أنور إبراهيم

peshwazarabic21 نوفمبر، 20100

في الحرب ضد الإرهاب، تعتبر الولايات المتحدة جنوب شرق آسيا كـ”جبهة ثانية”، مع تركيز الاهتمام على الجماعات الإسلامية الراديكالية، التي يقال إنها تعمل مع القاعدة. هذا الوصف يُغاير تقاليد المنطقة في التسامح، وتوجهها التقدمي الثابت، فيما يتعلق بأهمية حكم القانون والمحافظة على حقوق الإنسان. ومع أن مرتكبي ومزودي العنف يستحقون العقاب السريع، فإن التوجهات الراديكالية في العقد القادم لا يمكن وقفها إلا بالتأكيد على التقاليد السلمية والديمقراطية في المنطقة، بدلاً من إعطاء الحكومات صكاً مفتوحاً للدوس على حقوق الإنسان، والحريات المدنية، باسم الأمن الوطني.
في محاولات رسم صورة عن تأثير الإسلام في حكومات جنوب شرق آسيا، فإن صنّاع السياسة وكذلك الأكاديميين ينحون إلى النظرة إلى الإسلام نظرة ثنائية مزدوجة: إنه إما معتدل أو متطرف، ليبرالي أو محافظ، داعية إصلاح أو تقليدي. هذا بطبيعة الحال هو عودة إلى التشويه الذي مارسه المستشرقون في الماضي والذي اتسم بنزعته إلى إطلاق أحكام كاسحة عامة. نستعيد إلى الذاكرة، على سبيل المثال، كتاب كليفورد جيرتز، ديانة جاوة (كلينكو: فري برس، 1960)، حيث ينظر إلى مجتمع جاوة بشكل أساسي، بالنسبة لتوجهاته الدينية بأنه ذو قطبين—ما بين سانتري وأبانجان، الأول ممثلاً للأقلية الدينية الزاهدة بقيادة كييه، والتي تعيش في مجتمعات تعاونية، والثاني، ويشمل غالبية سكان جاوة، الذين يصفهم بأنهم مسلمون بالاسم، من حيث أنهم مرتبطون جداً بالأشكال الفنية والممارسات في عصر ما قبل الإسلام، وإلى حد كبير ليسوا مهتمين بواجباتهم الدينية. هذه المجتمعات التعاونية “البيزانترن”، مثلها مثل المدارس في أجزاء أخرى من جنوب شرق آسيا، وكذلك في الباكستان، ينظر إليها الآن بأنها الوعاء الساخن الذي يُولِّد الإسلاميين المتشددين. نتيجة مثل هذا التصور هي وضع منظمات قائمة على المبادئ الإسلامية في قفص الاتهام، ونعتها بالراديكالية، مع توجه بالتحول إلى كيانات إرهابية، أو التعاون مع المنظمات الإرهابية، وهي، دون شك، ظاهرة لعقلية منحازة وجامدة في عدائها للإسلام، والتي تحول دون التمييز بين الإسلام السياسي العام، وبين أطرافه المتطرفة.
هذه النظرة المبسطة، يشارك فيها لسوء الحظ رجال دولة متنوّرون في المنطقة. إن استجابتهم للراديكالية تمثلت في وصفات سياسية تستند إلى القوة النارية، والقوة الاقتصادية، وتوجه علوي تجاه المجتمعات الإسلامية. مثل هذه السياسة، بكل تأكيد، لا يمكن الاستمرار فيها على المدى الطويل، كما لا يمكن اعتبارها مستندة إلى الحكمة وبُعد النظر. إنها تفشل في الاعتراف بأن بلداناً غالبيتها إسلامية مثل ماليزيا وإندونيسيا، استطاعت في الماضي وقف انتشار الحركات الشيوعية بفعالية، مثل حزب الملايو الشيوعي وحزب بارتاي كوميونس إندونيسيا (الحزب الشيوعي الإندونيسي).
