السبل السياسية والحوارية والتفاوضية هي فقط السبل المشروعة لحل الخلافات والصراعات السياسية وان ما يسمي بمعسكر المقاومة ما هو الا غطاء للعنف وثقافة الدم والبغض المتفشية في عدة مجتمعات وان بقت المجتمعات العربية ملعب هذه الثقافة الاكبر في عالمنا المعاصر …   وأؤمن ان الانخراط في التعاملات العلمية والثقافية والمعرفية “مع الآخر” امر حتمي للتقدم وان الخوف (والهلع) من هذا الانخراط هو تكتيك سياسي ممن يرغبون في بقاء شعوبهم داخل الاقفاص التي صنوعها هم بدعواتهم الثقافية (والدينية) التي تحتاج للانغلاق كي لا تتفتت وكي لا تكنسها مقشة العلم والحداثة …   وأؤمن ان المرأة اكثر اهمية بكثير من كونها عدديا نصف المجتمع وان كفالة كل الحقوق وكل الفرص لها هو شرط اساسي من شروط التقدم، فوضع المرأة التي يبقيها في الاطار القرون-أوسطي الذين ينشده البعض كفيل بوجود مجتمع مترع في التخلف اذ يكون نصفه (عدديا) متخلفا ويكون قسمه الذي ينشيء النصف الآخر ايضا متخلفا وهو ما يضمن التخلف الكلي للمجتمع …   وأؤمن بنفس الكيفية بحقوق الاقليات بشتي صورها واشكالها الدينية والاثنية والثقافية …   وأؤمن ان اهم العلوم الاجتماعية المعاصرة هي علوم الادارة الحديثة التي بوسعها (هي فقط) احداث الطفرات الاقتصادية والمجتمعية، وهذه العلوم لا دين ولا عرق ولا جنسية ولا هوية لها، وهي علوم لا تستقيم مع تحكم اية ايدولوجيا في المجتمع …   وأؤمن ان ما يظنه كثيرون في واقعنا من تآمر الغرب علينا هو وهم وهو ثمرة سيولوجيا الاقنان المنتشرة في المجتمعات العربية بوجه عام وفي المجتمعات التي حكمها (وعربد فيها ) المماليك وتركوها وجل ابنائها مسلسلين بسيكولوجيا وسيوسيولوجيا “تراث العبيد” والذي يقابل في علم الاجتماع الامريكي سوسيولوجيا الزنوج، بوجه خاص … وأؤمن ان هناك رابطة ثقافية بين الناطقين باللغة العربية، ولكن محاولة اجبار هذه الرابطة (بفعل البعثيين والقومجية العرب) على ان تصير رابطة سياسية تأخذ الناطقين بالعربية للوحدة السياسية (البعث … الناصرية … القذافية ) قد الحقت ضررا جسيما بالفكرة التي ولدت على يد السوريين المسيحيين وانتهت كتابع للفكرة الاسلامية … وأؤمن ان نظم التعليم في المجتمعات الناطقة بالعربية هي نظم ماضوية ومترعة في التخلف، بل وتنبثق من فلسفة تعليمية هجرها العالم المتقدم الذي تخلي عن فلسفة التعليم القائمة على التذكر وحشد المعلومات في الاذهان وانتقل لفلسفة قوامها تطوير القدرات على الابتداع والخلق … هذه هي اهم القيم التي أؤمن بها، وكنت ولا ازال (منذ صدر اول كتبي في المغرب سنة 1978) منشغلا بتقدمها والترويج لها والدفاع عنها، فهي وحدها (في ظني) القادرة على قيادة مجتمعاتنا المثخنة بجراح تسببنا نحن (وحكامنا في مقدمتنا) فيها وليس اعداؤنا بوجه عام واوروبا وامريكا واسرائيل (كما يظن كثيرون) بوجه خاص …
© منبر الحرية، 22 يونيو/حزيران 2009

peshwazarabic19 نوفمبر، 20100

الدكتور علي شريعتي (1933-1977) الذي كتب ونشر مؤلفاته قبيل سقوط حكم الشاه في إيران من أشهر المفكرين الإيرانيين في القرن العشرين. وأنا رغم تقديري لقوةِ عقلِه إلا أنني أختلف معه في مسائلٍ كثيرة. أما أبرز نقاط إختلافي معه فتتعلق بإيمانه الراسخ بأن الحضارة الغربية تتميز بمعطياتٍ مادية فقط وليس بسببِ منظومة قيمٍ هي التي جعلتها ما هي عليه اليوم (رغم الكثيرِ من عيوبها ونواقصها). فأنا على نقيض الدكتور شريعتي أؤمن أن الروح الثقافية التي بدأت منذ عصر النهضة ومجموعة القيمة السياسية والمجتمعية والثقافية والتي ذاعت وشاعت في الغرب هي التي قلصت سلطان الحكام المطلق وهي التي أوجدت الديموقراطية وهي التي وفرت المُناخ الذي تحقق فيه التقدم العلمي والمادي والإقتصادي. أما الدكتور شريعتي فكان يعتقدُ أن القيم والأخلاق فمكانها الشرق المتخلف، وأما التميز المادي فقط فهو الذي يسود في الغرب. وبناءً على هذا الإختلاف فلا أعتقد أن الدكتور علي شريعتي (رغم قوة عقله) كان يفهم معنى عبارات مثل: “الإنسانية” و”عالمية المعرفة” و”حضارة واحدة وثقافات عدّة”. فمن المؤكد أنه لم يكن يؤمن بذلك وأكاد أجزم أنه لم يحاول التفكير في ذلك. ولكن في المقابل فهناك أولاً شجاعته الفكرية الرائعة وكراهيته الشديدة لمن يسمون أنفسهم برجال الدين في أي مجتمع أو ثقافة أو دين ورؤيته أنهم يكوِّنون مع سلطان السياسة والمال ضفيرة واحدة لما كان يسميه “إستحمار الناس”
أمس كنت أُلقي نظرة ثانية على أعماله التي ترجمت للعربية والإنجليزية وأعدت قراءة كتيبه الصغير “النباهة-الإستحمار” الذي صدرت ترجمته العربية سنة 1991. في هذا الكتيب الصغير يقول علي شريعتي: (وقع مصير الدين في أيدي قوات إستحمارية مضادة للإنسانية تتسمى بأسماءٍ كالطبقة الروحانية والطبقة المعنوية والطبقة الصوفية وطبقة الكهنوت الذين إتخذوا من الدين وسيلة لإستحمار الناس-الإستحمار الفردي والإستحمار الإجتماعي. وكلامي هنا يدور حول الدين الإستحماري المضلل … الدين الحاكم وشريك المال والقوة الذي يتولاه طبقة من الرسميين الذين لديهم بطاقات للدين أي لديهم إجازات للإكتساب تُنبئ عن إحتفاظهم بالدين وأنهم هم الدعاة وشركاء السلطة والمال والقوة. ماذا يفعل هذا الدين بالإنسان فيستحمره؟ ليس بإستطاعة الدين أن يسلب مني نباهتي الفردية أو مسئوليتي المجتمعية إن عمله ينصب في نقل الإنسان بالنسبة إلى الظروف والزمان أي يقول لك: (:دع الدنيا فإن عاقبتها الموت” … “إدخر كل هذه المشاعر والأمنيات إلى الآخرة؟!” ليس الفاصل الزمني بكثير: ثلاثون أو أربعون أو خمسون سنة: ما قيمتها؟؟.. بعدها كل شيء سيكون تحت أمرك. إنها سنوات العمر القصير لا قيمة لها دع الدنيا لأهلها … وهو يقصد بأهلها نفسه وشركاءه “السلطة والمال والقوة”). هنا يقترب علي شريعتي أشد الإقتراب من كارل ماركس في كل ما كتبه عن الدين، وإن إختلفت الدوافع وتباينت الأهداف … فأحدهما كان يسعى لتدمير الدين … والآخر لتغيير جوهر فهم الناس له تغييراً جذرياً … ولكنهما معاً يتفقان بتصريحٍ أو تلميحٍ أن الدين “أفيون الشعوب” أو في الحقيقة أن إستعمال رجال الدين للدين هو الذي يجب أن يوصف بأنه أفيون الشعوب
إن كتابات المفكرين الإيرانيين المعاصرين ومعظمهم من الإسلاميين هي في إعتقادي (ورغم إختلافي مع الكثير منها) أرقى بمراحلٍ من الفكر الإسلامي في العالم السني الذي هو الآن (في شقٍٍ واحدٍ منه) ضفيرة من أفكار إبن تيميه ومحمد بن عبد الوهاب وأبي الأعلى المودودي وسيد قطب وأدبيات الجماعة الإسلامية في مصر قبل التطوير الأخير في أفكارها
إنني آمل أن يتوقف العالم السني عن ظلمه البيّن للعالم الشيعي … وأن ندرك أننا لا نعلم إلا أقل القليل عن مساهمات الشيعة الفكرية منذ جعفر الصادق عليه السلام وحتى لحظتنا هذه. لا نعرف عن مذاهبهم الفقهية (وبعضها بالغ الرقي) ولا نعرف عن أدبياتهم المعاصرة ويتسم الإنسان المتعلم لدينا (ل وكبار المثقفين) بدرجة غريبة من لجهل بأفكار الشيعة-وكان نصيب الشيعة منا هم “الظلم البين” من لحظة إغتيال أسمى الصحابة (على بن أبي طالب) وإبنه (الحسين بن علي) وحتى جرائم صدام حسين في حقهم … رغم إيماني أن إيران إذا تركت ولم تهاجم من الخارج، فسوف تقوم بتنقية حياتها السياسية والمجتمعية والفكرية وربما تصبح (بعد ماليزيا وتركيا) ثالث الديموقراطيات في المجتمعات الإسلامية-وإن كان نصيبها (عندئذ) من الديموقراطية سيكون أكبر بكثير من نصيب ماليزيا وتركيا لأسباب ليس هذا موضوع تبيانها…
© منبر الحرية، 20 مايو 2009

