peshwazarabic15 نوفمبر، 20100

واجهت القيادة البريطانية في الشهر الماضي تساؤلات جدية حول دورها في تقدُّم التنمية الدولية. كان قرارٌ واحدٌ كافياً لنقض كل شيء إيجابي تقريباً قامت به بريطانيا حتى الآن. ما هو معرّض للخطر الآن هو قدرة القيادة البريطانية على إقناع الآخرين بإلغاء ديون “العالم الثالث” البغيضة، وقدرتها على العمل على زيادة مساعدات التنمية الخارجية من أغنى شعوب العالم، وفي حملتها لإيجاد المساءلة والحكم الرشيد في مجالات العمل وحقوق الإنسان الأوسع والأمن البيئي.
هذا العمل المفرد كان، بالطبع، هو قرار المدعي العام البريطاني بوقف التحقيق الذي يقوم به مكتب مكافحة الاحتيال حول الفساد المزعوم في مفاوضات وتنفيذ عقود بين شركة بي. إيه. إي. وحكومة المملكة العربية السعودية. أريد أن أكون واضحاً فالذنب هو اختصاص أساسي لمكتب مكافحة الاحتيال. إلا أن التدخل الحكومي في عمل هذا المكتب يلقي بظلال من الشك على مدى استقلاليته ومدى التزام الحكومة بالشفافية والمساءلة.
الحقائق معروفة جيداً، لذا فإنني سوف لن أكررها بأي قدر من العمق هنا. من جهة كان هناك عقد تجاري ضخم لتوريد معدات عسكرية كانت له، حتى الوقت الذي تدخل فيه مكتب مكافحة الاحتيال، كل الاحتمالات بأنه سيحقق فائدة اقتصادية لبريطانيا، وفائدة تجارية لـ بي. إيه. إي. وفائدة أمنية للمملكة العربية السعودية ومواطنين آخرين في المنطقة. وقد قيل لنا أن خسارة العقد قد جعلت 100.000 مواطن بريطاني يفقدون وظائفهم، وهذا فشل ينبغي ألا يستهان به في ضوء الاضطراب الاجتماعي والتعاسة الشخصية والعائلية التي قد تنجم عن وضع كهذا. إضافة لذلك فإن إلغاء العقد كان من شأنه إلحاق أضرار خطيرة بالمصالح التجارية لـ بي. إيه. إي. وعدد من الشركات المرتبطة بها. وقد بدا ذلك واضحاً من حقيقة أن مؤشر الفايننشال تايمز للأسهم في البورصة البريطانية قد تفاعل إيجابياً مع قرار المدعي العام بإلغاء التحقيق حيث حقق المؤشر أرقاماً عالية جديدة.
تتضح المعاني الأعمق لقرار الحكومة البريطانية إذا نظرنا إليه من وجهة نظر أولئك الذين ضحوا بحياتهم في بلدان أخرى في سبيل مكافحة الفساد. إن سقوطي شخصياً من منصب نائب رئيس الوزراء في الحكومة الماليزية إلى حالة من الحبس الانفرادي بسبب قراري تحدي الفساد المنتشر في حكومة الدكتور مهاتير التي كانت في الحكم آنذاك، كان يعني أنني اخترت الانضمام إلى صفوف الآخرين الذين اتخذوا موقفاً بتكلفة شخصية باهظة، لأنهم كانوا يعرفون أن الفساد لن يسيء فقط إلى سمعة الحكومة بل وسيتسرب أخيراً إلى النسيج الأخلاقي للمجتمع الماليزي ويقوض قدرته على الأداء كمجتمع متحضر.
لقد قررت الحكومة البريطانية إلغاء تحقيق جنائي بسبب “مصالح وطنية” يمكن—كما قيل لنا—التذرع بها دستورياً لتجاوز سيادة القانون. سواء كان قد تم التوصل إلى هذا القرار من باب التشكيك الساخر أو بسبب إحساس معنوي وواجب وطني فإنه قد ألحق ضرراً كبيراً بعمل كثير من الناس في جميع أنحاء العالم ممن يلتزمون بمكافحة الفساد وتشجيع الحكومات والمؤسسات التي تخضع للمساءلة. أيّ مرجع ومثال أفضل بالنسبة للسياسيين ورجال الأعمال الفاسدين في سائر أنحاء العالم، حيث يصبح بوسعهم الاستشهاد بـ”المصالح الوطنية البريطانية” في تبرير المحاباة والمحسوبية أو الرشوة الفاجرة المباشرة!
