طارق حجي

peshwazarabic18 نوفمبر، 20100

أما أَكثر الذين يتحدثون في واقعِنا عن الفارقِ بين (قيمةِ الوقتِ) عند أفرادِ المجتمعاتِ الأكثر تقدماً وبين قيمته ومعناه لدينا. ويتفاوت المعنى المقصود من فردٍ لآخرٍ: فبينما تدل العباراتُ عند البعضِ على نظرةٍ خارجيةٍ (وربما سطحيةٍ) للظاهرة عندما يظنون أن الشعوبَ الأكثر تقدماً في تعاملها مع الوقت هي مجردُ شعوبٍ منظمة ودقيقة ، فإن البعضَ الآخر يملكُ نظرةً أكثرَ عمقاً تدرك أن الأمرَ أكبرُ وأعمقُ وأوسعُ وأخطرُ بكثيرٍ من مجرد فارقٍ بين (شعوبٍ دقيقةٍ في مسألةِ الوقتِ) و(شعوبٍ أقل دقة في التعاملِ مع الوقتِ). فجوهرُ الأمرِ أعمقُ بكثيرٍ من كلماتٍ مثل (الإنتظام) و(الدقة) و(الإنضباط) فكلُ هذه العباراتِ وعشرات غيرها هي مجرد المظاهر النهائية لاختلافٍ عميقٍ في فهمِ وتقديرِ وتقييمِ (بل وتقديسِ أو عدم تقديسِ) الوقت . ففي المجتمعاتِ الأكثرَ تقدماً فإن الوقتَ هو الإطارُ الذي من خلالِه تتم الخططُ وتُنفذ وتعد المشروعات وتُحوّل من فكرةٍ إلى واقعٍ ؛ فالوقتُ هو إطار كل شئ: إطار كل فكرةٍ… وإطار كل مشروعٍ… وإطار كل خطةٍ… وإطار كل برنامج… وإطار كل إصلاحٍ… بل وإطار كلِ التطوراتِ الإقتصاديةِ والعلميةِ والتعليميةِ والثقافيةِ والإجتماعية ِ . وبالتالي فإن من لا يعرف قيمةَ الإطارِ لا يعرف بالضرورةِ قيمةَ أي شئ يمكن أن يحتويه هذا الإطارُ .
ومن أكثرِ الأمورِ غرابةً أن الكثيرين في مجتمعِنا يظنون أن تقديسَ الوقتِ واحترامَه والإلتزامَ بالمواعيدِ إلتزاماً شبة عسكري هو مجرد (طبع) يتسم به البعضُ ولا يتسم به آخرون: وهذه زلةٌ فكريةٌ متكاملةُ الأركان … فتقديسُ الوقتِ والإيمانُ العميقُ بحتميةِ احترامِه واحترامِ المواعيد… ولزومية أن تكون كلُ الأفكارِ والمشروعاتِ والخططِ والبرامج في ظل أُطرٍ زمنيةٍ… وأن عدمَ إحترامِ الوقتِ والمواعيد هو شرخٌ في المصداقيةِ والكفاءةِ لا علاقةَ له بالطباع : فالناسُ لا يولدون بطبعٍ يقدس الوقت ويحترمه وينظر للمواعيدِ وكأنها مواقيتٌ سمائيةٌ وآخرون على خلاف ذلك… وإنما نحن بصدد مُناخٍ ثقافيٍّ عامٍ من فرطِ فقرِه في تقديسِ الوقت والمواعيد والأُطر الزمنية أصبح يفرز تلك الفكرة الخاطئة وجوهرها أن الذين يتشددون في المواعيد والوقت هم أصحابُ طبعٍ معين جُبلوا عليه بينما الآخرون مختلفون (وكأننا بصدد مجرد إختلاف وتنوع لا ينُمّان عن رقيٍّ في حالةٍ وتدهورٍ في الأُخرى) .
إن التقدمَ والتحضرَ والتمدنَ مسائلٌ لا تحققها الأموالُ ولا تبلغها الثرواتُ الطبيعيةُ وإنما تحققها منظومةُ القيمِ الذائعة والشائعة في المجتمع من قاعدتِه إلى قمتِه وأهم تلك القيم هي : تقديس الوقت … والإيمان بفعالياتِ العملِ الجماعي … والاهتمام البالغ بالبشر (الموارد البشرية) … والتعليم القائم على الإبداع (وليس التلقين) … وإشاعة روح توخي الكمال والتميّز والسعي الدؤوب للإتقان … ورسوخ فكرة عالميةِ المعرفة والعلم في العقول منذ سني التعليم الأولى … وقيام التعليم بخلق شخصياتٍ إنسانيةٍ تنافسيةٍ – فعن طريق توفر هذه المنظومة من القيمِ يتقدم الذين يتقدمون … وعن طريق إنتفاءِ هذه القيم (وأَحياناً وجود نقيضها) يتأخر الذين يتأخرون ثم يغرقون في خداعِ أنفسِهم بأنهم متأخرون إما لأن الظروف غير مواتيةٍ أو لأن الإمكانياتِ ناقصةٌ أو لأن العالمَ الخارجي يتآمر عليهم ولا يريد لهم خيراً – وكلها أوهامٌ في روؤس الفاشلين لا أساس لها على الإطلاقِ في الواقعِ ولا مبرر لوجودِها إلاِّ لتعزيةِ الفاشلين عن فشلهم لأن البديلَ (وهو الحق والمنطق والصواب والحكمة) أن يقولوا لأنفسهم أننا متأخرون لأننا متقاعسون ولأننا نفتقر لآلياتِ التقدمِ وكلها آليا ت توجد داخلِ الإنسان وليس خارجِه.
وهكذا يتضح جلياً أن تقديسَ الوقتِ وتقديرَه واحترامَه وتأسيسَ كل أَنشطةِ الإنسان والمؤسساتِ والمجتمعِ بأسرِه على أساسِ أُطرٍ زمنيةٍ تحترم الوقت كأحترامِ المؤمنين للعقائدِ هو ليس مجرد (صفة من صفات البعض) أو (طبع لدى البعض) أو (إحدى السجايا أو حتى المزايا الشخصية) وإنما هي علامة فارقة بين منظومتين من القيم: منظومة قديمة تنتمي إما للثقافةِ الزراعيةِ في شكلهِا البدائي أو للثقافةِ البدويةِ وأنها واحدةٌ من معالمِ مُنَاخٍ ثقافيٍّ عامٍ وليست مجرد طبع أو خصلة أو سجية. إن الدارسَ لتطورِ القيم يعرف أن الوقتَ لم يصبح تلك القيمة العليا المحورية والعلامة الفارقة بين المتأخرين والمتقدمين إلاِّ منذ زمن الثورةِ الصناعيةِ: فالثورةُ الصناعيةُ هي التي فرضت ذلك الإهتمام المتصاعد بالوقتِ ودقته وقيمته وحتميةِ الإلتزام به حتى وصلنا إلى نموذج فريد يتمثل في القطاراتِ السويسرية التي تبدأ وتنهي رحلاتِها ليس بالساعةِ ولا بالدقيقةِ وإنما بالثانيةِ فيما يمثلُ ترجمةً عليا لقيمِ الصناعةِ ولقيمِ المجتمعاتِ الخدميةِ ، ثم هبت رياحُ ثورةِ الإتصالاتِ وحقائق عصر التكنولوجيا فإذا بالتمسكِ بقيمةِ الوقت وتقديسها يبلغُ حداً يشبه العقيدةَ الدينية في نفوسِ كبارِ المؤمنين.
وكما هي الحال في العديدِ من قيمِ التقدمِ فإن هذه القيم يسهل شيوعها وذيوعها إذا جاءت من الرقائق الأعلى في الهرمَ المجتمعي أي في شكلِ أمثلةٍ وقدوةٍ ممن يُفترض أنهم المثلُ الذي يُحتذى – أما إذا داس هؤلاء الذين يشكلون الرقائق العليا للهرم المجتمعي قيمَ التقدمِ ومن بينها قيمة الوقت فإن إنتشارَ هذه القيم في المجتمع يكون ما بين (المستحيل) أو (شبه المستحيل): فليست هناك مقولات أسلم ولا أحكم من الأقوال المأثورة (الناس على دين ملوكهم) و(السمك يفسد من رأسه) و(إذا كان رب البيت على الدف ضارباً … إلخ) . ومعنى كل ذلك أن الرقائقَ العليا في المجتمع من كبارِ المسؤولين في الإدارات الحكومية وقيادات الحياة الإقتصادية العامة والخاصة والوزراء وشاغلي المواقع المرموقة في المجتمع … إذا لم يكن هؤلاء قدوةً في قيمِ التقدم بوجهٍ عامٍ وفي قيمة تقديس واحترام وإجلال قيمة الوقت وإعطائها كل ما تعنيه من أبعادٍ هامةٍ وخطيرةٍ وذات صلةٍ وثيقةٍ بعمليةِ التقدم – إذا لم يكن الأمرُ كذلك فقل على المجتمعِ السلام – لأن بثَ تلك القيم عن طريق الرقائقِ الأدنى من الهرم المجتمعي مسألةٌ في غايةِ الصعوبةِ إذ أن أفرادَها لا يملكون عضلاتِ فرض نموذجهم ومُكنة أن ي كونوا مثلاً يحتذى وقدوةً تُقتفى.