على سبيل المثال، الرأي السائد الذي يعزو فشل الثورة الشيوعية في ماليزيا حصراً إلى سياسات القوى الاستعمارية البريطانية في “كسبها لعقول وقلوب” الناس، هو رأي خاطئ، من حيث أنه يتجاهل دور العلماء المسلمين ومنظماتهم في مقاومة الحرب السيكولوجية للشيوعيين. كما أنه يتجاهل التاريخ الطويل للاعتدال الذي يجسد الإسلام في جنوب شرق آسيا، والذي مَكَّن المجتمعات من مقاومة الهجمات الفكرية العقائدية التي حدثت في العقود الأولى من القرن الماضي في الشرق الأوسط. السياسات الصائبة للتعامل مع المسلمين لا يمكن أن تُرسم بدون فهم عميق لهذه التجربة التاريخية الفريدة، ومثل هذا الفهم لا يمكن أن يتأتى من النظرات النمطية والكليشهات للإسلام، كما لا يمكن أن يتأتى من النظر إلى الإسلام السياسي بأنه كتلة كبيرة خطرة. التوجه يجب أن يستند إلى التزام مستدام للبناء على طابع الاعتدال الغالب الذي يتسم به، والمساعدة بكل الوسائل الممكنة للحفاظ على هذا التراث، في الوقت الذي تتم فيه مكافحة العناصر الأكثر راديكالية.
لسوء الحظ، الحكومات في المنطقة قد تخلّت عن استراتيجية أكثر اعتدالاً من حيث التسامح والتعايش، في الوقت الذي انتهجت فيه سياسات نمو اقتصادي. بيد أنها اعتنقت بدلاً من ذلك ديانة جديدة تحت شعار محاربة الإرهاب. وفي فعل ذلك، فإنها تمشي على قشر بيض بالتحالف مع الولايات المتحدة، التي تتسم سياستها الخارجية بذلك التصميم “الولسوني” الذي قادها إلى غزو العراق بمفردها. لذا، فليس من المستغرب أن تعامل الوصفات الصادرة من أمريكا بالشك، وبالأخص من قبل المجتمعات الإسلامية والتي ترى أنماطاً من القوانين الصارمة التي تكتنفها السرية، والتي أصبحت الآن تطفو على السطح، من قبل متآمر معها غير متوقع.
لا شك بأن هذا يجسّد ارتفاع المشاعر المعادية لأمريكا. بيد أن انتشار الراديكالية الإسلامية في جنوب شرق آسيا يجب أن يفهم في الإطار الأوسع لتاريخ المنطقة، وليس فقط من منظار 11 أيلول. وبينما تؤخذ بعين الاعتبار الأسباب الخارجية، مثل التعاطف مع معاناة الفلسطينيين، أو الاحتلال الظالم للعراق كمبررات لجو العداء، فإن بالإمكان دون طول عناء، وبعد الفصل بين الرومانطيقية والحقائق الثابتة، إدراك أن القضايا الملحة هي ذات جذور محلية، وأكثر تنويعاً بكثير من اليافطة العامة التي تنسبها إلى القاعدة.
وفي النظر إلى المستقبل، هنالك تحديات عديدة يتوجب معالجتها على امتداد جنوب شرق آسيا. ففي جنوب تايلندا، حيث تزداد الراديكالية بين المسلمين، والتي تتصدر العناوين للأسباب الخطأ، يتوجب على القوى ذات الفعالية أن تعالج الأسباب الجوهرية والتي تعود إلى عدة قرون من المطالبة بالحكم الذاتي. مرة أخرى، فإن سياسة قائمة على أساس جهود منتظمة لمحو لغة المجتمع الأم، وبغض النظر عن أنها تستند إلى تمييز عرقي، فإنها محكومة بالفشل. لحسن الحظ، فإن التصريحات التي أطلقتها مؤخراً سلطات تايلندا، والتي أعربت فيها عن استعدادها للتفاوض مع الانفصاليين، هي تطور إيجابي يفسح الأمل بإمكانية التوصل إلى حل عادل للقضية.
