زاكروس عثمان

peshwazarabic13 يناير، 20110

تشير الوقائع اليومية، إلى تدهور الحريات الشخصية في مجتمعاتنا، حيث لم تعد العملية تقتصر على حرمان الفرد من حقوقه الخاصة، بل بإجباره على تبني خيارات الآخرين، في ميدان العمل والثقافة والديانة والسياسة، ليحكموا عليه بالجمود، فيتم حرمان المجتمع من الاستفادة من طاقته الذهنية الخلاقة، حيث لا يمكن للفرد أن يكون منتجا، ما لم يكون حرا محبا لاختياراته.

peshwazarabic19 نوفمبر، 20101

كثيرا ما يتم تصوير المجتمع العربي الإسلامي في العصور الوسطى، من قبل المؤرخين العرب الكلاسيكيين ومن قبل علماء الدين، على انه نموذج المجتمع القائم على التسامح والحريات الدينية،حيث يضربون المثل، عن قصص التسامح هذه، ومع أن الأمر لا يخلو من بعض الحقيقة، ولكن لا نظن أن صور التسامح الديني آنذاك، قد تطورت إلى مستوى الحريات الدينية، ولذلك يجب عدم المبالغة في الحديث عن الحرية الدينية التي سادت مجتمع دولة الخلافة، لأنها كانت حرية جزئية وانتقائية ونسبية، فرضتها الظروف التي رافقت الدعوة الإسلامية في مختلف مراحلها. فالدين الإسلامي إلى جانب روحانيته اعتمد منذ بداياته على التنظيم والفكر السياسي، وقد اشتغل المؤسسون الأوائل على التكتيك والاستراتيجيا آخذين بعين الاعتبار الظروف الموضوعية التي تؤثر في اتخاذهم القرارات المصيرية أو تبني المواقف من المسائل الهامة التي واجهتهم، ومن هذا المنطلق حددوا مواقفهم من مسألة الحريات الدينية. فعلى الجانب النظري مبدئيا وردت نصوص شرعية تعترف بالحرية الدينية ” ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفانت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين” ومن هنا جاءت مقولة لا إكراه في الدين، التي تؤكد الحرية الدينية، فهل اقروا الحرية الدينية عن قناعة أم كانت نتيجة ظروف معينة تطلبت التساهل مع غير المسلمين.
من خلال تتبع مسار الدعوة الإسلامية يمكن ملاحظة حركية موقف العرب المسلمين، من الحرية الدينية، الذي لم يكن أكثر من تكتيكات مرحلية، وضعت لخدمة الأهداف النهائية، ولهذا نجد بعد اشتداد عود الدعوة، خروقات كثيرة للحرية الدينية، على صعيد الواقع، وهذا يعني أن الحرية الدينية لم تأتي من إيمان وقناعة بل كانت مناورة سياسية – عسكرية لا بد منها، فقد ارتبط الموقف من الحرية الدينية بسير الأحداث والظروف على ارض الواقع وفق المراحل التالية :
أولا – مرحلة تأسيس الدعوة : كان المسلمون مستضعفون لذلك اكتفوا بالهدايا ولم يكرهوا الناس على الدخول في الدين الجديد، تجنبا لأذى قريش، ورغبة في إعطاء جمهور مكة انطباعا بان الإسلام دين التسامح واليسر، حتى يكسبوا الأنصار إلى صفوفهم، لذلك تساهل المسلمون الأول مع اليهود والنصارى والمشركين، على قاعدة لا إكراه في الدين.
ثانيا – مرحلة التوطيد : اكتسب المسلمون شيء من القوة بعد الهجرة إلى يثرب وصار لهم نواة دولة تستطيع الدفاع عنهم، فلم يعودوا بحاجة ماسة إلى مهادنة الآخرين، وعلى هذا الأساس تبنوا نشر دينهم بين القبائل بحد السيف، وكان انتصارهم الكبير بدخول مكة وإرغامهم غالبية سكانها على اعتناق الإسلام، والقضاء على العبادة الوثنية وتحطيم الأصنام، وهذا مخالف كليا للحرية الدينية، وفي هذه الأثناء تم التخلص من اليهود بحجة تآمرهم على الإسلام، مع أن النصوص الشرعية تنص على حقوق أهل الكتاب.