إن كاتبَ هذه السطور والذي كان المسئول الأول في واحدةٍ من أكبر المؤسساتِ الأقتصادية في العالم لقرابةِ عقدٍ كاملٍ من الزمان وكان بالتالي يشرفُ على آلافٍ يمثلون أعلى درجات الخبرة العالمية ومن خلفياتٍ مختلفة (أكثر من 20 جنسية) يجزم بأنه يستطيع أن يرى أمام ناظريه علاقةً شبه مؤكدة بين تقديسِ الوقتِ واحترامِه والالتزامِ به التزاماً يشبه التزام أشد المتمسكين بقواعدِ الدين والإيمان بأن التأخرَ في المواعيد والإخلال بالإلتزامات الموعدية وإنجاز الأعمال خارج الإطارِ الزمني المتفق عليه وبين درجةِ الكفاءةِ – فمن بين عشرات الآلاف من كبارِ الشخصياتِ الإقتصاديةِ والسياسيةِ التي تعاملت معها وأنا في موقع يسمحُ بالتعامل مع زبدةِ المجتمعات ، كنت أرى بوضوحٍ كاملٍ أنه لا يمكن وجود شخص لا يقدس الوقت ويتأخر في المواعيد ولا يقدس الإلتزام بالأداءِ في الإطار الزمني المتفق عليه إلاِّ وهو في الوقتِ ذاته على غيرِ درجةٍ عاليةٍ من الكفاءة : فكلُ الأكفاء الذين قابلتهم في الحياةِ في عشراتِ المجتمعاتِ كانوا ممن لا يتأخرون ثانيةً واحدةً عن مواعيدِهم ويلتزمون بالوفاءِ بإكمالِ مهامِ عملهم على أعلى درجاتِ الإتقانِ في ظلِ زمن محددٍ وينظرون في نفسِ الوقتِ لمن لا يتسمون بهذه السمة بنظرةٍ يشوبها قدرٌ غير قليل من عدمِ التقديرِ – وكانت طبيعةُ عملي التي تقتضي التعامل مع خلفياتٍ حضاريةٍ وثقافيةٍ متباينةٍ تُظهر لي بوضوحٍ إختلافَ ردودِ الفعلِ حول مسألة الوقت والمواعيد والإلتزام بالأُطر الزمنية : فعندما كنت أقومُ بإلغاء تعاقدٍ بمئاتِ الملايين مع شركة لا تفي بتعهداتها في الأُطر الزمنية المُتفقِ عليها في دولةٍ من دولِ العالمِ الثالثِ كان ردُ الفعلِ الغالب هو إستهجان قرار من هذا النوع بينما كان نفسُ القرار إذا إتخذ في بيئةٍ غربيةٍ أو في جنوب شرق أسيا يحظى بعظيم الإستحسان بل والإكبار والإجلال : والفارقُ أن جانباً كان يرى في القرار ردَ فعلٍ مبالغ فيه تجاه مسألة غير ذاتِ أهمية بينما كان الجانبُ الآخرُ يرى أن القرارَ جاء متفقاً مع قيمِ التقدمِ والتي لا تعرف تجاه الوقت إلاِّ الإجلال والإكبار والتقديس والإحترام بل وتأسيس الحياة كلها على أساسٍ من الأُطر الزمنية التي لا يحق لأحدٍ أن يتجاهلها أو يتجاوزها – بل كانت الأغلبيةُ في معظمِ المجتمعاتِ من دولِ العالمِ الثالثِ تنظر لقرارٍ مثل الذي ضربتُ به مثلاً وكأنه من قبيل الأطوار الغريبة: فلماذا المبالغة في ردِ فعلٍ تجاه شخصٍ تأخر عن موعدِه أو مقاولٍ تجاوز الحدودَ الزمنية المتفق عليها – وهي مجتمعات وصل فيها التدهور القيمّي لحد أن أصبح التأخرُ رمزاً للقيمةِ العالية للشخص ، فالأشخاصُ الكبارُ والمهمون وأصحاب القوة والمكانة من حقِهم أن يكونوا متأخرين كيفما بدا لهم وعلى الناسِ أن ينتظروهم (!!) ، فهم مهمون وأصحاب مسؤوليات واسعة وعلى الآخرين أن يقبلوا ذلك (!!!) … وفي المقابلِ فقد كنت أرى في المجتمعاتِ الأكثرَ تقدماً رجالاً يقومون بإدارةِ مشاريع بحجمٍ يفوق مجمل حجم إقتصاد كل الدول العربية ولا يمكن أن يكونوا متأخرين دقيقةً واحدةً عن موعدٍ بل ويفتخرون بأنهم يسبقون المواعيد وأن مؤسساتهم في سباقٍ مع الزمن بهدفِ أن يكونوا في أطار المواعيد المتفق عليها بل ويكون هدفهم في كثيرٍ من الأحيان لا أن يقابلوا الحدودَ الزمنية المتفق عليها بل أن يسبقوها. وقد أصبح يقيني راسخاً أن كلَ من لا يعرف كيف يضبط مواعيده ومواعيد عمله ومواعيد تنفيذ مشروعاته إنسان أو شركة أو مؤسسة مدموغة بالفشل الإداري (بل ولدي إعتقاد راسخ أنهم بنفس القدر لا يتقنون كل الأشياء الأخرى التي يقومون بها في الحياةِ) – وأي استثناءٍ من ذلك أو أية محاولةٍ لقبول إستثناءات من ذلك هي ضد العلم والتمدن والتحضر وحركة التاريخ في المجتمعات المتقدمة. وهناك فارق كبير بين الإلتزامِ بالمواعيد وإحترام الوقت بدافع الخوف وهو موجود في بعض الأحيان (في دول العالم الثالث) وبين أن يكون تقديسُ الوقتِ واحترامه والإلتزام بالأُطر الزمنية المحددة هو ديدنَ الذين يحترمون أنفسهم وينتمون للعصر ويسايرون قيم التقدم: ففي كل مجتمعاتِ العالم الثالث يذهب النوابُ للمجالسِ النيابيةِ (البرلمانات) متأخرين ويظلون في إجتماعاتهم في حالاتِ فوضى عارمةٍ ما بين متحدثٍ مع زميلٍ وآخر يُجري حواراً على الهاتف المحمول وثالث يكتب في أوراقٍ ورابع يُجري حواراً مع أحد المسئولين – ثم نجدهم جميعاً في الجلساتِ التي يحضرها رئيسُ الدولة في كل دولِ العالمِ الثالث : ملتزمين بالحضورِ في الموعدِ .. ملتزمين بآدابِ حضورِ الإجتماعاتِ العامة : وهم هنا لا يفعلون هذا من بابِ تقديسِ الوقتِ واحترامِ المواعيدِ وإجلالِ الأُطر الزمنية وإنما بدافعٍ آخر لا يخفى عن فطنةِ القارئ . وهذا الدافع لا يخلق التقدم المنشود، لأن التقدمَ والتنميةَ يصنعها (المؤمنون) لا (الخائفون).
ومما أساء لقيمةِ الوقت وحُرمتها وأهميتها وكونها واحدةً من أُسسِ الرقي وقيمِ التقدمِ وجود طبقة من الأثرياءِ الجددِ في عددٍ من دولِ العالمِ الثالث كانوا في معظمهم بسطاء التعليمِ والثقافةِ وتكونت ثرواتُهم بفعلِ وفضلِ علاقاتهم السياسية والعامة وليس لكونهم عبقريات إدارية أو إقتصادية أو علمية – ولما شاع نموذجُهم في عددٍ من مجتمعاتِ وصاروا في صدارةِ الواجهة الإجتماعية أصبحوا مصدراً جديداً لبثِ القيمِ السلبيةِ ومنها منهجهم في التعامل مع الوقت ، فهم أبعد ما يكونون عن فهمِ وإحترامِ قيمة الوقت كأساسٍ حضاريٍّ وقيمة من قيم التقدم ، إذ أنهم في حد ذاتهم طبقة طفيلية إنهمرت عليها الأموالُ دون ثقافةٍ ناهيك عما يعتري مصادر ثرواتهم من شكوكٍ تدعم إستحالةِ أن يكونوا قدوة أو نموذج يُحتذى: فكيف يمكن لنا أن نقول للشبابِ في مجتمعِنا أن يحتذوا بقياداتِ الحياةِ الإقتصادية التي نسميها “رجال الأعمال” وهم تجسيد حي لعشراتِ القيمِ السلبية بوجهٍ عامٍ ولقيمة إزدراء الوقت والمواعيد بوجهٍ خاصٍ ! … إن طبقةَ رجال الأعمال والأثرياء الجدد (معظمهم وليس كلهم) في عددٍ من دول العالم الثالث هم طبقة منقّحة من رجال المافيا – فكيف يتسنى لنا أن ننتظر أن يكونوا قدوةً تُتبع ومثالاً يُحتذى في إحترام الوقت أو في أية قيمةٍ إيجابيةٍ أخرى من قيم التقدم . ويحزنني لأبعدِ الحدود أن أكتب بقلمي أنني رأيتُ عن قربٍ عشرات من هؤلاء الذين يسمون بكبار رجال الأعمال فوجدتهم بالمقارنةِ بالشخصيات الإقتصادية العالمية الكبرى التي تعاملتُ معها خلطةً من أربعةِ عناصر: إنعدام الموهبةِ الإدارية … وفقرٍ ثقافيٍّ مذهلٍ … وإنتهازية سياسية بلا حدود … وبُعدٍ مطلق عن قيم ومبادئ كبار الرجال – ووجدتُ أن معظمهم قد كوّن مؤسساته وأعماله على أرضيةٍ من العلاقات وليس على أساسٍ من الكفاءة والعبقرية الإدارية والإستعمال الإقتصادي النموذجي لتكنولوجيا العصر أو القدرة على إدارة الخدمات – ومرةً أخرى يفرضُ السؤالُ نفسَه: كيف لمثل هؤلاء أن يكونوا قدوةً ، إلاِّ إذا كان رؤساءُ المافيا يصلحون لأن يكونوا قدوةً لأجيالٍ جديدةٍ من الشباب ؟!
ولا أجدُ من بين كل ما ذكرت في هذه الجزئية من هذا الفصل ما أرى فائدةَ تكرارِه أكثر من قولي: أنه لا يمكن وجود قائد إداري فعّال ومُنجز وعلى درجة عالية من الكفاءة إذا لم يكن تقديس الوقت مكون أساسي من مكوناته … ولا يعني ذلك أن تقديس الوقت هو العنصر الوحيد للكفاءة … فللكفاءة عناصر أُخرى عديدة (تقديس الوقت من أهمها) وإن كانت الكفاءة لا تنهض كاملةً بدون باقي العناصر والتي بدونها لا يوجد تقدم .. ولا يوجد كادر بشري من المديرين التنفيذيين القادرين على إنجاز المهمة التي تبدو للبعض مستحيلة بينما أعتقدُ أنا أنها سهلة وميسورة إلى أبعد الحدود ، وأعني بلوغ درجة من التقدم الإقتصادي والتعليمي تجعلنا على مقربةٍ من دول جنوب أوروبا وفي نفس الوقت تسيرُ بمحاذاة حياة ثقافية وإعلامية وسلام إجتماعي يكفلون لنا معاً المجتمع الذي ننشده: مصر المزدهرة والمستقرة والآمنة والتي يعودُ فيها المصريون لسجاياهم التي عُرفوا بها عبر التاريخ وكلها سجايا إنسانية نبيلة تقومُ على الخُلق السمح والمودة والترابط وإحترام الآخرين والبعد عن بؤرات العنف والتشاحن والصدام اليومي بين الأفراد والطبقات وسائر وحدات وكيانات المجتمع… يتبع
© منبر الحرية، 28 مارس 2009