وبينما نحن نعرف بأن سلسلة الانفجارات الإرهابية التي وقعت في مانيللا مؤخراً كانت أقرب إلى نمط انفجارات بالي، فيجب أن لا تنسى السلطات بأن انتفاضة المورو في جنوب الفيليبين قد مضى على اندلاعها أكثر من عشرين عاماً، وأنها نشأت من عوامل سياسية، واجتماعية–اقتصادية، ليس لها علاقة بموجة الإرهاب الراهنة. إن لها كل العلاقة بتهميش المسلمين الفقراء، بحيث أنه إذا استمرت تلك المظالم دون معالجة، فإن الجماعات الراديكالية لا بد وأن تنمو.
لقد تجاوزت إندونيسيا “النظام الجديد”، ودخلت في عصر الإصلاح، بعد أن خلصت من الخراب الذي أنزلته الدكتاتورية العسكرية. مَن نحن لكي نذكرهم بشرور حكومة قائمة على الاستبداد، والإكراه والقمع؟ وعلى النقيض من ذلك، يجب أن نتعلم دروساً من النتائج المُرَّة التي عانينا منها نتيجة مثل تلك الحقبة الطويلة من السلطة المطلقة غير المقيّدة، والتي شهدت أيضاً انفجار العنف والقتل والدماء بين الطوائف الإثنية.
وفي هذا المجال، فإن الدعوات العرقية التي يطلقها بعض القادة هي تذكير مخيف للسياسة المدمرة التي تتولد عن الحكم المطلق. عندما توضع السياسات الحكومية على أسس شوفينية، مصحوبة بممارسات قائمة على الانحياز، فإن عدم الرضا هو النتيجة الحتمية. يجب أن تعالج هذه القضية في الجوهر، في الوقت الذي يتاح فيه للمجتمع المدني بأن يزدهر. يجب أن توسَّع المجالات الديمقراطية، لا أن تتقلص مساحاتها.
في ماليزيا، فإن الدعوة التي تطلقها الجماعات المنشقة هي التحرك فيما هو أبعد من إطار السياسة الاقتصادية الجديدة الذي مضى عليه أكثر من عقد، والتقدم نحو وضع مخطط لتضييق الهوة الاقتصادية القائمة على أسس إثنية. هذا التصور الجديد هو على نقيض كبير من تصريحات ونصائح لي كوان يو الأخيرة لجارات سنغافورة، والتي يدعو فيها إلى عدم تهميش المواطنين الصينيين. إن أقواله تجسد الجيل القديم من القادة، الذين كانت عقولهم حبيسة الأطر السياسية المستندة إلى العرق، والتي تمنع انسجاماً اجتماعياً أعظم وتنمية أوسع. ماذا عن معاناة غالبية أهل ماليزيا، والهنود، وما يُقَدَّر بحوالي 40 مليون معدم في أندونيسيا، أو حتى معاناة الأقلية الماليزية في سنغافورة؟
لا يمكن أن ننفي بأن الإرهاب المستورد قد أوقد النار الراديكالية، وأدى إلى أعمال مشينة في المنطقة. إن ذلك كان بشكل واضح انحرافاً يقتصر على جيوب صغيرة. ولكن، سوف يكون قصر نظر إذا كانت السياسات التي سوف تطبق في جنوب شرق آسيا جواباً على تلك المخاطر والتهديدات، سياسات اليد الثقيلة، والتي تمليها إلى حد كبير متطلبات تعزيز علاقات مع دولة عظمى. فعن طريق طرح الأسئلة الصحيحة، والتوصل إلى نتائج صحيحة، يبدو جلياً أنه يتوجب العمل بجدية لمعالجة الأسباب، لتفادي المخاطرة بإشعال نيران الفتنة. إن أملي هو أننا في آسيا نستطيع في العقد القادم أن نكتشف الثقة والإرادة للاعتراف بحقوق الناس، وأن نعارض أولئك الذين يودون سلب تلك الحقوق والحريات. وفي الوقت الذي تمضي فيه المنطقة نحو الديمقراطية، فإنها يجب أن تتمسك بالتعددية الثقافية، وأن تعمل على تأييد سياسات النمو الاقتصادي، وسياسات السوق، التي تضمن تنمية مستدامة. إن مستقبلا مزدهرا هو جزء لا يتجزأ من التزام حازم بمبادئ التوزيع العادل، وحكم القانون، والاحترام العميق لحقوق الإنسان.
