دهام حسن

peshwazarabic16 نوفمبر، 20100

يعد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الذي أصدرته الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1948م، وثيقة تاريخية هامة، وإنجازا كبيرا على صعيد حقوق بني البشر، فقد جاء الإعلان إقرارا بكرامة الإنسان، واعترافا بحقوقه في المساواة والعدالة، والحياة الحرة والكريمة؛ وقد أشارت الجمعية العامة إلى كافة البلدان على أهمية نشر الإعلان وتوزيعه وإدراجه كبرنامج تثقيفي في المدارس والمعاهد التدريسية، وكل هذا جاء ابتغاء لعالم يتمتع فيه الفرد بكافة حقوقه، في إطار من الأمن والعيش الكريم بعيدا عن الخوف وذلّ الحاجة، وكم تذكرنا المادة الأولى من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، بقول الخليفة عمر بن الخطاب وهو يزجر أحد المنتهكين بعدوانيته إزاء حقوق إنسان آخر: (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا).. قارنوا قول الخليفة هذا بالمادة الأولى من الإعلان العالمي والتي نصّها: (يولد جميع الناس أحرارا متساوين في الكرامة والحقوق، وقد وهبوا عقلا وضميرا، وعليهم أن يعامل بعضهم بعضا بروح الإخاء) فليت الإسلام السياسي اليوم، أن يقتدي بقول عمر، ويأخذ في البال الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، ويضنّ بالتالي بأرواح البشر، لا أن يفجع الناس بمشاهد مروعة تقشعرّ لها الأبدان… ثم تشير المادة الثانية من الإعلان، على سواسية بني البشر، دون أي تمييز في القومية أو الدين أو اللون أو الجنس أو الرأي.. ثم تأتي المواد التالية، فتكمل شروط صون كرامة الفرد، وحقوقه، وتوفير الأمن، ومنع الاسترقاق، أو استعباد أي فرد، وعدم تعرض أي إنسان للتعذيب أو الحط من كرامة المرء…
إن مثل هذه الحقوق التي يتضمنها الإعلان العالمي، نفتقدها – للأسف – في عالمنا العربي، حتى أصبحنا نسمع هنا وهناك بوفاة إنسان ما تحت التعذيب، دون أن تكفل له التشريعات اللازمة باعتباره الشخصية القانونية كما يصرح بذلك الإعلان نفسه، الحماية اللازمة، ليدفع عن نفسه مثل هذا الأذى، ويلجأ إلى القانون لحمايته بالتالي، أو إلى القضاء لينصفه، كما يقر بذلك الإعلان في مواده الثامنة والتاسعة والعاشرة.. إن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان يضمن للفرد الكثير من الحقوق، ويجنبه كثيرا من التعديات والتجاوزات… فالمتهم بريء حتى تثبت إدانته، والحكم يأتي بعد أن يمثل الفرد أمام قضاء نزيه يوفر له الضمانات للدفاع عن نفسه… إن الإعلان يجيز للفرد حرية التنقل، ومغادرة بلاده، والبحث عن ملاذ آمن في بلد آخر هربا من الملاحقة والاضطهاد، ومن حقه بالتالي التمتع بجنسية بلد ما، فلا يحق لأية جهة أن تنتزع منه الجنسية تعسفا… كما إن الإعلان يبيح للفرد حق التملك، ويمنع بالتالي تجريده تعسفا من ملكه، فضلا عن هذا وذاك فالإعلان يعطي للفرد حق الانضمام إلى أية جمعية أو تنظيم، أهلي مدني، أو سياسي بمطلق الحرية والرغبة دون قسر أو إرغام..
الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، يرى ضرورة إيجاد فرص العمل للفرد بأجر عادل ومجز، وحمايته من البطالة، بغية تأمين نمط من العيش بعيدا عن العوز والفاقة، وتوفير ما يلزم لإتاحة الفرص في التعليم… وقد حذّر البيان في ختام مواده جميع المعنيين بذريعة أي تأويل، من النزوع إلى هدم الحقوق والحريات الواردة في الإعلان…
إذا ما انطلق واحدنا من الواقع العربي، وهو يستعرض مواد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، فسوف يجد نفسه، أمام واقع آخر، واقع مغاير، أمام مفارقة كبيرة، بين المبتغى في الإعلان والواقع العربي المعيش، حتى يخيّل لواحدنا أن الإعلان يرصد واقعا مثاليا يبتكره خيال الإنسان لا عقله؛ فما زالت النظم العربية بعيدة عن التعايش مع مبادئ أساسية في حياة البشر والدول، كالحرية والمساواة وإرساء أسس العدالة، لأن الشرط الأول الذي تقتضيه هذه المبادئ هو عدم حصر السلطة في حزب ما مثلا، أو حكرها من قبل جهة واحدة، لكن أنظمتنا العربية بعيدة عن هكذا مناخات من الديمقراطية،
فلطالما السلطة الحاكمة هي التي ترعى القوانين، فكثيرا ما تقوم بصياغتها من جديد، وتأويلها وتفسيرها بما يضمن لها التحكم والسيطرة والاستمرارية، وبالتالي نسف تلك الحقوق والمبادئ التي يشهّرها الإعلان… إن التجاوزات القائمة من قبل النظم العربية لا يمكن حصرها في مجال ما، فما زال تعذيب المعتقل الأمر المنكر والفظيع ممارسا من قبل غالبية السلطات العربية الحاكمة، ويشهد على ذلك ضحايا التعذيب حتى الموت، فضلا عن الاعتقال الكيفي، وزج العشرات في أقبية السجون دونما محاكمة، أو على أحسن تقدير محاكمة صورية، كما أن الحجز على حرية الفرد، ومنعه من السفر، وسحب جواز سفره.من الممارسات الاعتيادية، وأيضا محظور على مختلف الأحزاب والتنظيمات حق التظاهر السلمي، ولو كان في سبيل مسألة قومية أو وطنية، فالشعب هنا ليس مصدر السلطات، بل محكوم هو بإسار سلطة جائرة، تحكم عنوة، فلا تسمح السلطات  بالتعددية على صعيد الأحزاب والتنظيمات، وبالتالي لا تعددية في الآراء،  كحق التعبير خلال حشد جماهيري، أو تجمع  سلمي، أو حتى على صعيد نشر الصحف. فضلا عن حالات أخرى عديدة…
إن الإنسان هو ركن الحياة الأول دون منازع في الكون، وهو دائما ينزع إلى الكمال، وإن سعي الأمم المتحضرة للرقي بالإنسان إلى هذا الكمال المنشود، من خلال تمتعه بتلك الحقوق التي يفردها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، أمر محمود له ما يبرره، فإذا كان تحقيق هذه المبادئ عصي على التطبيق في بعض العوالم، منها العالم العربي، ولطالما أن تحقيق ذلك لا يدخل في خانة الاستحالة، فإذن ينبغي علينا أن نسعى ونناضل في سبيل تحقيق تلك المبادئ، وبمجرد السير في هذا الطريق، هو مناضلة  وإيمان بتلك المبادئ، فلا بدّ إذن من مواصلة النضال حتى يتحرر الإنسان من وطأة الظلم والطغيان، وليشهد حالة مريحة، تترجم فيها كثير من تلك المثل التي ضحّى من أجلها الإنسان منذ الأزل إلى حقائق واقعية، ليستمتع الفرد بنعم الحياة وفي مقدمتها حريته الوافرة، وكرامته المصونة.. ولقد كرّمنا بني آدم…
© منبر الحرية، 11 دجنبر/كانون الأول2009