peshwazarabic17 نوفمبر، 20100

لا شك أن إحراق الكتب هو عمل همجي، وتزداد الهمجية عندما تكون الكتب محل هذا العمل الشائن موضع تقديس وتجلية عند البعض (كثر هؤلاء أو قلوا ) …، ولا شك عندي أن القس الأمريكي الذي كان يهم بحرق القرآن في ولاية فلوريدا الأمريكية هو رجل صيغ من مادتين بشعتين: هما التعصب الأعمى، والحماقة المنفلتة من عقال العقل والرشد. ولكن ذلك الرجل البشع ومشروعه الأخرق لا يجب أن يثنيانا عن رؤية المناخ العام الذي كانت هذه الفعلة الشائنة على وشك الحدوث في ظله. ولا يعني ذلك تبرير هذا الفعل المعتوه والمشرب بالجنون والتعصب وضيق الأفق والكراهية. فيجب علينا أن نرى بوضوح أن هذا الرجل كان على وشك القيام بعمل بالغ الرداءة كالذي قامت به حكومة طالبان الإسلامية في أفغانستان منذ نحو عشر سنوات، عندما داست على مشاعر ملايين من البشر بإطلاقها دانات المدافع على تمثالين لبوذا حتى تم دمار التمثالين. ويجب أن نتذكر أن قليل من المسلمين قد أدانوا يومها تلك الجريمة الحمقاء. ويجب أيضا أن نتذكر بل وأن نعي أن العالم لم ينقلب على المسلمين، بل إن أفعال وتوجهات وسلوك وأقوال ونوايا بعض المسلمين هي التي تقلب العالم ضدنا. كثير من المسلمين لا يرون جريمة 11 سبتمبر / أيلول 2001  بحجمها الحقيقي، وقليلون هم الذين يصدقون أن القاعدة هي الفاعل، وكثيرون يرددون (بجهل أسطوري عجيب ) أن فاعل تلك الجريمة هو من داخل النظام السياسي والأمني الأمريكي، وملايين المهاجرين المسلمين في أوروبا وأمريكا الشمالية وأستراليا يعطون الانطباع شبه المؤكد أنهم عازمون على أسلمة المجتمعات التي هاجروا إليها…، وكثيرة هي وسائل الإعلام والتثقيف (!!) في مجتمعاتنا التي تصور الغرب بأنه أضحى منغمسا بالكلية في مؤامرة ضد الإسلام، وهو عبث محض. وما أكثر الجهلاء في مجتمعاتنا الذين لا يفرقون بين تدين البعض في الغرب وعلمانية مجتمعات هذا الغرب. ولاشك عندي أن وسائل الإعلام وجل طبقة الإنتلجنسيا في مجتمعاتنا، ستضرب الصفح عن مواقف نبيلة للأغلبية من رجال الدين اليهود والمسيحيين في الغرب الذين أدانوا بقوة الحماقة التي كان ذلك القس الشائه في فلوريدا على وشك اقترافه، فمعظمنا أصحاب عقلية انتقائية تختار من بين الأشياء الحادثة ما تحب أن تراه، وتستبعد ما لا يوافق أهواءها، كما فعل معظمنا عندما ناصرت أمريكا مسلمي البوسنة، على خلاف المواقف الأوروبية (الروس مع الصرب الأرثوذوكس وفرنسا مع الكروات الكاثوليك ) التي حكمتها عقد تاريخية.
منذ أيام سمعت عالم مصري يشيد بالمستويات التعليمية العالية للغاية في مصر الخمسينات والستينيات، ويرجع الفضل لتلك الحقبة وقادتها وعلى رأسهم “جمال عبد الناصر”. وهو قول ساذج للغاية، فأنا كابن لهذه المرحلة (إذ حصلت على الشهادات الابتدائية والإعدادية والثانوية والليسانس أي الشهادة الجامعية الأولي) غداة رئاسة جمال عبد الناصر، أعرف أن مستويات التعليم بمصر كانت وقتها على أرفع المستويات، بل وبعض أبناء جيلي تذهلهم المستويات التعليمية والثقافية لمن هم في أعمارنا من الأوروبيين والأمريكيين. ولكن تلك المستويات هي نتيجة طبيعية لمعدن وسبيكة ومستويات مدرسينا وأساتذتنا والذين هم (جميعا) من ثمار وتجليات ما قبل حقبة العسكر. هؤلاء كانوا نتاج وثمار عهد كان وزراء التعليم (المعارف) خلاله على شاكلة منصور باشا فهمي ومحمد حسين هيكل باشا وطه باشا حسين. أما التعليم في عهد جمال عبد الناصر فكان بيد عسكري شبه أمي ومعدوم الثقافة وإخواني النزعة (وأعني كمال الدين حسين). وكما كان التعليم المصري رفيع المستوي في خمسينيات وستينيات القرن العشرين، فكذلك كانت الحياة الثقافية الحركة الأدبية والمسرح والفنون والسينما. ولكن بسبب ذات العامل، وأعني العنصر الرفيع لأجيال تشكلت وتكونت في ظل الحقبة الليبرالية وقبل قيام العسكر (أنصاف المتعلمين) بخطف مصر يوم الأربعاء 23 يوليو / تموز 1952. أما المدرسون والأساتذة الذين تكونوا في الحقبة الناصرية، فإنهم المسؤولون عن الأوضاع التعليمية المتردية في مصر اليوم، ويقال ذات الشيء على المثقفين: فكما أن طه حسين ،والعقاد، وتوفيق الحكيم، وسلامة موسى/ وسهير القلماوي، ولطيفة الزيات، ونجيب محفوظ، ويوسف ادريس، ولويس عوض، ومجدي وهبة، ومحمد مندور، وجل المثقفين المصريين الماركسيين (جيل محمد سيد أحمد)، هم أناس تكونوا في بيئة ما قبل انقلاب العسكر (غير المثقفين)، فإن المثقفين الذين تكونوا في مصر – عبد الناصر هم المثقفون المصريون أصحاب القامات المتوسطة والقصيرة الذين يقفون اليوم في حالة عجز عن التصدي للوحشين الكبيرين الذين تقف مصر اليوم بينهما: وحش الاستبداد السياسي الذي أفرز الفساد والزواج المشبوه بين السلطة والثروة، ووحش الأفكار الظلامية التي تحاول أن تجهز على روح مصر وتسحبها لما قبل القرون الوسطي… الائتلاف والتحالف مع الإسلاميين (بل ومع غلاة التطرف منهم) كان منتجا ذا منبعين: فهو من منتجات حقبة الحرب الباردة، إذ استعمل الإسلاميين ضد الإتحاد السوفيتي وضد نظم اشتراكية (أو تبدو كذلك) مثل النظام المصري في خمسينيات وستينيات القرن الماضي (حرب السعودية المدعومة أمريكيا مع مصر المدعومة سوفيتيا على أرض اليمن). وكان شعار المرحلة (في هذا الشأن) أن (عدو عدوي هو حليف لي.  ونظرا لأن الإسلام السياسي كان (بتفاهة وسطحية منقطعي النظير) عدوا للمعسكر الاشتراكي، فقد وجدته الولايات المتحدة (بغباء تاريخي منقطع النظير) “نعم الحليف” ضد الإتحاد السوفيتي وأنسباءه!. وأما المنبع الثاني لهذا الائتلاف فقد كان أمريكي-سعودي المصدر. وهذا المنهج (المفتقد كلية للثقافة وللحس التاريخي) هو نهج مخابراتي بريطاني منذ أوائل القرن العشرين. فقد كانت الأغلبية في المخابرات البريطانية (إم . آي . 6 ) تعمل مع عبد العزيز آل سعود (المندمج آنذاك مع إخوان نجد ذوي الهوس الديني) لكي يمد نفوذه ويسيطر على معظم الجزيرة العربية، بل وحارب معه في بعض معاركه ضباط بريطانيون،  بل ومات بعضهم وهو يحارب ضمن قوات عبد العزيز آل سعود. ونفس المخابرات (البريطانية) هي التي ساعدت حسن البنا على تأسيس جماعة الإخوان المسلمين في مصر سنة 1928، أي بعد سنة واحدة من وفاة قائد وزعيم الحركة الوطنية المصرية سعد زغلول الذي رأت بريطانيا والملك فؤاد ضرورة تأسيس حركة الإخوان في محاولة منهما لسرقة الشارع المصري (باسم الإسلام) من الوفد المصري، الذي فقد زعيمه منذ عام واحد. ومعروف أن الأب الروحي لحسن البنا هو السوري المتزمت محمد رشيد رضا (صاحب تفسير المنار)، والذي كان وصلة الصلة بين حسن البنا وعبد العزيز آل سعود والذي كان قد أصبح (بعون الإنجليز) ومنذ ثلاث سنوات فقط (1925) ملك الحجاز وسلطان نجد… وحتى اليوم، لم تعترف الولايات المتحدة بخطئها وخطيئتها التي جعلت العالم الذي نعيشه اليوم عالما خطرا، وأحيانا كثيرة “عالما كريها” ….
© منبر الحرية،11 أكتوبر/تشرين الأول 2010