بالتنسيق مع دورية اقتصاد الشرق الأقصى (فار إيسترن إيكونوميك ريفيو)، تشرين الثاني 2006.
© معهد كيتو، مصباح الحرية، 21 تشرين الثاني 2006.

peshwazarabic16 نوفمبر، 20100

وُصفت الانتخابات التي سوف تجري في تركيا خلال هذا الشهر بأنها معركة من أجل السيطرة على روح الأمة. ولكن بعيداً عن كونها معركة بين العلمانية والإسلام، كما يحلو للبعض أن يعتقد، فإن المعركة هي في الحقيقة صراع بين قوى الحرية والديمقراطية من جهة وبين السلطوية من الناحية الأخرى.
نتيجة الانتخابات سوف تقرر ما إذا كانت تركيا سوف تواصل طريق التحديث الذي اتبعته خلال السنوات الخمس الماضية تحت حكومة حزب العدالة والتنمية الحاكم، أو أن تعود بالخطى إلى الوراء حيث تصبح القوة موازية للحق، والقوة تتحقق من خلال فوهة البندقية. هل سيكون هناك قرار لتحقيق توافق جديد بين الدولة والمواطنين يكون مقبولاً ومنسجماً مع تراث تركيا الإسلامي وثقافتها العلمانية السياسية، أو هل ستتمكن القوة العسكرية من اغتصاب حق الشعب في اختيار حكومته والنيل من صلاحية الحكومة في خدمة الشعب؟
المظاهرات التي جرت في أنقرة في شهري نيسان وأيار أثارت شبح الإسلام الراديكالي كسبب للتحايل على العملية الديمقراطية. ولكن توصيف هذه الحكومة بعناصر الإسلام الراديكالي هو افتئات صارخ على الحقيقة. فهذه حكومة ملتزمة بشكل واضح بعملية المحافظة على الديمقراطية مهما كلف الأمر، في الوقت الذي تأخذ فيه خطوات ملموسة لإزالة ما يحيط بالأحزاب ذات الصلة الإسلامية من سوء فهم. ومع أن قواعد الدولة التركية العلمانية كانت ترتكز في الماضي على القوة العسكرية فإننا اليوم نرى أخيراً حكومة مدنية انتخبت انتخاباً ديمقراطياً وليست في حاجة إلى وصف الدين بالشيطان. إن خطوات رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان الشجاعة في توجهه لعضوية الاتحاد الأوروبي، وبالأخص في حقل الإصلاح القانوني، يجب أن يزيل أيضاً أية شكوك حول إيمان تركيا بالديمقراطية.
منذ أوائل عقد الثمانينات من القرن الماضي، كانت السياسة التركية تتسم بوجود دولة قوية ومجتمع مدني ضعيف، كانت فيه الحقوق الفردية مقبولة فقط في حالة انسجامها مع التصور الوسطي. كانت تهيمن على الانتخابات في تلك الحقبة الإجراءات الكاسحة لخنق والنيل من المجموعات المعارضة على امتداد الساحة السياسية. بيد أن تلك الإجراءات المناهضة للديمقراطية قد بدت، حتى وقعت التطورات الأخيرة، وكأنها أصبحت في سلة التاريخ، نتيجة للانتخابات البرلمانية التاريخية التي جرت في عام 2002.
إن الالتزام بالعملية الديمقراطية يُمثل تحولاً مفصلياً في السياسات التركية والذي من خلاله تم ترجمة إرادة الشعب على سياسات اقتصادية حكيمة، وإلى تعظيم الرفاه الاجتماعي وإلى دفع عملية الاندماج بشكل أكبر مع أوروبا. وعلى نقيض واضح من تهديدات العسكريين بالتدخل، فقد أبدى قادة تركيا إرادة واضحة والتزاماً بالمضي في عملية الإصلاح.