peshwazarabic19 نوفمبر، 20100

تجتمع عناصرُ وأبعادُ عددٍ من عيوب التفكير التي انتشرت في واقعنا فيما يشبه المعادلة الكيميائية لتخرج لنا عيباً (أو عيوباً) إضافية جديدة. فمن اختلاط “تقلص السماحة” و”تآكل هامش الموضوعية” ينبثق عيبٌ آخر جديد هو عجز الكثيرين منا عن رؤية (من ليس معنـا) إلاَّ بصفته (ضـدنا) أو (علينا). وقد ضاعف من عمق جذور هذا العيب، أن تاريخنا المملوكي الذي ترك أعمق الآثار في تكوين شخصيتنا قد عرف هذا الأسلوب في التفكير والحكم على الآخرين على أوسع نطاق. فطيلة القرون التي قبض فيها المماليكُ على زمـامِ الأمـور فـي حياتنا، كان المجتمـعُ يرى بوضوحٍ وكل يوم تطبيقاً عملياً على (أن من ليس معنا فهو ضدنا أو علينا) مع تـوابـعِ هـذه المقـولـة وآثارها المترجمة في مواقفٍ كثيراً ما اتسمت بالعنفِ والقسوةِ والدمِ. وكما يقول أُستاذ جامعي مرموق، فإن علم الاجتمـاع التاريخـي يؤكد أن آثار العهد المملوكـي علـى التفكيـر المصـري لا تـزال قـويـةً وحيـةً رغم انتهاء دولة المماليك في مصر بمذبحة القلعة منذ أكثر من مائة وثمانين سنة، (وبالتحديد في سنة 1811).
وجـوهـر هـذه المسـألـة، أننا ننشـأ في منـاخٍ ثقافـيٍّ عـام يتسمُ -إلى حد بعيد- بالشـخـصـانيـة أو الذاتية في مواجهـة الموضوعيـة، كما يتسم بضيقِ الصـدرِ بالنقدِ وعدم الاحترام العميق لكون الآخرين مختلفين وهو ما يحتم أن يرى الكثيرون منا “الآخرين” من منظورِ السؤال النمطي: أهو معي؟.. أم ضدي؟ ويزيد من تأصيلِ حقيقةِ هذا البعد من أبعادِ تفكير الكثيرين منا أن أعداداً كبيرة منا “قرويون” جاءوا حديثاً إلى المدن وهم يحملون في تكوينهم قانون تأسيسِ الانتماءِ على أرضيةِ الاشتراكِ في الخلفيةِ المكانيةِ والعائليةِ. وهذه الضفيرة من الأبعاد (ذاتيون لا موضوعيون…. تقلص السماحة تجاه الآخر المختلف…. الضيق بالنقد) هي ما تجعل العملَ الجماعي أبعد ما يكون عن التوفر. فروحُ الفريق تنسفُ نسفاً عندما تضربها هذه الأبعادُ في ذاتِ الوقت. وهذا الجانب هو أحد أهم أسباب تأخرنا عن عددٍ من الشعوبِ الآسيوية في اللحاقِ بركبِ التقدم الاقتصادي الحديث، فبينما كانت الحضارةُ الآسيوية (لا سيما في اليابان والمجتمعات التي انتشرت فيها الأقلياتُ الصينية )عاملاً من أقوى عوامل دفع العمل الاقتصادي والصناعي إلى درجاتٍ مرتفعةٍ للغاية، لوجود هذا الاستعداد القوى للعملِ الجماعي، كنا نحن بعيدين إلى حدٍ بعيدٍ جداً عن توفر روح الفريق في العملِ التي يصعب بدونها تصور أي إنجازٍ كبيرٍ في العملِ والإنتاج.
وخلال سنوات عديدة أمضيتها في مؤسسة اقتصادية عالمية كبرى كنت أرى -كل يوم تقريباً- كيف ينفرط عقدُ أي مجموعةٍ عمل منا بفعلِ غيابِ روحِ الفريقِ والعملِ الجماعي وغلبةِ تأسيسِ العلاقات على أرض (معنا أم ضدنا؟). وفى نفسِ الوقتِ كانت مجموعات العملِ التي ينتمي أفرادُها لخلفياتٍ أوروبيةٍ أو آسيويةٍ تنخرطُ في العملِ الجماعي دون أية تشققاتٍ في وحدة الفريق بسببِ العوامل الثقافية التي تلغى أسباب الفرقة وتغلب أَسباب الوحدة. ومن الضروري أن أُبرز أنه في ظل ظروف عامة معينة، وعندما تكون قيادة وحدات العمل في يدِ من هو مشربُ للغاية بنفسِ الروح (“معنا” أم “علينا”؟) فإن قيمَ تفسخِ روحِ الفريق تتعاظم وتضرب المناخ العام بسهامها من كل جانبٍ، تاركة إيانا أمام ما يشبه حالة استحالة لأن نعمل كفريقٍ واحدٍ متجانس ومتوائم.
© منبر الحرية، 01 مايو 2009

peshwazarabic18 نوفمبر، 20100

معظم الشهادات الدراسية العربية لا يعترف بها العالم المتقدم… وجل مخرجات العملية التعليمية في المجتمعات العربية لا قيمة لها من منظور التطورات العلمية المعاصرة… كل مفردات ومنتجات وتجليات الطب والصيدلة والهندسة وعلوم الاتصال والسلاح والمواصلات في حياة كل المجتمعات العربية هي من تجليات الآخرين… ومع ذلك، فعندما يأتي ابن أو ابنه لأحد هذه المجتمعات العربية ويرصد عيوب مجتمعاتنا ومنابت سلبياتنا التي أوصلتنا لهذه الحالة والدرجة من التخلف والسلبية وعدم المشاركة في مسيرة التقدم العلمي والهوان التعليمي والعلمي… فإنه يوصف بأنه “جلاد العقل العربي ” !!…
وفي ذات الوقت الذي يمضي جل العرب آلاف الساعات في الشكوى من سوء كل الأحوال الحياتية (السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والعلمية والخدمية والإدارية والتعليمية) ورغم ذلك، فما أن يهب إبن او ابنة من أبناء وبنات تلك المجتمعات جل فكره وثمار محصول معرفي وتجربة حياة ثرية من أجل وصف العلل ورصد منابعها ومسبباتها وتشخيص سبل وآليات البرء والشفاء من كل تلك العلل، وبالتالي إنقاذ تلك الشعوب السائرة في التخلف خارج مسيرة التقدم والتمدن والإنسانية، حتى تتجه إليه الأصابع والعيون والحناجر بالتهم والتجريح ويغالي البعض فيسمون من تطوع بالطبابة بما يشين ويهين ويدين…
ماذا يريد الناس في هذه المجتمعات التي تعيش(بما فيها المجتمعات النفطية الثرية، فأولئك بدون النفط يكونون أفقر من الفقر ذاته) ماذا يريدون سماعه من مفكريهم المخلصين والمؤهلين لمعرفة كل ما يتعلق بالداء، وكل ما يتعلق بالدواء والبرء والشفاء ؟ أيريدوهم يمسكون بالطبلة والمزمار والرق ويشاركون في كيل المديح لعظمة وأمجاد وعبقرية ومنتجات ومخترعات العرب ؟! أم يريدوهم ان يلتحقوا بجوقة الرياء لقادة لولا سخرية القدر لما كانوا إلا موظفين صغار بحجم ومستوي مؤهلاتهم المتواضعة…
إن الهجوم على الأطبة الذين وهبوا حياتهم وجهدهم وثمار محصولهم المعرفي وكيل التهم الزائفة لهم ونعتهم بأنهم جلادو العقل العربي لهو دليل دامغ على ان البعض أضاف لعلة التخلف علة أخرى هي عمي البصيرة المضفر بالعصاب… ومما يحزن ان الشعوب التي تكره الأطباء المخلصين الذين يصارحونها بحقيقة وفداحة وحجم العلل والذين يحبون الأطباء الكذابين الذين تحدث عنهم جبران خليل جبران في 1920، لا يعرفون ان قول وكتابة ما يود الناس سماعه في هذا الصدد هو الأسهل والأيسر، ولا يكلف صاحبه الا ان ينسي ضميره ويخون علمه وفكره ومصداقيته…
ومن الأمور المؤسفة (ولكنها مفهومة) التي تقع هي انه ما ان يخرج في مجتمعاتنا من يقول الحقيقة وينبه الناس لحقيقة إننا خارج التاريخ والحاضر والمستقبل، واننا (للنخاع) متخلفون وغير مفيدين (بأي شكل للإنسانية) بل ومضرون… حتى يأتلف عليه حلف ثلاثي من (1) الحكومات والسلطات والحكام، و (2) المؤسسات الدينية، و (3)  والإعلام المرتبط مصلحيا إما بالسلطات، وإما بالثيوقرط، وإما بالاثنين في آن.
أما الحكومات والسلطات والحكام، فلأنهم يعلمون أن مواطنا ذا عقلية نقدية، تصل للقول الفصل وهو أن مجتمعاتنا متخلفة بكل ما تعنيه العبارة من معان، وأن الذين حكموا والذين لا يزالون يحكمون هذه المجتمعات هم سبب الحالة المتخلفة الراهنة، وأن لوم جهات خارجية هو مخدر بكل معاني كلمة المخدر… .إن حكام مجتمعاتنا تعلم ان مواطنين بهذه الرؤية لا يمكن ان يقبلوا استمرارهم وهم الذين رفع اللثام عن جهلهم وعجزهم واستبدادهم وفسادهم وفساد بطانتهم وذويهم .وأما قيادات ورجال المؤسسات الدينية في مجتمعاتنا، فإنهم أول من يعلم ان مواطنين متعلمين تعليما عصريا وأصحاب عقليات ناقدة، لا يمكن أن يقبلوا الفكر والرؤى والنظم القرون – أوسطية التي يقدمها معظم رجال المؤسسات الدينية بالمجتمعات العربية.
إن نظام الحياة الذي يروج له رجال الدين في مجتمعاتنا لا يعكس رغبة الله وإنما يعكس سطحية وبدائية ومحلية معظم رجال الدين في مجتمعاتهم، كما يعكس معالم بيئاتهم الاجتماعية المفعمة بالفقر والتخلف التعليمي والثقافي والرجعية والظلامية وانقطاع الصلة بعوالم التقدم والتمدن والتحضر. ودليلي ببساطة : هل يوجد ألماني أو سويسري أو ياباني أو نرويجي واحد يقول أن مفكره الأمثل هو يوسف القرضاوي أو محمد عمارة أو زغلول النجار ؟؟!! وكما أنه لا توجد زوارق موت (ولا زورق واحد) يبحر من شمال البحر المتوسط لجنوبه، فإنه لا يوجد شخص واحد مثقف في أي مجتمع متقدم يعتبر أيا من هؤلاء من قادة الفكر الذين يهتدي بهم !… وأما الإعلام في مجتمعاتنا، فقطاعات عديدة منه هي ذات مصالح حياتية مصيرية مرتبطة إما بمؤسسات السلطة والحكم، وإما مرتبطة بالمؤسسات أو التيارات الدينية.
© منبر الحرية، 03 يناير/كانون الثاني 2010