peshwazarabic16 نوفمبر، 20100

كثرت في واقعنا خلال السنوات القليلة الماضية الكتاباتُ والمحاضراتُ والأحاديثُ التي تنصبُ على العولمة . وللأسف الشديد فإنه باستثناء عددٍ قليلٍ للغاية من الآراء التي جاءت صائبةً وواقعيةً ، فإن معظم ما نُشر وقيل جاء متسماً بعيوبٍ فكريةٍ بالغة الخطورة . فالعولمةُ – في الحقيقة – تعني أن الحضارة الغربية ، والتي تجلس الآن على مقعد السائق بالنسبة للطور الحالي من أطوار المسيرة البشرية عازمةٌ على أن تقنن العديد من القواعد التي تنظم أكثر من مجالٍ من مجالات الحياة الاقتصادية والسياسية والقانونية والثقافية . فالحضارةُ الغربية المنتصرة ، والجالسة على مقعد القيادة (حالياً) عازمةٌ على أن تسير المعاملاتُ الاقتصادية والتجارية والصناعية والعديدُ من المسائل والشئون السياسية والقانونية والثقافية (ومن بينها حقوق المؤلف بالمعنى الواسع) وفق القواعد التي ترسخت في ظل الحضارة الغربية التي تبوأت مقعد القيادة على مستوى العالم خلال القرون الأربعة الأخيرة – وإن كانت قيادةُ هذه الحضارة قد إنتقلت من شرق المحيط الأطلسي إلى غربه خلال العقود الخمسة الأخيرة .
فإذا كان ذلك كذلك ، فإنه يكون من العبث حديث البعض (وممن لم يمارسوا في الحياة إلا القراءة والكتابة) عن العولمة ، وكأنها فكرةٌ مطروحةٌ للنقاش والجدل . فالواقعُ ، أن العولمة ليست “فكرةً” مطروحة للنقاش والجدل ، وإنما هي “أمرٌ واقع” تحاول الجهاتُ التي تتبوأ قيادة العالم الغربي ، والتي تتبوأ في نفس الوقت مقعد السائق – كما ذكرت – على مستوى المسيرة البشرية العالمية ، أمر واقع تعمل هذه الجهات (وأولها الولايات المتحدة الأمريكية) على فرضه وتعميمه بجوانبه الاقتصادية وبجوانبه الأخرى العديدة ومن أهمها الشق الثقافي والفكري.
وهكذا ، تكون العولمةُ أبعد ما تكون عن فكرةٍ مطروحةٍ للنقاش ، وإنما أشبه ما تكون بظاهرةٍ طبيعيةٍ كالزلازل أو البراكين التي من العبث أن نناقش هل هي أشياء جيدة أم سيئة ، والصواب أن نعمل على التعامل معها أفضل وأنجح تعامل ؛ لأن البشر يختلفون في مواجهة وكيفية التعامل مع الواقع ، ولكن المصيبة تكون كاملةً وشاملةً عندما يحاولون مناقشة أيقبلون أم يرفضون الزلازل والأعاصير والبراكين ، لأنهم من جهةٍ لا يملكون معطيات تغيير الواقع كما أن تركيزهم على محاولة التغيير المستحيلة تجعلهم لا يعملون في المجال الوحيد المتاح وهو التعامل الذكي والأمثل والأكثر مردودية وفائدة مع الواقع ومحاولة خلق هامشٍ جيدٍ لقيمتهم المضافة في ظل هذا الواقع ، والذي لم ولن يسألهم أحد (ممن يملكون المقادير) عن رأيهم فيه .
ولعل أبلغ ما كتب في هذا المجال هو ما كتبه أستاذٌ مرموقٌ للعلوم السياسية هو الدكتور/عليّ الدين هلال عندما قال: أن العولمة تشبه قطاراً تحرك بالفعل بينما لا يزال البعضُ يتساءل هل وجود وحركة هذا القطار شرعية أم لا ؟ بينما لا يوجد من سألهم عن شرعية وجود وحركة القطار كما أن سؤالهم (وكل قدراتهم) لا تملك أن تمنع وجود وحركة القطار بأي شكلٍ من الأشكال .
ومما يزيد الطينة بلة في هذا الصدد أن عدداً كبيراً من مثقفي العالم العربي من أصحاب الخلفية اليسارية ، وهو ما يملي على الكثيرين منهم أن يخلطوا بين (ما هو كائن) (وما ينبغي في عالم مثالي أن يكون) . وهي سمة من سمات الفكر اليساري لها نبلها وبعدها الإنساني والاجتماعي غير المنكور ، ولكنها سمة تضرب في عالم المستحيل والخيال بقدر ما تبعد عن عالم الواقع المحكوم بالحقائق والصراع . كذلك يزيد من تعقد الظاهرة التي يتناولها هذا المقال أن العقل العربي المعاصر يرى أن (القول) نوع من (الفعل) – والحقيقة على خلاف ذلك، فالقول مجرد قول والفعل أمر آخر . إلا أن الواقع المؤسف يؤكد أن ثقافتنا المعاصرة أصبحت تُضفي قدراً كبيراً من التقدير والاعتراف بالنبل على (القول) ناسيةً أن ما ينتظر في بعض المجالات هو (الفعل) ولا شئ سواه . وباختصارٍ شديدٍ ، فإن العولمة قد تكون شراً وقد تكون حقاً ممزوجاً بالباطل والإغراض ، وقد تكون امتداداً للهيمنة والسيطرة والنفوذ ، ولكنها في النهاية واقعٌ لا يجدي الجدل معه ، ومن غير المنطق والعقل مناقشته ، وإنما العمل الجاد والكفء والدؤوب والمنطلق من معرفةٍ ورؤيةٍ صائبة على التعامل المفيد مع هذا الواقع لأن مواصلة الشجب والرفض ستجعلنا نكرر مواقفنا الشهيرة وآخرها شجب الهجوم الأمريكي الأخير على العراق – وكأننا سُئلنا أو كأننا بشجبنا نملك ذرةً من القدرة على تغيير الواقع ، مثل الموقف الياباني من الولايات المتحدة ، ومثل الموقف الأوروبي أيضاً من الولايات المتحدة ، وهي مواقف لا تقوم على “الأقوال” وإنما “الأفعال” والأفعال المتسقة مع قواعد اللعبة وليس الأفعال الحمائية الخائبة .
ومن المؤكد أن كل النظم الحمائية التي عرفناها خلال العقود الخمسة الأخيرة في الحياة الاقتصادية سوف تُزال واحدةً بعد الأخرى وستكون قواعدُ اللعبة مختلفةً ، ولن يكون هناك شئ مفيد إلا نظام فعّال للتعامل مع الواقع الجديد – نظام من (الأفعال) ، وليس من (الأقوال) ومفردات الشجب والعويل ولطم الخدود والبكاء على اللبن المسكوب . ومن المؤكد أيضاً أن سدود وحوائط الحماية الثقافية سوف تخترق (شجب البعضُ العولمة أو لم يشجبوها) ولن يكون هناك وضع صحي وقوي إلا لأولئك الذين ركزوا جهودهم لا على رفض الظاهرة بل على التعامل الفعّال والمجدي والأكثر فائدة ومردودية معها .
وإذا نظرنا للأمور من جهةٍ هامةٍ أُخرى هي جهة “الإدارة” والتي هي مفتاح النجاح الوحيد للمؤسسات والمشاريع الاقتصادية التي تنتج سلعاً أو خدمات ، فإن المؤكد أن نموذج المدير الذي يرفض (بفكره أو بمفردات تكوينه الإداري) حقائق العولمة ، هذا النموذج لن يكون بوسعه الصمود أمام أمواج الواقع الجديد والتي ستكنسه كنساً وتلقي به في مكانٍ (ومكانةٍ) بالغيّ التأخر. أما النموذج الذي سينجح في تكوين قيمة مضافة لمشروعاته فهو النموذج الذي اعترف بالواقع وتمكن من مفرداته الإدارية بما يكفل لمؤسساته المنافسة وتحقيق عوائد معقولة دون أن تكنسه أمواج الواقع . وقد تبدو هذه الجزئية – للبعض – ذات أهمية متواضعة ، ولكن كاتب هذه السطور ومن خلال تجربة طويلة في عالم الإدارة في واحدة من أكبر المؤسسات الاقتصادية في العالم يعتقد أنها جزئيةٌ ذات أهمية وفائدة عملية قصوى بالنسبة للاقتصاد المصري في طوره الحالي . فكل الخبرات والقيادات الإدارية التي تفتقر للبعد الدولي بوجه عام ولا تستوعب بوضوح جوهر العولمة (كظاهرة يمكن التعامل معها ولكن يستحيل رفضها وإلغاؤها) هذه الخبرات والقيادات ستكون قادرة على قيادة مؤسساتها صوب النجاح المنشود والنمو المستهدف.
وإذا ابتعدنا قليلاً عن المجال الاقتصادي والمجال الإداري ، فإن نفس المنطق سوف ينطبق على مجالاتٍ أخرى عديدة كالتعليم والثقافة والإعلام . فقيادات هذه القطاعات أمامها طريقان : طريق يتبنى فلسفة “شجب العولمة” والوقوف أمامها وكأنها “فكرة رديئة مطروحة للجدل” وطريق آخر لا ينشغل باستحسان أو باستهجان “العولمة” لإيمان أصحاب هذه الطريق بأن العولمة (في كل الأحوال) واقع حادث وما يهم أصحاب هذه الطريق هو أن يكون لهم منهجهم في التعامل مع هذا الواقع وبأفضل السبل وأكثرها فائدةً ونفعاً . ولا شك أن سلوك الطريق الأولى سيأخذ المجتمع (فكرياً وثقافياً) إلى عزلة عن العالم وسيقيم بين عقول أبناء المجتمع والعالم الخارجي سدوداً عالية تحول دون التعامل مع هذا العالم الخارجي وتجعل لغة الحوار السياسي والاقتصادي والاجتماعي والعلمي والثقافي معدومة الوجود .أما الطريق الثانية فستقود المجتمع إلى نفس محطات التقدم والاستقرار والازدهار التي عرفتها المجتمعاتُ التي لم تغريها لغةُ التحدي (المستحيل) وبريق الكبرياء (الذي لا يمكن أن يتحقق بالكلمات والشعارات والمواقف الانفعالية) .
© منبر الحرية، 25 أغسطس/آب 2009

peshwazarabic16 نوفمبر، 20100

في جلسةِ حوارٍ على شاطئ المحيطِ الأطلسي في أبيدجان وبحضورِ عددٍ من أساتذةِ العلومِ السياسيةِ والشخصياتِ الثقافيةِ العالمية تمركزَ الحوارُ حولَ تفسيرِ (أو محاولة تفسير) الموقفِ الأمريكي منذُ نهايةِ الحربِ العالميةِ الثانيةِ وللآن من عددٍ كبيرٍ من نظمِ الحكمِ الفاسدةِ في العالمِ الثالثِ، وما أدى إليهِ ذلكَ الموقف الأمريكي من نتائج وخيمة. وعلى سبيلِ المثال ، فقد أيدت الولايات المتحدة رؤساءَ جمهوريات الموز في أمريكا الجنوبية وشاه إيران وعددٍ من النظمِ التي لم يكن هناكَ شك أنها آيلة للسقوط – ولكن الولايات المتحدة كانت دائماً تساندُ الجانبَ الأسوأ . ويضاف إلى هذا (العك الأمريكي) موقف الولايات المتحدة خلال سني الحربِ الباردةِ والذي قام (في عددٍ من الحالاتِ) على مساندةِ الحركاتِ السياسيةِ الأصوليةِ (الثيوقراطية) ظناً من الولايات المتحدة أن هذا المارد (الأصولي) هو الذي سيُلجمُ المارد الآخر (الشيوعي) . وقد أثبتت التجربةُ أن إخراجَ ماردٍ من قمقمهِ لا يمكن أن يعني ضمان عواقب بروزهِ للسطح وإنطلاقه من قيدِ القمقم . ومعلومٌ للكافةِ أن الثورةَ الإيرانية التي أبكت الولايات المتحدة كثيراً كانت في سنواتٍ سابقة في ” حضن الولايات المتحدة ” إبّان هروبِ الخوميني إلى العراق ثم إنتقل الخوميني (بالتحديد) للحضن الفرنسي ولم يكمل بقاءه في ” الحضن الأمريكي ” . وفي عددٍ آخرٍ من الحالات ، تم إستعمالُ المارد الثيوقراطي بهدفِ إحداثِ توازنٍ مع ماردٍ آخرٍ . ولعل أشهرَ حالاتِ هذا اللعبِ غيرِ المسئول ، ما وقعَ في مصرَ في أوائلِ السبعينات عندما تم إستعمال المارد الثيوقراطي للحدِ من سطوةِ المارد التابع لمصرَ الستينات – وقد أدى هذا اللعب غير المسئول لقيام الماردِ الثيوقراطي بمأساة المنصة والتي قٌتل فيها أَولَ الذين أخرجوا المارد الثيوقراطي من قمقمه في مصرَ.
ولا شك عندي أن الماردَ الثيوقراطي الفلسطيني قد أُخرج من قمقمه لإحداثِ توازنٍ مع قيادةِ حركةِ فتح للنضالِ الفلسطيني – إلا أن الذين أخرجوه سوفَ يبكونَ طويلاً على تصرفِهم غيرَ العقلاني هذا. وقد إستمرَ الحوارُ طويلاً في محاولةٍ لفهمِ هذا ” العبث ” في المسلكِ الأمريكي والذي يكاد يتكرر في حالاتٍ أخرى جديدةٍ عديدةٍ كل عام … وكان الذي أوحى بالحوارِ وجودُ المتحدثين في منطقةٍ من العالمِ ضيّعها حكامُها الطغاةُ الفاسدون في ظل تأييدٍ قويٍ من الولايات المتحدة (موبوتو في زائير وغيره في مناطق أخرى مثل سوهارتو في أندونيسيا). وأذكرُ أنني كنتُ في تفسيري مختلفاً عن معظمِ الحضور ، فبينما ردَ البعضُ الظاهرةَ لضحالةِ الخبرةِ الدوليةِ للولايات المتحدة وبينما رد البعضُ الآخرُ الظاهرة للسيطرةِ اليهوديةِ على المقدراتِ الأمريكيةِ فقد كانت وجهةُ نظري أن المجتمعَ الأمريكي تحكمهُ إعتباراتٌ تتعلقُ بمصالحهِ على المدى الطويل تحتم أن يكونَ النظامُ السياسي في الولاياتِ المتحدة مسانداً للقوى القادرة على إحداثِ تطورٍ تنموي في مجتمعاتها بما في ذلك التطور الديموقراطي والتنمية الإقتصادية لصالحِ الإعتبارات الإجتماعية الأساسية . ولكن بمحاذاةِ هذه الإعتبارات توجدُ إعتباراتٌ أخرى تتعلقُ بمصالحِ المؤسساتِ الإقتصاديةِ والتي هي في الغالب الأعم مصالحٌ آنية (أي تتعلق بالمدى القصير) بصرفِ النظرِ عما سوفَ يحدثُ على المدى الطويل . وأضفتُ قائلاً : أن تاريخَ سياسة الولايات المتحدة منذ نهايةِ الحربِ العالميةِ الثانيةِ يتجاذبها هذان الإعتباران فيجذبها أحدهم أحياناً للقيامِ بما يلبي المصالح الآنية للمؤسساتِ الإقتصادية ذاتَ التأثيرِ السياسي القوي (فتحدثُ المآسي التي ضربتُ أمثلةً لها من قبل) وتجذبها (في حالاتٍ قليلةٍ) إعتباراتُ المصالح طويلة المدى ، فتتخذُ الولايات المتحدة مواقفاً تتمشى مع ” المُثل العليا ” بما يحيرُ الدنيا (مثال : موقف الرئيس الأمريكي أيزنهاور من العدوانِ على مصرَ سنة 1956). وإذا كانت الإشتراكيةُ العلميةُ قد ماتت بسببِ أنها كانت تحملُ بذورَ فنائها داخلها (عدم القدرة على تحقيقِ النجاحِ الإقتصادي) فإن العالمَ الذي يسمى بالعالمِ الحُر وتقوده اليوم الولايات المتحدة يحملُ أيضاً بذرةً محتملةً لفناءهِ وهي ذلك التناقض المروّع بين المصالحِ الآنيةِ للقوى المؤثرة على القرارِ السياسي الأمريكي والمصالح طويلة المدى للمجتمع الأمريكي (وللعالمِ أيضاً).
وقد ختمتُ وجهةَ النظرِ هذهِ بقولي : أن هناكَ بوارق أمل أن يؤدي المناخ العام الذي ستفرزهُ الطفرةُ التكنولوجية وقفزة تكنولوجيا المعلومات الكونية وما قد (أقول : قد) يحدثُ من تطورٍ إيجابي لمنظومةِ حقوقِ الإنسانِ وحمايةِ البيئة (والتي لا تزال بدائية ومتضاربة التوجهات ومتسمة بعدمِ عدالةٍ مهول) قد يؤدي هذا المناخُ العام لتقويةِ إعتباراتِ المصالحِ طويلةِ المدى والتي طالما أجهضتها المصالحُ الآنيةُ للوحداتِ الإقتصاديةِ ذاتَ التأثيرِ المهولِ على صناعةِ القرارِ السياسي في الولايات المتحدة. كما أنني أضفت: أن هناكَ دوراً مهماً للدولِ المحوريةِ من بين دولِ العالمِ الثالث لتساهم بالإقتناع في تقويةِ هذا المناخ العام المأمول – علماً بأن إستمرارَ إحتقانِ العلاقة بين هذه الدولِ المحوريةِ في العالمِ الثالثِ والولاياتِ المتحدة الأمريكية هو أمرٌ يدعمُ بقاءَ الأحوالِ على ما هي عليه لصالحِ إعتباراتِ المصالحِ الآنيةِ المدمرةِ لسيناريوهات السلام العالمي وهو ما سيكون بمثابةِ الجرثومةِ التي ستدفع العالمَ لصداماتٍ وإحتقاناتٍ وإنفجاراتٍ قد تكون من أسبابِ إنهيارِ الوضعِ العالمي الحالي وإنقلابِ المسرحِ على رؤوسِ أكبرِ لاعبيهِ.
وقد ختمَ الحوارَ أستاذٌ فرنسي لامع للعلومِ السياسية بجامعةِ باريس رقم “1” بقوله : إذن فإنَ تراجعَ الولايات المتحدة الأمريكية كليةً عن نظريةِ أن هذهِ النظم الغريبة هي المانع لقدوم الطوفان ، إنما هو الوسيلةُ الوحيدة حقاً لتجنبِ الطوفانِ الذي تعمل المنظومة الحالية على تجنبهِ بالوسائلِ الكفيلةِ بالتعجيلِ بقدومهِ !
© منبر الحرية، 19 يونيو/حزيران 2009