إن تداعيات تدخل عسكري سوف تكون بعيدة المدى وغاية في الخطورة. لا حاجة إلى إعادة بعث الذنوب التي ارتكبت في الجزائر. وبينما أن بنود الدستور في تركيا تحول دون إمكانية خطف العملية الانتخابية، فإن من غير المحتمل أن يقبل الشعب التركي بمثل تلك الحركة بسهولة لو حدثت بالفعل. عندها يمكننا أن نتوقع بأن المفاوضات مع المجموعة الأوروبية سوف تنحل فوراً، الأمر الذي يرضي تلك الحكومات في أوروبا التي كانت منذ البداية عازمة على إقصاء تركيا. إن النمو غير المسبوق الذي حققه الاقتصاد التركي سوف يتباطأ دون شك. وفي نهاية المطاف يمكن أن نشاهد انهيار الجسر الحضاري الذي تقوم اسطنبول ببناءه بين الشرق والغرب.
ومن الأمور التي تدعو إلى القلق أيضاً هو أن مثل ذلك الحدث سوف يكون بمثابة خيانة لتطلعات المسلمين الديمقراطيين في تركيا وعلى امتداد العالم الإسلامي. ذلك أن تركيا، مثلها مثل إندونيسيا، تعتبر على نطاق واسع كحالة تجربة لإظهار التوافق بين السياسة الإسلامية والديمقراطية. إنها تعبير عن السلام والتطور الذي أثار اهتمام المسلمين وأوقد جذوة الفخر على المستوى الدولي. الراديكاليون بكل تأكيد سوف يستخدمون انقلاباً يحدث كدليل على النفاق الغربي في الدعوة إلى الحرية والديمقراطية في العالم الإسلامي من جهة، في الوقت الذي يُدير فيه بصره عن الحكم السلطوي. ولسوف يفقد المعتدلون الأرضية التي يقفون عليها في منطقة تعمها الراديكالية والتي تُأجج نيرانها الأوضاع المتردية في العراق والفشل في حل الصراع العربي-الإسرائيلي.
في الأيام القادمة سوف يتم كشف النقاب عن الألوان الحقيقية لمن يملكون زمام الأمر في هذه المسرحية. وكواحدة من أوثق حلفائها فإن من حق تركيا أن تتوقع بأن الغرب لن يقدم أي دعمٍ علني أو غير علني إلى أية محاولة لإخراج الديمقراطية عن مسارها. إن الفشل في إظهار تأييدٍ تام للديمقراطية التركية من شأنه أن يشكل دعوة قوية نحو التطرف سواءٌ كان إسلامياً أو علمانياً وأن تُتيح له النمو بحرية. بكل تأكيد، فإن أولئك الذين يدعون بأنهم يمثلون تطلعات الدولة التركية الحديثة قد ينجحون في إسقاط الحكومة الحالية، وبالأخص عندما يكونون مستندين إلى القوة العسكرية المجردة. ولكن مثل ذلك سوف يكون نصراً مزيفاً، لأن الثمن سوف يكون الحرية والديمقراطية نفسيهما.
© معهد كيتو، منبر الحرية، 18 تموز 2007.

peshwazarabic15 نوفمبر، 20100

واجهت القيادة البريطانية في الشهر الماضي تساؤلات جدية حول دورها في تقدُّم التنمية الدولية. كان قرارٌ واحدٌ كافياً لنقض كل شيء إيجابي تقريباً قامت به بريطانيا حتى الآن. ما هو معرّض للخطر الآن هو قدرة القيادة البريطانية على إقناع الآخرين بإلغاء ديون “العالم الثالث” البغيضة، وقدرتها على العمل على زيادة مساعدات التنمية الخارجية من أغنى شعوب العالم، وفي حملتها لإيجاد المساءلة والحكم الرشيد في مجالات العمل وحقوق الإنسان الأوسع والأمن البيئي.