peshwazarabic15 نوفمبر، 20100

إن المعارضة السياسية كمصطلح يقترن بالأحزاب السياسية، وقد تتمثل المعارضة بحزب واحد، أو مجموعة أحزاب، وهي ترتدي أشكالا متنوعة من النضال، فقد يكون نضالها مشروعا بقانون تشرّعه مؤسسات الدولة المعنية، وهذا ما تعترف به الدول التي تعتمد النظام الديمقراطي في إدارة الدولة، ومثل هذه النظم ضمنا تؤسس لمبدأ تداول السلطة، بالمقابل ثمة أنظمة ديكتاتورية تحظر على المعارضة النشاط السياسي كما حال كثير من بلدان العالم  ومن ضمنها الأقطار العربية، والمعارضة تتنوع أشكال نشاطها، فمنها من يمارس العمل السياسي السلمي، وأخرى قد تعتمد الكفاح المسلح، وقد تتطور الحالة سلبا أحيانا لتنتهي بحرب أهلية لا سيما في البلدان المقسمة عرقيا أو دينيا أو طائفيا، وحالة لبنان مازالت ماثلة أمامنا لا تغيب عن البال وقد ارتدت الطابع الديني، واليوم الصراع الطائفي مازال مرشحا  للانفجار، كما شهد العراق حالات مماثلة …
على العموم المعارضة السياسية تحمل عادة الطابع التنافسي، وتعني فيما تعنيه مخالفة الرأي السائد سلطويا، ومعارضة سياسة النظام، فلها هي أيضا رؤاها وتطلعاتها، وقد تطرح برنامجا سياسيا بديلا، ترسم فيه تصورها التنموي اجتماعيا واقتصاديا، فضلا عن تصورها لطبيعة وشكل الحكم وإدارة السلطة، وللحقيقة نقول: لا إصلاحات دون معارضة، ولا سياسة أصلا دون تعددية ومن التعددية  تنبثق المعارضة والتنافس، فحيوية المجتمعات تعود من بعض الجوانب، إلى التعددية السياسية، وإلى المعارضة  النشطة حيث تكون ندا للحكومة ومعارضا لها، وبديلا عنها..
إن محاولات عديدة اليوم تبذل للنيل من المعارضة والحط من شأنها ومكانتها ومن جدوى بقائها والإساءة إليها، وبأنها عاجزة عن فعل التغيير، فلا ضرورة لوجودها إذن، وبالتالي القبول منطقيا بما هو قائم مهما قسا وعتا الحاكمون، والحقيقة أن واقع المعارضة تختلف في النضال السياسي بين الأنظمة التي تعيش الحياة الديمقراطية في الحكم من جانب، وبين الأنظمة الاستبدادية التي تتفرد بالسلطة من جانب آخر، فالقول بأن المعارضة ستبقى مشلولة وعاجزة عن صنع التغيير في الأنظمة الاستبدادية، وليست بقادرة أن تلعب دورها إلا إذا وجدت في النظم التي تتبع النظام الديمقراطي في إدارة الحكومة، حيث يكون تداول السلطة متوفرا ومحققا، مثل هذا الحكم ضار لا يمكن الأخذ به وهو مناف للواقع في ظل التقانة المعلوماتية الحديثة، مثل هذه الأحكام المحبطة وهذا اليأس في التغيير قاله غرامشي أيضا في فترة صعود الفاشية في كل من ألمانيا وايطاليا، وبأن التغيير لا يتم إلا من الخارج..، هذا الكلام رغم وجاهته لا يمكن أن يعتد به ويؤخذ كمقياس صارم وأكيد، ففي النظم الديكتاتورية قد تأخذ المعارضة -جراء القمع- النشاط السري، وكثيرا ما تكون مشلولة، وقد تكون على شاكلة خلايا نائمة، لكن علينا أبد أن لا نستهين بها كأداة للتغيير، مهما عاشت من ظروف قاسية، فهي لها التأثير الأكيد، وإن السلطة، أية سلطة كانت، ستبقى متوجسة منها خيفة، وإلا فلماذا هذه الملاحقة والقمع القاسي، إذا لم تكن المعارضة ذات أثر وجدوى..!؟ بيد أن اليوم بفضل تكنولوجيا المعلومات، أصبحت عورة النظم مكشوفة أمام أنظار شعوبها والعالم قاطبة، لا تستطيع السلطة إغماض العين عن ذلك، فهي متابعة كما نلمس بهدف بيان شكل المواجهة عن قليل، وفي ضوء ما ينشره الناس من خلال وسائل الإعلام المختلفة..
إن ثورة يونيو1952 التي قادها الضباط الأحرار في مصر، حقيقة قضت على القوى الليبرالية، القوى السياسية الوحيدة آنذاك التي اقترن اسمها بالتنمية والإصلاحات والحريات، فشلّت إثر ذلك الحركة السياسية في مصر، ولم يعد لها نشاط يذكر، وتراجعت أيضا التيارات العلمانية، حيث شمل القمع الجميع، وكان على الشعب المصري الولاء للنظام الراديكالي  الجديد، حيث انحصر كل شيء فيه، وبالتالي إسكات أي صوت مخالف، لكن (حزب الإخوان المسلمون) رغم ما تعرض له من بطش وتنكيل، استطاع بحكم كونه حزبا ذا تاريخ وتغلغله في خلايا الشعب المصري، وبسبب ما تعرضت له القوى الليبرالية وأيضا العلمانية واليسار عموما من ضرب وإقصاء، استطاع الإخوان المسلمون مستغلا ما تتيح لهم دور العبادة من نشاط، استطاع أن يلملم صفوفه من جديد ليصبح أقوى حركة سياسية في مصر، وليفرض الحزب بالتالي نفسه كأقوى معارضة، فيدخل الإخوان البرلمان بحيث لا يمكن للنظام تجاهلهم أو القضاء عليهم مهما عتا وتجبر، والحالة المصرية يمكن اعتبارها شكلا من أشكال تكوّن المعارضات..
علينا أيضا أن نعي كثيرا أن النظم الاستبدادية  تحاول خداع الرأي العام على أنها تعيش حالة ديمقراطية، ويروج لها مختلف وسائل الإعلام بهذا الاتجاه، رغم الاعتقالات الكيفية والتعذيب الجسدي والتعدي على حقوق الإنسان كما هي الحال في تونس حيث يتم توجيه الإعلام المأجور في سوق وتزيين صورة النظام..
المعارضة السياسية عادة تحمل معنى المضمون التنافسي بين جماعات سياسية لها تصورها الخاص في كيفية سياسة المجتمع وإدارته للوصول إلى السلطة، وهي تعني بالأساس مخالفة الرأي السائد سلطويا، فلها أجندتها النضالية الخاصة بها، وهي تستغل التناقضات بين السلطة والشعب وحالة اللااستقرار والتذمر والاستياء، مما يحدو بالناس اتخاذ مواقف مناوئة للسلطة، ويكون المجتمع المدني والأحزاب السياسية خارج السلطة تنشط  للعمل لمجيء بديل عنه يحلّ محل الفئة الحاكمة، والمعارضة في هذه الحال طالما تتكئ على الشعب فينبغي عليها أن تكون صادقة معه، لا تكون اللعبة فقط هي وسيلة للوصول إلى السلطة فحسب، وليس لتغيير النهج، ويغدو الفريق الحاكم كالفريق السابق أي (حكومة قيصرية برداء بلشفي) بتعبير بليخانوف في حالة روسيا..، فالمعارضة يمكن لها المطالبة بتسويات عديدة متفق حولها، وينبغي ألا تكون السلطة هي الهدف، أما الهدف الأساس فهو التعددية السياسية، مبدأ تداول السلطة، حرية التعبير والإعلام، العمل على التنمية  الاجتماعية والاقتصادية، الشعب مصدر التشريعات، فصل السلطات (التنفيذية، التشريعية، القضائية) فمن يقبل بهذا يعني أنه ساوى نفسه بالآخرين، فلا يبقى حينئذ غير التنافس عبر صناديق الاقتراع، ليحدد من الحاكم ومن هو المحكوم، واللعبة الديمقراطية هذه لا بد أن تستمر..
علينا أن نتنبه أن التغيير قد يحصل بطرائق مختلفة، ربما يكون بسبب التدخل الخارجي، وقد تكون نتيجة تحولات في الساحة الدولية، وفي  حالات لا يتنبأ بها لا الحاكمون ولا المعارضون، وهذا ما جرى في أعقاب الحرب العالمية الأولى، وأيضا بعد انفضاض الحرب العالية الثانية، وما حصل من تغييرات كبيرة، حيث كان اختفاء نظم ولّى عهدها، وانبثاق نظم جديدة حلت مكانها..
هنا أريد أن أثير نقطتين تتعلقان بالموضوع ذاته، فمثلا أحدهم يقول أنه يتطير من لفظة المعارضة، وهو يطالب أن يحسّن النظام الحاكم أي نظام كان من أدائه، لكنه يرفض أن يقال عنه، (معارض) وكأن المعارضة جرم، فالمعارضة تعني في حقيقة الأمر المخالفة في الرأي وهذه ليست عارا ولا سبّة، ونقول لمثل هؤلاء هل أنكم ترفضون أن يكون لكم تمثيل في إدارة شؤون الدولة على مستوى قدراتكم..؟ في الوقت الذي تتبجحون أنكم تمثلون شريحة من المجتمع..، النقطة الثانية هي التي تقول من أي جهة تكتسب المعارضة شرعيتها، ليست هنا برأيي مسألة الشرعية أو اللاشرعية فالديمقراطيات هي التي تكسب أية قوى كانت الشرعية، وذلك من خلال صناديق الاقتراع وبيان بالتالي مدى قوتها وتمثيلها، ولاشك أن المعارضة تتكئ على شرائح اجتماعية وقد تعبر عن نفوذ طبقية، وحرية الاقتراع سوف تبين مدى قوتها ونفوذها، بالمقابل على المعارضة أن لا تستهين بمن تدعي تمثيلهم، وألا تتجاوزهم لأنهم سيخذلونه حتما في الجولات القادمة، كما أن المعارضة من طبيعتها أن تجدد نفسها، وتحسّن من آليتها، فتتنبه لنقاط ضعفها لتجاوزها، لكي تكون بالتالي منسجمة إلى حد كبير مع تطلعات وأماني من تمثلهم.
© منبر الحرية ، 20 يونيو / حزيران 2010