peshwazarabic16 نوفمبر، 20100

إذا كانت “الديمقراطية” هي أعظم إنجازاتِ الجنسِ البشري منذ بدايةِ مسيرةِ تمدنه وحتى هذه اللحظة فإن “التعددية” هي أحدُ منابع الديمقراطية . فلما كان الإنسانُ قد أصبح على يقينٍ من أن “التعددية” في المذاهب والآراءِ ووجهاتِ النظرِ والذوقِ هي من أهم معالم “الإنسانية” فقد كان من الطبيعي أن تقوم النظم السياسية على أساسِ إحتواءِ وإحترامِ التوجهات المختلفة مع عدم السماح لأيٍّ منها (ولو كان يحظى بأغلبيةٍ قويةٍ أو حتى مطلقةٍ) من إستئصال حق الآخرين في الإختلافِ ورؤيةِ الأمورِ بشكلٍ مختلفٍ والإعتقاد في برامج وأفكار ونظم ونظرياتٍ أخرى.
بل إن الإنسانيةَ تحولت مع تطورِ مسيرةِ تمدنها من “التسليم بأن التعددية من معالمِ الإنسانيةِ الأساسيةِ” إلى “الإعتقادِ بأن التعدديةَ من مصادر ثراءِ الإنسانيةِ” .. وأن التعددية هي من أهم منابعِ الإبداعِ والإبتكارِ والتجديدِ والتجويدِ .
ورغم ذلك الإيمان بالتعددية على سطح الحياةِ المعاصرةِ فإن الغوص تحت جلدِ معظمِ البشرِ في هذا العصر يثبتُ أننا لا نزال في مرحلةٍ بدائيةٍ للغاية من تمثل قيمةِ الإيمانِ بمعنى ومزايا التعددية – وينطبق ذلك على أكثر المجتمعات تقدماً (وفي طليعتها المجتمع الأمريكي) كما ينطبق على كثير من الدول الأقل تقدماً بما في ذلك دول العالم الثالث . فلا يزال هناك زخمٌ من نقص الفهمِ وسوءِ الظنِ المتبادلِ بين الحضاراتِ المختلفةِ يجعل فوائدَ وعوائدَ التعددية أقل بكثيرٍ من أن يمكن أن يكون كما يؤدي كل ذلك في غيرِ كثيرٍ من الأحيان إلى محاولةِ البعضِ “تنميط العالم” وهو هدف مستحيل من جهةٍ ويعارض التعددية من جهةٍ أخرى ويبذر بذور الصراعِ والصدامِ الذين يمكن للإنسانية أن تعيش وتنمو وتزدهر بشكلٍ أفضل بدونهما .
ومن الأدلةِ الواضحةِ على التراثِ المهولِ من سوءِ الفهمِ وسوءِ الظنِ والأفكارِ المشوهةِ بشكلٍ متبادلٍ بين الحضاراتِ فكرة الحضارةِ الغربيةِ على معظم الحضارات الشرقية والتي تقوم في بعضِ الأحيانِ على تصوراتٍ وهميةٍ لا أساس لها من الصحةِ وكذلك فهم أبناء الحضارات القديمة للحضارة الغربية وهو فهم مشوب بتشوهات هائلة ويركز على المثالب ويتجاهل المناقب رغم تمتع معظم البشر في العالم بالعديد من إنجازات الحضارة الغربية .
وإذا كان البعضُ اليوم في الغربِ بوجهٍ عامٍ وفي الولاياتِ المتحدةِ الأمريكيةِ بوجهٍ خاصٍ يميلُ إلى أن العلاقة بين الحضارات ستكون في المستقبل صراعاً وصداماً ولا سيما العلاقة بين الحضارة الغربية والإسلام ، فإن أدبيات هذا الإتجاه تدلُ على فقرٍ معرفيٍّ مذهلٍ : فكتاب (صدام الحضارات) لصموئيل هنتنجتون وغيره من الكتابات المماثلة لإشخاصٍ مثل بول كنيدي وفوكا ياما هي خلطة من الكتابات الصحفية/ السياسية أكثر من كونها كتابات رصينة تقوم على معرفةٍ واسعةٍ بالحضاراتِ ودون أن تتوفر لدى أصحابها الرؤية التي تسمح لهم بان يروا آلية صنع سيناريو الحوار وعدم الإقتصار على سيناريو الصدام – ولا يعني ذلك أن سيناريو الصدام مستبعدٌ وإنما يعني أن سيناريو الحوار ممكنٌ إذا كانت الرؤيةُ في هذا الإتجاه وبُذلت الجهود الفكرية والثقافية لتدعيمه .
إن عالمَ اليومِ الذي يرفع شعارات مثل (الديمقراطية) و(حقوق الإنسان) و(الحريات العامة) و(التعددية) ينبغي أن يدرك أن نبلَ هذه القيم لا ينفي أن تعاملَ الإنسانِ معها على أرض الواقع لا يزال في مرحلةٍ أُولى وهو ما يجعل الممارسات العملية تتسمُ أحياناً بنقيض تلك القيم وينطبق ذلك بوضوحٍ على قيمة التعددية إذ ترفعُ الحضارة الغربية لواءَ قيمةِ التعدديةِ بيدٍ ويرفع بعضُ أبناءِها لواءَ تنميطِ العالمِ بيدٍ أخرى ، وهي حالة إرتباك تعكسُ كون البشرية في مرحلةٍ أولى من مراحل نمو بعض هذه القيم .
فالتعدديةُ إذا كانت تعني (والأرجح أنها بالفعل كذلك) أن تعددَ المشارب والمذاهب والثقافات والأذواق والآراء وأساليب الحياة هي معلمٌ أساسيٌّ من معالمِ الحياةِ البشريةِ على الأرض بل ومن مصادر ثراء هذه الحياة فإن النتيجة يجب أن تكون (الخلاف في ظل الوحدة) والخلاف هنا ينطبق على ما ذكرته من مشارب ومذاهب وتوجهات أما الوحدة فتعني (الإنسانية) .. كما أن ذلك لا يمكن إلاِّ وأن يعني توسيع ثقافة إحترام الغيرية (Otherness) على أن يحدث ذلك بين كل الأطراف وبشكلٍ متكافئ في وقتٍ واحدٍ – وإحترام الغيرية يتناقض بداهةً مع أي محاولة لتنميط العالم . وجديرٌ بالتنويه هنا أن تنميط العالم ليس توجهاً عاماً للحضارة الغربية إذ لا تشارك فيه أوروبا الغربية وإنما هو توجه أمريكي في المقام الأول وليس له من مرجعٍ إلاِّ الفقر الأمريكي المذهل ثقافياً …. يتبع
© منبر الحرية، 3 أبريل 2009