peshwazarabic18 نوفمبر، 20100

المقصود بالأفكارِ النمطيِة، تلك الصيّغ التي تشيع بين الناسِ بحيث يرددها كثيرون دون أن يتصدى معظمُهم لفحصِها وتمحيصِها وعرضِها على “العقلِ” و “المحصولِ المعرفي” لرفضِها أو قبوِلها. و”الأفكارُ النمطية” ظاهرةٌ إنسانيةٌ – بمعنى أَنها توجد (بدرجاتٍ مختلفةٍ) في كلِ المجتمعاتِ – وإن كان ذلك “الشيوع” أو “الذيوع” لا يمنع من وصفِها بأنها “ظاهرةٌ إنسانيةٌ سلبيةٌ”.ففي الغربِ، عشراتُ “الأفكارِ النمطيةِ” عن المجتمعاتِ والحضاراتِ والثقافاتِ الأخرى. ولدينا أيضاً الكثير من هذا الفيضِ من الأفكارِ التي يكررها الناسُ لا لسببٍ إلاَّ لشيوعِها وذيوعِها.
والذي يحضني على وصفِ هذه الظاهرةِ بأنها وإن كانت “إنسانية” إِلاَّ أنها “سلبية” أنها ظاهرةٌ تعمل لصالحِ “النقلِ” (وهو الوقود الأكبر لها) وتعمل في نفسِ الوقتِ ضد مصلحةِ العقلِ (وهو الذي كان يستوجب عرض تلك الأفكار عليه وعلى المحصولِ المعرفي (من تراكماتِ العلمِ والتجربةِ الإنسانيةِ) للرفضِ أو القبولِ. وفي إعتقادي أن الإنسانيةَ لن تتخلص بشكلٍ مطلقٍ من “الأفكارِ النمطيةِ” ولكن بوسعِها أن تحد من ذيوعِها. وفي تصوري أن أهم مصادر إستفحال حجمِ وعددِ وتأثيرِ “الأفكارِ النمطيةِ” هي أربعةُ مصادرٍ أساسيةٍ.أما المصدرُ الأول فهو عدم وجود محصولٍ معرفي ثري ومتعددٍ الجوانب وعصري. وأما المصدر الثاني فهو عدم شيوع “الحوارِ الحرِ والمتواصلِ” بصفته –في ظني- أكبر أعداء “الأفكار النمطية”.وأما المصدر الثالث فهو عدم خروج (عولمة إنسانية) من رحمِ إرهاصات العولمةِ الحاليةِ والتي تقف على أرضيةٍ “إقتصاديةٍ/سياسيةٍ” أكثر بكثيرٍ من وقوِفها على أرضيةٍ “إنسانية/ثقافية” .وأما المصدرُ الرابع فهو التواجد نفسياً في حالةِ دفاعٍ عن النفسِ متفاقمة – وسأحاولُ إلقاء بعض الضوءِ على تلك المصادر الأساسية وعلى الأدوات الفكرية التي أظنُ أنها ذات قدرةٍ عاليةٍ وفعاليةٍ كبيرةٍ في “تحجيمِ” و”تقزيمِ” “ثقافةِ الأفكارِ النمطيةِ”.
أًما المصدرُ الأول من مصادرِ شيوعِ “ثقافة الأفكار النمطية” فهو إتسام المحصول المعرفي لأفرادِ أي مجتمعٍ بوجهٍ عام وأعضاءِ النخبةِ المتعلمةِ والمثقفةِ بوجهٍ خاص إما بهزالِ التكوينِ أو بمحليةِ التكوينِ أو بعدمِ الإتساعِ الأفقي للتكوين – وهي كلها عناصر تجعل العقول غير مزودةٍ بالآراءِ الأُخرى العديدة المحتملة في كلِ حالةٍ . وقد يكون حتى أعضاء النخبة المتعلمة والمثقفة أصحابَ محصولٍ معرفي لا بأس به ولكنه قد يكون من جهةٍ “محصول تقليدي” أي لا يضم مستحدثات المعرفة ولا سيما في العلومِ الإجتماعيةِ .. وقد يكون محصولُهم المعرفي لا بأس به ولكنه إما مغرق في الماضويةِ (بقرونٍ) أو نسبي الماضوية (بعقودٍ) – فما أكثر المثقفين (لا سيما في العالم الثالث) الذين ينتمي محصولُهم المعرفي لعقدِ الخمسينيات والستينيات أكثر من إنتماءهِ للزمنِ الآني . كذلك قد تحول ظروفٌ عديدةٌ دون إتسام محصولهم الثقافي بالتخلي عن الإغراقِ في المحليةِ والإبحارِ في ما وراء حدود ذلك . كذلك قد يكون المحصولُ المعرفي ثرياً في جوانبٍ ومفتقراً لجوانبٍ عديدةٍ لا سيما من جوانبِ العلومِ الإجتماعية الأحدث . وهكذا يتضح أن وجودَ محصولٍ معرفي (لأفرادِ أي مجتمعٍ بوجهٍ عامٍ ولأعضاءِ النخبةِ المتعلمةِ والمثقفةِ بوجهٍ خاصٍ) متسم بثراء التكوين وعدم الإستغراق في المحلية والإتساع الأفقي بما يعنيه من ضم مناطقٍ جديدةٍ من مناطقِ المعرفةِ هي عوامل تجعل العقلَ أكثر تحصناً (بشكل نسبي) من المجاراةِ الكاملةِ (أو شبه الكاملة) لصيغِ الأفكارِ النمطيةِ – إذ يكون متاحاً لهذا العقلِ التعرف على بدائلٍ فكريةٍ قد تكون (عند التمحيص والمفاضلة) هي إختياره عوضاً عن ترديد ما لا قوة دفع له في الكثير من الحالات إلاِّ الشيوع والذيوع والإنفراد بالساحة .
وأًما المصدرُ الثاني من مصادرِ شيوعِ “ثقافةِ الأفكارِ النمطيةِ” فهو عدم قيام الحياةِ التعليميةِ والثقافيةِ والإعلاميةِ على أساسٍ متينٍ من ثقافةِ الحوارِ (الديالوج) . فكلما كانت أساليبُ التعليمِ على دربِ التلقينِ وإختباراتِ الذاكرةِ وكلما كانت العلاقاتُ في دنيا التعليمِ بل وفي المجتمع بوجهٍ عامٍ هي علاقات تقوم على المنولوج (أي مرسل ومستقبل) ولا تقوم على الحوار (الديالوج) فإن شيوعَ الأفكارِ النمطيةِ يجد مناخَه الأمثل ، إذ أن “المنولوج” هو أداةُ إنتقالِ وشيوعِ وسيادةِ الأفكارِ النمطيةِ. والعكسُ صحيح : فالحوارُ (الديالوج) هو أداةُ تحجيمِ فرصِ شيوعِ الأفكارِ النمطيةِ .
وأًما المصدرُ الثالث من مصادرِ شيوعِ “ثقافةِ الأفكارِ النمطيةِ” فهو أن أنصارَ ودعاة العولمة لم ينجحوا بعد في تحويلها من ظاهرةٍ تقف على “أرضيةٍ سياسيةٍ/إقتصاديةٍ” إلى ظاهرةٍ تقف (في نفسِ الوقتِ) على “أرضيةٍ إنسانيةٍ/ثقافيةٍ” . فلا تزال مفاهيمُ العولمة بحاجةٍ ماسةٍ لبعدٍ إنساني وبعدٍ ثقافي يجعلها في عيونِ أبناءِ العالمِ غير المتقدم أقل توحشاً وأقل قابلية للفتكِ بمجتمعاتهم (سواء كان الفتكُ هنا سياسياً أو إقتصادياً أو ثقافياً) .
وأًما المصدرُ الرابع من مصادرِ شيوعِ “ثقافةِ الأفكارِ النمطيةِ” فهو وجود مناخ ثقافي ونفسي عام متسم بالرغبةِ الملحةِ في الدفاعِ عن النفسِ . فالشعورُ بالإنجازِ وصنع التقدم يعطي أبناء أي مجتمعٍ رغبةً أقل في أمرين: الأول هو الدفاع عن الذات ، والثاني هو إلصاق تهمة عدم الإنجاز والتقدم بالآخرين . ونحن هنا أمام مصدرين كبيرين ليس فقط من مصادر الشعور القوي بالرغبة في الدفاعِ عن النفسِ بل والإمعانِ في الإيمانِ بنظريةِ المؤامرةِ . ويخلق هذان العاملان مناخاً أمثل للأفكارِ النمطيةِ ، إذ تكون الأفكار النمطية عادةً في خدمةِ درءِ الشعورِ بلومِ الذاتِ (عن عدم الإنجاز والتقدم) وتفعيلِ عمليةِ الدفاعِ عن الذاتِ وإلقاءِ مسئوليةِ الأوضاعِ (أوضاع عدم الإنجاز وعدم التقدم) على “الآخرين”.
وإذا كانت تلك – في تصوري – هي أهم مصادرِ شيوعِ ثقافةِ الأفكارِ النمطيةِ، وإذا كان القضاءُ المبرم على الأفكارِ النمطيةِ مستحيلاً (لوجودها في كلِ المجتمعاتِ بنسبٍ متفاوتةٍ) فإن أدواتِ التعاملِ مع هذه المصادر تبقى واضحة وإن كانت نسبيةَ الأثرِ.
وهنا ، فإنني أعتقدُ أن المهمةَ الكبرى منوطةٌ بالتعليمِ (البرامج والفلسفة والمعلم والمناخ التعليمي العام) إذ أنه القادرُ على بذرِ قيمةِ “التعدديةِ” من جهةٍ وقيمةِ “العقلِ النقدي” من جهةٍ ثانيةٍ وقيمةِ “العقلانيةِ” (أي عرض الأفكار على العقلِ من جهةٍ ثالثةٍ) – وكلها أدوات تحد من إمكانيةِ سيادةِ ثقافةِ الأفكارِ النمطيةِ . إلاِّ أن دورَ وسائلِ التثقيفِ والإعلامِ أكثرُ جدوى على المدى القصير والمتوسط: فهي القادرة على فضحِ تهافت ثقافةِ الأفكارِ النمطيةِ وخلوها من الحجة والمنطق – وإيضاح الصلة بينها وبين عيوب أخرى في التفكيرِ مثل “ظاهرة الكلام الكبير” و”المغالاة في مدحِ الذاتِ” و”الإيمان المتطرف بنظريةِ المؤامرةِ” – إذ أن هناك علاقات جدلية لا شك في وجودِها بين كل تلك الظواهر الفكرية السلبية .
© منبر الحرية، 18 أكتوبر/تشرين الأول2009

peshwazarabic18 نوفمبر، 20100

أجدادكم إن عظموا وأنتم لم تعظموا
فإن فخرَكم بهـم عارٌ عليكم مبرمُ.            “العقاد..”
من جهةٍ أولى، إننا من أكثر شعوبِ العالمِ “فخراً بماضيها”…
ومن جهةٍ ثانية، فإن ملايين المفتخرين بهذا الماضي يكادون أن يكونوا جميعاً من غير العالمين بألف باء هذا الماضي ناهيك عن العلم الواسع والعميق بسائر جوانبه…
ومن جهةٍ ثالثة، فإن هناك “خلطاً دائماً” بين هذا الماضي والحاضر…
أما كوننا من أكثرِ شعوبِ العالم فخراً بماضينا، فأمرٌ لا يحتاج للإثبات، إذ أن مطالعةَ جريدة ٍأو مجلةٍ أو مشاهدةِ أي برنامج تليفزيوني تنبئ بهذا القدر الهائل من الفخرِ بالماضي، فنحن في حالةِ تذكيرٍ مستمرةٍ للدنيا وللآخرين ولأنفسِنا بأن ماضينا أعظمُ وأمجدُ وأفخمُ من أي ماضٍ لأية أمةٍ أخرى.
ومن المؤكد، أن ماضينا “متميزٌ” و “خاصُ” ولكن من المؤكد، أن هذا الماضي يضم صفحات بيضاء كما أنه يضم أيضاً صفحاتٍ سوداء. والوقوف على الصفحاتِ البيضاءِ والسوداء في ماضينا من الأمور التي تستغرق أعماراً كاملة لأشخاص وقفوا أَنفسَهم على دراسةِ ذلك. وبالتالي، فإن حديثنا الذي لا يتوقف عن ماضينا يعيبه -من الناحية الموضوعية- أنه يفترض أن صفحاتِ هذا الماضي كانت كلها بيضاءً ناصعةً- وهذا غير صحيح. كذلك فإن ظاهرةَ التغني المستمر بالماضي تحتاجُ للتفكير والدراسة. فمن غير الطبيعي ألاَّ يكون هناك توازنٌ بين “الفخر بالماضي” و”الانشغال بصنع حاضر ومستقبل مجيدين”. ولاشك أن هناك خللا في تفكيرنا في هذه المسألة إذ أن الانشغال بصنع الحاضر والمستقبل يعتبر متواضعاً إلى جانب الإنشغال بالتفاخر بالماضي.
كذلك فإن افتراضَنا (الضمني) أننا الوحيدون الذين يملكون ماضياً مجيداً هو الآخر أمرٌ مخالفٌ للواقعِ والثابتِ. فكما أن من حقنا أن نفخر بتاريخنا المصري القديم فإن أبناء اليونان وإيطاليا (أحفاد الإغريق والرومان) هم أيضاً أصحاب حضارة وماضٍ مجيد لا يحق لمن يحترم الحقائق التاريخية أن يستهين بهما.
وفى اعتقادي أن “فقرَ مكوناتِ الواقع” هو ما يدفعنا باستمرار للتغني والتفاخر بالماضي، كأننا نشعر أنه بدون ذلك الماضي فإن المعادلةَ ستكون مختلةً وفى غير صالحنا. والمنطقي، أن نفتخر بجوانب عديدة من ماضينا افتخاراً متزناً غير مشوبٍ بالحماسةِ الزائدة والتعصب وعدم إعطاء الآخرين حقوقهم، على أن يكون هناك “فخر متوازن” بمعطياتِ الحاضرِ ومكونات المستقبل.
وإذا كان العربُ هم الذين نحتوا المقولة الشهيرة والصائبة والتي تقول: (ليس الفتى من يقول كان أبى، وإنما الفتى من يقول هأَنذا) فإن الأمرَ هنا يكون بغيرِ حاجةٍ منى لمزيد من الشرحِ والتبيانِ.
ومن جهةٍ ثانيةٍ، فإن افتخارَ معظمنا بماضينا يعطى الإحساس بأننا نعلم الكثير عن هذا الماضي. والحقيقة أن السوادَ الأعظم منا لا يعرف أي شيء (إلا الشعارات العامة) عن ماضينا وتاريخنا. بل أنني أزعم أن الأغلبية العظمى من المتعلمين تعليماً عالياً بمجتمعنا لا يعرفون -مثلاً- أعلام الأسرة الثامنة عشرة في تاريخنا الفرعوني القديم ولا يعرفون -مثلاً- الترتيب الزمن لفراعنة عظماء أمثال سنوسرت وأحمس وتحتمس الثالث وسيتي الأول ورمسيس الثاني، رغم أن معرفة ذلك لا تعنى أي تضلع في تاريخنا القديم. بل وأزعم أن معظم المتعلمين تعليماً عالياً في مصر لا يعرفون الترتيب الزمني للعهود التالية: العصر الإخشيدي والأيوبي والطولوني والمملوكي في تاريخنا الوسيط. وأكرر، أن معرفة ذلك لا تسمح في حد ذاتها بالاعتقاد بوجود أي تضلعٍ في معرفةِ الموضوعِ محل الحديث، ولكن عدم المعرفة بها يعني الجهل التام بأبسط المعارف التاريخية وهو ما يجعل الافتخار الحماسي بهذا الماضي (ممن لا يعرفون أي شيء عنه) ظاهرةً عقليةً ونفسيةً تحتاجُ للدراسةِ والتحليلِ.
وتنطبق هذه الحقيقة (حقيقة جهل السواد الأعظم منا بمفردات وعناصر ماضينا) على تياراتٍ فكريةٍ بأكملِها. فما أكثر الذين يسمّون أنفسَهم بأنصار مصر الفرعونية وهم لا يعرفون ألف باء تاريخ هذه الحقبة. وما أكثر الذين يسمون أنفسهم بالإسلاميين وهم على غير علمٍ بمعظم التاريخ والتراث الذي لا يكتفون بالفخر به، بل ويضفون على عناصره من القداسة ما لا ينبغي أن يقدس لأن معظمه “عمل وفكر بشرى”.
وأذكر هنا حواراً مع شابٍ متحمسٍ للتيارِ الذي يُسمي نفسه بالإسلامي وجدته يلحن (أي يخطي في تحريك الكلمات العربية) وهو يستشهد ببعض النصوص. أذكر أنني قلت له إن الفقهاء المسلمين الأوائل كانوا يعتبرون كل علم أصول الفقه عملاً بشرياً ولا أدل على ذلك من أمرين:
الأول، تعريف الفقهاء لعلم أصول الفقه بأنه “علم استنباط الأحكام العملية من أدلتها الشرعية” وهو تعريف عبقري ولكنه يثبت “بشرية” هذا العلم. والثاني، كلمة أول وأكبر الفقهاء أبى حنيفة النعمان الشائعة (علمُنا هذا رأي، فمن جاءنا بأفضلَ منه قبلنَاه). ثم ذكرت لذلك المتحمس لما يسمى بالتيار الإسلامي أن هؤلاء الفقهاء الأوائل قد وضعوا ستة شروط لأهلية الإفتاء، كان أولها العلم باللغة العربية علم العرب الأوائل. ثم قلت له، ونظراً لأنك (ومعظم زملائك في الحماس لما يُسمى بالتيار الإسلامي) تلحنون (أي تخطئون في اللغة العربية) فإنكم -وفق الشرط الأول من شروط الإفتاء- قد فقدتم أهلية إبداء الرأي في المسائل التي تتعرضون لها.
كل ذلك كان ضمن حديثي عن غرابةِ أن يفخر أناسٌ بماضٍ لا يعلمون عنه شيئاً يذكر. وهو ما يدل -مرة أخرى- على أننا أمام “ظاهرة عقلية ونفسية” لا علاقة لها -في الحقيقة- بالماضي الذي يتحمسون له.
وأخيراً، فإن الحياةَ المعاصرة في مجتمعنا تجعلنا نشاهد – يومياً – عروضاً متكررةً للخلطِ بين هذا الفخر المتحمس بالماضي وبين الفخر الآني أي الفخر بما نحن عليه الآن.
وهذه ظاهرة مفهومة، لأَننا نستشعر في أعماقنا تلك المفارقة المهولة بين “ماض مجيد” نفخر به وحاضر نبحث في جوانبه عن أسباب للفخر فلا نكاد نجد إلا أقل القليل؛ فمعظم إنجازات عصرنا المادية والفكرية من أعمالِ الآخرين.
© منبر الحرية، 25 أبريل 2009