ثالثا – مرحلة القوة والتوسع : تطلع العرب المسلمون إلى انتزاع أملاك دولتي الفرس والروم وهما اكبر قوتين في عالم العصور الوسطى، ولهذا لم يعتمدوا على الدافع الديني و القوة العسكرية وحدهما في الصراع مع هذه الدول، بل درسوا الجغرافية البشرية والدينية لسكان المنطقة، فوجدوا طوائف من أهل الكتاب في العراق وسوريا ومصر، إلى جانب الزرادشتية والصابئة في العراق وكردستان وإيران، وهذه كلها ديانات عريقة راسخة في أفئدة الناس، فكان على العرب المسلمين تجنب الدعوة إلى إكراه هؤلاء الناس على الدخول في الإسلام، حتى لا ينضموا إلى صفوف الروم أو الفرس لحماية أديانهم من الدين الجديد، ولهذا خاطب العرب المسلمون سكان تلك البلاد على أساس لا إكراه في الدين كدعاية سياسية لما نسميه اليوم بالحرية الدينية، وحين دخل العرب مدن الشام ومصر فقد تعاقدوا مع أهل الكتاب على الحرية الدينية، ذلك لأنهم لم يحققوا انتصارا حاسما على دولة الروم المسيحية، التي بقيت متاخمة لحدود دولة الخلافة، وقد بقي المسيحيون من رعايا دولة الخلافة يتطلعون إلى بيزنطة كحامية لهم، يمكنهم الاستنجاد بها والتعاون معها على محاربة دولة الخلافة فيما لو انتهكت حريتهم الدينية. ولهذه الاعتبارات السياسية والإستراتيجية فقد حرصت دولة الخلافة على منح المسيحيين قدر ثابت من الحرية الدينية وذلك بالسماح لهم في البقاء على دينهم وأداء عباداتهم في مجتمعاتهم المحلية وعدم التدخل في شؤونهم الملية، ولكن الحرية الدينية بقيت منقوصة وقد تعرضت لانتهاكات كثيرة، فقد حولت العديد من المعابد اليهودية والمسيحية إلى مساجد ومنها الجامع الأموي بدمشق، وتم إتلاف الكثير من الرموز الدينية من إيقونات وصلبان وتماثيل، ولكن اخطر الانتهاكات كانت تلك التي اعتبرت اليهود والمسيحيين من أهل الذمة، يعني مواطنون من الدرجة الثانية عليهم دفع ضريبة إلى دولة الإسلام مقابل إقامتهم فيها وحفاظهم على دينهم، وكل هذه الممارسات مخالفة للحرية الدينية، هذا بالنسبة لليهود والمسيحيين الذين يعتبرهم النص الشرعي من أهل الكتاب ويعترف بحقوقهم صراحة. أما بالنسبة لأتباع الديانات الأخرى فقد تمت مصادرة حقوقهم الدينية كاملة، حيث وجدوا أنفسهم أمام خيارات صعبة وهي إما القبول بدخول الإسلام أو القتل، لم يتساهل العرب المسلمون مع أتباع الديانات القديمة في كردستان والعراق وإيران، فقد كافحوا الزرادشتية والمجوسية واعدموا كتبها المقدسة ودمروا معابد النار واعتبروا المؤمنين بها مشركين وكفرة وأجبروهم على اعتناق الإسلام. وحين حاول هؤلاء إحياء ديانتهم القديمة الصقت بهم تهمة الزندقة ليتم إعدام الكثيرين منهم في عهد الخليفة العباسي المهدي، وكان الاستثناء الوحيد في هذا الجانب هو سماح الخليفة عمر بن الخطاب للصابئة بالبقاء على دينهم، وكان التشدد تجاه هذه الأديان نابعا من زوال دولة الفرس وبالتالي لم يكن للعرب المسلمين مخاوف من التجاء السكان إلى دولة أخرى، فانفردوا بهم وقضوا على دياناتهم، وهذه ممارسات منافية للحرية الدينية.
لقد نال أهل الكتاب شيء من الحرية الدينية في بعض مراحل دولة الخلافة، كاليهود في الأندلس وهذا يرجع إلى خوف العرب المسلمين من الإساءة إلى اليهود فيتحالف هؤلاء مع أعداء المسلمين من الأسبان فيخلقون لهم القلاقل، وهناك صورة أخرى للحرية الدينية تظهر في تسامح صلاح الدين الأيوبي مع المسيحيين بعد دخوله القدس، وهذا يرجع إلى شخصية هذا السلطان الذي اشتهر بالتسامح والعفو، إلى جانب نظرته السياسية الثاقبة، فقد أراد أن يحيد المسيحيين كي لا يقاتلوا إلى جانب الصليبيين، فأعلن منحهم حريتهم الدينية، ولكن لم يكن العرب المسلمين كرماء بهكذا مع أتباع الديانات الأخرى، أو مع المسلمين أنفسهم فالردة ممنوعة وعقوبتها القتل، وكذلك فان أتباع المذاهب الإسلامية كانوا وما زالوا يكفرون بعضهم بعضا، فأين هي الحرية الدينية التي يتحدثون عنها.
* زاكروس عثمان الفائز بالجائزة الأولى لمسابقة منبر الحرية 2009.
© منبر الحرية، 05 مايو 2009

peshwazarabic19 نوفمبر، 20100

التبس الأمر على المراقبين لتطورات الأحداث الأخيرة في إيران، إن كانت حركة احتجاج على عملية إجراء الانتخابات، أو ثورة داخل ثورة، أم هي حركة أعمق من كل ذلك، لها أبعادها الأيديولوجية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية المخالفة لنهج النظام الحاكم.
فلم ينتبهوا إلى إن التطورات المنبثقة من الواقع لا يمكن أن تكون وليدة لحظتها، بل هي نتاج أسباب بعيدة متراكمة تخلق أزمة وتدفعها بها إلى السطح في ظرف معين، وبالنسبة للحالة الإيرانية، فان نظام الجمهورية الإسلامية قد بلغ مرحلة التناقض مع غالبية المجتمع الإيراني، وكذلك مع المحيط الإقليمي والدولي، حيث أصبحت حكومة الملالي عقبة رئيسية أمام تطلعات الشعوب الإيرانية إلى حياة عصرية منسجمة مع روح العصر الجديد الذي دخله العالم، فالشارع الإيراني متعطش إلى معايشة المتغيرات والظواهر الجديدة التي طرأت على المجتمع البشري، بقدر رغبته في مراجعة المفاهيم والفرضيات القديمة التي باتت عاجزة عن الإحاطة بالتطورات العلمية والتكنولوجية وما قدمت من أنماط متطورة في مختلف ميادين الحياة، ومتابعة المستجدات على كل صعيد.
لقد نجح نظام الملالي في حجب هذه التطورات عن المجتمع الإيراني بستار أيديولوجي – تيوقراطي سميك يبشر بقدوم الولي الفقيه، الذي سيملئ الأرض عدلا، انطلاقا من بناء دولة الحق في إيران، بهذه الشعارات الغيبية – المخملية تمكن الخمينيون من خداع الشعوب  الإيرانية والتأثير في معتقداتهم الدينية، لتدفعهم إلى ثورة أطاحت بالنظام الشاهنشاهي، وأقامت نظام الجمهورية الإسلامية، وكعادة الحركات الشيعية عندما تنجح في التحول من دعوة إلى دولة، فأنها تتخلى عن أسلوبها الدعوي – السلمي، وتتبنى العنف لتشيد دولة ولاية الفقيه بقوة السلاح، وقد سار الخمينيون على نفس النهج، ليفرضوا أيديولوجيتهم المذهبية التوتاليتارية على المجتمع الإيراني، بالأكاذيب تارة، و بالقوة تارة أخرى، ثم تطلعوا لتصدير ثورتهم إلى البلدان الإسلامية.