peshwazarabic15 نوفمبر، 20100

منذ نحو أربعين سنة وهاجس الغزو الثقافي يسيطر على تفكير الكثيرين في واقعنا. وعندما سقط تقسيمُ العالم إلى كتلةٍ شرقيةٍ وكتلةٍ غربيةٍ في نهايةِ الثمانينيات وبدأ العالمُ يتحدث عن ظاهرةٍ جديدةٍ سماها البعضُ (ثم إنتشرت التسمية) بالعولمة بدأنا نتحدث عن “العولمة الثقافية” ومخاوف إجتثاثِ ثقافةِ العولمةِ لخصوصياتنا الثقافية. وقد كتبت كثيراً في هذا الموضوع وكانت خلاصة وجهة نظري أن أصحابَ المحصولِ المتواضعِ من الخصوصيات الثقافية هم المهددون فقط بسحقِ ثقافةِ العولمِة لثقافاتهم أما أصحابُ المحصولِ الهائل من الخصوصيات الثقافية مثلنا والذين ترجع خصوصياتهم الثقافية لعواملٍ متصلة بالتاريخ وعوامل متصلة بالجغرافيا فإنهم يكونون مثل اليابانيين غيرَ معرضين لزوال الخصوصيات الثقافية الكبيرة لهم. وكنت أكررُ أن كلَ الأمثلةِ التي يعطيها البعضُ على تأثر اليابان ثقافياً برياحِ تغيرٍ من الخارج كانت تصبُ في خانة “البنود الثانوية” مثل تناول الوجبات السريعة وإرتداء الملابس الأمريكية إلى آخر هذه السلسة من البنود الثانوية أما العلاقاتُ الإنسانية والقيم المعطاة للكبار في السن والعلاقات الأسرية اليابانية وغيرها من القيمِ الأصليةِ ومن بينها فهمُ الياباني للعمل، كل ذلك لم يطرأ عليه أي تغيرٍ منذ ستين سنة كانت فيها اليابان ذات تعاملات عارمة مع الآخرين.
ومع ذلك فإذا كان من حقِ البعض أن يتخوف على خصوصياتنا الثقافية في مواجهةِ ما يسمى بثقافةِ العولمٍة فإن الأمرَ مختلفُُ تماماً بالنسبةِ لقيمِ التقدم: فهذه القيم تجد كلها تأيداً وتعضيداً من الأسس التي ترِتكز عليها خصوصياتُنا الثقافية إذ يستحيل أن يقول قائلُُ أن الأسسَ المصريةَ أو العربيةَ أو الإسلامية أو المسيحيةَ تقف بأي شكلٍ من الأشكالِ موقف المخالفةِ والتضاد في مواجهةِ قيمٍ مثل الوقت والإتقان وعالمية المعرفة وعمل الفريق وثقافة النظام عوضاً عن ثقافة الأفراد أو الإيمان بأن الإدارة هي أحد أهم وأكبر أدوات صنع النجاح. بل إنني أتصور أن يزعم عديدون في واقعنا أن هذه القيم وجدت دعوة وتعضيداً لها في تاريخنا قبل مئات السنين وقبل أن تأتي دورةُُ من دوراتِ الحضارة الإنسانية وتوظفها توظيفاً جيداً لصنع حياة أفضل. وقد يظن البعضُ أن ما أقوله في هذا الفصل قد يكون منطبقاً على معظم قيم التقدم ولكن يصعب إنطباقه على قيمة التعددية إذ يعتقد البعض أن التفكيرَ الديني الإسلامي يقوم على “وحدانية نموذج الصواب” – وهذا في إعتقادي خطأ بحت فهناك العديد من النصوص القرآنية التي تعضد التعددية ولعل أهمها النص الذي يشير إلى أن الله لو أراد أن ي كون الناسُ على دينٍ واحد لفعل ذلك (سورة يونس – آية 99) كما أن هناك العديد من النصوص الواردة في السنة التي يمكن أن تكون دليلاً معضداً لكون التعددية من سنن الحياة.
وسيكون من الغريبِ (والمهينِ) للغاية وجود حوار حول “تضاد” بين خصوصياتنا الثقافية وقيم مثل الوقت أو الإتقان لأن زعماً كهذا سيكون بمثابة ترويج لقيم التخلف والبدائية(ناهيك عن كونه إهانة ذاتية منّا لنا). كذلك مما يدل على عدم وجود تضاد بين قيم التقدم وخصوصياتنا الثقافية أننا شهدنا خلال القرن الأخير فترات كان التواجد النسبي لمعظم هذه القيم في واقعنا أعلى منه في فترات لاحقة عندما تمت عمليةُُ يسميها البعض “تفكيك المجتمع المصري” فواكب ذلك إنخفاضُُ كبيرُُ في نسبةِ توفرِ قيمِ التقدمِ.
وأُذكرُ أنني (في الثمانينات) كنتُ في أحدِ مراكزِ التقدمِ الإقتصادي المبهرِ في جنوب شرق آسيا وكان الشعارُ العام للمؤسسات الإقتصادية في هذا الجزء من العالم أننا أمام مجموعتين بشريتين “المجموعة الصينية” و “المجموعة المالاوية” وكان العرفُ السائد أن من يريد تكوين تنظيم عملٍ على درجةٍ عاليةٍ من التميُز والكفاءة فإن عليه أن يعتمد كليةً على العنصر البشري الصيني لأنه يتقن العمل ويخلص فيه كما أنه مجبولٌ على العمل الجماعي ويبلغ تقديسه للعمل مبلغ تقديس كبار المتدينين لعقائدهم. أما المجموعة الأخرى فسماتها الأصلية الكسل وعدم الإتقان والتشرذم والبعد الكامل عن تقديس العمل. وكانت هذه المقولة شبه مطلقة حتى جاء رجلُُ واحدُُ في دولةٍ أكثر ثلثي سكانها من الطائفة المستبعد تميّزها في العمل وهي ماليزيا والتي يشكل المسلمون والمالاويون المنتمون للطائفة الثانية السواد الأعظم من سكانها وحقق معجزة وصول هذا الشعب لأعلى مستويات التميز في كل مجالات العمل الإنتاجية والخدمية ، وإذا بنا في أقل من عشرين سنة نرى كلَ قيم التقدم مجسدةً في هذا المجتمع الذي كان قبل ذلك يغط في سباتٍ التخلفِ والعجزِ والكسلِ… وإذا بالعالم يكتشف حقيقتين كبيرتين لم يكن من الممكن تصديقهما من قبل:
o الحقيقة الأولى أن التأخر ليس نتيجةً لحتميةِ بيولوجية وإنما لظروف إن تغيرت تغيرت الأحوالُ كليةً .
o الحقيقة الثانية أن قيم التقدم يمكن أن تُزرع في بيئاتٍ مسيحية وبيئات بوذية وبيئات مسلمة بل وفي أية بيئةٍ من البيئاتِ وأنها ليست حكراً على أحدٍ.
وإذا أردنا أن نضيف الآن حقيقة ثالثة فهي أن كل الخصوصيات الثقافية الماليزية والمتعلقة بالعلاقات الإنسانية والعلاقات الأسرية وإستمداد القيم من الدين بقت كما هي في زمن الإزدهار ولم يحدث أي تضاؤل لها عما كانت عليه في زمن الإنحدار . حتى الذين يقولون أن ما حدث في ماليزيا كان بتأَثير الأقلية الصينية فإننا نقول لهم أن هذا الكلام لا معنى له إلا معنى أخر غير الذي تقصدونه فالمعنى الوحيد لهذه الملاحظة أن (التقدم) يمكن أن يحدث بالعدوى.وهي فكرة لا بأس بها على الإطلاق وأن كنت أعتقد أن دحضَها في النموذج الماليزي سهلٌ للغاية: فالأقليةُ الصينية كانت دائماً متواجدة في ماليزيا أما الذي لم يكن متواجداً فهو الرجل الذي صنع هذا التغيير (محمد مهاتير أو محمد محاضر) أو بتعبير آخر (القيادة والقدوة).
* البروفسور طارق حجي كاتب و باحث مصري.
© منبر الحرية 28  أبريل 2009

peshwazarabic15 نوفمبر، 20100

آمنتُ منذ سنواتٍ طويلة وفي مرحلةٍ كان الفيلسوف الألماني “إيمانويل كانط” وأعماله الفكرية العظيمة مركز إهتماماتي الفكرية أن عبارة هذا الفيلسوف الشهيرة : (إن النقدَ هو أهمُ أداةِ بناءٍ طوّرها العقلُ الإنساني) . إن هذه العبارة هي من أحجارِ الزاويةِ لنجاح وإزدهار أي مناخٍ تعليميٍّ وثقافيٍّ . ويقابل عبارة كانط في أدبياتنا الشرقية مقولة عمر بن الخطاب (رحم اللهُ من أهدى إلينا عيوبنا) بمعنى أنه يطلب الجزاء الطيب من الله لمن يفتح عيونَنا على عيوبنِا ووسيلة ذلك (النقد).
بعد أن ترسخ في تفكيري أن الجو الثقافي العام الذي يحفل بالعقل الناقد هو الجو الثقافي الذي يسمح بالتطورِ والتقدمِ والإزدهارِ – بعد أن ترسّخ ذلك الإعتقاد في بنية تفكيري ، جاءت تجربةُ عشرين سنةٍ من العملِ بمؤسسةٍ إقتصاديةٍ من أكبر عشر مؤسسات في العالم لتحول هذا “الإعتقاد الفكري” لواقعٍ معاش في كل لحظةٍ . فهذه المؤسسة التي تشبه كبريات المؤسسات الإقتصادية العالمية ولا سيما التي يرجع تاريخها لأكثر من قرنٍ ، هي مؤسسات لها ثقافتها الداخلية الخاصة . وقد أذهلني في كل يومٍ من أيام السنوات العشرين المذكورة أن أرى في كل لحظةٍ ومناقشةٍ وإجتماعٍ وحلقةِ عملٍ تشخيصاً كاملاً لأن (النقد هو أحد أكبر أدوات البناء) : فنقد الأفكار .. ونقد الخطط .. ونقد البرامج .. ونقد المشروعات قبل وأثناء وبعد تنفيذها هي عمليات لا تتوقف من أَجل (تقليل السلبيات) و(تعظيم الإيجابيات) . والتناول النقدي لكل شئٍّ ليس حقاً من حقوق “الكبار” أو “الرؤساء” فقط وإنما هو حق لكلِ ذي عقلٍ ، فمن مجموع العقول الناقدة يتشكل النجاحُ والتميّزُ .
ولا شك عندي أن “النقدَ” الذي هو بمثابةِ آلةٍ لا تتوقف عن البحثِ عن السلبياتِ وتقليلها ورصد الإيجابيات وتعظيمها يحتاج لمُناخٍ عامٍ يُعلّم أبناءَ وبناتِ المجتمع “النقد الموضوعي” أي الذي يهدف للتجويدِ المستمرِ وهو يختلف في روحِه ونسيجه ومنطلقاته وأهدافه عن النقد في بعض الثقافات التي تغلب عليها “الشخصانيةُ” وتقل فيها “الموضوعيةُ” ، إذ يكون “النقد” في هذه البيئات أداة هجوم وإنتقام وإنتقاص وتجريح . والمعوّل هنا على المناخ الثقافي والتعليمي العام وكيفية تقديمه للنقد – منذ الصغر – كأداةٍ عقليةٍ موضوعيةٍ تهدف لمصلحةٍ عامةٍ لا لمصلحةٍ شخصيةٍ .
وغيرُ مستغربٍ أن يكون المُناخ الثقافي العام الذي رسّخ قبولَ وإحترام “التعددية” أكثر إستعداداً لإفراز النقد الموضوعي كأداةِ تعاملٍ عقليٍّ مع كلِ الأشياءِ على خلاف “مجتمعاتِ الرأيِ الواحدِ” و”النموذج الواحد للحق والصواب” فإنها غالباً ما تفتقر لروح النقد البناءةِ والمتسمةِ بالموضوعيةِ أي توجيه النقد “للمواضيع” وليس “للأشخاص” .. وبهدف “التجويد” لا “كسب الحروب الشخصية بين الأفراد” . كذلك ليس بمستغرب أن تكون البيئاتُ الثقافية التي سميتها في فصلٍ سابقٍ بثقافاتِ النظمِ (لا الأشخاص) أكثر قابلية أيضاً لأفراز عملياتِ نقدٍ موضوعيةٍ تهدف للتحسينِ والتجويدِ .
وليس بجديدٍ أن أَقول أَن هناك علاقة وثيقة بين “ثقافاتِ النقدِ البناء” و”ثقافةِ الحراك الإجتماعي” : ففي المجتمعاتِ التي ينشط فيها هذا الحراكُ وينشط فيها تبادلُ المواقع بوجهٍ عامٍ وبين النخبِ بوجهٍ خاصٍ توجد مساحة أفسح لبذرِ ثقافةِ النقدِ البناء على خلاف المجتمعات المغلقة حيث يصعب على الإنسان أن يفرق بين “الموضوعي” و”الذاتي” لأنه مشغولٌ بالذاتي إنشغالاً يدخل تحت باب “أكون-أو-لا-أكون” ؛ وهو ما يجعل الموضوعية في النقدِ كالحلمِ المستحيلِ .
كذلك فإنني أربطُ بشدةٍ بين “قيم المتوسطين” والتي أشرت إليها من قبل فيما كتبته عن “الإتقان” وبين صعوبةِ إنتشارِ ثقافةِ النقدِ البناء : فالمتوسطون لا يستطيعون البقاء في ظلِ مناخٍ عامٍ يقوم على النقدِ البناءِ ، لأن إكتشاف حقيقة قدراتهم ومُكنهم ومواهبهم ستكون أول نتائج شيوع ثقافة النقد البناء – حيث ستعم معايير لا يقبلونها في التقييم .
وخلاصةُ القول هنا ، أن “النقدَ البناء” وإشاعة مناخ ثقافي عام يرحب بالنقد ويشجع عليه ويرسّخ (من خلال القدوةِ والتعليمِ) الدورَ الفعّال للعقليةِ الناقدةِ وما يعود على المجتمع ككلٍ من عظيمِ الفوائدِ من وجودها هو من أهم قيم التقدم – وككل قيم التقدم فإن ذيوعها يكون دائماً في حاجهٍ ماسةٍ للقدوةِ والمثل (في البداية) ولبرامجٍ تعليميةٍ تغرسها في العقول (لعموم ذيوعها مكانياً وزمانياً) ….. يتبع
© منبر الحرية، 7 أبريل 2009g