peshwazarabic18 نوفمبر، 20101

كما أن القيم الست السابقة هي من “قيم التقدم” بوجهٍ عامٍ ، أي من القيم التي ينبغي أن تغرس في المناخ الثقافي والتعليمي العام حتى تكون البيئة مهيأة لحركة المجتمع إلى التقدم المنشود ، فإن ذات القيم الست هي أيضاً من ركائز قيم العمل الحديث أو من قيم التقدم الإداري . وعليه ، فإن القيم الخمس التي أُسلط بعض الضوء عليها في هذه الجزئية تحت عنوان “قيم العمل الحديث” يجب أن تسبقها “القيم الست الأخرى” بحيث يكونون معاً “قيم العمل الحديث” الإحدى عشر .
عمل الفريق :
خلال سنوات عديدة من العمل في بيئة دولية بكل ما تعنيه الكلمة من معان حيث يعمل معاً آلاف الأشخاص الذين ينتمون لدول عديدة ولثقافات بالغة التباين تكشف أمام عيني بوضوح ضعفنا الشديد (كمصريين) فيما يتعلق بالعمل الجماعي أو عمل الفريق. فبينما تسهل هذه العملية بشكل هائل عند معظم الأفراد القادمين من آسيا (ولاسيما من خلفية يابانية أو صينية) وبينما يسهل ذلك أيضاً على شعوبٍ أخرى كالأوروبيين وغيرهم، فإن تجربة العمل اليومي لسنواتٍ عديدة في هذه البيئة متعددة الجنسيات كانت تجسد أمام ناظري الصعوبة البالغة لدى معظم المصريين للانخراط في عمل جماعي وكأعضاءٍ في فريق عمل. فمنذ اللحظات الأولى، تظهر على السطح “صدامات الأنا” بشكل بارز للغاية …كما تظهر على السطح رغبة كل فرد في أن يتأكد من أنه في حالات النجاح سيكون صاحب هذا النجاح أما في حالات الفشل فإن غيره سيتحمل التبعة!.. كذلك كانت الأمور تدل بوضوحٍ أن أحداً لا يقبل أن يكون عمله (أو تكون مساهمته) مجرد أمر مكمل لأداء الآخرين. وفي مئات الحالات، كانت الأمور تصل إلى حالة من التأزم يطلب فيها البعضُ إما خروجهم من الفريق أو خروج شخص أو أشخاص آخرين وإلاَّ !! فإن الفشل النهائي مؤكدٌ (!!). و كان عدم حدوث ذلك من أفراد ينتمون لخلفيات أخري مثل البريطانيين والآسيويين والألمان وغيرهم عاملاً يزيد من ظهور ملامح الصورة : وهي صعوبة انخراط معظم المصريين في عمل جماعي وصعوبة أن يقبل أحدُ أن “الشكر” على الإنجاز (في حالة النجاح) سيكون من نصيب (فريق عمل) وليس (شخصاً محدداً)! (هو المتحدث في كل حالة).
ولما كانت علومُ الإدارةِ الحديثةِ تقوم على مجموعةٍ أساسيةٍ من الركائز من أهمها (العمل الجماعي) أو (عمل الفريق) … فإن تطبيق تقنيات علوم الإدارة الحديثة على أعدادٍ كبيرةٍ من المصريين يبقى أمراً صعباً بإستثناءِ حالات وجودهم بالخارج إذ لا يكون أمامهم إلا (الاستسلام المطلق) لمفردات نظم العمل في تلك البيئات الخارجية وإلاَّ لفقدوا عملهم على الفور. وفي هذه الحالات، فإن بعضهم ينجح ويتألق وتعاوده “جرثومةُ الفردية” التي عرفها لمدد طويلة… فينسب نجاحه لنفسه فقط ، متناسياً أنه لم ينجح بتلك الكيفية إلا في تلك “البيئات الصحية” التي فرضت عليه قيم العمل الحديث وتمكنت من استخراج أفضل ما فيه من مكنٍ وقدرات. ولا تزال كلمة أستاذ يعمل في معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا ترن في أذني عندما قال لي (في أواخر 1999): (أن أحمد زويل بكل المعايير عقل علمي فذ ، ولكن على كل إنسان أن يتذكّر أن هناك 17 إنساناً في نفس المعهد الذي فيه أحمد زويل قد حصلوا على جائزة نوبل في مجالات علمية – وهو ما يعني أن “معجزة النظام” لا تماثل فقط بل وتتفوق على “معجزة الفرد” – وان كانتا مطلوبتين في نفس الوقت وإلاَّ ما تحققت النتيجة). كذلك فإن أحمد زويل نفسه لم يكف عن الحديث عن “فريق العمل” الذي بدونه ما كان له أن يبلغ ما بلغ، كما أنه كان يضيف دائماً (وهو رأي بالغ القيمة) أن “بيئة العمل والبحث العلمي في معهده” هي صاحبة فضل لا ينكر وراء حصوله على جائزة نوبل في الكيمياء سنة 1999. ولكننا أبناء (ثقافة الأشخاص) لذلك فإننا ننسى كل جوانب القصة ونركز على “الفرد” لإننا منذ أكثر من خمسين قرناً نفهم (ونقدس) الفراعين في كل مجال ولا نولي أي اهتمامٍ بالنظمِ التي هي المنتج الأول للنجاح والتقدم والإنجازات العظمى ولا توجد آليات لعلاج هذا العيب الكبير في مكوناتنا إلا ما ذكرته في أكثر من فصل من فصول كتبي: “القدوة” (كأداة تطوير على المدى القصير) و “التعليم العصري” (كأداة تطوير على المدى المتوسط والطويل).
أما “القدوة” فهي ليست مجرد كلمة عامة مُبهمة ومجردة وإنما هي ترجمة كلية لمديرٍ عصريٍّ تكّون وفق معطيات وثقافة علوم الإدارة الحديثة والتي تجعل كل رئيسِ عملٍ في موقعه مسئولاً عن إدارة العمل بشكلٍ “يجمّع” العاملين في مجموعات أو فرق عمل تربط بينها روابط التآلف والتكامل في مقابل رؤساء عملٍ آخرين يعملون على تعظيمِ الفردية والتشرذم وخلق ولاءات فردية مباشرة بين كل إنسان في التنظيم ورئيس العمل . إن المدير العصري الذي تكّون وتدّرب وفق روح وثقافة ومعطيات وتقنيات علوم الإدارة الحديثة تكون من أهم مهامه خلق هذه الروح أي روح الفريق بينما ينخرط معظم رؤساء العمل لدينا في خلق روحٍ مغايرة يكون العاملون فيها جزراً مستقلة ومنعزلة عن بعضهم ويكون إتصالهم الوحيد برئيس العمل فيما يمثل له بصفةٍ شخصيةٍ مصدرَ قوة وعزوة ويُعظم من مكانته الخاصة على حسابِ إهدارٍ كلي لروح العمل الجماعي وثقافة الفريق .
وتستمد هذه الثقافة السلبية منابعها من فقر وضعف التعليم الإداري الحديث لدينا وكون معظم القيادات (مجرد رؤساء في العمل) وليسوا (مديرين تنفيذيين عصريين) ، كما تستمد وقودها من ثقافةِ القريةِ المصرية حيث كان “العمدةُ” لعقودٍ طويلةٍ يعمل بنفس الطريقة وهي إيجاد قنوات إتصال بين الآخرين وبينه فقط مع إعتبار أي نمط آخر بمثابة مخالفة للولاء اللازم وإضعاف لهيمنته الوحيدة . إن علوم الإدارة الحديثة قد وصلت بنا إلى (مدير تنفيذي عصري) يصعب على كثير من الناس في واقعنا أن يتفهموا ما الذي يقومُ به إذ أنه في الحقيقة لا يبدو على السطح وكأنه يقوم بالكثير من الأعمال وإن كان بمثابة المايسترو لفريقٍ تتوافر فيه صفتان هامتان : الكفاءة العالية لكل فرد على حدة .. والعمل المشترك كفريقٍ واحد .
ومن خلال تجربتي الخاصة فقد كنت لقرابة عشر سنوات مسئولاً عن أعمال ومشروعات بمليارات الدولارات وكان وقتي أبعد ما يكون عن الإزدحام بالمواعيد والإجتماعات وكان مكتبي خالياً من الأوراق رغم مسئوليتي عن حجم أعمالٍ يومي بأكثر من مائة مليون دولار بينما كنت أرقبُ مسئولين في مواقعٍ أخرى يديرون أعمالاً ومشروعات بكم لا يبلغ واحد في المائة من هذا الحجم والقيمة وكنت أجدهم غارقين في الإجتماعات والأوراق والملفات وكنت ولا أزال أقول أنهم منشغلون بالقيام بأعمال غيرهم .. وأنهم مع نسفهم لثقافة العمل الجماعي والفريق من جهة وعدم إيمانهم بالتفويض من جهة ثانية فقد أصبح من المُحتم أن يجلسوا ثلاثة أرباع النهار كل يوم وسط جبالٍ من الملفات والأوراق .. ومع ذلك فإن نتائجهم النهائية هي في بعض الأحوال “متواضعة” وفي معظمها “مخجلة” .
إن زرعَ وبثَ ونشرَ روح وثقافة العمل الجماعي وأسلوب عمل الفريق يبدأ من تكوين كادرٍ بشريٍّ من المديرين التنفيذيين العصريين الذين يفهمون فكرةَ (الرئيس في العمل) حسب مفهومها العصري الحديث وليس حسب مفهومها الفرعوني أو القرون أوسطي حيث يكون الرئيس في العمل هو (كل شئ) ويكون مساعدوه ومساعدو مساعديه (محض لا شئ) . وبدون هذه الثورة الإدارية في هذا المجال فإن كل محاولات تطوير بيئة العمل لدينا في إتجاه العمل الجماعي وروح الفريق سوف تفشل لأن الذين على رؤوس التنظيمات الإدارية لا يريدون لها إلاِّ أن تفشل لتبقى الحبال (كل الحبال) في أيديهم ويكونوا هم فقط (آباء النجاح) أما الباقون فمجرد تروسٍ صغيرةٍ معاونةٍ . وكما أن القدوة عن طريق كادرٍ بشريٍّ متميّزٍ من المديرين التنفيذيين العصريين هو أمرٌ لازمٌ فإن ثورة تعليمية تبثُ في الأجيال الجديدة تقديس العمل الجماعي وتؤسس المسألة التعليمية برمتها على أسلوب فرق العمل هو الأمر اللازم الثاني لإنتقالنا من ثقافة العمل الفرعوني الفردي إلى دنيا العملِ الحديثةِ القائمةِ على عملِ الفريق وتعظيمِ الفوائدِ من تفاعلِ العقولِ والخبراتِ والقدراتِ .
منذ أكثر من عقدين من الزمان ذهبتُ لأولِ مرة لدراسة أحدث تقنيات علوم الإدارة الحديثة بأكبر معهد متخصص (The International Management Institute of Geneva University) في هذا المجال في أُوروبا ومن اليوم الأول أنتابتني فكرةُ أن هذا المكان لا يمكن أن يكون ممتازاً كما يُشاع عنه لأنه كان على نقيض طرق وأساليب التعليم التي عشت معها في مرحلتي الشهادة الجامعية الأولى والماجستير في واحدةٍ من الجامعاتِ المصرية : فقد كنتُ أنا الآتي من بيئة الدراسة الأكاديمية المصرية أتوقع أن يكون الأستاذ (جهة إرسال) .. وأن يكون الدارسون (جهة إستقبال) لاسيما وأن مصاريف هذا البرنامج الدراسي كانت بمئات الآلاف من الدولارات. إلاِّ أنني وجدت النقيض من اللحظة الأولى: فلم يكون الأساتذة (مرسلين) .. ولم يكون الدارسون (مستقبلين) .. وإنما كانت كل جلسات الدراسة تبدأ بتسليط الضوء على مجموعة من المفاهيم والمواضيع والإشكاليات ثم يتم تقسيم الدارسين إلى مجموعات عملٍ تذهب كل مجموعة منها إلى غرفة مستقلة ويكون أمامها قدر من الوقت لدراسة الإشكاليات المطروحة وإستعمال المكتبة وتكوين ورقة تمثل مجموعة الدارسين معاً يشتركون على قدم المساواة في إعدادها ثم يختارون أ حدهم لتقديمها وعرضها نيابةً عنهم.