هذا العمل المفرد كان، بالطبع، هو قرار المدعي العام البريطاني بوقف التحقيق الذي يقوم به مكتب مكافحة الاحتيال حول الفساد المزعوم في مفاوضات وتنفيذ عقود بين شركة بي. إيه. إي. وحكومة المملكة العربية السعودية. أريد أن أكون واضحاً فالذنب هو اختصاص أساسي لمكتب مكافحة الاحتيال. إلا أن التدخل الحكومي في عمل هذا المكتب يلقي بظلال من الشك على مدى استقلاليته ومدى التزام الحكومة بالشفافية والمساءلة.
الحقائق معروفة جيداً، لذا فإنني سوف لن أكررها بأي قدر من العمق هنا. من جهة كان هناك عقد تجاري ضخم لتوريد معدات عسكرية كانت له، حتى الوقت الذي تدخل فيه مكتب مكافحة الاحتيال، كل الاحتمالات بأنه سيحقق فائدة اقتصادية لبريطانيا، وفائدة تجارية لـ بي. إيه. إي. وفائدة أمنية للمملكة العربية السعودية ومواطنين آخرين في المنطقة. وقد قيل لنا أن خسارة العقد قد جعلت 100.000 مواطن بريطاني يفقدون وظائفهم، وهذا فشل ينبغي ألا يستهان به في ضوء الاضطراب الاجتماعي والتعاسة الشخصية والعائلية التي قد تنجم عن وضع كهذا. إضافة لذلك فإن إلغاء العقد كان من شأنه إلحاق أضرار خطيرة بالمصالح التجارية لـ بي. إيه. إي. وعدد من الشركات المرتبطة بها. وقد بدا ذلك واضحاً من حقيقة أن مؤشر الفايننشال تايمز للأسهم في البورصة البريطانية قد تفاعل إيجابياً مع قرار المدعي العام بإلغاء التحقيق حيث حقق المؤشر أرقاماً عالية جديدة.
تتضح المعاني الأعمق لقرار الحكومة البريطانية إذا نظرنا إليه من وجهة نظر أولئك الذين ضحوا بحياتهم في بلدان أخرى في سبيل مكافحة الفساد. إن سقوطي شخصياً من منصب نائب رئيس الوزراء في الحكومة الماليزية إلى حالة من الحبس الانفرادي بسبب قراري تحدي الفساد المنتشر في حكومة الدكتور مهاتير التي كانت في الحكم آنذاك، كان يعني أنني اخترت الانضمام إلى صفوف الآخرين الذين اتخذوا موقفاً بتكلفة شخصية باهظة، لأنهم كانوا يعرفون أن الفساد لن يسيء فقط إلى سمعة الحكومة بل وسيتسرب أخيراً إلى النسيج الأخلاقي للمجتمع الماليزي ويقوض قدرته على الأداء كمجتمع متحضر.
لقد قررت الحكومة البريطانية إلغاء تحقيق جنائي بسبب “مصالح وطنية” يمكن—كما قيل لنا—التذرع بها دستورياً لتجاوز سيادة القانون. سواء كان قد تم التوصل إلى هذا القرار من باب التشكيك الساخر أو بسبب إحساس معنوي وواجب وطني فإنه قد ألحق ضرراً كبيراً بعمل كثير من الناس في جميع أنحاء العالم ممن يلتزمون بمكافحة الفساد وتشجيع الحكومات والمؤسسات التي تخضع للمساءلة. أيّ مرجع ومثال أفضل بالنسبة للسياسيين ورجال الأعمال الفاسدين في سائر أنحاء العالم، حيث يصبح بوسعهم الاستشهاد بـ”المصالح الوطنية البريطانية” في تبرير المحاباة والمحسوبية أو الرشوة الفاجرة المباشرة!