peshwazarabic11 نوفمبر، 20100

مقتلُنا يكمن في لساننا         فكم دفعنا غالياً ضريبةَ الكلامْ.            “نزار قباني…”
إذا خسرنا الحربَ – لا غرابةْ         لأننا ندخلها بكلِ ما يملكه الشرقيٌ من مواهب الخطابةْ.
إبالعنتريات التي ما قتلت ذبابةْ          لأننا ندخلها بمنطق الطبلةِ والربابةْ            “نزار قباني…”
في الستينيات كنا نتحدث عن قوتنا واصفين إياها بأكبر قوة في الشرق الأوسط… ثم جـاء صبـاح الخامـس من يونيه 1967 ليفتـح عيوننا على حقيقة أن ذلك لم يكن إلا مجرد “كلام كبير”. وخلال نفـس السنوات كنـا نتكلـم عـن عـدونا التاريخي بصفـتـه “عصـابات يهـودية”… ثـم جـاءت الأحـداث لتـثـبـت أن هــذا العـدو كان شيئـاً أخطــر بكثيـر مـن “مجـرد عصـابات” … كان كلامُنـا مـرة أخـرى مجرد “كلام كبير”. وعندما وصفنـا رئيـس وزراء بريطانيـا بأنه (خـرع) وهو لفـظ عامـي مصـري يعنـي أنه ليس رجلاً بالمعنى الكامل… وعندما اقترحنـا على الولايات المتحدة الأمريكية أن تشرب من البحرين (الأحمـر والأبيـض)… وعندما تحدثنا عن الصاروخ القاهـر وشقيقـه الظافـر… لم يكن ذلك فـي الحقيقـة إلا مجرد “كـلام كبيـر”. وعندما نستمـع الآن للأغانـي الوطنيـة التي أُنتجت في الستينيـات (ورغم إعترافنـا بجودة العمـل الفني وروعـة الحلـم الوطنـي والقـومي) فإننا نجـد عشـرات الأمثلة على كلام لم يكن إلا مجرد “كـلام كبيـر”. وعندما نترك الستينات ونمر على السبعينيـات والثمانينيـات والتسعينيــات نجد أن “داء الكلام الكبير” ظل ملازماً لنا بشكل لا يخفى على أحد؛ بل أنه وصل الآن إلى معظم مناطق حياتنا العامة، وأصبح الذين يتكلمون بلغةٍ غير لغته “ثلة من أشباه الغرباء” الذين يعزفون لحناً غريباً يصدمُ الآذان.
فنحن عندما نتحدث عن تاريخـنا، لا نستعمل لغة العلم والموضوعيـة وإنمـا نغـرق فـي زخم من الكلام الكبير. وعندما نتحدث عن واقعنا المعاصر، نحشر مرة أخرى “قوافل الكلام الكبير”. وحتى عندما نفوز في مباراة لكرة القدم، ينهمر “الكلام الكبير”؛ فرغم معرفتنا بأن مستوانا في هذه اللعبة الرياضية يقع ما بين “المتوسط” و”المتواضع” (على المستوى العالمي) فإننا لا نتردد ولا نتأخر عن استعمال أوصاف مثل (الفراعنة يهزمون….).. ونكون هنا متسقين مع “تبار الكلام الكبير” الذي عم واستفحل في تفكيرنا خلال نصف القرن الأخير.
وإذا تأملنا الصفحات الأولى بصحفنا ومجلاتنا وجدنا “جيوشاً عارمة من الكلام الكبير”… فكل لقاء هو “لقاء قمة”… وكل قرار هو “قرار تاريخي”..
ومن الواجب أن نقول إننا لا نفتعل ذلك افتعالاً، لأنه أصبح جزءاً من نسيج تفكيرنا، بمعنى أننا نكتب ونتكلم بهذه الكيفية (كيفيـة الكـلام الكبيـر) لا مـن (باب التملق) وليس من باب (النفـاق) ولا من باب (الكـذب المقصـود) وإنمـا نكتب ونتـكلم هكـذا من باب الاتســاق مـع “عيـب كبـيــر” استـقــر في ثقافتنا وعقولنا وأصبح من الطبيعي والمنطقي أن يجد طريقه لخارج رؤوسنا عن طريق أَلسنتنا.
ورغم أن البعض (وربما القلة) يلاحظون هذا العيب الخطير من عيوب التفكير، إلا أن معظمهم عندما يتصدرون للحديث يقعون في المحظور وينساقون مع تيار “الكلام الكبر”، وهو ما يثبت أن هذه السمة قد أضحت متفشية إلى أبعد الحدود وأن “الهواء الثقافي” لنا أصبح متشبعاً بهذه الخصلة إلى أبعد حدود التشبع.
ولعل ضرب الأمثلة يكون أيضاً مفيداً هنا: بعد حادثة الأقصر المفجعة في خريف عام (1997) أَذاع التلفزيون المصري تغطية لماراثون الجري (العدو) حول أهرام الجيزة، وقامت الكاميرا بمقابلة نحو عشر أشخاص مختلفين.. كرروا نفس الكلام وبنفس الصيغ وقال كل منهم (وكأنه يكرر حديثاً محفوظاً): “أن مصر هي بلد الأمن والأمان.. وأن العالم كله يعرف ذلك… وأن الإرهاب لا يقع على أرض مصر فقط وإنما في كل مكان بالعالم… وأن الدنيا كلها تتطلع لزيارة آثارنا التي لا مثيل لها في العالم”.
وكان مصدر دهشتي تصوري أن تطابق الكلام بهذه الكيفية يكاد يكون مستحيلاً بين عشرة أشخاص مختلفين… ولكنها سطوة “الجو الثقافي العام” المشبع إلى أقصى حد بخصلة “الكلام الكبير”.
وقد كانت السنوات العشرين التي قضيتها فى واحدة من أكبر المؤسسات الصناعية العالمية فرصة هائلة لكي أكتشف أننا في هذا المضمار أصبحنا (وأكرر: أصبحنا) مختلفين عن معظم شعوب العالم بشرقه وغربه.
فأبناء الحضارة الغربية (بما في ذلك أمريكا الشمالية) تواصل نموهم الثقافي في اتجاه مختلف يقوم على اعتبار “الكلام الكبير” انعكساً مؤكداً لعدم المعرفة. فالمعرفة الإنسانية معقدة ومركبة ولا تسمح بالغرق في “الكلام الكبير”، بل تأخذنا إلى لغة متوسطة تحاول -قدر الطاقة- أن تعكس حقائق العلم والثقافة.
أما أبناء الحضارة أو الحضارات الأسيوية (مثل اليابان وغيرها) فإن التحفظ كان ولا يزال من سمات هذه الحضارة بشكل واضح، وهو ما يمنع أيضاً استفحال ظاهرة الكلام الكبير.
أما شعوب العالم العربي، فإنها تشترك معنا -بدرجة أو بأخرى- لكون الثقافة العربية قد اتسمت في مراحل عديدة بسمة “الكلام الكبير”. فالشعر العربي عامر بقصائد المدح والهجاء التي تطفح بالكلام الكبير الذي لا يعكس بالضرورة حقائق الواقع والأشياء. بل أن ثقافتنا اعترفت بأن معظم هذا “الكلام الكبير” مجرد “كلام” ولا أساس له من الواقع، عندما نحتنا المقولة المشهورة (أعذب الشعر: أكذبه).
وكان النص القرآني (كالعادة) رائعاً في وصفه الشعراء (في هذه البيئة) عندما وصفهم بأنهم في كل واد يهيمون (وأنهم يقولون ما لا يفعلون).
وكاتب هذه السطور يرى أن من أوجب واجبات من يهمه تصويب مسار العقـل المصـري أن يقـوم بإيقاظ هذا العقل وينهره بشدة أمام ظاهرة اتسامه بعلة الكلام الكبير وحقيقة أنها ظاهرة منبتة الصلة بالواقع وحقائق الأشياء. وأن يُظهر الآثار الهدّامة لهذه الظاهرة التي جعلت البعض يصنفنا (بخبث وأغراض) بأننا حضارة كلامية أو حضارة حنجرية أو (مع التطور العلمي) حضارة ميكروفونية…
ومن المهم للغاية أن نفتح عيون أبناء وبنات هذا الوطن (من خلال برامج التعليم) على حقيقة هذا العيب وما يجره علينا من عواقب وخيمة؛ إذ يجعلنا من جهة مثار تعجب العالم… ويجعلنا من جهة أخرى “سجناء عالم خرافي من صنعنا ولا أساس له في الواقع”.. كما أنه يجعلنا “سجناء الماضي” حيث نصف ماضينا بزخم من الكلام الكبير ثم نهاجر إليه. ولا شك أن “علة الكلام الكبير” تتصل بعلل فكرية أخرى مثل: عدم الموضوعية.. والهجرة للماضي… والمغالاة في مدح الذات… وضيق الصدر بالنقد. بل أنني لا أبالغ إذ أقول أن “علة الكلام الكبير” تقيم جسوراً للتواصل بين هذه العلل الأخرى.
كذلك، فإنه من الضروري أن نناقش الصلة بين هذه العلة الفكرية (علة الكلام الكبير) وضيق الهامش الديموقراطي. ففي ظل مناخ ثقافي عام يتسم بداء الكلام الكبير يكون من الصعب تطوير الهامش الديموقراطي كما يكون من السهل نجاح فرق سياسية تملك من “الخطاب الغوغائي” (الديماجوجي) أضعاف ما تملك من “الخطاب الموضوعي”. فالذي يقول لنا أن مشروعه الفكري هو “الحل” إنما يقدم لنا وجبة أخرى ساخنة من وجبات “الكلام الكبير”، فمعضلات الواقع الاقتصادية والاجتماعية أكثر تعقيداً من أن يكون علاجها بشعار عام يستمد جذوره من تربة الكلام الكبير كهذا الشعار.
وما أكثر ما رددت لنفسي وأنا أسمع جولات الحوار العام تتلاطم أمواجها بفعل “الكلام الكبير” ما أكثر ما رددت لنفسي أبياتاً من شعر نزار قباني يقول فيها (بعبقرية):
لقد لبسنا قشرة الحضارة        والروح جاهليةْ.
© منبر الحرية، 15 سبتمبر/أيلول 2009