peshwazarabic15 نوفمبر، 20100

التاريخ ليس نصا مفتوحا يمكن قراءته وفق ما يرسمه إلهام نبي، أو قلم مبدع، أو عقل مفكر، أو نتيجة صراع بين طبقات اجتماعية محسوبة ومحسومة النتائج، بل التاريخ هو خلق مستمر دون توقف، تتنوع سبله، ويعج بالتناقضات، والمعارج والمنعطفات، لا يمكن لأحد التنبؤ بمساره، ولا الإحاطة بمآله الأخير، أو على أي شاطئ  يكون  رسوّه الأخير، وإن حاول بعضهم التكهن أو التنبؤ على بعض معالم مطاف رحلة التاريخ التي لا تنتهي..
ففي الشعوب البدائية تبين أن المساواة كانت محققة بين بني البشر، فلا استغلال ولا استرقاق.. يقول أحد السفسطائيين في القرن الخامس قبل الميلاد : (لقد أعطى الله كل إنسان حريته، والطبيعة لم تجعل من إنسان عبدا) هذا الاكتشاف من قبل علماء الاجتماع، أي تساوي بني البشر في المنطلق، دفع بعضهم لينشدوا اليوم مساواة حقيقية، في ركب التطور الحضاري والتكنولوجي المحققين؛ وما نشاهده اليوم من ظلم واستعباد وإذلال وقهر وإفقار من قبل الأشرار في العالم، ليست بسبب الطبيعة، أو أنها هي التي أكسبت الأشرار هذا الحق، إنما المؤسسات القائمة اليوم هي التي جعلتهم أشرارا بتعبير هولباخ…
كثيرا ما يوهم الواقع الزمني عبر التاريخ، حيث تخلّف العلاقات الاجتماعية، وضعف مستوى الإنتاج، يوهم حتى المفكرين، للخروج بأفكار خاطئة، فعلاقات الإنتاج غير الناضجة، تخرج بأفكار غير ناضجة كما يرى إنجلز،  لهذا جاءت أحكام كثير من المفكرين خاطئة تفتقر إلى نضج فكري، فهذا أفلاطون يرى أن الناس مكونون (من أنفس ذهبية وفضية وحديدية)، فينبغي حسب الاعتقاد السائد آنذاك من أن الأنفس الذهبية هي التي ينبغي أن تحكم الآخرين، هكذا كان الفرز بين المخلوقات البشرية دون مساواة، أما أرسطو رغم تقدمه على أفلاطون في هذا الجانب، حيث جاء تأكيده على حرية الفرد، وحريته في قراراته الخاصة لتحقيق سعادته، لكنه يعود ليقول أن بعض الناس :(مخلوقون لكي يحكموا) من قبل آخرين أي لم يكن بمقدور هؤلاء العلماء أن يساووا بين الناس، هكذا كان الفكر السائد، فالعلاقات الاجتماعية المتخلفة ألهمت هؤلاء بمثل هذا التفكير غير الناضج، لأن التفكير السائد هو تفكير الطبقة السائدة، ولم يكن ممكنا تجاوز هذا الإطار الفكري في ذاك الماضي السحيق.
لقد حلّ القرن الثامن عشر قرن الثورات البرجوازية في كل من إنكلترا والولايات المتحدة وفرنسا، عندها قام الناس يطالبون بحقوقهم، ومن بينهم النساء، فقد كتبت إحداهن منكرة ومستغربة قائلة : (عندما يكافح الرجال من أجل حريتهم، أليس من الغرابة والظلم قمع حرية النساء.؟) وقد نهضت الرائدات منهن خلال المطالبة بحقوقهن، فرحن يناصرن حقوق الزنوج الأمريكيين من أصل أفريقي، ورفضن مبدأ الاسترقاق، وطالبن بإلغاء العبودية، واعتبار مالك العبيد (سارق بشر).
وقبل ذلك التاريخ، أكدت الكنيسة المسيحية في الغرب على كرامة الفرد وعلاقته الخاصة بالإله، كما حذّر بابا إحدى الكنائس حذّر الصليبيين من التعدي على حقوق المسلمين واليهود، ثم قام بعضهم بشجب استرقاق الهنود الحمر، فشاعت عبارة: (كل هندي هو إنسان) فله بالتالي إرادة حرة، وهو حر يتحكم بتصرفاته كونه سيد نفسه، وهذا القول دليل على الشك السائد في إنسانية الفرد من الهنود الحمر، والتفهم والتقبل لأسباب استرقاقه، على الأقل عند الطبقات العليا.
لقد وقع حيف كبير على كثير من بني البشر عبر التاريخ، ولحق بهم ظلم لا يطاق، والفروق الطبقية، أو المراتبية في المجتمع كانت تقسّم البشر إلى مراتب وطبقات، تذلّ على أثر هذا التقسيم الشرائح الدنيا، وفق أنماط متعددة من التعامل تناسب كل مرحلة، فقد ظل حق التصويت في الغرب قاصرا على الطبقات العليا، ففي إنجلترا مثلا بقي سريان هذا الحق العلوي حتى عام 1832 حينها سمح للطبقات الوسطى من الإدلاء بأصواتهم في الانتخابات، أما العمال فقد أجازوا لهم بالتصويت في نهاية القرن التاسع عشر، والنساء فقد جاء السماح لهن في الولايات المتحدة الأمريكية عام 1920 وفي بريطانيا عام 1928، كما ترافقت مع دعوة الحرية، دعوة نصرة الفقير في المجتمع الطبقي، وبأن له الحق أن يحيا حياة مريحة، شأنه شأن الغني الموسر، لا أن يرمى بسهام الإهمال أو الحطّ من قدره كإنسان، وكان آدم سميث صاحب كتاب ثروة الأمم، يرى أن الثروة الحقيقية ليس في تكديس الدولة من مال وكنوز، بل بما توفره من سلع استهلاكية، متيسرة لكل المستهلكين دون استثناء القدرة على شرائها واقتنائها واستهلاكها، فقد دافع جان جاك روسو عن العدالة الاجتماعية، وضرورة الاعتدال في توزيع الثروات بحيث (لا يكون أي مواطن من الغنى بحيث يستطيع شراء مواطن آخر، وان لا يبلغ أي مواطن من الفقر  يضطره إلى أن يبيع نفسه).
كان أول اختراق لليبرالية في خلايا الواقع المتشكل من القهر والهيمنة هو دعوة جون لوك إلى التسامح الديني، جاءت الدعوة بوجوب حلّ الفرد من التزاماته الدينية تجاه الدولة، ودعا إلى ترك الخيار له فيما يعتقد أو لا يعتقد، وممارسة الطقوس الدينية بالشكل الذي يشاء، دون قسر أو تدخل من قبل الدولة. لقد دعا لوك هذا في القرن السابع عشر إلى التسامح الديني كما أسلفنا، فرأى ( حرية الضمير هي حق طبيعي لكل إنسان) وربما الدعوة إلى التسامح الديني يعود إلى القرن السادس عشر، عندما نادى مارتن لوثر بالحرية الدينية وبالتسامح الديني، وشاعت دعوة (كل حر في دينه) ومنهم من يقول أن الحركة الليبرالية ربما جاءت من هنا.
انتشرت مفاهيم الليبرالية كإيديولوجية للمستقبل من الدعوة إلى الحقوق الفردية، والملكية الخاصة، وبالأسواق الحرة، وحرية الفرد في حق العبادة والتجارة والتعبير والتنقل ..إلخ  كان (توكفيل) يرى الترابط بين الفرد والمجتمع في علاقة اتساق، وليسا في تعارض كما يتوهم بعضهم، ومن هنا جاءت الدعوة لمزيد من الحرية الفردية ضد جبروت السلطة، ومن نافل القول التذكير هنا برؤية ماركس في الحرية، لأن الاشتراكية والماركسية تتضمنان الليبرالية والديمقراطية، والماركسية بالأساس جاءت من رحم الليبرالية، يرى ماركس من أن الحرية شمولية متعددة الجوانب :(حرية التجارة، حرية التملك، حرية الضمير، حرية الصحافة، حرية القضاء، هذه كلها أنواع لأصل واحد، متشابه، هو الحرية)، والحرية الفردية، ضمن ما تعنيه، الموضوعية في الفهم، والوعي بحرية الآخرين في إطار يدركه الفرد الحر ولا يتجاوزه، لأن الحرية ضرورة وليست تعسفا فرديا.
كما هو شائع ومتداول عن الحركة الليبرالية، من أنها تجمع بين الحرية الاقتصادية، والحريات المدنية، وربما افترقت جناحاها في بعض المواقف السياسية، فقد وجدنا كيف أن أنصار الحرية الاقتصادية يؤيدون الحزب الجمهوري في الولايات المتحدة، والمحافظين في بريطانيا، وأنصار الحريات المدنية، يؤيدون الحزب الديمقراطي في الولايات المتحدة، وحزب العمال في بريطانيا، وهذا ما يؤكد من أن الليبرالية أكثر من تيار، وبالتالي فمجال تكيّفه مع المستجدات أكثر حصولا وتحققا لما تتسم الليبرالية من واقعية في صوغ الشعارات المرحلية، فتكتب لها دفعة أخرى جديدة من حياة واستمرارية، ويندار إليها الناس في نضالهم الدائب والمتواصل بثقة وتفاؤل من أجل مزيد من الحرية.
إن ما تحقق اليوم من حريات فردية أو حريات اقتصادية جاءت نتيجة مكابدة طويلة وكفاح مديد، عانى خلالها الإنسان قرونا من الظلم والإقصاء والتهميش ولا يزال رغم ما تحقق، ولن يقف الإنسان عند حدود ما أنجز، فلسوف ينشد عالما جديدا أكثر حرية وتقدما ووفرة،عالما خاليا من الظلم والفقر والطغيان..! والباحث الحصيف سوف يدرك هذه الحقيقة من خلال متابعاته واستعراضه لتاريخ كثير من الأمم والتبدلات التي طرأت على طبيعة كثير من الحكومات خلال رحلاتها السياسية والتاريخية..!
© منبر الحرية،10 أبريل /نيسان 2010