وقد حافظت الثورة على رونقها بفضل شعاراتها الغيبية والتبشير بقرب ظهور الأمام المنتظر، ليأتي بالجنة الموعودة، فإذا بالشارع  يفاجئ بالملالي وهم يحولون إيران إلى جحيم، متذرعين في عدم تحقيق الثورة لأهدافها، بتآمر الاستكبار العالمي وحربهم مع العراق، وقد استغلوا هذه المبررات ليتهربوا من الاستحقاقات المترتبة على نجاح ثورتهم وكذلك ليقيموا مؤسسات سياسية ودينية وعسكرية تسهر على توطيد نظام حكمهم وعلى صبغ إيران بصبغتهم الأيديولوجية. فتم ضرب التنظيمات السياسية التي تنتهج نظريات أخرى لا تدين بولاية الفقيه كأيديولوجية رسمية للدولة، وبعد تكريس سلطة الملالي وخطها السياسي، تم السماح بإجراء انتخابات دورية تم خلالها تبدل أسماء الرؤساء والوزراء وأعضاء البرلمان، وهذا يبين ظاهريا بأن الثورة ترفض احتكار السلطة أو الدكتاتورية الفردية، وقد انخدع الكثيرون بهذه التمثيلية واعتقدوا أن ثمة تحول ديمقراطي يجري في إيران، حيث فاتهم أن تولي السلطة حق محصور على الأطراف التي تتبع ولاية الفقيه، وان باقي القوى السياسية محرومة من المشاركة في الحياة السياسية، وهذا إجراء ابعد ما يكون عن الديمقراطية التي تفسح المجال على قدر المساواة أمام كافة الأطراف للمشاركة في العملية السياسية. فالذي حدث أن الملالي استغنوا عن دكتاتورية الفرد واستعاضوا عنها بدكتاتورية الأيديولوجية، بقيت هذه الخدعة سارية المفعول حتى انتهاء الحرب مع العراق، وبدأ المتغيرات الدولية، وما قدمت من مفاهيم  وأفكار بدلت معالم الكون.
ورغم سياسة الانعزال والتعتيم فان الشارع الإيراني لم يكن غافلا عن كل هذه التطورات، بل أراد المشاركة فيها والاستفادة منها، في التخلص من قيم الحياة القروسطية المفروضة عليهم من طرف نظام حكم الملالي. فالشباب الإيراني في توق إلى تيارات الفكر العالمي، والى مجتمع مدني تعددي متنوع، والى الثقافة و العلوم والتكنولوجيا، والى الحريات العامة والشخصية، والى ممارسة حياته الطبيعية خارج عمامة الولي الفقيه.
وقد تحايل الشباب بقدر المستطاع على السلطة ليمارسوا قناعاتهم الشخصية بعيدا عن وصايا الملالي، فلم تبقى لهم صلة بأيديولوجية الجمهورية الإسلامية سوى قشورها المفروضة على المجتمع بالقوة، حيث اكتشف الشارع مدى ابتعاد السلطة الحاكمة عن مصالح الشعب. حيث تنتهج الجمهورية الإسلامية أيديولوجية وهمية تلزمها بتبني إستراتيجية توسعية، مدفوعة بمصالح الشريحة الحاكمة، لتقف على الضد من رغبة الشعوب الإيرانية الملحة في الحداثة والتجديد، وبذلك فقد أصبحت السلطة في تناقض حاد مع المجتمع، ففي الوقت الذي يتطلع الشارع إلى تنمية حقيقية والى التمتع بثروات بلاده الغنية، فان حكم الملالي مشغول بأوهامه حول واجب تصدير الثورة لبناء خلافة الأمام المنتظر، أوهام تكلف الشعوب الإيرانية مزيدا من هدر الأموال والثروات والزمن وتعطل مستقبل أجيال كاملة، لان حكام طهران قرروا تأجيل تنمية بلادهم كي يتفرغوا لخوض الصراعات مع القوى الإقليمية والدولية، وهذا يفسر اهتمامهم  بالإنتاج العسكري والأسلحة الذرية، دون الاهتمام بالصناعة المدنية التي تلبي حاجات المجتمع وتخلق فرص العمل أمام العاطلين وتحد من تنامي عدد الفقراء، ولهذا فقد نهض الشارع لأنه لن يقبل بسهولة حتى يغامر حفنة من المشعوذين والدجالين من اجل خرافات يؤمنون بها بمصير بلادهم ومستقبلهم، فيعرضونها للدمار، إذ رغم لغة الرئيس الأمريكي اوباما التصالحية فأن احتمالات تعرض إيران لضربة استباقية ما زالت قائمة بقوة، ولن يكون بمقدور اوباما إبقاء باب المغازلة مفتوحا مع طهران إلى النهاية، بعدما تبين للأمريكيين أن عشق رئيسهم للجمهورية الإسلامية من طرف واحد، ولن يسمح له الديمقراطيين قبل الجمهوريين بمزيد من التخاذل أمام عجرفة ملالي طهران.