وكان إنطباعي الأول مزيجاً من الدهشة : فكيف تُنفق مئات الألوف من الدولارات على تعليم بسيط وهزلي مثل هذا !! .. إلاِّ أن الأسابيع والشهور التالية جعلتني أرى أن هذا الأسلوب في التعليم هو الذي يُفرز النماذج البشرية التي تقود العالم في كل المجالات لأنه الأسلوب الذي يُفرز (المبدعين) و(المؤمنين) و(المتعاونين) على نقيض الأسلوب الذي يُفرز ا|لإنسان الذي يُجيد التلقي والتبعية ويكبت في نفسه قدرات الخلق والإبداع كما يحفز في شخصه عوامل الفردية الهدامة لكي يكون الفائز بتقديرات النجاح بينما يترك عار التأخر لزملائه . هذه البيئة العلمية هي التي تُفرز أفضل عناصر البيئة العملية .. فما العمل إلاِّ إستمرار لمراحل التعليم الأولى : إذ أن وحدات العمل هي الجهة التي تتلقى المنتج النهائي للمؤسسة التعليمية (الإنسان) بعد أن تمت صياغته وتشكيله إما بشكل إيجابي أو بشكل سلبي .
وهكذا يتضح أن العمل الجماعي أو عمل الفريق هو ظاهرةٌ ترتبط بنسيج ثقافةِ المجتمع من جهةٍ (فقد لاحظ علماءُ الإدارةِ الحديثة بوجهٍ عامٍ وعلماء إدارة الجودة بوجهٍ خاصٍ أن الشعوب الصينية واليابانية لديها إستعداد كبير جداً للعمل الجماعي – ولكنها صفة مُكتسبة (من تراكمات بناء الثقافة العامة لمجتمعاتهم) وليست صفة طبيعية . كذلك يمكن النظر للعمل الجماعي أو عمل الفريق من وجهة نظر أساليب الإدارة المُتبعة في المؤسسات الحكومية والمؤسسات الإقتصادية أيٍّ كانت طبيعتها . وثالثاً فإن هناك زاوية أخرى لتناول موضوع العمل الجماعي أو عمل الفريق وهو فلسفة التعليم وتقنياتها . ومن ناحية رابعة فإن “القدوة” التي تمثلها القيادات التنفيذية في المجتمع هي عامل حاسم من عوامل بقاء الأمور على ما هي عليه أو تطورها تجاه ثقافة العمل الجماعي .. وخامساً وأخيراً فإن هناك صلة بين موضوع العمل الجماعي ودرجة نمو الديمقراطية في المجتمع ، فكلما زاد الهامش الديمقراطي كان بوسع الذين يريدون تأصيل العمل الجماعي كمعّلم من معالم المجتمع أن يحققوا ذلك لأن المجتمعات غير الديمقراطية تكون مجالات العمل فيها مغلقة من أعلى بمعنى أن الحركة في كل التنظيمات من أسفل إلى أع لى إما أن تكون بطيئة أو شبه معدومة وهو ما يفرضُ مُناخاً معارضاً للمناخ الأمثل للعمل الجماعي – وهكذا نكون أمام حالة جديدة من المشكلات التي ليس لها سبب واحد وليس لها علاج واحد وكأننا بذلك نردد مع الفيلسوف الأمريكي/ الألماني هيربرت ماركوز ما كتبه وأعلنه مراراً منذ ثلاثين سنة عندما قال : أن نظرية السبب الواحد قد سقطت نهائياً في مجالات الفكر الإنساني برمتها .
الإهتمام الفائق بالموارد البشرية :
إذا كانت “الإدارة” هي عصب النجاح في كل مؤسسات المجتمعات المتقدمة، فإن “التوظيف الأمثل للبشر” هو الأَداة التي تكون وراء “نجاح” أو “فشل” الإدارة. وقد تشعبت “علوم الموارد البشرية” وصارت تغطي مواضيعاً عديدة مثل (إختيار العاملين) و(التدريب) و(تقييم الأداء) و(الموارد البشرية والتنظيم) و(إكتشاف القدرات القيادية) وعشرات المجالات الفرعية لواحدٍ من أهم مجالات الإدارة الحديثة وهو مجال الموارد البشرية.
وتقوم علوم الموارد البشرية الحديثة على ركائز أساسية مثل الإيمان بأن كل إنسان في العالم توجد مسافة واسعة بين “أدائه الآني” و”قدراته غير المكتشفة”، وأن من أهم مهام الإدارة إكتشاف تلك “المسافة” والعمل على تنميتها عن طريق الموائمة بين الإنسان وأنسب المجالات له من جهةٍ وعن طريق التدريب المستمر من جهةٍ أخرى.
كذلك تقوم علومُ الموارد البشرية الحديثة على الإعتقاد بأَن أي فردٍ من الناس هو في النهاية واحد من أفراد مجموعة من مجموعتين أساسيتين هما “مجموعة المتخصصين” (The Specialists) و”مجموعة العموميين” (The Generalists) – مع التسليم بأهمية كل منهما وضرورة تواجد أفراد ينتمون للمجموعتين لوجود تنظيماتٍ ناجحةٍ ومزدهرةٍ وفعّالةٍ ومتطورةٍ.
كذلك تقوم علوُم الموارد البشرية الحديثة على الإعتقاد بأن هناك تفرقة أساسية بين “القدرة” (Potential) و “الأداء” (Performance) – وبينما يمكن الرقي بمستويات ومعدلات “الأداء” ، فإن أقصى ما يمكن عمله مع “القدرة” هو إكتشاف وجودها أو عدم وجودها. ويكون من أهم مهام الإدارة العليا في المؤسسات العصرية إكتشاف أصحاب القدرات العالية في زمن مبكر لتوجيههم للمناصب القيادية وإعداد برامج التدريب المطلوبة لصقل امكاناتهم وإضفاء ثراء الحرفية (Professionalism) عليها .
ومن مجالات علوم الموارد البشرية المهمة موضوع التحفيز أو التحميس (Motivation) بجوانبه المادية والأدبية المختلفة.
ويختلف دور “الرئيس” أو “القائد في العمل” في المؤسسات الحديثة عن دوره في البيروقراطيات التقليدية – ففي هذه الأخيرة يقوم الرئيس في العمل بتركيز أكبر قدر من السلطة المركزية في يده ويقوم عبر السنين بتحويل العاملين معه إلى جيش من “الأتباع” (Followers) بينما يكون دوره في المؤسسات التي تعمل بتقنيات علوم الإدارة الحديثة قائماً على التفويض والقيام بأقل قدر من العمل المباشر والتركيز على التفكير الإستراتيجي وكذلك العمل بأسلوب “المايسترو” أكثر من أسلوب “القائد العسكري”.
وإذا كانت البيروقراطيات التقليدية تخلق أتباعاً ( Followers) فان الإدارة الحديثة تهدف لخلق كيان من الموارد البشرية ويكون أفراده بمثابة “مؤمنين حقيقيين” (Believers ) برسالة وأهداف مؤسستهم كما أن كل منهم يتولد لديه شعور بأن عمله ليس مجرد أداء واجب وإنما هو “أمر يملكه” ويملك آفاق نجاحه عندما ينجح، ويسمى هذا الشعور بملكية الإنسان للعائد الأدبي لنجاحه في العمل في مصطلحات علوم الإدارة الحديثة Ownership وغير خاف أنها “استعارة مكنية” ذات دلالة واضحة للغاية.
وبإختصار شديد، فان “الإدارة الحديثة” لا تنظر للموارد البشرية كآلات وإنما تنظر إليهم بصفتهم “العامل الأكبر” للنجاح أو الفشل وانهم كما يصنعون النجاح ( أو نقيضه) فإن من حقهم التمتع بمزايا وصيت هذا النجاح. وعن طريق هذه النظرة للبشر، لا يكون هناك إعتقاد أن للتقدم والنجاح والإزدهار سبل آخرى أهم من “البشر”. فالمجتمع الفقير المتخلف يكون كذلك لأنه لم يخلق مناخاً مثالياً لأبنائه – للعمل والعطاء ، والعكس صحيح تماماً. فليس ثراء الأمم منوط بثروات طبيعية وأموال مكدسة من الماضي – وإنما ثراء الأمم بثراء مواردها البشرية، وثراء الموارد البشرية “عملية” تتم بالتخطيط والتنفيذ الدقيق لنظم تكتشف أفضل ما في الناس من قدراتٍ وتطورهم وترتقي بمكنهم وتعمل على تحفيزهم.
التفويض :
تحاول كل قيم علوم الإدارة الحديثة أن توظف الإنسان (كل إنسان) بأفضل شكل متصور لذلك فإنها توجه إهتماماً كبيراً للتدريب ومحاولة إكتشاف القدرات الكامنة في كل إنسان والتحفيز Motivation وذلك إيماناً منها بأن الثراء الحقيقي هو في جعل كل إنسان قادراً على إخراج أفضل ما لديه من قدرات ومواهب وكذلك إيماناً بأن تلاقح الأفكار هو أمر بالغ الإثراء للعمل والحياة وكل ذلك يهدمه بالكلية النموذج المركزي في الإدارة والذي عاشت معه عقوداً طويلة مؤسسات العمل في كثير من المجتمعات ويميل البعض لأن تكون هذه المؤسسات قد أستوردته بشكل ما من المؤسسات العسكرية . لذلك أصبح التفويض Delegation هو عصب من أهم أعصاب الإدارة العصرية الناجحة، فالتفويض هو الذي يعكس كل القيم التي ذكرتها آنفاً والتي تؤدي إلى تحول مجموعات العمل من جيوش من الأتباع Followers إلى فرقٍ من المؤمنين Believers – والإبداع يكون مع الثقافةِ الثانية ويتعذر مع الأولى.
وفي النظمِ الإداريةِ الحديثةِ حيث يقوم رؤساءُ العمل بتفويض سلطاتهم للآخرين يختلف دور رئيس العمل كليةً إذ يصبح بمثابة”مايسترو” لا “عازف على كل الآلات” . ويصل التفويض في المؤسسات العصرية إلى درجةٍ يبدو معها رئيس العمل وكأن لا عمل له، وهو إستنتاج خاطئ لأن له عمل هام هو قيادة التفكير الإستراتيجي وليس القيام بأعمالٍ يستطيع الآخرون القيام بها وفي أغلبِ الأحوالِ بشكلٍ أفضل.
ولا أعتقد أنني أبالغ إذ أقول أننا إذا إفترضنا توفر كل قيم الإدارة الحديثة دون التفويض فإن المعبد سينهار لا محالة إذ أن التفويض هو الذي يترجم معظم قيم الإدارة الحديثة.
ولكن الواقع يؤكد أيضاً أن التفويض صنو التدريبِ : فتفويضٌ بدون تدريب لا مآل له إلاَّ الإخفاق.
جلوس علم التسويق على مقعد القيادة :