peshwazarabic15 نوفمبر، 20100

بداية علينا أن نعلم أن الأخلاق نتاج اجتماعي، تنبثق عن المجتمع، فتتمظهر على شكل قواعد وضوابط كرادع أدبي، يتعين على الفرد التقيد بها استجابة منه لمتطلبات هذا المجتمع..ومن خلال هذا التقديم، أو التعريف، بوسعنا أن نقول، أن الأخلاق كخصلة، ليست هبة من أحد، ولم يجد بها عقل مفكر، وليست مغروسة في الإنسان منذ الولادة، وغالبا ما، لا تملك الطابع المادي الرادع، فضلا من أنها ليست شيئا ثابتا، فهي كما قلنا صناعة اجتماعية، فبتغير المجتمع لا بد أن تتغير الأخلاق، أو تختلف نظرة المجتمع في مقاربة الأخلاق بالتعريف…
باعتقادي ــ وهنا غاية المقال ــ أن الاعتماد على الجانب الأخلاقي وحده في اختيارنا للمسؤول الحزبي، أو الوظيفي غير كاف، بل أتجرأ وأقول بأنه حتى غير مجد..
إن الدراسات العلمية، أوضحت لنا من أن الإنسان بشكله المكوّن أو المتبلور، ليس إلا مجموعة من العلاقات الاجتماعية، وبتغير تلك العلاقات لا بد للإنسان نفسه أن يتغير.
لا أعتقد أن الأخلاق ضابط وضامن لسلوك الفرد، ويمكن بالتالي الاكتفاء بها والركون إليها، في اختيارنا أو خياراتنا، وهذا لا ينفي أبدا الوازع الأدبي الذي تملكه الأخلاق في الإنسان، وبما له من سلطة، لكن السلطة تبقى  أدبية اجتماعية..
لا بد إذن من ضوابط تتحكم بكل هؤلاء، ويمتثل لها الجميع بلا استثناء، وهذه الضوابط تملك من القوة المادية ما تتيح لها فرض قوانينها على الجميع ، بحيث يمتثل لها الجميع دون استثناء..
الإنسان كثيرا ما تحركه غرائزه باتجاه فرض هيمنته على الآخر، سواء أكان هذا الآخر حزبا سياسيا أو قطاعا اجتماعيا، فإذا لم تكن هناك من قوة رادعة له، فهو لن يرتدع أخلاقيا، ولن يتورع عن الإيغال في الخطيئة، هذا، إذا لم يلجمه ضابط مادي رادع له..
يحضرني هنا قول المرأة المسلمة التي نادت بوجه الخليفة الراشدي أبي بكر الصديق : (والله لو رأينا فيك اعوجاجا لقومناه بسيوفنا) ردا على قول الخليفة، بعد أن ولي أمر المسلمين..ــ إن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني.ـ ، أي أن لديها من القوة ما تمكنها الجهر بهكذا قول، وبمثل هذا العنفوان، الذي تجسد بقوة مادية رادعة، ومثل هذه القوة الرادعة تمكّن الرعية من أن تجعل أولي الأمر من أن يستقيموا مختارين أو مرغمين، أي لن نسمح لأولي الأمر، ولن ندعهم أن يتصرفوا على هواهم وكما يحلو لهم، بل سنكون لهم بالمرصاد، وسنحاسبهم، ولن ننظم العلاقة على التواكل، أو على الثقة فقط..
أما المثالية في التناول، فغير محبّذ وغير مجد البتة، كقولنا، فلان جيد، فليته شغل الموقع الفلاني، بديلا عن الفلان السيء..مثل هذا التفكير يفتقد للحجة والإقناع، وهو ضرب من التواكل، وفرط  من الثقة غير جائز، ولا يستند على أساس علمي، فلا بد إذن من ضوابط تقوّم العلاقات، عملا بقول الرسول الكريم في وجيز عبارته، عندما توجه إلى الأعرابي الذي أراد أن يدع راحلته تسرح دون ربط أو قيد، مستغنيا عن ذلك بالتوكل على الله، عندها قال له الرسول : أعقلها وتوكل على الله..
أبدا لا يجوز التناسي من أن الموقع السياسي قد يغرينا، ويدفعنا بالتالي  باتجاه الأنانية والذاتية المفرطة، أعرف أن قائدا حزبيا ظل في أمانة الحزب نحو ستة عقود, أي من المهد إلى اللحد، وهو في عجز صحي، بسبب كبر سنه وشيخوخته،.. آخر قال لمنافسه المحاور، هذا الكرسي لي، ولن أتخلى عنه، فإن استطعت فانتزعه مني، فإذن، أين فاعلية المبادئ والقيم والأخلاق والنظام الداخلي، كل هذه العناصر يفصلها بنو البشر على مقاسهم، وكثير منها يبقى حبرا على ورق، لا يترجم على صعيد الواقع، إلا إذا ما مالت كف من يتشبث بتلك المبادئ، وبالتالي يخلق عبر هذا الصراع ما يشبه التوازن في المصالح، ومن ثم التهادن، والتوافق على صيغ أخرى، يرتضي بها الأفرقاء  المتخاصمون، وفق المعادلة الجديدة، التي تفرزها موازين القوى..
ربما أحدنا يثير تساؤلات مشروعة، من أن هناك أناسا يلتزمون بالقواعد الأخلاقية دون ضغط أو إكراه.. أقول نعم، لكنهم قلة ولكل قاعدة استثناءات، فضلا من أنه رأي لا يمكن أن يسود ولا أن يعتد به، بل أكثر من ذلك فقد تجد عالما ثوريا، ينحدر من طبقة ثرية، وفي انعطافات تاريخية (يخون) طبقته.. مثل هؤلاء، ربما يراقبون حركة التاريخ، ويدركون مساره، ثم يناصرون المآل المفضي إليه السيرورة التاريخية، عندما يقرؤون حلول أوان أفول الطبقة المسيطرة، لتفسح الطريق أمام طبقة جديدة واعدة، فيناصرها الثوري بالتالي بفكره..
في الأيديولوجية الألمانية يقول ماركس وإنجلز : (إن تبدل الشخص نفسه، يترافق في النشاط الثوري مع تحول الظروف) أي إن تغير الظروف ينجم عنه تبدل الشخص نفسه…

peshwazarabic15 نوفمبر، 20100

شهدت إيران في الثاني عشر من شهر حزيران الجاري انتخابات لرئاسة الجمهورية الإسلامية، بمنافسة ملفتة بين التيار الإصلاحي، والتيار المحافظ الحاكم ، وحضورا لم تشهده إيران من قبل حسب المراقبين، وقد رصدت الانتخابات وسائل الإعلام لمختلف الدول، وبهذا الحضور الكثيف، تفاءل الإصلاحيون من أن النجاح بات شبه مؤكد، بل أن أحد المصادر في وزارة الداخلية الإيرانية  قد أبلغ المرشح الإصلاحي السيد مير حسين موسوي مباركا ومهنئا بفوزه الأكيد، وعليه صياغة كلمته حينما يشهر  فوزه أمام الملأ..
بيد أن النتائج المعلنة رسميا، أفادت بنجاح الرئيس الحالي  السيد أحمدي نجاد لدورة رئاسية ثانية، وبفارق كبير بينه، وبين السيد الموسوي، أي 63 بالمئة لأحمدي نجاد و33 بالمئة لحسين الموسوي، هذه النتيجة بحسب المراقبين  قد صدمت الإصلاحيين وسرعان ما أعلنوا عن لعب  وتزوير في النتائج، ويبدو أن وزارة الداخلية الإيرانية قد أدركت خطورة الموقف، فقد شهدت العاصمة طهران اضطرابات، فنزلت إلى الشوارع أرتال من جيل الشباب خاصة، إلى جانب العنصر النسائي، وهذا الثنائي عدّا أكثر المتضررين بفوز الرئيس نجادي، وهما أكثر حماسا للإصلاحات في البلاد، وهذه النتيجة عمقت الهوة بين الشباب والعنصر النسائي من جهة والدولة من جهة أخرى، فجاء الرد بإغلاق الهواتف ومواقع البريد الإلكترونية، وتم قطع التيار الكهربائي.. وتتالت التصريحات، وبالتالي توالت الإجراءات، فالسيد مير حسين الموسوي أعلن أنه هو الفائز، وبالتالي فالنتيجة هي مزورة وطلب من الجماهير الغاضبة النزول للشارع، فما كان من السلطة أن حاصرته في داره، وألزمته المكوث في بيته، وقطع عنه مختلف وسائل الاتصال بالخارج، في حين أن الرئيس نجاد، اعتبر نجاحه وهذا الحشد التي بايعته بمثابة  ملحمة وطنية، في الوقت الذي أعلن السيد الكروبي المرشح الثالث لرئاسة الجمهورية من أن النتيجة غير مقبولة وغير شرعية..
لكن الملفت هذه المرة أن الانتقاد قد طال المرشد الأعلى للثورة الإسلامية في إيران السيد علي خامنئي، الذي لم يقف موقف الحياد- حسب زعم الإصلاحيين – فقد كان عليه أن يكون أبا للشعب، واعتبر موقفه هذا الداعم للسيد نجاد انقلابا ضد الشعب…
لاشك أن الاحتقان كان موجودا ويبدو لي أنه سيأخذ مسارا تصعيديا أكثر بعد الانتخابات، فقد تم اعتقال نحو مئة من المحافظين بينهم شقيق الرئيس السابق محمد خاتمي.. وهذا دليل على تخبط وإرباك طاقم نجاد..
إن الشكوى في عهد السيد نجاد، كانت بسبب ازدياد نسبة البطالة، وتوسع رقعة الفقر، وعدت ولايته حينها كارثة على الصعد كافة، سياسيا واقتصاديا واجتماعيا… فكيف له إذن بالولاية الثانية..!
كما ثمة توجس عربي من خبايا نفوس المعممين في إيران، وبالتالي تمددهم إلى فلسطين ولبنان بعد العراق متجاوزين الواقع العربي ورؤيتهم في الحلول المطروحة للخروج بحلول ممكنة في النزاع العربي الإسرائيلي، منها إقامة دولتين عربية وإسرائيلية في فلسطين.. لكن أيران لها موقف آخر من الحل وهو الحل المستحيل، أي(اللاحل)  تحرير فلسطين، لهذا كانت حركة حماس أول المعلقين دعما لنجاح السيد نجاد..
فماذا بعد الانتخابات، وتبّوء السيد أحمدي  نجاد سدة الرئاسة مرة ثانية، باعتقادي أن الأمور ليست بسهولة تصورها، وكأنها زوبعة، أو سحابة صيف، لا تلبث أن تنقشع خلال بضعة أيام، حسب مصادر مؤيدة لأحمدي نجاد، لاشك أن أيران ستشهد هدوءا في غضون الأيام القليلة القادمة، لكنها لن تنعم بهدوء دائم، ربما ذلك الهدوء أو الركود سيسبق العاصفة .. وفي الحقيقة، أن قراءتين مختلفتين تتجذران في الواقع الإيراني، شئنا أم أبينا.! فالتيار المعارض سيشتد عوده، وقد بدا ذلك إقباله الملفت لصناديق الانتخابات، وهذا الإقبال كان دليلا على توق الشعب الإيراني على التغيير والانفتاح ورزمة من الإصلاحات، وأن التيار التقليدي المحافظ الحاكم لن يتقدم خطوة  باتجاه هذا، بل العكس فقد أعلن الرئيس أحمدي نجاد خلال مناظرته أنه لن يتراجع عن سياساته، أي لن يتراجع عن علاقاته المأزومة بمحيطه  لا سيما جيرانه من العرب، لن يتراجع عن التدخل في العراق ولبنان وفلسطين، وأخيرا وليس آخرا اليمن ومصر..أنه لن يتراجع عن تخصيب اليورانيوم، أما عن التنمية في إيران، لاسيما إقامة مشاريع استثمارية، فهذا غير مشجع الكلام فيه، فقد بدد مليارات الدولارات في فترة حكمه، ما صنعه هو في غضون حقبة أربع سنوات من حكمه، أنه قام بتوزيع الصدقات وقدم الأعطيات للأسر الفقيرة التي تعيش تحت خط الفقر، فبدل أن يسعى لتوفير فرص العمل والإقبال على الاستثمارات، جعل من فقراء إيران متسولين، ينتظرون كيسا من بطاطا أو من رز وماعونا من الزيت..إلخ في حين كانت نسبة البطالة في ارتفاع، والعزلة الإيرانية السياسية من كل الجهات، أما عائدات النفط التي بلغت نحو 270مليار دولار، فكانت تبدد في دعم سياساتها الخارجية لاستمالة أتباع كحماس وحزب الله، أو دعم حتى بعض التنظيمات السنية المتطرفة كالقاعدة مثلا، للقيام ببعض الأعمال الإرهابية للأهداف التي هم يرسمونها، في حين أنهم يرفضون تعيين وزيرا سنيا أو حتى معاون وزير سني في حكومتهم الطائفية، أي قوامها من طائفة الشيعة فقط، والسنة يبلغ تعدادهم نحو عشرين مليون سني… كما عمدوا على إبقاء بعض الدول على موقف الحياد تجاه سياساتها الخاطئة.. فلننتظر ونترقب..!
طاقم الرئيس الأمريكي باراك أوباما، عبر عن شكوكه في نتائج الانتخابات، كما شكك في نسبة المشاركة من المقترعين، التي ناهزت 85 بالمئة حسب زعمهم، واليوم الإدارة الأمريكية في ما يشبه ورطة بشأن تواصل الحوار، وبعض من هؤلاء قد انتقدوا سياسة أوباما في التساهل والدخول في حوار مع إيران.
ستشهد إيران احتقانا اجتماعية وليس استقرارا، والهوة ستزداد شرخا بين المعارضين المناهضين لسياسة المحافظين التقليديين، فالنتائج كانت مؤذية لمشاعر ومستقبل العنصر النسائي والشباب، اللذين يريان في الولاية الجديدة  للرئيس أحمدي نجاد بمثابة كارثة  سياسية واقتصادية واجتماعية، والأشهر القليلة القادمة كفيلة بمدنا بصورة واضحة عن مستقبل إيران السياسي، وإلى أية كوارث تسوقهم  هذه السياسة التقليدية الخرقاء.