لقد قرأ الشارع الإيراني صورة الواقع على الساحة المحلية والإقليمية والدولية، ووقف على حجم الأخطار التي يجرها نظام الحكم على بلادهم، ليقرر إقصاء الجناح المتشدد، والمجيء بالتيار الإصلاحي كخطوة أولى في التخلص من نظام الجمهورية الإسلامية بالكامل. وكان الجناح المتشدد على علم بموقف الشارع لذلك قرر مسبقا حسم الانتخابات لصالح احمدي نجاد في اكبر عملية تزوير ليس لها مثيل إلا في الجمهوريات العربية، ولذلك فان الأحداث التي وقعت في إيران كانت تعبيرا عن رفض الشعوب الإيرانية لنظام الجمهورية الإسلامية المتعفن الذي لم يعد صالحا لقيادة إيران في هذه المرحلة الراهنة.
هذه هي معطيات الواقع الإيراني المستجد والتي لا يمكن إلغائها بفتوى من مرشد الثورة، الذي اخل بمكانته كمرجع روحي وكشف عن زيف هالة القداسة التي يحيط نفسه بها بعد انحيازه الواضح إلى أكثر الأطراف تشددا وتهديده باستخدام القوة وسفك دماء الإيرانيين. فهل سيثني هذا عزيمة الشباب و يئد إرهاصات و تطلعات التغير؟ وهل سيتم تدجين الشعب الذي استطاع إسقاط الشاه؟ هل سيعجز أمام سلطة الملالي التي فقدت مشروعيتها؟
© منبر الحرية، 23 يونيو/حزيران 2009

peshwazarabic19 نوفمبر، 20100

قيل الكثير عن هذا الرجل الظاهرة، كأخر صرعة تخرج به أمريكا إلى العالم، تحدثوا عن حيويته وذكائه وقدرته على الابتكار وإيمانه بضرورة التغيير، وتحدثوا أكثر عن موهبته الخطابية مع أن النجاح في إدارة دولة عظمى أو صغرى غير مشروط بمهارة الرئيس في فن البلاغة، بل إن بلاغة رجل السياسة كثيرا ما تكون وبالا على الدولة التي أنجبته وعلى الأمة التي انتخبته، فالبلاغة تعرف كيف تمس العواطف وتؤثر فيها وتقود الرأي العام نحو توجهات غير صحيحة، فقد استطاع هتلر ببلاغته أن يخدع الشعب الألماني ليصل إلى سدة الحكم، ليشعل حربا كانت وبالا على العالم وعلى ألمانيا وعليه شخصيا،  فإذا كانت السمة البارزة لكاريزما الرئيس باراك حسين أوباما هي البلاغة، فعلى دافع الضرائب الأمريكي وعلى العالم الحيطة والحذر، إذ أن الولايات المتحدة الأمريكية بزعامتها للعالم لن تنجح في ترتيب إدارة الكون بفن الخطابة، بل هناك شروط أكثر واقعية وأكثر عملية في توفير مستلزمات نجاح الإدارة الأوباماوية لأمريكا و للعالم.
ما يهمنا نحن بؤساء الشرق الأوسط بالنسبة للسيد أوباما، هو طريقة تعاطيه مع قضايا منطقتنا، حيث تنتظره ملفات سميكة ومعقدة أكثر مما يتصورها، خاصة انه قليل الخبرة بالسياسة الخارجية، ونحن نعرف أن قادة عالميين محنكين أصحاب خبرة، قد وقفوا عاجزين أمام أزمات الشرق الأوسط، التي تظل تتفاقم كلما مر الزمن، فما هي المعجزة التي سوف يفاجئنا بها أوباما؟ البدايات ليست مبشرة كثيرا، والحلول الأولية التي يقترحها أوباما ليست جديدة أو مبتكرة،  فهو ينوي أن يلقي بخطاب تاريخي في مصر، يعني انه سوف يستعين بموهبته في فن البلاغة ليعالج مشاكل بلاده مع  مجتمعات ما زالت تفكر بعقلية العصور الوسطى، فالرجل يريد أن يلمع صورة أمريكا في العالم الإسلامي، وعلى ما يبدوا انه لم يسأل نفسه هل سيقبل العرب والمسلمون بأمريكا إذا تم تلميع صورته؟
إن أول عقبة ستواجه أو ربما تفاجئ أوباما في هذا المجال، حين يفاتح زعيم عربي أو إسلامي أو يحاور النخب السياسية والدينية المتنفذة في مجتمعات المنطقة هي أن الجميع سوف يطالبونه بالمحافظة على الوضع الراهن، وهذا يناقض شعاره القائم على التغيير، هذا إذا كانوا لبقين معه فلا يحرجوه بمطالب تعجيزية كتخلي أمريكا عن الديمقراطية وغض النظر عن مسائل الحريات العامة وحقوق الإنسان، ليعرضوا عليه نموذج الدولة التوتاليتارية – التيوقراطية – الدكتاتورية.
أن العقلية السائدة في مجتمعات المنطقة لدى بعض الشرائح الحاكمة والمحكومة، مشبعة بثقافة إلغاء الآخر الحضاري والثقافي والديني، خاصة إذا كان هذا الآخر غربيا وتحديدا إذا كان أمريكيا، ومن الصعب على أي رئيس أمريكي إقناع العرب والمسلمين بالتخلي عن هذه العقلية أو على الأقل إجراء بعض التغييرات عليها.
ربما يعتقد أوباما إن جوهر الخلاف بين بلاده والعالم العربي – الإسلامي هو انحياز أمريكا إلى إسرائيل وتدخلها العسكري والسياسي في بلدان المنطقة، ولكن القضية أعمق من هذه الخلافات الظاهرية
هناك إيديولوجيات شمولية،، دينية، سياسية، فكرية، تسود المنطقة، ويتبناها المتطرفون، والتي لها استراتيجياتها الكونية وأجندتها البعيدة المدى، تجعل قضية صراع الحضارات بين المشرق الإسلامي والغرب مسالة حتمية، أصحاب مثل هذه الإيديولوجيات وهم بذات الوقت أصحاب صناعة القرار في دول المنطقة، لن يقبلوا بالحسناء الأمريكية مهما وضعت كميات إضافية من مساحيق الماكياج السياسي، لأنهم وبكل بساطة مؤمنون بان الصراع مع الغرب صراع مصيري حيث الكرة الأرضية لا يمكنها أن تتسع لعالمين متناقضين، والحل الوحيد هو إزالة احدهما من الوجود ومن الأفضل إزالة أمريكا.