يتخذ هذا القرار الخاطئ مكانه إلى جانب الأخطاء البارزة الأخرى في الذاكرة القريبة والتي تقوض مصداقية الغرب كعامل للإصلاح في العالم النامي: مشروعكم في إفريقيا غدا ميتاً كأنه لم يولد أبداً؛ والجهود لإقناع الشركات والحكومات للمصادقة على مبتكراتِ مساءلةٍ هامة مثل مبادرات الشفافية في الصناعات الاستخراجية (وربما كيوتو أيضاً؟) قد أصبحت أكثر صعوبة بكثير إن لم تكن مستحيلة؛ وصوتكم الأخلاقي الدولي، سواءً كان يتعلق بروسيا أو الصين أو معاملة الولايات المتحدة للإرهابيين المشتبه بهم، فَقَدَ صداه.
وليس هذا كل شيء، فبريطانيا جزء من نادي النخبة في “المجتمع الدولي” الذي يؤثر على الأجندات المحلية والإقليمية ونتائجها. هذا المجتمع الدولي، رغم كل عيوبه، كان عنصراً هاماً للغاية في كل حملة مساءلة كبرى تم شنها في بلدان العالم. لقد تضرر هذا المجتمع أصلاً بشدة بسبب غزو العراق وبسبب رمز التعددية الذي جرى إضعافه، وهو الأمم المتحدة. لقد ألحق سلوك بريطانيا ضرراً عميقاً بالمجتمع الدولي بكامله وأضعف قدرته على التحدث بمصداقية وقدرة الآخرين على الإصغاء على حد سواء.
تخيل سيناريو آخر يفيق فيه العالم على أنباء مفادها أن الحكومة البريطانية قد اختارت الاستمرارية في التحقيق، وأنها تقدم أسفها لـ بي. إيه. إي. وعملائها في الشرق الأوسط، ولكنها تعيد، نيابة عن الشعب البريطاني، تأكيد رغبتها في إدامة القيام بدور قيادي عالمي في الوقوف ضد الفساد وكل ما يتفرع عنه سواءً في الداخل أو في الخارج. لو حصل ذلك فسينهض دون شك العديد من القادة في قطاعات السياسة والأعمال والمجتمع المدني للتصفيق لهذا القرار ولتأكيد أنهم لم يعودوا يتحملون مقولة “الأعمال تجري كالمعتاد”.
وماذا عن شركة بي. إيه. إي. والسعوديين؟ نحن لا نعرف بالطبع ما إذا كان سيكون هناك أساس للادعاءات أو ما إذا كان السعوديون سينسحبون من الموضوع برمته. بيد أنه ليس هناك مصالح سياسية أو تجارية تستحق التكاليف الأوسع لهذا القرار. الواقع أن الموافقة المدوية التي كانت ستأتي من أطراف عديدة أخرى قد تفتح صفحة جديدة في الدور الدولي لبريطانيا في العالم وربما في الوقت المناسب. إني أشارك الآخرين قلقهم حول مصير الأشخاص الذين قد يفقدون وظائفهم، إذا دخل الفرنسيون، كما يشاع، على الخط لاقتناص الفرصة. ليس ثمة اعتذار هنا يساوي قيمة الورق الذي تمت كتابته عليه، وأود فقط أن أحث الحكومة البريطانية على استخدام الموارد المتاحة لإحدى أغنى البلدان في العالم لتعويض ومساعدة العائلات والمجتمعات المتضررة.
© معهد كيتو، منبر الحرية، 30 كانون الثاني 2007.

peshwazarabic1 نوفمبر، 2010

عمل وزيراً للتربية والتعليم، ووزيراً للمالية، ونائباً لرئيس الوزراء في ماليزيا. وقد تم الحكم عليه بالسجن عام 1998 حيث كان ضحية لمحاكمة مشحونة سياسياً وقضى ست سنوات في السجن قبل أن تلغي المحكمة الفيدرالية الماليزية التهم التي وجهت إليه مما أدى إلى إطلاق سراحه في شهر أيلول 2004. وهو يعمل حالياً أستاذاً زائراً في كلية السلك السياسي الخارجي في جامعة جورج تاون بواشنطن العاصمة، ورئيساً فخرياً للمنظمة غير الحكومية “أكاونت-أبيليتي”، ومقرها لندن.

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

تواصل معنا

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018