peshwazarabic15 نوفمبر، 20100

كثيرا ما تعرّف السيادة الوطنية، بالحصول على الاستقلال فحسب، أي  بجلاء المحتل، وتحرر البلاد من هيمنة واحتلال دولة أجنبية؛ والوطن عند هؤلاء، هو الرقعة الجغرافية، التي حددت حدودها برحيل العدو المحتل.
إن السيادة الوطنية لكي تكتمل في الإطار الجغرافي، لا بد لها أن تترافق مع حرية الفرد الإنسان، فما معنى حرية الأوطان دون حرية الإنسان.! وماذا يجني الفرد الواحد منا، إذا استبدّ به الظلم والإفقار والفساد..سواء تم ذلك بسيف الأعجمي، أم بسيف ذوي القربى.؟ وكثيرا ما تكون ممارسات الأجنبي في فترات من التاريخ أخف وطأة في الجور من (الوطني).. فما عاد ينطلي حتى على المواطن العادي، الكلام الإنشائي، ولا يجذبه زيف بريق السيادة الوطنية التي يجأر بها السلطويون للتغطية على انتهاكاتهم وتسلطهم…
ماذا يختلف عند الفرد المحكوم إذا تشابه المآل والنتيجة، في الظلم والتهميش والإقصاء.. فهؤلاء الحاكمون ينظرون إلى السيادة الوطنية ــ فضلا عمّا ذكرناه ــ من زاوية واحدة وحيدة، وهي الالتفاف حول النظام، حول السلطة، أيا كانت طبيعتها.. وأحيانا تقترن السيادة الوطنية بمفهوم أيديولوجي، دون أن تكون الغاية منها، مقاومة الوصاية والهيمنة، فالسيادة الوطنية، لا يجمعها جامع لا مع المفهوم الديني، ولا الشيوعي التقليدي، ولا القومي المتعصب..
فالنظرة الدينية تشك في ولاء غير المسلم للوطن، ومعيار الوطنية في عرف الشيوعية التقليدية هو معاداة أمريكا، ودون الاستفادة منها حتى في ميادين العلوم المهمة، أثنى لينين على إبرام عقد مع الولايات المتحدة الأمريكية، وكان لا يسعه الفرح لهذا العقد، وأشاد به، وبأنه السبيل للدخول إلى العالم الأمريكي، طبعا للاستفادة من التكنولوجية الأمريكية، التي لا غنى عنها لأي بلد.. وغالبية القوميين في دولهم القومية، يتميزون بروح الاستعلاء القومي على الأقليات القومية الأخرى ويعدّونها مطية للخارج، بغرض الإساءة إليها، انطلاقا من الأفق القومي الضيق، وهذا ينتهي بالضرورة إلى النيل من الوحدة الوطنية..
من هنا يكون الرد الوطني من قبل هؤلاء الحاكمين للحفاظ على السيادة الوطنية، أي على سلطتهم وسلطانهم، هو قانون الطوارئ، ورصد كل حركة اجتماعية، وقمع المعارضة، واحتكار السلطة, ووأد الحريات، وامتهان الكرامات، وجعل الوطن كيانا مراقبا مكشوفا من عسس السلطة، عندها تكتمل السيادة الوطنية في مفهوم هؤلاء.. وما أيسر بالتالي من إلصاق تهم الخيانة والعمالة، وضعف الشعور الوطني بفلان وفلان..
السيادة الوطنية، لا تعني السيطرة على حركة الناس السياسية، بل لا بد من ترك المجال واسعا أمام الصراع والتنافس السلمي السياسي والاقتصادي، فالتضييق في الجانب السياسي، والتشدد على المواطنين، بالنتيجة لا بد أن يتعرض الواقع لمخاطر العنف، فعلى الحاكم أن يعلم بأن الدولة ليست لمن يحكمها فحسب، هذا هو تفكير ورؤية  كل (حاكم منفرد في أرض بلا ناس) كما قاله أحد الإثينيين لوالده الملك بتهكم.. هذا التفكير بالطبع خاطئ  من أساسه..
إن نظام الحزب الواحد أو النظام اللاحزبي، يعني النظام الشمولي، الذي يتوسل الاستبداد، ويجرد الجماعات والأحزاب من حقوقها السياسية، فالسيادة الوطنية، مناقضة لفكرة حكم الحزب الواحد، إذن لا بد من نبذ هذه التجربة، واقتلاعها من التفكير وعدم القبول بها كنهج، فالسيادة الوطنية لا تتم إلا ضمن دولة دستورية، يحس الفرد فيها من أن الدستور والقوانين، قد صيغت بمساهمته بهذه الطريقة أو تلك.. حينها فالدستور لا بد أن يحترم، والقوانين لا بد لها أن تسود على الجميع، دون استثناء، ولا بد من وجود قضاء مستقل، لا يكبل إلا بنزاهة القاضي..كما أن ممثلي المؤسسات لا بد لهم أن ينتخبوا أصولا، لا أن يعينوا قسرا..
في الحقيقة لا تكتمل السيادة الوطنية دون تمتع المواطنين بالحريات غير منقوصة، حرية الرأي التعبير، حرية التجارة والتنقل وحرية تشكيل أحزاب وروابط مدنية وسياسية، فلا بدّ أن تتأصل الديمقراطية في مفاصل الحياة السياسية، بحيث لا تبقى الديمقراطية مجرد آلية لانتخابات شكلية، وبالتالي توظف لخدمة الفئات الحاكمة، فلا بد أن يطلق سراح العقل من أسر التبعية لسلطان جائر، فالسيادة الوطنية من قبل السلطة الحاكمة، تستدعي وجوب وجود معارضة سلمية منافسة، فهي أصلا تضبط الحكم، من خلال تطلعها لكي تحكم مستقبلا، واستعدادها للمنافسة في الانتخابات المقبلة الدورية، وليس بطرائق غير شرعية كالانقلابات مثلا…
السيادة الوطنية تعني التركيز على عمل المؤسسات، واستبعاد النزعة الفردية الإرادوية في كبت الحريات.. السيادة الوطنية لا بد أن تقر بحقوق الإنسان الفرد، لا بد أن تقر بحقوق الأقليات العرقية والدينية في الدولة الوطنية الواحدة.. السيادة الوطنية لا تعني ألبتة أن يستأثر بكامل الحقوق طغمة من الأقوياء، اغتصبوا السلطة عنوة.. السيادة الوطنية تنفي احتكار السلطة من قبل أيّ  كان، لا بد من توزيع عادل للتمثيل في الحكم…
لكي تكتمل السيادة الوطنية، لا بد من بحث عن سبل للتنمية، فكثير من هؤلاء السلطويين يمررون سياسة تنموية غير فعالة، سياسة الإدارة المركزية المشددة، ويدعون البلد في حالة ركود اقتصادي، فالعنصر الأساسي في السياسة الاقتصادية لأي بلد، تكمن أساسا في حرية أبنائه لاختيارهم السياسة الاقتصادية الأنسب والملائم، فكثيرا ما نرى من هؤلاء بحجة السيادة الوطنية، يعطلون الإصلاحات اللازمة، وهم يعنون غالبا بالسيادة الوطنية، خدمة مصالحهم، مصالح الطبقة الحاكمة التي اغتصبت السلطة عنوة بانقلاب أو غيره، واستمرارهم في دفة السلطة.. وما يخلفون هؤلاء من ميراث يشهد على فساد ونفسية هؤلاء الأباطرة الأقزام.. لكي يكتمل الاستقلال والسيادة الوطنية،لا بد من الاستقلال الاقتصادي، والالتفات إلى الشعب الذي لا بد أن تشمله خيرات الوطن…
السيادة الوطنية  أخيرا تتحدد بمدى احترام السلطة لحقوق المواطنين، وضرورة إشعار الفرد، بأن الدولة هي الحصن لحمايته وإعالته..السيادة الوطنية هي بناء مستقبل زاه لأبناء الوطن، يرفلون في ظلّه بالحرية أولا وثانيا، وفي مناخات الحرية، سوف يضمن العيش الكريم  حتما..!
© منبر الحرية، 03 يونيو/حزيران 2009