هل فكر الرئيس أوباما في الدوافع الحقيقية وراء انتشار الفكر المتطرف وثقافة العنف والتعصب وشيوع السلفية والأصولية لتتطور في النهاية إلى إيديولوجية إرهابية خطيرة تهدد البشرية، أم انه يعتقد أن الإرهاب مجرد ردة فعل طارئة ناتجة عن سلوكيات السياسة  الأمريكية في المنطقة؟
لقد وضع الرئيس بوش برنامج زمني للانسحاب من العراق، وتخلى عن دعم القوى الديمقراطية والليبرالية في لبنان، وكف عن الضغط على السلطات السورية، وترك المجتمع الدولي يعالج ملف إيران النووي بالطرق السلمية، وطرح فكرة بناء دولة فلسطينية، وتعهد للنظام العربي بجناحيه أي حكومات الممانعة و حكومات الاعتدال بالتخلي عن مشروع نشر الديمقراطية في دول الشرق الأوسط، ليسحب البساط من تحت أقدام النظام الإقليمي العربي – الإسلامي المنتج للإرهاب، ومع كل هذه التنازلات والإغراءات فان التطرف والإرهاب ازداد نموا بدلا من أن يتوقف أو يخف على الأقل، وهذا يشير على إن الصراع بين أمريكا وبين المشرق الإسلامي ليس صراع على القضايا الخلافية الظاهرة فحسب بل هو في جوهره يعود إلى إيمان بعض الأطراف القوية في مجتمعات المنطقة بضرورة شطب الغرب من الوجود حتى يتسنى لها السيادة على العالم بدلا من أمريكا.
ما يفكر به أوباما أو يتحدث عنه اليوم، قد سبقه إليه بوش وطبقه عمليا في أواخر حكمه دون أن ينجح في تجميل وجه أمريكا.
على كل حال انتهت مرحلة الخطابة والبلاغة لدى الرئيس أوباما، ليدخل الامتحان الحقيقي وسرعان ما يكتشف العالم حقيقة قدراته ومواهبه وذكائه في التعامل مع أتباع صراع الحضارات و المتطرفين في كلتا الجانبين.
وقد لوحظت علامات الخوف والقلق من أحلام الفتى الأسود على وجوه الجمهوريين، وهذا سر ارتياحهم من تسلم السيدة هيلاري كلينتون حقيبة الخارجية باعتبارها أكثر واقعية وخبرة وفهما لطبيعة الصراعات الكونية الدائرة في الشرق الأوسط، حيث استفادت من تجربة الرئيس الأسبق بل كلينتون الذي لم يتردد في استخدام الشدة ضد قوى التطرف في المنطقة، فهل تنجح السيدة كلينتون في إقناع رئيسها ليكون أكثر واقعية؟
© منبر الحرية، 03 يونيو/حزيران 2009

peshwazarabic18 نوفمبر، 20101

لقد بات الفارق الحضاري بين المجتمع العربي والمجتمع الغربي واسع الهوة , لذلك فان عقد المقارنة بينهما لم يعد امرأ منطقيا , ولكن قلة من المتنورين العرب يعطون الحق لأنفسهم , لمقارنة مجتمعاتهم مع المجتمعات الناهضة , والسائرة بقفزات اعجازية بغية اللحاق بمجتمعات الدرجة الأولى .
إنهم يسألون, لماذا نجحت مجتمعات فتية في تخطي عتبة التخلف , ولماذا تركت خلفها منهجيات القوة والعنف ،، الدكتاتورية , الشمولية , الإرهاب ،  المدمرة لكينونة الإنسان , ولماذا عبرت خط التشكيلة الاجتماعية – الاقتصادية البدائية إلى تشكيلة عصرية نامية, قوامها مجتمع واقتصاد مخطط لهما علميا , ولماذا دخلت عملية تنمية مستدامة وشاملة ,بإمكانيات متواضعة في الثروات الطبيعية والخيرات المادية وخبرة بشرية معدودة , لترفع من إنتاجية اقتصادها كما ونوعا وتوظف إيراداته في رفع مستوى حياة ومعشية سكانها , ولماذا أقامت حكومات رشيدة عرفت كيف تؤسس علاقات تعاونية مع باقي الدول لمنفعة أوطانها وشعوبها , بعيدا عن التشنجات الإيديولوجية , لتتخلص من الصراعات العسكرية والسياسية , حتى تتفرغ للبناء والأعمار التنموي , وبالمقابل لماذا يكون الوضع عكس ذلك في العالم العربي , أيكون الخلل في المؤسسات الفوقية أم في بنية ثقافة المجتمعات العربية.