يتخذ هذا القرار الخاطئ مكانه إلى جانب الأخطاء البارزة الأخرى في الذاكرة القريبة والتي تقوض مصداقية الغرب كعامل للإصلاح في العالم النامي: مشروعكم في إفريقيا غدا ميتاً كأنه لم يولد أبداً؛ والجهود لإقناع الشركات والحكومات للمصادقة على مبتكراتِ مساءلةٍ هامة مثل مبادرات الشفافية في الصناعات الاستخراجية (وربما كيوتو أيضاً؟) قد أصبحت أكثر صعوبة بكثير إن لم تكن مستحيلة؛ وصوتكم الأخلاقي الدولي، سواءً كان يتعلق بروسيا أو الصين أو معاملة الولايات المتحدة للإرهابيين المشتبه بهم، فَقَدَ صداه.
وليس هذا كل شيء، فبريطانيا جزء من نادي النخبة في “المجتمع الدولي” الذي يؤثر على الأجندات المحلية والإقليمية ونتائجها. هذا المجتمع الدولي، رغم كل عيوبه، كان عنصراً هاماً للغاية في كل حملة مساءلة كبرى تم شنها في بلدان العالم. لقد تضرر هذا المجتمع أصلاً بشدة بسبب غزو العراق وبسبب رمز التعددية الذي جرى إضعافه، وهو الأمم المتحدة. لقد ألحق سلوك بريطانيا ضرراً عميقاً بالمجتمع الدولي بكامله وأضعف قدرته على التحدث بمصداقية وقدرة الآخرين على الإصغاء على حد سواء.
تخيل سيناريو آخر يفيق فيه العالم على أنباء مفادها أن الحكومة البريطانية قد اختارت الاستمرارية في التحقيق، وأنها تقدم أسفها لـ بي. إيه. إي. وعملائها في الشرق الأوسط، ولكنها تعيد، نيابة عن الشعب البريطاني، تأكيد رغبتها في إدامة القيام بدور قيادي عالمي في الوقوف ضد الفساد وكل ما يتفرع عنه سواءً في الداخل أو في الخارج. لو حصل ذلك فسينهض دون شك العديد من القادة في قطاعات السياسة والأعمال والمجتمع المدني للتصفيق لهذا القرار ولتأكيد أنهم لم يعودوا يتحملون مقولة “الأعمال تجري كالمعتاد”.
وماذا عن شركة بي. إيه. إي. والسعوديين؟ نحن لا نعرف بالطبع ما إذا كان سيكون هناك أساس للادعاءات أو ما إذا كان السعوديون سينسحبون من الموضوع برمته. بيد أنه ليس هناك مصالح سياسية أو تجارية تستحق التكاليف الأوسع لهذا القرار. الواقع أن الموافقة المدوية التي كانت ستأتي من أطراف عديدة أخرى قد تفتح صفحة جديدة في الدور الدولي لبريطانيا في العالم وربما في الوقت المناسب. إني أشارك الآخرين قلقهم حول مصير الأشخاص الذين قد يفقدون وظائفهم، إذا دخل الفرنسيون، كما يشاع، على الخط لاقتناص الفرصة. ليس ثمة اعتذار هنا يساوي قيمة الورق الذي تمت كتابته عليه، وأود فقط أن أحث الحكومة البريطانية على استخدام الموارد المتاحة لإحدى أغنى البلدان في العالم لتعويض ومساعدة العائلات والمجتمعات المتضررة.
© معهد كيتو، منبر الحرية، 30 كانون الثاني 2007.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.
جميع الحقول المشار إليها بعلامة * إلزامية

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

تواصل معنا

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018