peshwazarabic11 نوفمبر، 20100

إن طبيعة الانتخابات البرلمانية في لبنان- للأسف – يكرّس واقع الانقسام بين مكونات الشعب اللبناني، ويؤسس للإقطاعيات السياسية، ويغذي الأنانية الطائفية، وبالتالي يشرعن للكانتونات، كما يساهم في إضعاف اللحمة الوطنية، ويبعده في آخر المطاف عن فكرة المساواة، وفكرة الوطن، وطن الجميع، ولا تمهد البتة لبناء مستقبل واعد يتفيأ في ظله الجميع بعيش مشترك وبأمن وسلام واستقرار، بل نلمس – بالعكس من ذلك – حالة من التنافر والتنابذ والتوجس بين مختلف المكونات الهندسية الاصطناعية الهشة المشكلة جراء هذا النموذج من الانتخابات كأحد الأسباب، فسرعان ما تعصف بتلك المكونات، رياح المنافسة والتكتلات، فتتغير دائرة الأقطاب، ففرقاء اليوم قد يصبحون خصوما لدودين في الغد، فهمّ كل فريق، أو أي قطب، هو الحصول على مزيد من المقاعد البرلمانية، وعلى هذا الأساس تبنى التحالفات، دون أن يكون هناك تمثيل حقيقي أو تكتل يطرح القضايا الاجتماعية، إلا من باب الدعاية الانتخابية، أو النيل بالتالي من الفريق الخصم الآخر المنافس (المتقاعس) برأيه في إدارة شؤون الدولة، ومصالح الناس، فهمّ كل فريق كما قلنا حصد أكبر عدد ممكن من المقاعد النيابية، ومن ثمّ التطلع إلى الحقائب الوزارية عند تشكيل الحكومة العتيدة بتعبير اللبنانيين، وحتى إلى التوظيفات في مختلف المجالات، وسائر المؤسسات آخذين بالاعتبار نظام الحصص لكل فريق..
إن الانتخابات في مجال المؤسسات الأخرى كنقابات العمال والمحامين والمعلمين والأطباء وسواها، أكثر نظافة وقبولا من الانتخابات البرلمانية، رغم ما يشوبها من شائبات الواقع اللبناني، لأن هؤلاء يدسون أنوفهم في كل شيء، ولا يدعون مؤسسة بحالها، وبأن تعيش حالة من المنافسة الشريفة…
الدعوة للنسبية في الانتخابات البرلمانية..
ثمة طرح ضعيف وخجول لا يؤبه له، حتى لا ينظر إليه ولا يناقش فيه – بالرغم من أهميته برأينا – يظهر بين فينة وأخرى من قبل بعض المحللين السياسيين في لبنان. يدعو هذا الطرح إلى أن تجري الانتخابات على قاعدة النسبية من حيث النتيجة.. ولتوضيح الفكرة نسوق المثال التالي: لو أن قائمتين لطائفة واحدة ما (سنة شيعة مسيحية دروز… إلخ) خاضتا الانتخابات في التنافس على عشرة مقاعد في محلة ما، ولنفترض جدلا أن إحدى القائمتين حصلت على  60 بالمئة من الأصوات، والثانية حصلت على 40 بالمئة من أصوات المقترعين، فحسب القانون المعمول به في لبنان، فإن الذي حصل على نسبة 60 بالمئة يفوز بالمقاعد العشرة جميعها، في حين إن الذي حصل على 40 بالمئة يخرج من المنافسة خالي الوفاض خاسرا دون أن يحصل ولو على مقعد واحد يتيم، وهذا برأيي إجحاف وغبن بحق الطرف الخاسر.
أما لو طبق قانون النسبية، لحاز فريق الأكثرية على ستة مقاعد والأقلية على أربعة مقاعد، وهنا تخف وطأة الفارق، وحالة الاستئثار بالسلطة من قبل الأقطاب المتصارعة، وتضعف سطوة الأباطرة، لأن الفريق الذي كان يهمّش على الدوام أصبحت له كلمته والتي لا بد أن تسمع وتؤخذ بالحسبان. وهذا الفريق سيتكون من كافة الأطياف والشرائح وكل ما يتميز به لبنان من مسميات وتلوينات، كفسيفساء جميل، وهو بالتالي سوف يتصدى للقضايا الاجتماعية، لأنه لا يأتي لا من خلفية تكتليه أو طائفية، فما رصيده سوى هذا الدعم الجماهيري والصوت الذي اختاره ممثلا عنه، وأولاه الثقة، ولكي لا يخذله في المرة القادمة، وهنا أيضا يبرز دور المستفتين كقوة في خلخلة بنيان الأباطرة، وإضعاف دورهم، ليختفوا بالتالي في غضون عقود قليلة…
البرلمان اللبناني متكون كما هو معلوم ومتفق عليه، من 128 مئة وثمانية وعشرين نائبا، يتقاسمهم بالمناصفة المسلمون والمسيحيون، لكل طرف 64 أربعة وستون نائبا.. فعندما تعتمد النسبية في الانتخابات، لا بد أن يظهر فريق جديد قوي، بل ربما من أقوى الفرق منفردة، ولسوف يبرز دورهم في رص اللحمة الوطنية، وفي إضعاف الروح الطائفية والمناطقية، بل أكثر من ذلك فهم لسوف يتصدون للضغوطات الخارجية وتدخلاتها، لأنهم مدينون للداخل بالولاء، الداخل الذي اختارهم، وليس الولاء للخارج وفق صفقات ومصالح متبادلة.. ورؤي سياسية ربما تتوافق وتنسجم في ظرف، وتتعارض في ظروف أخرى..
إن من يريد من اللبنانيين إنقاذ لبنان، من هذه الحالة، من هذا المأزق، عليه أولا أن يتنازل عن أنانيته فيما إذا كان رئيس كتلة برلمانية، أو زعيم كتلة من طائفة ما، لكن التخلي عن الأنانية بهذا الطرح، هو ضرب من العروض المثالية لا أعتقد بها.. لأن لا أحد يتنازل عن (حقوقه) التي شرّعها للأسف قانون البلاد..لكن علينا أيضا أن ننوه من أن قانون النسبية لن تمد لبنان بصيغ سحرية لتجاوز الحالة الراهنة، لكن يمكن اعتباره مدخلا صحيحا وسليما كإحدى الوصفات في المعالجة..
في لبنان لا دور للأحزاب السياسية، والتي ربما تناضل بنهج سلمي دعائي، لأن الاستقطاب الطائفي يحول دون ذلك، فالواقع السياسي يكرس الإقطاعيات السياسية، والزعامات، يقودها أباطرة القرن الواحد والعشرين، ويضعف هذا الواقع السياسي بالتالي الأحزاب والقوى الأخرى، وهنا تتم التحالفات على أساس مصالح كل كتلة أو زعيم، بغض النظر عن مقتضيات المصلحة العامة للبلاد والمواطنين على العموم، ومن هنا علينا أن لا نستهين عندما يطرح بعض القلة قانون النسبية كشكل بديل بما هو سار في قانون الانتخابات البرلمانية في لبنان، ويعود سبب ضعف الدعوة لقانون النسبية إلى سيطرة الزعامات الطائفية، التي تتغذى  وتستفيد وتغتني وتعقد الصفقات مع الداخل والخارج لإدامة هذا الواقع، وبالتالي ديمومة سيطرتها وزعامتها، لأنه يدرك جيدا بتغيير هذا الواقع تكون نهاية كل هؤلاء، أو إضعافهم على أقل تقدير، ومن هنا تأتي أهمية الانتخابات على قاعدة النسبية، وبرأيي سوف يكون له تأثيره الأكيد، وربما أتت أكله في غضون العقود القليلة المقبلة في حال السير به وتطبيقه…
رغم تناولنا للنموذج اللبناني في الانتخابات النيابية، والحالة السياسية هناك، لكن يبقى النظام الديمقراطي في لبنان  وصور انتخاباته يتقدم على حالة النظم العربية القائمة قاطبة بكثير…
© منبر الحرية، 17 نوفمبر/تشرين الثاني2009