تختلف الدول التي أحرزت تقدماً هائلاً في المجال الإقتصادي (عن طريق إنتاج “مُنتجٍ” أو تقديم “خدمةٍ” .. ثم في مراحل تالية عن طريق “تكنولوجيا المعلومات”) عن الدول التي أنفقت المليارات على “ترسانات صناعية” لم يكن لها من مآل إلاِّ الفشل في أن الأولى كانت تمارس أنشطتها وعقلها مركز على نهاية العملية أي “التسويق” أَما الآخرون الذين أخفقوا فقد كانوا يمارسون أنشطتهم وهم مشغولون ومنشغلون ببداية العملية أي “الإنتاج” . ويمكن تلخيص الفارق بين إقتصاديات دول ما كان يعرف بأوروبا الشرقية (قبل سقوط الكتلة الشرقية في أواخر ثمانينات القرن الماضي) ودول أوروبا الغربية (وكذلك اليابان ودول جنوب شرق آسيا) في كون الأولى “مُسيّرة إنتاجياً” (Production Driven) بينما كانت الثانية “مُسيّرة تسويقياً” (Marketing Driven) ولا يشك أي عالم من علماءِ الإدارة الحديثة في أن مآل كل الذين يُسّيرون إنتاجياً (لا تسويقياً) هو الفشل والإفلاس وأن مآل الذين يسّيرون تسويقياً هو النجاح والنمو والتوسع .
وإذا كانت “الإدارةُ” هي سر نجاح (أو فشل) المجتمعات بوجهٍ عامٍ والإقتصاد بوجهٍ خاصٍ فإن “التسويق” هو “مخُ الإدارة” بمعنى أن الإدارة الناجحة هي التي تكون من الناحية الإستراتيجية ومن ناحيةِ القدراتِ والمُكنِ “مُسيّرة تسويقياً” .
وتستلزم هذه القيمة من قيم التقدم الإداري توفر زميلات لها من نفس مجموعة القيم فالتسويق الناجح مهمة مستحيلة لمن يكونون محليون وغير منفتحين على العالم ولا يحوّلون قيمة أُخرى من قيم التقدم هي الإيمان بعالمية المعرفةِ إلى واقعٍ يعيشونه ، فكيف ينجح في التسويق على نطاقٍ واسعٍ من لا يعرف الكثير عن الآخرين : عن منافسيه وعن أسواق الدنيا ومتطلبات تلك الأسواق وعلاقة ذلك بثقافات هؤلاء الآخرين الذين نذهب إليهم بمنتجاتنا أو خدماتنا ؟ .. وكيف يكون عندنا نموذج واحد لكل شئٍ من الأشياءِ (وهذا نقيض التعددية”) وننجح في التسويق الذي يقوم على الهدف الأسمى لعلم إدارة الجودة وهو (التلاقي مع توقعات ورغبات متلقي المنتج أو الخدمة) ؟
الإيمان المطلق بفاعلية الإدارة :
ما أكثر العبارات الصحيحة التي يكررها الناسُ دون أن يكونوا مدركين للمعنى والجوهر الحقيقيين لما يرددونه . ومن أشهر هذه العبارات في واقعنا أن مشكلةَ المشكلاتِ في حياتنا هي “الإدارة “. فرغم أن ذلك صحيحٌ بنسبةِ مائة في المائة إلا أن أبسطَ حوارٍ تفصيلي مع معظم مرددي هذه العبارة يوضح أن العبارة السليمة تعني في تفاصيلها أشياء أخرى عند مردديها .
والحقيقة أن العبارة كما أسلفت صائبةٌ تماماً : فمشكلةُ المشكلاتِ في حياتنا بوجهٍ عام وفي حياتنا الإقتصادية بوجه خاص أن أساليبَ وتقنياتِ علومِ الإدارةِ الحديثةِ وعلومِ التسويقِ العصريةِ غائبةٌ بشكلٍ كبيرٍ: غائبة في الإدارات الحكومية … وغائبةٌ في القطاع العام … وغائبةٌ في القطاع الخاص … وغائبةٌ في كل المجالاتِ الخدمية .
ولا شك عندي أن دولَ الكتلة الشرقية بقيادةِ الإتحاد السوفييتي ومن وراءه فيلق أتباعه قد إنهار في أواخرِ ثمانينات القرن العشرين بسببٍ محددٍ هو غياب الإدارة الفعّالة في كلِ مرافقِ العالم الإشتراكي وبالتحديد في المؤسساتِ الإقتصاديةِ التي أدى غيابُ الإدارة الفعّالة فيها إلى حالةِ إفلاسٍ أخذت المعبد بكل أركانه وعواميده وسقطت سقوطاً مدوياً منذ قرابةِ عشرِ سنوات .
وفي المقابل فإن العالمَ الغربي المتقدم ومعه تجارب آسيا المتألقة قد بلغت ما بلغت من آفاقِ التقدم والإزدهار الإقتصادي وما نتج عن ذلك من وجودِ طبقةٍ وسطى قوية وراسخة – لا شك أن مرجع ذلك إنما هو في المقام الأول لتوفر نظم إدارة وتسويق عصرية فعالة قادرة على خلقِ النجاح والثروة . و من الجدير بالذكر هنا أن الإدارةَ العصرية الفعّالة ليست فقط قادرة على تحقيق التقدم والإزدهار الإقتصاديين وما ينتج عنهما من نتائج إجتماعية إيجابية وإنما هي أيضاً قادرة على التعامل مع الأزمات والكبوات ، فبالإدارة فقط تجاوزت دول جنوب شرق آسيا كبوتها الإقتصادية في فترةٍ زمنيةٍ قياسية ومن قبلها تجاوزت المكسيك أزمتها في وقتٍ كان البعضُ لدينا يردد آيات التفاخر بأننا نسير بخطواتٍ محسوبة على خلاف المكسيك ودول جنوب شرق آسيا – وقد أثبتت تجربة المكسيك ودول جنوب شرق آسيا أن الذي سار في طريقٍ معينةٍ بمنهج علمي واضح يستطيع إن تعرض للأزمات أن يعود ليسير في نفسِ الطريق لأنه وإن كان قد عاد للوراء بعضَ الشيء إلا أنه لم يفقد المنهج .
ولكن ما معنى النجاح ؟
لابد ابتداءً من لفت الانتباه إلى أن اللغة العربية تترجم مصطلحين إنجليزيين هما Management و Administration بكلمةٍ واحـدةٍ هـي (الإدارة). من هنا ينبع سـوءُ الفهم. فبينما تعني كلمـة Administration مجموعة القواعد التي تحكم سير العمل مثل لوائح ومواعيد العمل ودرجة الإنتظام وغيره من سيل الخدمات الإدارية التي تحيط بالعمل فإن كلمة Management تعني شيئاً مختلفاً كليةً إذ أن معناها الحقيقي هو تحقيق النتائج المرجوة والتي هي بالتحديد في شكل عائدٍ إقتصاديٍّ محددٍ مع عملية نمو موازية عن طريق أدوات علوم التسويق العصرية .
وبالتالي فإننا إذا نظرنا إلى كلِ المؤسساتِ الإقتصاديةِ التي أنشئت في دول التخطيط المركزي (الإقتصاد الموجه) وأثار إعجابنا حجم المنشآت والآلات والمعدات وعدد العاملين كنا كمن ينظر إلى المسألةِ في أفضلِ الأحوالِ من زاوية الـ Administration لأن كل ذلك لا معنى له من منظورِ علومِ الإدارةِ الحديثة Management ما لم نسمع معلومة محددة وهي أن تلك المنشآت والمعدات والآلات تحقق سنوياً عائداً لا يقل عن عوائدِ المصارف على الإيداعات .
ومن المهم للغاية أن نعرف أن أي مشروعٍ لا يحقق عائداً على الإستثمار يفوق عوائد إيداعات المصارف سوف يصل حتماً إلى مرحلة الإفلاس ويصبح عاجزاً عن أداء مهمته الإقتصادية ومهامه الأخرى وفي مقدمتها القدرة على التشغيل وخلق فرص عمل جديدة.
وإذا كان البعضُ يفتخر بحجم المنشآت الإقتصادية التي تمت في ظروفٍ معينةٍ ولم تتمكن (بسبب غياب الإدارة الفعّالة) من تحقيق عوائد إقتصادية تفوق عوائد إيداعات المصارف فإننا نقول له أن موقفك هذا غريبٌ وعجيبٌ لأنك تفتخر بالإنفاق وكان الأجدر بك ان تفتخر بالنتائج والعوائد والتي كانت في معظمِ الأحوالِ متواضعةً بشكلٍ كبيرٍ هو الذي أدى لفشل التجربة برمتها.
وبديهي أن المجتمعاتِ التي تخلط بين مفهوم الإدارة بمعناه هذا الذي وضحناه وبين الضبط والربط والإنتظام هي في حاجة لأن تعلم أن الضبط والربط والإنتظام رغم أهميتها لا تخلق ثروةً إقتصاديةً إذ أن السبيلَ الوحيد لخلقِ الثروةِ الإقتصادية هو العمل وفق أساليب وتقنيات علوم الإدارة والتسويق الحديثة.
إن المدير العصري مثله مثل الطبيب والمهندس والمعماري إنسانٌ يتكون وفق معطيات الإستعداد الشخصي مع زخم من التعلم والتدريب وبذلك فإن مجردَ الترقية لوظيفةٍ عليا لا يعني أننا بصدد مديرٍ تنفيذي عصريٍّ قادرٍ على قيادةِ العملِ والتخطيطِ لتحقيق الأهداف المنشودة على مستوى الربحيةِ والنمو مع ما يوازي ذلك من إهتمامٍ فائقٍ بتنميةِ أهم عناصر النجاح وأعني الموارد البشرية.
ومن الملاحظ أن غيابَ الإدارة العصرية الفعالة في واقعنا لا يقتصر على الإداراتِ الحكوميةِ التي تسوم المواطنين شتى صنوف العذاب عند تعاملهم معها وإنما تغيب الإدارةُ الفعّالة أيضاً عن الوحدات الإقتصادية المسماة بالقطاع العام والأفدح إنها تغيب بنفس القدر عن الدكاكين الإقتصادية التي يسميها البعض بالقطاع الخاص بينما هي أبعد ما تكون عن روح ونظم وآليات المؤسسات الإقتصادية الخاصة التي تعمل وفق آليات علوم الإدارة والموارد البشرية والتسويق الحديثة (فمعلومٌ لكلِ خبراءِ الإدارةِ العصريةِ والموارد البشرية وتقنيات التسويق الحديثة أن السواد الأعظم من المؤسساتِ الإقتصادية الخاصة في مصر اليوم تعتمد إعتماداً شبهَ كلي على العلاقات العامة وليس على الإدارة بمعناها العلمي الحديث – فهذه المؤسسات وجدت أن المناخ العام المحيط بها يعملُ بآليات العلاقات العامة فوفرت على نفسها مشقة الطريق الصعبة والمتمثلة في بناءِ تنظيمٍ مؤسسيٍ عصريٍ يضم عناصر بشرية قادرة وفعّالة – فهذه الطريق الصعبة هي من جهةٍ مكلفة ومن جهةٍ أخرى لا تستطيع العقول البسيطة إستيعاب جدواها لا سيما في ظل الأضواء الباهرة لثقافة العلاقات العامة في مجتمعٍ يقدسُ ما تعكسه تلك العل اقات العامة من معانِ القوةِ وأبهةِ السلطة وأبهةِ القرب من السلطة) .
وما لم نخلق المناخ العام الذي يسمح بنهضةٍ إداريةٍ عصريةٍ في الإداراتِ الحكوميةِ ووحداتِ القطاع العام والمؤسسات الإقتصادية الإنتاجية والخدمية الخاصة فسوف يبقى إنتظارُنا طويلاً لمجيء الإستثمارات العالمية المباشرة والتي يصعب تصور وجودها بدون مناخٍ عامٍ يسمح لها بالعمل وفق آليات وتقنيات علوم الإدارة والموارد البشرية والتسويق الحديثة وليس وفق معطيات كانت هي السبب الأول والأخير وراء الأوضاع الإقتصادية المتدهورة في واقعنا والتي لم نبدأ في التعامل الجاد معها إلا منذ عشر سنوات ولكنه تعامل لا يزال يحتاج لمزيدٍ من الجرأة في إستئصال جذور العديد من المشكلات والتي تجعل من توفر الإدارة العصرية في سائر جوانب حياتنا أمراً صعباً إن لم يكن مستحيلاً.
وهكذا يتضح أن ترديد مقولة (أن المشكلة هي الإدارة) إنما هو مثال واضح لعبارة صحيحة لا تنطلق بالضرورة من فهم سليم لمعانيها ومراميها.
منبر الحرية،12 أبريل 2009