إذا كانت الثقافة ليست مجرد مصطلح ,أو مفهوم ستاتيكي يدل على منتوج جاهز , بل مركبا متجددا ومعقدا وحيويا ومتفاعلا , يعكس فلسفة المجتمع لظواهر الحياة والطبيعة والكون , و قيمة مادية ومعنوية كنتاج لجهد الإنسان العقلي والعاطفي والعضلي, تحمل  ملامحه وصفاته , وتتضمن تجاربه الصحيحة والخاطئة, الحسنة والسيئة , وكخلاصة لحياة المجتمع وليست نص غيبي مرتل ,فإنها خاضعة للمراجعة والتقييم ,فلماذا يتشنج  بعض المثقفين العرب , أمام المطالبة بإعادة نقد وتقييم الثقافة العربية , بغية تأهيلها كي تكون منسجمة مع روح العصر, لتنال موقع مناسب بين الثقافات الأخرى , إن الثقافة بما تعني من أنماط تفكير ومعتقدات وقناعات , وقيم أخلاقية واجتماعية ودينية , وما تشمل من اطر سياسية واقتصادية وعلمية , وكل ما يتعلق بصيرورة حياة المجتمع, هي التي تقود إلى التغيرات, وما لم تتغير ثقافة المجتمع , فلن يكون  قادرا على تغيير جوانب حياته المادية , والمجتمع العربي أحوج إلى التغيير, ولهذا يجب تغيير ثقافته أولا .
إن إعادة تقييم الثقافة العربية ليست تسلية فكرية, ولا بذخ علمي , بل هي ضرورة تفرضها الأزمة الشاملة والمركبة والمزمنة والمستعصية والمستفحلة ,التي تعانيها المنظومة العربية , حيث التردي والانحطاط على كافة الأصعدة , يحاول البعض تحميل المسؤولية إلى الحاكم العربي باعتباره النموذج الأسوأ بين حكام العالم , ولكن ليس من العدل أن نحمله المسؤولية كاملة, فالانهيار العربي لا يرجع فقط إلى السياسات الجهنمية للحكومات العربية , بل هناك عوامل موضوعية – جوهرية – بنيوية , موجودة في الثقافة العربية , هي التي أوصلت المنظومة العربية إلى الدرك الأسفل .
فإذا تم استقراء الثقافة العربية بهذا المفهوم الشامل , سنجد بأنها هي التي أنتجت النظام العربي الرسمي , وليس كما هو الاعتقاد الشائع بان النظام العربي هو الذي أنتج هذه الثقافة الوعرة ,طبعا هذا لا ينفي بان الفئات الحاكمة تجد من مصلحتها تبني هذه الثقافة وتشجيعها وتنميتها , ما يضمن لها استمرار سلطتها دون تقديم أية التزامات تجاه دولها وشعوبها , فالنظام العربي وجد ثقافة تخدمه مجانا فلماذا لا يشجعها ويكرس معطياتها , و النتيجة أن الثقافة العربية تنجب صنفا غريبا من الحكومات القذرة ,التي تجد في هذه الثقافة بيئة مناسبة لنموها وبقائها, فتقوم بالمحافظة عليها, ولهذا بات من الضروري وضع الثقافة العربية في قفص الاتهام , واستنطاقها لتجيب على بعض الاستفسارات المطروحة بإلحاح في هذه الآونة, ولم يعد التهرب منها مجديا .
انه لشيء محير أن يتجه العالم بما فيه دول الجنوب نحو صيغ أخرى من أنظمة الحكم غير  الدكتاتورية – التوتاليتارية التي تكاد تنقرض, لتقترب من تجارب سابقة أو مبتكرة في التحول الديمقراطي , واعتماد الشرعية في تداول السلطة ,بدلا من احتكارها بالقوة, بعكس الحكومات العربية, رغم تنوع أشكالها ومسمياتها , ما بين ثورية , اسلاموية , قوموية , فإنها كلها  تبقى حكومات غير شرعية , تحتكر السلطة بوسائل غير دستورية , فالبلدان العربية تحتل المرتبة الأولى عالميا في عدد ضحايا النظام الحاكم من السجناء والقتلى السياسيين , الذين يتم إبادتهم فقط لأنهم من المعارضة , والاستثناء الوحيد هو لبنان بديمقراطيته المتعثرة , بفعل مساهمة المنظومة العربية في زعزعة أمنه واستقراره حتى لا تتبلور تجربته الديمقراطية , لإجباره على دخول حظيرة النظام  الاستبدادي – الشمولي .
إن الديمقراطية هي قاعدة العصر الجديد ,التي يرتكز عليها المجتمع البشري لتدعيم أساساته , والاستبداد هو الاستتناء الذي ينتهجه العرب في الانزلاق إلى الهاوية , فهل المسؤولية تقع على الحاكم العربي , أم على الثقافة العربية , قد يعتقد للوهلة الأولى بان النظام العربي هو المسئول باعتباره الجهة الوحيدة المسيطرة على المجتمع والمتحكمة في توجهاته , ولكن يجب أن لا ننسى بأن الثقافة العربية هي أم هذا النظام  , ولو لم  تتقبل العقلية العربية نظام الحكم الفردي , ما كانت تسمح باستمراره في السلطة , عقب حدوث المتغيرات الدولية , التي تركت هكذا نظام كمستحدثة من مرحلة انتهت , ففي الوقت الذي تلاحق الشعوب الدكتاتوريين وتطيح بسلطتهم ,فإن الإنسان العربي المتعلم قبل الأمي والمثقف قبل الجاهل والنخبوي قبل العامي , يخرج للهتاف بالأبدية للرمز الأكثر تعطشا للعنف وسفك الدماء , والرمز الأكثر طغيانا , رغم إدراكه بأنه يهتف لجزار قذر , فما الذي يجعل المجتمع العربي متهافتا على دعاة العنف والدكتاتوريين , انه ليس الخوف ولا القمع  , بل لأن العنف و الاستبداد متوافقان مع العقلية العامة للمجتمعات العربية , إن المواطن العربي لا يجد حاجة إلى الديمقراطية حتى ينزع إليها , ففي المناخ العالمي الموائم للتغيير , ظهرت ثورات برتقالية و مخملية كثيرة ,  ها هي الشعوب الإيرانية بعد إدراكها أن حكومة الملالي وعصابات الولي الفقيه , لم تعد مناسبة لسياسة الدولة والمجتمع في القرن 21 , تنهض بثورتها للتخلص من حكومة المستحاثات , حتى ينقذوا بلادهم من سرداب العصور الوسطى , فهل شهدنا ثورة ملونة في أي بلد عربي , أليس هذا دليل على وجود عطل عميق في العقلية العربية .