peshwazarabic11 نوفمبر، 20100

بعد تداعي الهرم العثماني الذي ناء بكلكله على الجسم العربي المنهك مدة أربعة قرون، وانكفائه أمام الحضارة الغربية الواعدة، وتخلفه في مختلف الأصعدة، دون أن ننسى  تطلعات الغرب في تركة (الرجل المريض).. من هنا شاع تذمر واستياء لدى الشعوب التركية المغلوبة على أمرها، واستجدت على الساحة العربية حركات سياسية حديثة خلافا للدعوات السلفية التي تجذرت بعمق في الواقع العربي، وكان الجانب القومي هو نبراس لكل حركة جديدة كسبيل للخلاص والتحرر، فالحداثة السياسية العربية، نظرت في مرآة الغرب، بعد أن فرغت من بناء دولها القومية، فرأت فيها صورتها المستقبلية، فكانت محاكاة الغرب احد الخيوط الأساسية في سياسة تلك الحركات المقاومة للسيطرة العثمانية.. لكن بعض المتنورين رأى هذا الاندهاش بسياسة الغرب، والاندفاع باتجاهها سوف يسبب في تصدع الواقع العربي وانشطاره، عبر صراع بين القديم والحديث، أو فلنقل بين التراث والمعاصرة، دون التغافل عن الخطر الغربي، فكان لا بد من وصل الوشائج للحيلولة دون هذا الانقسام في الكيان العربي المترهل أساسا بسبب الجهل والتخلف..
في هذا الواقع خرج بعض المتنورين من عباءة الدين الإسلامي، وبرزوا كدعاة للإصلاح الديني، ولكي يجاروا لغة الواقع, ولا ينقطعوا عن أسباب الحضارة، حاولوا التوفيق بين الإسلام كدين، والحضارة المادية كدنيا.. من هنا جاءت ظاهرة التوفيقية، وقد قيض لهذه الظاهرة نخبة من المتنورين من أمثل جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، وعبد الرحمن الكواكبي، وعلي عبد الرازق.. وكان هؤلاء على معرفة بمآل الحركات السلفية السابقة لها، كالوهابية في السعودية، والمهدية في السودان، والسنوسية في ليبيا، كانت هذه الحركات جميعا فضلا عن جانبها الإصلاحي والجهادي، كانت متحمسة للأصول، لكنها كانت بعيدة عن عناصر التحديث واستلهام دروس العصر، أو استيعاب أسباب الحضارة لدى الغرب، وقد منيت جميعها بالإخفاق..
إن الحركة الإصلاحية الجديدة التي ظهرت بهذا اللبوس التوفيقي تعد خطوة جيدة إلى أمام، وهي سبيل للتجديد، لأن الطرح من واقع المجتمع العربي الديني، وفي تلك الظروف، حيث الموروث السلفي متحكم في عقول وأفئدة الملايين، لا يمكن له أن يتخطى سوى هذا الشكل من الطرح، فأولئك ركزوا على كثير من القيم الإسلامية بغية النفاذ من خلالها إلى عقلنة الواقع العربي، فكانت قراءة وتفسير النصوص، ومن ثم تأويلها بمنطق عصري، ولا يمكن لنا أن نتوقع الجرأة أكثر من ذلك عند أخذ تلك الظروف بالحسبان.. ويبدو أن هذا النهج أو الإرث التوفيقي من سمات الثقافة الإسلامية فيما مضى وهو الجمع بين المتعارضات؛ فصرنا اليوم نقرأ أو نسمع من يساوي بين الشورى في الدولة الإسلامية والديمقراطية كأسلوب في الحكم، ورغم قدم مفهوم الديمقراطية فقد أخذ اليوم الطابع الحداثي، وهناك من يقارب بين الزكاة وبين الضرائب..
والكواكبي لدى مناهضته للاستبداد، كان يطرح فكرة الاشتراكية، ويسعى لربطها بالدين الإسلامي، وأثر عن جمال الدين الأفغاني – نقلا عن أحد خواصه – قوله: (الكهنوتية بين العبد وربه)، وهذا يهدف بمقتضاه الفصل بين الدين والدولة، والحرية الدينية في خيارات الفرد، ولاحقا كان الشيخ علي عبد الرازق نتيجة إطلاعه على واقع العلمنة التركية، راح يجتهد ويبرر للتشريع للعلمانية ضمن الإطار الديني، ومضى يقتبس آيات من القرآن والسنة دعما لوجهة نظره، في الوقت الذي درج الناس على اعتبار العلمانية مفهوم غربي استعماري، مثلما شاعت الماركسية كمفهوم إلحادي، وكان السائد في الواقع العربي هو رفض المفهومين معا – العلمانية والماركسية – على السواء..
إن الظروف الجديدة حتمت على الإسلام أن ينهل من الحضارة الغربية، وهذا ما ساعد في خلق تيار علماني دون تفريط في الهوية الدينية، لكن أيضا كان من الصعب على الإصلاحية أن تذهب أكثر مما ذهبت إليه، في حين دأب بعض المستشرقين أن حملوا على الدين الإسلامي، فعابوا على العرب استبقاءهم للرقّ، والحطّ من شأن المرأة، كما عابوا على صرامة العقيدة الإسلامية، كما جاءت حملة شعواء من قبل السلفيين  ضد طه حسين من جانب الأزهر لأخذه بمبدأ الشك الديكارتي، درءا من محاولة سحب مثل هذا المبدأ، مبدأ الشك، على النصوص الدينية..
من رحم الحركة الإصلاحية هذه، خرجت حركة علمانية بمنزعها الليبرالي عقب الحرب العالمية الأولى. وهنا لا بدّ من الإشادة بأحد المتنورين العلمانيين بمنزع ليبرالي، رافضا لظاهرة التوفيقية، هو لطفي السيد الذي رأى أن تقدم مصر متوقف على اتباعها سياسة براغماتية، أي الأخذ بمصلحة مصر دون الركون إلى الأوهام الدينية أو القومية..
إن التوفيقية لم تتوقف عند هؤلاء ذوي الخلفية الدينية، بل انسحبت على سائر الحركات الأخرى (القومية، الماركسية، الليبرالية) فأثناء المد الديني صارت تتدثر بمفاهيم إسلامية تنشد كثيرا من القيم كالعدل والحرية والديمقراطية، وتجيز للتعددية، مقتبسة معانيها من القرآن والسنة أي تقوم بتوظيفها لنصرة العلمانية.. فبعض الماركسيين وجدناهم يترنمون بالآية الكريمة (وليس للإنسان إلا ما سعى) وحاولوا المقاربة من حيث المعنى  بينها وبين ما أثر عن سان سيمون بداية وعن ماركس لاحقا قولهما: (من كل حسب قدرته، ولكل حسب عمله)، كذلك فالقوميون كثيرا ما توسلوا الدين الإسلامي لنشر الفكر القومي، واكتساب عطف وتأييد الجماهير المؤمنة، واعتبروا الإسلام مادة القومية أو بالعكس، حتى الليبراليون العرب راحوا يبحثون عن معاني الحرية الفردية، والتعددية الروحية، وحرية الاعتقاد والاختيار، في النصوص الإسلامية (فمن شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر) أو حرية التملك والتصرف، كما جاء في الحديث الشريف (من أحيا أرضا ميتة فهي له)..
أخيرا نقول إذا ما اعتبرنا التوفيقية عند دعاة الإصلاح الديني (الأفغاني، عبده، الكواكبي.) في الأمس خطوة إلى الأمام، فهي اليوم برأيي عند دعاة العلمانية، انكفاء وتقهقر وخطوات إلى وراء، بل تعد إفلاسا وكارثة سياسية، فلا يمكن أن نعتبر التوفيقية، اليوم، حيلة ذهنية سياسية، من لدن هؤلاء، فالخشية كل الخشية أن تتأصل التوفيقية كنهج يؤطر الفكر العربي، وهذا ما ينبئ به الواقع السياسي  حاليا، لأن التكيف مع الواقع السلبي يساهم في مزيد من إنتاج حالات سلبية مماثلة..
© منبر الحرية، 25 أبريل 2009

peshwazarabic11 نوفمبر، 20100

أثر عن مفكري عصر التنوير قولهم : نريد ( حكومة القوانين، وليس حكومة الرجال) ويبدو لي أن الأوربيين كانوا قد ضجوا بحكومة السلالات، التي حكمت قرونا عديدة، وبحكم النبلاء، أو العسكر الذي ما أن يتفرغ من حرب، حتى يدفع لأخرى، دون إرادة الناس، أو ربما ضاق هؤلاء المفكرون، بحكم القلة، أو بحكم الطغمة المالية، لذلك جاءت الدعوة إلى أنظمة تحكمها القوانين كأحد المبادئ الأساسية في الأنظمة الديمقراطية الحاكمة…
رأى الداعون من أن الدستور ينبغي أن يكون هو القانون الأساسي لأي نظام، وفي أي بلد، وينبغي أيضا أن يكون القانون محايدا، أي بمنأى عن السياسة على العموم، بحيث يطبق القانون على الجميع، بغض النظر عن الموقع الاجتماعي أو الطبقي، أو المركز الحكومي، الذي يشغله هذا الشخص أو ذاك، فلا يكون أحد فوق القانون، أو بمنأى عن المساءلة، فمتى ما أخل بهذه المعادلة، أي إذا ما طبق القانون على الضعيف، وأعفي القوي عن المساءلة، فما عاد من الممكن أن يوسم النظام القائم بأنه نظام عادل، أو المجتمع بأنه مجتمع حر. لهذا يعد سريان القانون في أي نظام، وتطبيقه من أهم مبادئ وأسس لقيام نظام عادل وحر..
ولننتقل إلى مبدأ قيمي آخر وهو الديمقراطية، كشكل للنظام، للحكم، والديمقراطية هي تستوجب بالأساس سيادة الدستور، واحترام القوانين، أي أنهما مترادفان سياسيا، ومتلازمان حضورا، لا بد أن  يستدعي أحدهما الآخر، وعندما نشيد بمفهوم الديمقراطية، كصيغة من صيغ الحكم، يحضرني هنا ما قاله ونستون تشرشل، عن الديمقراطية، لكي لا نوصف بالمغالاة  في إشادتنا بالديمقراطية، دون معرفة بأشكال النظم السابقة واللاحقة، يقول تشرشل : (لقد تمت تجربة أنماط عديدة من الحكومات، ولسوف تتم تجربة أنماط أخرى في هذا العالم الذي يتسم بالخطيئة والمحن، لا أحد يدعي بأن الديمقراطية كاملة وحكيمة كليا، وفي الحقيقة فقد قيل بأن الديمقراطية هي أسوأ أنواع الحكم، ما عدا جميع تلك الأشكال الأخرى التي تمت تجربتها من وقت إلى آخر.)..!
فبالديمقراطية وحدها تكتسب أنظمة الحكم الشرعية، وتؤسس للاستقرار، وفي ظل الديمقراطيةـ  فضلا عن حرية التعبير وحق الاجتماع والتظاهرــ لا بد أن تؤسس أحزاب، وتتشكل تكتلات سياسية، وبالتالي كان الإعراب عن وجهات نظر مختلفة هو سمة الأنظمة الديمقراطية، فهي بمثابة الخيمة التي يستظل بها كل الأطياف السياسية، مهما تباينت رؤاهم، واختلفت آراؤهم..
كما إن الديمقراطية كشكل للحكم، ينبغي أن تكون تمثيلية، أي بمعنى أن يتمثل في السلطة مختلف الشرائح، وسائر قطاعات المجتمع، لا أن تكون السلطة مقتصرة على النخبة المتنفذة  والمحظوظة، أو على  الفئة الميسورة، أو تحتكرها طبقة استبدادية تستأثر بالسلطة عنوة عن طريق الانقلابات..
إن الديمقراطية التمثيلية تتيح لكافة الشرائح فرصة للتعبير عن آرائها، والدفاع عن مصالحها، بحيث أن القرارات عندما تصدر، لا بد لها من أن تعكس مصالح مختلف فئات المجتمع، في إطار من التوفيق والتوازن بين الجميع، أو يعكس ما يعرف بالمصلحة العامة..
بالديمقراطية أيضا، يمكن إزاحة من يتشبث بالسلطة، أو تكون الديمقراطية بمثابة رقيب عليه في حال سوء استخدام السلطة، وردعه وإزاحته إن اقتضى الأمر ذلك..
في النظم الديمقراطية، تقف الديمقراطية بالضد من تركيز السلطة بيد أي فرد، كما ترسم ضوابط متوازنة تحول دون خطر استبداد الأغلبية، أو تحكم واستبداد الأقلية، ثم فالسلطة التنفيذية مسؤولة أمام السلطة التشريعية، في المساءلة والمحاسبة، وبالتالي لا بد أن يشعر المسؤولون عن تلك المؤسسات أنهم مراقبون، ومعرضون بالتالي للإزاحة والمحاسبة، في حال تماديهم بممارسات سلبية ضارة..
وهنا لو انتقلنا إلى مبدأ قيمي آخر، هو مبدأ المساواة، فهذه اللفظة تأخذ طابع العمومية، ولا تفسر عن مضمونها بيسر وسهولة، فماذا تعني المساواة ؟ يرى أحد الليبراليين، بأنه لا بد أن يكون (جميع الناس، يملكون حقوقا متساوية، ولكن ليس لأشياء متساوية) وهذا الرأي منطقي
أما مشاركة الأثرياء الرأسماليين أموالهم قسرا، فباعتقادي أن هذا رأي فج، وحلم طوباوي، ويدخل في دائرة الأحلام، عن قليل في الحقبة الحالية؛ لكن بالمقابل لا نستطيع أن ننفي مثل هذا النزوع عند بعض السياسيين الحالمين وحتى عند بعض المفكرين.
نأتي أخيرا إلى مكونات المجتمع المدني، كمبدأ أساسي من مبادئ المجتمع الحر، ونعني بالمجتمع المدني هنا سائر المنظمات التطوعية، بدءا من الأسرة، إلى مختلف الأنشطة الأخرى، من أندية رياضية أو موسيقية، وجمعيات خيرية، ومنتديات ثقافية، وروابط نسائية، وسائر النقابات..إلخ
إن نشاط المجتمع المدني، يصب في مصلحة الدولة بالأساس، لكن ليس أي دولة، بل دولة الشعب بأسره.. دولة الحرية والعدل والمساواة، دولة الأمن والحماية والطمأنينة، دولة الوفرة في المعيشة، فقوة الدولة ينبغي أن تستمد من حيوية الشعب، ومن أنشطته المختلفة، لا من خموله، ولا من الحكم عليه بالسوط والصمت..
هذه هي أهم المبادئ التي أثرناها هنا، كدعائم أساسية لبناء مجتمع ديمقراطي حر، والتي ينطوي بدورها على كثير من القيم الأخرى، تتفرع عنها،، تلك القيم التي يتمتع بها الكثيرون اليوم، وينشدها المحرومون خاصة، في سائر بقاع العالم..
© منبر الحرية، 08 أبريل 2009