peshwazarabic11 نوفمبر، 20100

خلال السنوات العشرين الأخيرة ، أتيح لي أن التقي بعشرات من رؤوساء الدول والحكومات. وكان ذلك بالنسبة لي بمثابة عرض شيق لأساليب مختلفة بشكلٍ مذهل. فبينما كان رئيس جمهورية “بقلاوة-ستان” يدعونا إلى عاصمة دولته ثم يبقينا أربع أو خمس أيام في إنتظار موعد اللقاء (رغم أننا كنا نمثل مؤسسة تستثمر مليارات الدولارات الهامة للغاية لإقتصاد “بقلاوة-ستان”) فإن إسلوب رئيس “مهازلستان” كان مختلفاً للغاية. كان موعد اللقاء يتحدد بمجرد وصولنا لتراب مهازلستان. ولكن الطريقة التي كان يُعامل بها رئيس مهازلستان من مساعديه (وإن علت مكاناتهم) كانت تجعل زملائي الأوروبيين يبذلون أقصى جهد لعدم الضحك. فقد كانت اللغة الجسدية ( Body Language ) لمساعدي الرئيس المهازلستاني تشبه حركات ممثلين عرب كبار مثل نجيب الريحاني وفؤاد المهندس وعادل إمام وهو يمثلون دور “المنبهر” و”الخائف” والمبجل”!! وكان منظر وزراء مهازلستان وهم يجلسون أمام رئيسهم وقد وضعوا أقل بكثير من نصف مقعدهم (العجز أو الأرداف في اللغة العربية) على المقعد وتركوا الجزء الأكبر معلقاً في الهواء .. فكانت تثير شهية زملائي (وبالذات “الألمان” الذين يبحثون عن منطقية كل شئ) لمعرفة “لماذا يفعل أحد مثل هذا؟!” ولماذا يرضى هذا أحد؟.
أَما في “يعقوبستان” وهي دولة يحيط بها أعداء من كل جانب يمطرونها بالكلام الكبير وتمطرهم (هي) كل عشر سنوات بضربة تكسّر العظام. في “يعقوبستان” فإن اللقاءات مع رئيس الدولة ورئيس الوزراء والوزراء كانت مثل اللقاءات مع الأصدقاء في نادي رياضي: بدون تلك الأجواء البقلاوستانية أو المهازلستانية.
أَما في “مجازر-ستان” فقد كان الضحك (أو بالأحرى “الرغبة في الضحك”) تختلط بالخوف (من عاقبة أي تصرف غير مقبول). ففي “مجازرستان” تُقطع آذان البشر .. وتُقطع ألسنتهم إذا مست “الكبير وآله” بكلمة سوء ولو واحدة! في “مجازرستان” كان يُقال لنا: صافحوا إن صافح! .. وإجلسوا إن جلس!. وبعد سنوات عدنا فرأينا عاقبة إلغاء أفضل ما في البشر: “عقول حرة”.
وفي مملكة “تراب-ستان” كان مستوى إدراك أحد المسئولين يحرك في داخلي شيطان الشعر .. وذات مرة تحركت شفتاي فظن الكبير الذي كنا في ديوانه أنني أكلمه ، بينما كنت أنا أحاول البحث عن بحر مناسب لكلمات كان شيطان الشعر يرددها في أذني ، وقد كتبتها بعد اللقاء في قصيدة غير منشورة بعنوان “شماغ .. شماغ .. شماغ .. لكن بدون دماغ!”.
وكانت لقاءات رؤوساء الدول في أوروبا وآسيا (للأسف) لا تتضمن أموراً هزلية تروح على النفس كالتي كنا نجربها في الشرق الأوسط وفي أفريقيا حيث تركنا السيد/ عمر أفندي (اسم رمزي) ذات يوم لأكثر من ساعتين في إنتظاره في الطابق السفلي من مقر إقامته .. ثم (أخيراً) نزل لنا وهو يرتدي “البيجاما” ومعه سيدة فرنسية .. في رسالة واضحة فحواها إذا كانت فرنسا قد احتلتنا عقوداً من الزمن ، فهاأنذا قد صفيت الحساب ورددت الصاع صاعين!.
حاولت بعد الإجتماع أن أشرح لزملائي الأوربيين (وكان بينهم فرنسي) “مغزى اللقطة” التي شاهدوها .. ففشلت. فمن الصعب على عقل فرنسي أن يفهم أن وجود إمرأة فرنسية في غرفة نوم الرئيس عمر أفندي هي إهانة لفرنسا وإنتقام من احتلالها لبلد أفريقي؟! .. ما العلاقة؟ .. أين السببية؟ .. لا يهم. منذ متى كنا نعوّل على السببية؟
وكانت قمة دهشتنا في بلدين عربيين كانا يفاجئانني (ومن معي) بدرجة من الإحترام والإلتزام والبساطة كانت ولا تزال غير متوفرة إلاِّ في هاتين البقعتين: “مطر-ستان” و”شرق-ستان”. في هاتين الدولتين الملكيتين كان كل شئ يسير كما لو كنا في 10 داوننج ستريت أو القصر الملكي الياباني او البيت الأبيض في واشنطن: المواعيد محددة سلفاً .. الكبار لا يتأخرون .. الكبار بسطاء وهاشون ومرحبون ومتواضعون إلى درجة لا يمكن تصوّرها في “الشرخ الأوسط الكبير”.
في “مطرستان”: الحاكم (الذي هو في أمان داخلي مع نفسه) وزوجته (التي هي تجسيد لقامة كبرت دون أن تدير رأسها خمر علو المقام) .. في “مطرستان” يستمع الحاكم لكل ذي خبرة وعقل .. ويتعامل مع زائريه بمودة وتواضع مذهلين .. وفي “شرقستان” يقول الملك لزائره العربي (من مهازلستان مثلاً): “أوافقك تماماً في وجهة نظرك يا سيدي” .. فيكاد يغشى على الزائر المهازلستاني لأن رئيس دولته سوف يعتبر أن الجلوس على كل المقعد في حضرته من علامات الجنون!.
في “شرقستان” استقبلتني شقيقة الملك ، وكنت لم أرى أية صورة لها. قابلتني عند باب المصعد وسارت معي لغرفة الضيوف – سألتها: “هل الأميرة شمعة مشغولة؟” .. فقالت لي: “أنا شمعة”!!
أما في “مطرستان” فقد كنت على مائدة الملك وأصرت قرينته على إعداد طبقين من الحلوى لضيفين من ضيفها! قلت في داخلي: آه لو رآك مهازلستاني”!.
هل هذا الحديث الطويل “عبث ليس إلاِّ؟” قطعاً “لا”. فإن رسالتي التي بين السطور (العاتبة) أكثر جدية من معلقات “لبيد” .. و”الأعشى”!.
© منبر الحرية، 14 أغسطس/آب 2009

peshwazarabic11 نوفمبر، 20100

حتى بالنسبة للذين يرفضون بعض جوانب ظاهرة العولمة فإن واقعَ الحياةِ في عالمنا المعاصر يؤكد ان العلم بكل معانيه ليست له حدود. فإنفتاح القنوات بين كل الجهات المتصلة بالعلم والبحث العلمي أصبح حقيقةً لا يمكن أن تنكر وإذا كنا نتكلم عن العلم بمعنى العلوم التطبيقية فلا يكاد يوجد معارضٌ واحدٌ للقول بعالمية المعرفة إزاء البحث العلمي في كل دوائر العلوم التطبيقية وفي مجالاتِ تطبيقاتها (التكنولوجيا). وكان العاملُ الأكثر حسماً في الوصول بعالمية المعرفة في مجالات البحث العلمي في العلوم التطبيقية لهذه الدرجة الرحبة تلك الصلة الوثيقة في المجتمعات المتقدمة بين البحث العلمي والحياة بوجهٍ عامٍ والحياة الإقتصادية بوجهٍ خاصٍ وهو ما جعل دائرة “البحث والتنمية” Research and Development تتسع حتى تصبح أوسع من دائرة البحث العلمي Scientific Research بمعناه القديم والذي يكون فيه البحث العلمي منبتَ الصلةِ بشكلٍ ما بالتوظيفات الحياتية للعلم وهي الغاية الرئيسية لما يعرف الآن بالبحث والتنمية (R & D) .
فنظراً لأن المجتمعات المتقدمة قد أخرجت (بدرجةٍ كبيرةٍ) من الجدران المغلق للجامعات ومراكز البحث وجعلت العديد من مجالاته تدور وجوداً وعدم اً مع التوظيف الحياتي/الإقتصادي/ الإجتماعي للعلم فقد أصبحت عالمية المعرفة في دنيا العلوم التطبيقية هي الحقيقة الكبرى . وهكذا أصبحنا نجد أن ميزانيات البحث العلمي المندرج تحت تسمية “Research and Development” (R & D) من جهة تفوق ميزانيات البحث العلمي المجرد بكثير ومن جهة ثانية فإنها تنفق ليس عن طريق الدول وإنما المؤسسات الإقتصادية. وهكذا أصبح كل من يعمل في أي مجالٍ من مجالاتِ الصناعة أو التجارة أو الخدمات يبحث عن احدث تكنولوجيا العصر لتوظيفها في عملية تطوير وتوسيع أنشطته وتعظيم العوائد منها وهو ما يضاعف من إتساع معنى “عالمية المعرفة”.
ولعلي لا أكون مبالغاً إذ أقول أن النهضةَ اليابانية في طورِها الذي أعقب هزيمة اليابان في الحرب العالمية الثانية كانت من أكبر أصحاب الفضل على مفهومِ عالميةِ المعرفة إذ سعت اليابان إلى العلم والتكنولوجيا في كل موضع في الأرض لتحصل عليه وتهضمه وتوظفه بأشكالٍ مذهلةٍ – وهو ما كان عصب التقدمِ الياباني في السنوات التي تلت 1945. وفي مجالِ العلوم الإجتماعية فإن الأمرَ يبدو مختلفاً بعض الشيء إذ تدخل الإعتبارات الحضارية والثقافية في النظرة للعلوم الإجتماعية – ورغم صحة ذلك بشكلٍ نسبي إلاَّ أن دوائراً جديدةً نمت داخل عوالم العلوم الإجتماعية حققت ما حققته العلوم التطبيقية في عالمية المعرفة: فعلومُ الإدارةِ الحديثةِ وعلوُم الموارد البشرية والتسويق والكثير من الأفكار الإقتصادية تمكنت أن تعبر الحدود وتحقق لهذه الفروع من العلوم الإجتماعية قدراً هائلاً من “عالمية المعرفة” نظراً لإتسامها بقدر كبير من عدم الصبغة الثقافية “Culture Free” ولعظيم مردوداتها الحياتية – ولا ينفي ذلك أن بعض فروع العلوم الإجتماعية قد ظلت “بين بين” لشدة إتصالها بالأبعاد الثقافية والحضارية وإن كان ذلك لا ينفي ان تغلغلاً غير يسير للبعد العالمي في هذه العلوم قد تحقق. ومقاومة “عالمية المعرفة” قد تبدو للبعض لاسيما في الواقع العربي سمة طبيعية من سمات المجتمعات القديمة – ولكن من الأرجح أنها ليست كذلك: فالصين مجتمع قديم ولكن الواقع يؤكد أن الجاليات الصينية في جنوب شرق آسيا كانت هي طليعة الطفرات التي قامت على قيم من أهمها عالمية المعرفة… واليابان مجتمع قديم ولكنه المجتمع الرائد في عدد من قيم التقدم وفي مقدمتها عالمية المعرفة … وكذلك الهند التي رغم كونها مجتمعاً قديماً وذاخراً بالمشكلات الإجتماعية فقد كانت المؤسسات العلمية فيها نموذج نادراً للمؤسسات العلمية التي لم تتدهور في العالم الثالث وكانت جسورُ البحوث العلمية والتكنولوجية ممتدة بينها وبين العالم وهو ما أدى إلى الكثير من الإنجازات لعل أهمها الإنجاز الهندي في صناعة السلاح ثم التألق الهندي الفذ في عالم الكمبيوتر وتكنولوجيا المعلومات.
وتفسيري الخاص أن المجتمعات العربية بقت بعيدة إلى حد بعيد عن مزايا عالمية المعرفة بسبب التدهور الكبير في مؤسساتها التعليمية ومراكز البحث العلمي كنتيجة لخضوع هذه المؤسسات والمراكز للحياة السياسية في هذه المجتمعات وهو ما جعل هذه المؤسسات والمراكز منبتة الصلة بحركة العلوم في العالم كما است أصلت روح الإبداع منها وحولتها إلى كيانات راكدة تفرز تعليماً لا علاقة له بالعصر والحياة ومنبت الصلة بحركة البحث العلمي في كل مجالات العلوم التطبيقية والإجتماعية وكانت الترجمة النهائية لذلك هو الغياب العربي المطلق في دوائر الإنجازات العلمية والبحوث المتألقة في كل مجالات العلوم التطبيقية ودوائر بحوث العلوم الإجتماعية على السواء…. يتبع
© منبر الحرية، 09 أبريل 2009

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

تواصل معنا

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018