peshwazarabic18 نوفمبر، 20100

تحولت فكرةُ الإتقانِ إلى علمٍ قائمٍ بذاته هو (علم إدارة الجودة ) والذي إنضم خلال العقودِ الأربعةِ الأخيرةِ لمنظومةِ العلومِ الإجتماعيةِ بل وأصبحت هناك معاهدٌ لا تقوم بتدريس إلاَّ علم الجودة (Quality Management/ QM). ورغم أن هناك أدبيات كثيرة في علم الجودة أشهرها كتابات البروفيسور Deming الذي جرى العرف على إعتباره أب أو أحد آباء “علم إدارة الجودة” إلاَّ أنني لا أُريدُ في مقالٍ عامٍ كهذا أن أدخل في تفصيلاتِ وتفريعاتِ علمِ إدارةِ الجودةِ والمواضيع الأساسية لهذا العلم وهي الجودة أو الإتقان في مرحلة التخطيط ثم الجودة أو الإتقان في مرحلة التنفيذ ثم المراجعة بعين تنظر للجودة والإتقان، ولكنني أُريد أن أقول أن تواجدَ وتطبيقاتِ علومِ إدارةِ الجودةِ وتفشي ثقافة الإتقان ما هي إلاَّ إنعكاس لحقيقة أكبر وهي وجود حراك إجتماعي فعّال في المجتمع. فالإتقانُ ملمحٌ من ملامحِ المتميزين…والمتميزون هم الذين يفرزون مكوناتِ ثقافةِ الإتقانِ ومفرداتِ علومِ إدارةِ الجودةِ …وإذا لم يكن المجتمعُ يسمح بحراكٍ إجتماعي يبرز المتميزين من أبناءِ وبناتِ المجتمع فإن ثقافةَ الإتقانِ لا توجد وتحل محلها ثقافةُ العشوائيةِ وتعم في المجتمع كلُ بدا ئلِ صور ومشاهد الإتقان.
وكما ذكرت في فصلٍ من فصول أحد كتبي تحت عنوان “التحول المصيري” فإن الحراك الإجتماعي الحر وتفاعلاته هما اللذان يجعلان أصحاب القدرات الأعلى من أبناءِ وبناتِ أي مجتمعٍ يشغلون المواقع القيادية في كل مجالاتِ الحياة في المجتمع وهو ما يفرز هرماً إجتماعياً صحيحاً وسليماً قد يطلق البعضُ عليه أنه الهرم الذي أنتجته الداروينية الإجتماعية بينما يغضب البعضُ (ولاسيما إذا كان هؤلاء ينتمون لعلماءِ الإجتماع الإشتراكيين) ويفضلون أن نقول (ولا مانع لدينا) أن هذا الهرم لا يبنى بالداروينية الإجتماعية وإنما يبنى بالحراكِ الإجتماعي الحر والفعال والذي يتيح الفرصة لكل متميّزٍ ومتميّزةٍ من أبناءِ وبنات المجتمع لتقدم الصفوف والمشاركة بفاعليةٍ في صنعِ الواقعِ والمستقبلِ: وهذه هي الخلفية الوحيدة التي تسمح بذيوعِ ثقافةِ الإتقان.
وعلى النقيض فإن المجتمعاتِ التي لا تسمح تركيبتُها بالحراكِ الإجتماعي الحر تفتح المجال على مصراعِيه أمام غير المتميزين وغير الموهوبين وأصحاب القاماتِ المتوسطة لكي يحتلوا مواقعاً عديدة على رؤوس الكثير من المؤسساتِ والتنظيماتِ والهيئاتِ في المجتمع وهو ما يوجه ضربةً قاضيةً لثقافةِ الإتقانِ ويشيع مناخاً ثقافياً مختلفاً تماماً أُسميه بثقافةِ القاماتِ المتوسطةِ وفيه يختفي الإتقانُ وتشن الحروب بلا هوادةٍ على المتميزين والمتميزات من أبناء وبنات المجتمع لأن أصحابَ القاماتِ المتوسطة هم المصدر الأول لهذا المناخ العام : فبدونه تتبدل قواعدُ اللعبة ويهبطون من مواقعِهم العالية إلى مواقعٍ أدنى تتناسب مع قدراتهم ومحدوديةِ مواهبهم.
وموضوعُ الثقافة التي ينشرها “متوسطو القامة” بل والمناخ العام الذي يخلقونه هو موضوع يستحق الكثيرَ من العناية من المفكرين والدارسين : لأن المثقفَ المستنير بوسعه أن يتصور كلَ ملامح الحياةِ والمجتمعِ والعلاقاتِ التي تنشأ عن سيادةِ وشيوعِ “متوسطي القامة” وما يخلقونه من آلياتٍ لبقائهم وبقاء نوعياتهم في مواقعٍ مؤثرةٍ وكذلك الدمار الذي يحدثونه في “القيم” و “المثل” و”الأخلاق العامة” وكذلك إنعكاسات شيوعهم على الحياةِ السياسيةِ والإقتصاديةِ والثقافيةِ والتعليميةِ والإعلاميةِ، وما يجرون المجتمعَ إليه من “إنخفاضٍ مروعٍ” في “كلِ المستوياتِ”.
ومن النقاط التي يجدر توضيحها عند الحديث عن “الإتقانِ” و”إدارةِ الجودةِ” أن الإتقان ليس أمراً مرتبطاً بالتقدمِ التكنولوجي وإنما هو فكرةٌ في رؤوسِ بعض الناسِ. ويذكر كاتبُ هذه السطور أنه عندما كان يحاضر ذات يومٍ بمعهد جوران (Juran) لإدارةِ الجودةِ بالولايات المتحدة الأمريكية أنه أسهب في شرح فكرته أن “الإتقانَ” فكرةٌ في رؤوس المتميزين وليس ثمرة التكنولوجيا (فالتكنولوجيا نفسها ثمرة أُخرى من ثمارِ تفكير المتميزين)…أَذكر أنني عندما أسهبت في شرحِ هذه الفكرة وتطرقتُ للحديثِ عن “الإتقان” في مصرَ القديمةِ وكيف أن بناءَ هرمِ خوفو بالذات يُعد مثالاً بلا نظير لكون الإتقان “فكرة في الرؤوس” قبل أن يكون أي شئ آخر، إن عميد المعهد الذي كنت أُحاضرُ به علّق على هذه الجزئية بقوله أَنني لست بحاجةٍ لمزيدٍ من الأدلةِ على صحةِ هذا الزعم لأن شعار معهد جوران نفسه ليس إلاَّ عاملاً فرعونياً ينقش على جدار !! ويعني ذلك أن أكبرَ معهدٍ في العالمِ لعلومِ إدارةِ الجودةِ لم يربط بين الإتقان وبين التقدم التكنولوجي إذ أنه وجد أن العاملَ المصري القديم كان تشخيصاً لفكرةِ الإتقانِ …وتحفل مصر القديمة بأدلةٍ كثيرةٍ على أن الإتقان “فكرةٌ” قبل أن ي كون أي شئٍ آخر : فإذا قمنا بمقارنةٍ بسيطةٍ بين درجات الإتقان في هرمِ الملك خوفو ودرجات الإتقان في الهرمين الذين بناهما والدُ الملك خوفو وهو الملك سنفرو لأدركنا كيف يمكن أن تحدث طفرةٌ هائلةٌ في مستوياتِ ومعدلاتِ الإتقان خلال سنواتٍ قليلةٍ وهو ما لا يمكن أن يكون له تفسير إلاَّ وجود كادرٍ بشريٍّ يجسد بدرجةٍ أعلى دقائق فكرةِ الإتقانِ .
ولا أكاد أتصور وجود خلاف حول ما شهدته حياتُنا المعاصرة من تدهورٍ مذهلٍ في مستوياتِ ودرجاتِ الإتقانِ في مصرَ خلال نصف القرن الأخير وهو أمر لا يفسر إلاَّ بإنقلابِ الهرمِ المجتمعي وتلاشي التميّز وما أدى إليه ذلك من شيوع ثقافةِ متوسطي القامة والذين لا يمكن أن يكون الإتقان وشيوع روحه هدفاً لهم إذ أن فاقدَ الشيء لا يُعطيه . إن شيوع قّيم وثقافة ومستويات “متوسطى القامة” يجعلنا نكاد نرى كلمات الفقرة الأخيرة من المزمور 12 تتجسد كل لحظة أمام عيوننا :
(الأَشرار يتمشون في كلِ ناحيةٍ عند إرتفاع “الأرذال” بين الناس)
… يتبع
© منبر الحرية، 01 أبريل 2009