peshwazarabic11 نوفمبر، 20100

الحداثة من المفاهيم التي جرى حولها جدل ولغط كبيران، فإذا كانت الحداثة انبنت بالأساس على المعنى اللغوي، فإنها حملت إيحاءات ومعاني ومضامين جديدة، فغالبية الباحثين يرون أن بواكير الحداثة بدأت منذ أواخر القرن التاسع عشر في الغرب وفي حقول الأدب بعد أن قوضت الرومانسية أركان الكلاسيكية، فنشأت الحداثة على أيدي شعراء فرنسا شارل بود لير، ورامبو، ولامارليه. دعا الحداثيون إلى التحرر من الكثير من القيود، والثورة على التقليد والمحاكاة، ورأى بعضهم أن الحداثة جاءت نتيجة تراكمات وإرهاصات للمذاهب والتيارات الأدبية والفكرية السابقة للحداثة…
ولكن هناك من يعود بمصطلح الحداثة إلى القرن الخامس عشر، أي ربما إلى حركة مارتن لوثر الذي قاد الشقاق البروتستانتي ضد الكنيسة والتمرد على سلطتها الروحية، وثمة من يربط الحداثة بديكارت صاحب مذهب الشك في القرن السابع عشر، أي إعمال العقل، وإعادة النظر في كل شيء، ومنهم من يربط المصطلح بعصر التنوير في القرن الثامن عشر، حيث ميدانه العقل والاستنارة على ضوء العلم والتكنولوجيا، وأخيرا هناك من يربط مفهوم الحداثة بمطالع القرن العشرين. أي في عصر الإذاعة والكهرباء ووسائط النقل السريعة، ووسائل الاتصالات المبتكرة.. كل هذا الاختلاف في تاريخ هذا المصطلح ناجم عن الاختلاف في تحديد غرض ومفهوم الحداثة، واختلاف الرؤية إليها…
وهنا تحدوني مبادرة للقول: إن التحديث أو الحداثة ــ رغم التمايز بينهما كما يرى بعضهم ــ حالة دائمة، وعملية مستمرة، في إعمال الفكر، ومجاوزة الواقع المعيش، والتطلع نحو التجديد، ورفض لكثير من القيم التقليدية السائدة. لكن، قد لا يتجلى تبلورها واضحا كما هي حال الحداثة اليوم، بسبب معاندة الظروف، واندحار المفهوم أمام قوة وهيمنة الفكر السائد. لذلك فالحداثة أو التحديث قد تأخذ فترات من السبات القسري وقد تطول الفترة، لتظهر ثانية ـ ربما ـ أكثر جدة وقوة وغنى، وفي هذا السياق نقول: الم تكن دعوة أبي العلاء المعري، الذي كان يرى أن لا إمام سوى العقل، وقوله: ( فكل عقل نبي ) رفضا للفكر السائد، ودعوة للحداثة، أو بمعنى آخر دعوة لتحديث العقل، فقد تهكم المعرّي من معتقدات وطرائق العبادة لدى الديانتين المسيحية والإسلامية، يقول : ( كلّ يعظم دينه…. ياليت شعري ما الصحيح ) واعتبر الدنيا الثانية، أي الآخرة خرافة، لتأتي بعد ذلك فترة السّبات، والركون إلى الفكر التقليدي السائد، والاكتفاء به، دون حق الاجتهاد، هذا في عهد الإمام الغزالي، الذي رفض إعمال الفكر في هذه المناحي الجدلية، ورأى السلامة في إتباع سنن الأقدمين، والخطر في البحث والتقصي.. وكانت الظروف مؤاتية لرؤيته السلفية، فخمدت جذوة التفكير الحر، وأخلدت إلى كمون أو سبّات كما قلنا قبل قليل ولو إلى حين…
الحداثة بحسب تعبير رولان بارت، طوفان معرفي، وزلزال حضاري عنيف، وانقلاب ثقافي شامل…الحداثة ـ أيضا ـ موقف عام وشامل ومعارض للثقافات التقليدية السائدة.. الحداثة تدعو إلى إعادة النظر في كثير من الأشياء، والتحرر من كل القيود.. الحداثة ثورة على كل ما هو تقليدي في المجتمع.. الحداثة عملية تقدمية، حتى لو كان المخاض عسيرا، فهي تنشد عصرا جديدا يقترن بالتطور والتقدم وتحرر الإنسان.. الحداثة رؤية فلسفية وثقافية جديدة للعالم..الحداثة حالة وعي الواقع وبالتالي نقده.. الحداثة تتكئ على مكونات وعناصر مثل التصنيع، العلمانية، الديمقراطية، عند مطالبتها التوسع في وسائل الإعلام، وفي المشاركة السياسية، وهي كثيرا ما تنتقد الموروث الثقافي الديني بهدف  التغيير نحو الأفضل. الحداثة دعوة لانتصار العقل على النقل، وعرض المنقول من السلف لمنخل العقل مهما كان مصدره، من دون تقديس لأي نص، وتمريره بالتالي كحقيقة منزهة …
يعد الشاعر السوري أدونيس من أبرز رواد الحداثة العرب، كما يعد المنظر الفكري لهذا المصطلح، وأحد الراديكاليين المتحمسين للدفاع والترويج للحداثة فهو يرى أن ولادة الحداثة تاريخيا نتيجة: ( التفاعل والتصادم بين موقفين وعقليتين في مناخ تغير ونشأت ظروف وأوضاع جديدة ) ويرى أيضا من أنه 🙁 لا يمكن أن تنهض الحياة العربية، ويبدع الإنسان العربي، إذا لم تتهدم البنية التقليدية السائدة للفكر، ويتخلص من المبنى الديني التقليدي الاتباعي ) ويقول الدكتور شكري عياد إن الحداثة العربية قد انبثقت نتيجة شعور النخبة العربية المثقفة : ( بسقوط الحلم العربي… وأصبحت الحداثة مخرجا مناسبا من حالة الضياع التي سقط فيها جيل الثورة والأجيال التالية) فضلا عن ذلك فهو يرى أن الحداثة بمدلولها عند العرب والغرب على حد سواء: (تتجه إلى تدمير أعمدة النظام القديم ) ويقول إلياس خوري الكاتب اللبناني في مرحلة سابقة بأن ( الحداثة العربية هي محاولة بحث عن شرعية المستقبل، بعد أن فقد الماضي شرعيته التاريخية في عالم توحده الرأسمالية الغربية بالقوة )…
و أخيرا…من الأهمية بمكان، الإشارة إلى سمات الإنسان الحديث أو الحداثي، فمن أهم تلك السمات، استقلالية الفرد عن الرموز التقليدية، في الأسرة كالأبوين، أو الأخ الكبير حتى، وعن التبعية لزعماء القبيلة، ورجال الدين، وبالتالي يكون ولاؤه للوطن الكبير وحده؛ احترام المواعيد، الإيمان بعلوم الطب كعلاج، بعيدا عن السحر والشعوذة والتمائم، الاهتمام بالتخطيط في حياته، مقـدّر لظروف ضبط الإنجاب، هو أيضا  داع لقراءة العلوم، متابع للأخبار السياسية على صعيد الداخل والعالم، مؤمن بالتغيير وراغب فيه، ومؤمن بقدرة الإنسان الكبيرة على فعل التغيير… هذا بخلاف الإنسان القديم الذي إذا ما عكسنا تلك السمات التي أتينا على تناولها، فهي كثيرا ما توائم نظرته في هذي الحياة، فهو عادة يتميز بالسلبية والإذعان لما هو قائم، غير محبذ للتغيير، وغير مؤمن بقدرة الإنسان على فعل التغيير، هو مؤمن باستمرارية الحالة في الطبيعة والمجتمع دون اعتقاد منه بإمكانية التغيير.! هذه كانت أهم السمات التي خرجت بها جامعة هارفرد في الولايات المتحدة الأمريكية إثر بحث ميداني شملت دولا عديدة ومن مختلف القارات…
© معهد كيتو، مصباح الحرية، 07 يناير 2009.

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

تواصل معنا

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018