إن الثقافة العربية, مقارنة بالدوائر الثقافية الأخرى , هي الأكثر تأثرا بالغيبيات والعدمية , والمفاهيم المطلقة , فالغيب هو الطاقة والمحرك والمنظم , لكل شاردة وواردة في حياة المجتمع العربي , وهو الغاية اللانهائية  لكل فعل ذهني أو عضلي , من اجلها كل وسائل ميكافللي مشروعة , وهو الحكم الفصل في بناء المواقف من مختلف القضايا , فرسالة الثقافة العربية  هي خدمة الغيب , والوسيلة الأوفر والأرخص لأداء الخدمة هو الإنسان , وهذا يجعلنا نتساءل هل هناك حقا مسحة إنسانية في الثقافة العربية , إذا كان الإنسان خارج اهتماماتها كليا , بعكس الثقافات الغربية والشرقية , التي تسخر الغيب ذاته والطبيعة والكون كوسائل من اجل رفاهية الإنسان وسعادته , فالثقافة العالمية المعاصرة تعتبر الإنسان غايتها النهائية , بينما الثقافة العربية تحول الإنسان إلى عبد لغاية لا تدرك , و أسيرا لأزليات ماورائية ,  تحيل حياته إلى جحيم , ولكنه يرضى به, وهذا ما لا يمكن تفسيره , إن الغلو في العبودية للغيب , جعل الثقافة العربية تنحرف إلى مسالك بالغة الوعورة , حتى تعدت الغيب إلى العدمية , ليدفعها التعصب للغيب إلى التناقض معه , وهذه جدلية عسيرة , لا يتسع مقال متواضع لشرحها , أنما يكفي القول , أن الثقافة العربية في غيبها الديني , تجاوزت حدود التدين والعبادة والاعتدال وأصول الشريعة , إلى التزمت والتطرف في تفسير النص الديني وتضمينه  ما لا يتضمن , والتعدي عليه باجتهادات تراجعية مميتة , تسلب الإنسان تلك الجزيئات البسيطة من حريته الشخصية التي ما زال يحتفظ بها بأعجوبة , ها نحن نجد مأساة الصحفية السودانية لبنى أحمد حسين ,لمجرد ممارسة حريتها الفردية في ارتداء بنطال , ثارت الأمة وأقامت عليها الحد  , وكأنها ارتكبت الكبائر ,ولو لم يكن المزاج الشعبوي العام موافقا على هذه الممارسات ما كانت مرجعية دينية أو حكومية تجرأ على إدانتها, بل المرجعيات تلجأ إلى هذه الممارسات تزلفا إلى المزاج الشعبي ,هذه هي معطيات ثقافة الغيب فلما الاستغراب  .
لم يعد التدين في المجتمع العربي مجرد حريات دينية اعتيادية يحق للإنسان ممارستها , بل تحول إلى إيديولوجية سوداوية , أطاحت حتى بالشريعة الإسلامية ,و لو أردنا فلسفة الدين , سنجده  ليس غاية, فالله من القوة والحكمة , ما يجعله بغير حاجة إلى البشر , وحين انزل الأوامر والنواهي ,فانه لم يفعل لحاجته إلى طاعة الناس له , بل أراد عبر الطقوس الدينية  أن يذكر الناس بوجود اله يراقبهم , ليخافوه أو يهابوه أو يحبوه , فيكون وازعا روحيا يمنعهم من التعدي على بعضهم بعضا , فالتشريعات السماوية لم تنزل لحفظ حقوق الله لأنها محفوظة بذاتها , بل نزلت لحفظ حقوق الناس , وأننا نجد التشريع الإسلامي – مع تحفظنا على كل ما هو ديني – عقد اجتماعي قريب الشبه إلى التشريعات الوضعية , وهذا يؤكد أن الشرع نزل من اجل تنظيم العلاقات بين  سكان الأرض, وليس لترتيب العلاقة بين الشياطين والملائكة والآلهة من سكان السماء ,فالغاية النهائية التي أرادها الله من الدين , هي وضع الشريعة في خدمة الإنسان بإيجاد مجتمع عادل , متسامح , آمن , يمنع ظلم الناس لبعضهم بعضا , و الذي حدث أن الثقافة العربية قلبت الآية , و حولت الدين بجوانبه الدنيوية والأخروية إلى غاية مطلقة مكرسة لخدمة الغيب , فإذا كان الله يضع الإسلام في خدمة البشر , فإن العقلية العربية تضع الإنسان في خدمة الغيب , هذا الفهم العربي الخاطئ للدين يولد النزعات العنيفة والمتشددة عقائديا وسياسيا و ميدانيا ,وتبقي المجتمعات العربية خارج الأزمنة الحديثة , وان كانت عضويا تتواجد في القرن 21 م , والمحزن أن الإنسان العربي  يكون الضحية الأولى والخاسر الأكبر, لهذه المعتقدات العجائبية , التي لا يقتصر الإيمان بها على الجهلة والظلاميين, بل إن كبار منظريها هم صفوة المثقفين والانتلجنسيا العرب .