peshwazarabic18 نوفمبر، 20100

كنتُ أُطالع منذ أيامٍ مقالاً لأحدِ الكتابِ المعروفين عندما أوقفتني كلماتُه عن سفير مصرَ بواحدةٍ من الدولِ الكبرى، إذ بعد أن كالَ له المديح (وأغلب الظن عن حقٍ) روى عن لسانِ شخصيةٍ مرموقة قوله في حقِ نفسِ السفير (لو كان الأمر بيدي لأبقيت على هذا الرجل سفيراً لمصرَ في … دون إعتبارٍ للقواعدِ التي تطبقها وزارةُ الخارجية، لأنه خسارةٌ أن يترك كلَ هذه العلاقاتِ ويأتي بعده من يبني من جديد)… وإذا كان كاتبُ هذه السطور خلطةً من (رجلِ الإدارةِ) و(رجلِ الثقافةِ) فإن هذه العبارةَ (والتي كثيراً جداً ما كررها آخرون في حق آخرين) هي أكثرُ عبارةٍ تستنفر تفكيرَ الرجلين : رجل الإدارة ورجل الثقافة ؛ لا لأنها (خطأ) فربما تكون صحيحةً وسليمةً من زاويةِ الواقع الآني، ولكن لأنها تستدعي موضوعاً من أهمِ وأخطرِ المواضيع المتعلقة بالعقلِ المصري وظروفِ وملابساتِ تكوينه التاريخية والثقافية وتجربته مع الأيام والرجال. إن هذه العبارة (والتي نسمعها من كثيرين عن كثيرين من المتميزين في مواقعهم) تكشف بوضوحٍ تامٍ عن إيماننا المتأصل عبر التاريخ بدورِ الفردِ أكثر من إيمانِنا بفاعليةِ النظام (System) الذي يكون الفردُ مجردَ أداةٍ من أدواته؛ مع بقاءِ الغلبةِ والأهميةِ والفاعليةِ للنظامِ وليس للأفرادِ المتميزين في النظام.
وكإنسانٍ مصريٍّ تكوِّن خلال ربع القرن الأول من حياته في مُناخٍ مصريٍّ صرفٍ فإنني لم أفطن إلاَّ بعد سنواتٍ للفارق الشاسع في هذا المجالِ بيننا وبين مجتمعاتٍ أُخرى لعل أهمها المجتمعات الأوربية الشمالية حيث يوجد النقيض: الإهتمام الشديد بتكوين الفرد تكويناً ثرياً ومتميزاً مع بقاءِ الغلبة والإهتمام الأكبر والفاعلية الأعظم للنظام (The System) مما يجعل الإنسانَ في هذه المجتمعات يرى تداعياتِ وإنعكاساتِ ونتائجَ العبارةِ التي إقتطفتُها من مقالِ أحدِ كبارِ الكتابِ … (دون أن يكون هدفي أَن أُناقش كاتبَ المقالِ في صحةِ أو عدمِ صحةِ ما كتبه، فالأمرُ يقتصر على أن ما كتبه قد جذبني للكتابةِ عن روحِ الملاحظةِ وليس عن الملاحظةِ في حدِ ذاتِها).
ففي مجتمعِنا الذي يربط بين الإنجازِ والكفاءةِ وتحقيق النتائج من جهةٍ وبين (صدفةِ وجودِ شخصٍ ممتازٍ في موقعٍ معينٍ) من جهةٍ أُخرى يكون من العسيرِ على معظمِ الناسِ أن يدركوا النتائج الوخيمة لهذا الواقع: فإنتظارُ الصدفة أمرٌ لا يخضع لأيةِ قوانين معروفة وعقلانية… والإيمان بأن الشخصَ الممتاز يجب أن يبقى في موقعِه لأن التغييرَ سيأتي بمن يبدأ من جديدٍ هو تسليم بالمشكلة أكثر من أن يكون حلاً لها … وصيغتنا في هذا الأمر هي التفسيرُ الواضح لإنقطاعِ تواصلِ البناءِ (والتوجهات والجهود) في حياتنا …وصيغتنا في هذا الشأن تعمل ضد الحراك الاجتماعي الذي هو أساس تقدمِ الطبقةِ الوسطى والمجتمعات … وصيغتُنا في هذا الشأن تحمل في طياتها جذورَ مشكلاتٍ كبرى إذ أننا لا نقبل فقط أن نتحمل الثمن المرتفع للتعامل مع قوانين الصدفةُ وإنما نقبل في نفس الوقت النتائج التي قد تكون “رائعةً” وقد تكون “مروعةً” حسبما تأتي به الصدفةُ … وصيغتنا في هذا الشأن تتنافى مع حركةِ علومِ الإدارةِ الحديثةِ والتي مع إيمانِها بالقدراتِ الخاصةِ والمواهبِ فإنها تؤمن بشكلٍ أَكبر وأوسع وأعمق بالنظمِ (وليس بالأشخاصِ).
أما أول نتائج هذا الربط بين الإنجاز و”صدفة وجود شخص ممتاز في موقعٍ معينٍ” فهو أننا نقبل أن نترك أعنةَ الحياةِ والمستقبل لقوانين الصدفةَ والتي لا تخضع لقواعدٍ معروفةٍ أو حتى عقلانية. وهكذا، نكون أبعدَ ما يمكن عن أُولئك الذين يساهمون في صنعِ وصياغةِ المستقبلِ وكأنهم تلاميذ الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر الذي كان لا يؤمن بأن هناك شيئاً إسمه المستقبل وأَن المستقبلَ هو ما نصنعه الآن (سلباً أو إيجاباً أو تقاعساً) في مطبخِ الزمن الآني. فالمستقبلُ يبدأ من لحظتنا الراهنةِ أو بالتحديد مما نقوم به “الآن” لصياغة “معالم الزمن الآتي”. وعليه، فإننا نكون أبعدَ ما يمكن عن التخطيطِ الذي يحاول أن يرسم ملامحَ الغدِ وتفاصيِله، فكيف نفعل ذلك ونحن نترك لقوانين الصدفةِ أن تأتي لنا ببعض المتميزين – أحياناً- في بعض المواقع. إن هذا القانون هو النقيض الكامل لفكرتي “النظام” (System ) و”التخطيط” (Planing).
كذلك فإن الولعَ بأن يبقى الأشخاصُ المتميزون في مواقعهم لأن عدم بقائهم سيأتي بمن يبدأ من “الصفر” هو سببُ واحدٍ من أكبرِ عيوبنا وهو خواء حياتنا (بدرجةٍ كبيرةٍ وليس بشكلٍ مطلقٍ) من التواصلِ الموضوعي في جهودِ وخطواتِ البناء والتنمية – فالحقيقةُ أن التقدمَ لا يتحقق إلاَّ إذا كنا نملك آلياتِ التواصلِ والاستمرار مع تبدل الأسماء والوجوه . بل أن إيماننا بضرورةِ بقاءِ المتميزين في مواقعِهم حتى لا يبدأ آخرون من الصفر هو إعترافٌ مؤلمٌ بواقع صعوبةِ التواصلِ بين أجيالٍ من الأفراد كما أن هذه السمة من سماتِ تفكيرنا هي مرجع خلو (أو شبه خلو) حياتنا ممن يشغلون مواقعاً عامة بارزة ويمدحون أسلافهم. وذلك نقيض الحال في معظمِ المؤسساتِ السياسيةِ والإقتصاديةِ والثقافيةِ والتعليميةِ والإعلاميةِ في المجتمعاتِ ذات النصيب الوافر من التقدم. كذلك فإن القولَ بأن الخيرَ كل الخير في بقاءِ كل متميّزٍ في موقعِه هو مدخل لعالم يخلو من الحراكِ الإجتماعي والذي هو من أسس التفاعلِ الإيجابي وتقدم المجتمعات ومن لزومياتِ بناءِ طبقةٍ وسطى واسعة وقوية وصلبة تقود المجتمعَ. كذلك، فإن الإيمانَ بالأشخاصِ وليس بالنظام يجعلنا عرضةً لأمرٍ في غايةِ الخطورةِ : ف بينما تقود “ثقافةُ النظامِ” لاستئصالِ أو إستبعادِ العناصرِ الهدامةِ التي قد تصل لمواقعٍ متميزة فإن “ثقافةَ الأشخاصِ” قد تأتي بالمتميزين كما أنها قد تأتي بالذين تأتي كبارُ المشكلاتِ والأخطارِ والمضارِ مع مجيئهم ولا تكون هناك آليات فعّالة لإستبعادهم في الوقت المناسب (الوقت هنا عنصر أساسي للفاعلية).
ويُضاف لكل ذلك أن صيغتنا في الإفتتان بثقافةِ الأشخاصِ لا بثقافةِ النظامِ تحمل في طياتها تنافراً وتناقضاً كاملين مع معظمٍ معطياتِ علومِ الإدارةِ الحديثةِ التي تحاول أن تأخذ من الأشخاص أعظم مزاياهم مع بقاء الغلبة لأُطر النظام وآلياته وتقنياته: فالنظام في هذه الثقافات هو أساس التقدم والنجاح وليس بعض الأفراد (وإن عظمت مواهبهم) في بعضِ المواقعِ .
نحن إذن أمام ثقافتين متباينتين إلى حدٍ بعيدٍ: “ثقافة الأشخاص” والتي يسهل التعرف على ملامحها في واقعنِا وتاريخنا منذ عشرات القرون … و”ثقافة النظم” (Culture of Systems) وهي الثقافة التي نمت وتعاظمت أُسسُها ومعالمُها في دولِ الحضارةِ الغربيةِ ثم إنتقلت إلى العديدِ من المجتمعاتِ الأخرى التي لا تنتمي للحضارةِ الغربية مثل المجتمع الياباني والعديد من مجتمعاتِ جنوبِ شرق آسيا بل وعددٍ من مجتمعاتِ أمريكا الوسطى وأمريكا اللاتينية. ومن غيرِ المفيدِ الحديث عن “الأفضل” و “الأسوأ” والإنطلاق من زوايا إتهامية ، فالذي حدث لدينا وأنتج “ثقافة الأشخاص” ضفيرةٌ من الظروفِ التاريخيةِ والثقافيةِ ما كان لها أن تنتج غير ما أنتجت . والهدف من هذا الحديث كله أن نتسأل : هل يمكن لمجتمعات “ثقافة الأشخاص” أن تتحول تدريجياً لمجتمعاتِ نظامٍ أو نظمٍ؟ والإجابة : نعم …بل : قطعاً نعم… فقد حدث ذلك في أكثرِ من حالةٍ… وكانت آلياتُ حدوثِ ذلك آلياتٍ تعمل على إحداث تحول على المدى القصير وتمثلت في كلمةٍ واحدةٍ هي “القدوة” التي حاولت (ونجحت) في تحقيق قدرٍ غيرِ قليلٍ من فرضِ ثقافةِ النظامِ، وأَما الإنجاز الأكبر فمرهونٌ بآليةٍ أخرى هي نظام التعليم الذي يضع نصب عينيه أنه وحده القادر على إنجازِ التحولِ الأكبرِ في هذا المجال عندما تُصمم برامج التعليم وهي تهدف لخفضِ الأبعادِ الشخصانيةِ في التفكيرِ وتعظيمِ الأبعادِ الموضوعيةِ التي هي أساس أي نظامٍ أو أيِّ نظمٍ .
وعندما يحدث ذلك فإن بقاءَ بعض المتميزين في مواقعهم لا يتحول إلى “شبه معركة حربية” يمارسون من خلالها معركةَ :أن يكونوا أو لا يكونوا” ، ولا يكون من أكبر مشاغلِ الكثير من المسئولين القضاء على من يصلحون للحلول محلهم وتبوأ مواقعهم؛ ولا تكون العلاقة بين (الخلف) و (السلف) على ما هي عليه في واقعنا : مترعة بالبغض والمشاحنة وعامرة بالنقدِ الذي يصل إلى عرضٍ مستمرٍ للمثالبِ (الخلف يعرض مثالب السلف والسلف يتندر بمثالب الخلف) بل ونصل إلى “مُناخٍ ثقافيٍّ عامٍ” يبحث فيه كلُ مسئولٍ عمن يصلح للحلول – ذات يوم- محله …فتدور عجلةُ الحراكِ الإجتماعي ويحدث ما يسميه البعضُ بدوران النخبِ وهي أمور تكون في حالة كمونٍ إستاتيكي كلي في ظلِ “ثقافةِ الأشخاص” …حيث تضمر فكرةُ التغييرِ وتصبح عند البعض مرادفاً للتدمير!… يتبع
© منبر الحرية، 31 مارس 2009

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

تواصل معنا

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018