لقد انعكست نظرة الثقافة العربية إلى الغيب الديني كغاية مطلقة غير قابلة للجدل , على المسألة القومية,ليجدوا العروبة أيضا ,غيب قومي , وغاية أخرى مطلقة, فقد أدى التعصب الديني وتجذر قيم البداوة ,إلى صعود الفكر الشوفيني  والنزعة العرقية , والتعالي  الأجوف على بقية القوميات ,على أساس أن العرب ،، خير امة أخرجت للناس ،، هذه المقولة التي لا يقبلها منطق  ولا يصدقها عقل ولا يدعمها واقع , تغذي الشوفينية بفاعلية كبيرة , حتى صدق السواد الأعظم من الشعوب العربية أنهم شعب الله المختار , فهل سأل احدهم على ماذا يكون شعب الله المختار , طالما هو يقف في الصف الأخير الأبعد عن الحضارة , إنهم لا يقيسون الأمور هكذا , بل يجدون في هذه المقولة امتياز الهي يخصهم , , دون أن ينتبهوا إلى أن واقعهم المزري لا يؤهلهم لتبوأ هذا المركز , فلو أعطي لهم حق الريادة على العالم لعادوا به القهقرى من الديمقراطية إلى الاستبداد , ومن التعددية إلى الشمولية , ومن الانفتاح والمسامحة إلى التزمت والانعزال , ومن العلم إلى الخرافة , ومن تعدد الأديان إلى الإسلام , من الاقتصاد العصري إلى الاقتصاد البدائي , ومن مجتمع الحضر إلى مجتمع البداوة , ومن دولة المواطنة إلى دولة العبيد , ومن تقديس الإنسان إلى احتقاره , ومن قيم التعاون والتواصل إلى الحروب والنزاعات , ومن القرية الكونية إلى القرية العرقية , ومهما كانت درجة تقدمهم أو تخلفهم الحضاري فان الامتياز يبقى ساري المفعول ,  وهذا ما يبقي العروبة في طور الشعور العرقي – الغريزي – البدائي القائم على رابطة الدم , فلم يسمح  بعصرنة الفكر القومي في الثقافة العربية ,ليكون رابطة انتماء للأرض والوطن والدولة ,وليس للعرق والدم , ولهذا نتيجة الفهم الغيبي والضيق للفكر القومي , فقد عجز العرب حكاما ومحكومين رغم تعصبهم الشديد للعروبة عن تحقيق منجزا قوميا ,فالعقلية العربية لا تنظر إلى العامل القومي كوسيلة معنوية تجمع أبناء البلد الواحد على مصالح ومشتركات, تحقق لهم الازدهار المادي والقوة والمنعة , وترفع مستوى معيشة أبناء القومية ,لتكون العروبة وسيلة لخدمة الإنسان العربي , وليست غاية تلتهم مصائر أجيال وأجيال دون جدوى , إنها مشكلة الثقافات الغيبية , دائما تقلب الأمور رأسا على عقب , فتحول الوسيلة إلى غاية والغاية إلى وسيلة ,فالقومية وسيلة لخدمة الشعب , أي خدمة الإنسان , ولكن بالنسبة للعقلية العربية فأنها جعلت العروبة غاية مطلقة , وجعلت الإنسان وسيلة في خدمتها , ولهذا فإننا على صعيد الواقع لا نجد صدى للقومية العربية , إلا في الشعارات والمواقف الهشة , التي سرعان ما تتكسر أمام عواصف الصراع العربي – العربي , وها هي عدوى الصراع بين الحكومات الشقيقة , تنتقل إلى نزاعات بين الشعوب العربية حتى داخل البلد الواحد , في صور تطاحنات دامية دينية , مذهبية , قبيلة , عرقية , لا تبقي الانتماء للعروبة معنى .
إن المنظومة العربية, هي الوحيدة , التي تحافظ على مجموعة القيم السياسية والفكرية والثقافية , المنافية للعدالة والحرية والديمقراطية ,و السابقة لعصر الثورة الرقمية , , فالعالم العربي باستثناء القلة, غير منسجم مع الأفكار الجديدة , فهل يعقل أن يكون العالم بمجموعه  على خطأ وهو متجها نحو ثقافة معولمة, ويكون العرب الذين يتقهقرون إلى ثقافة العزلة  على صواب .
قد تحتج الأغلبية المتعصبة وتقول أن هذا التوصيف للحالة العربية مبالغ فيه , فالعرب موجودون في القرن 21 زمنيا وحضاريا , وهم يتعاطون مع العلوم والتكنولوجيا كمنجزات للحضارة الحديثة , ويدخلون أنماط من الحياة الجديدة إلى مجتمعاتهم المحلية , نعم هذا صحيح , ولكن رقي دائرة حضارية ما, لا يقاس بمدى تداولها المادي لمعطيات الحضارة الحديثة , بل بالكيفية التي يتم التداول بها , وبالنتائج المترتبة عليه, فقد نجد أكاديميا رفيع المستوى ,يتعاطى التكنيك الحديث ,فهل يكون متمدنا لمجرد حصوله على العلم والتكنولوجيا , وهو يسخر هذه الأدوات في تكريس السلفية – الأصولية , الدينية والعرقية والإيديولوجية , لمكافحة الفكر التنويري, بالتحريض على العنف المعنوي والجسدي, كم من النخب العربية يبررون جرائم الشرف بحق المرأة , كم يدعون إلى الفصل بين الجنسين , وإلزام المرأة بقيود تتجاوز حتى حدود الشريعة , كم يسخرون ثورة المعلومات  لنشر الفكر الظلامي  , كم أنت معرض للتصفية, إذا خالفت جارك في مسألة إباحة تناول المأكولات الصينية.
إن المعيار الصحيح لقياس تحضر المجتمع  لا يكون باقتباسه منجزات العلم والتكنولوجيا ,بل في  مدى تأثير الحضارة في ثقافته وأفكاره , فكلما كانت ثقافة المجتمع ثقافة علمانية, إنسانية ,منفتحة ,متنوعة ,متعددة الأنماط , ديمقراطية , كلما عرفنا انه قد انتفع من المضمون الفكري للحضارة الحديثة,وبدون ذلك يكون الاستفادة من التكنولوجيا ناقصا ومشوها , مثل المحاكاة الجوفاء لقشور أنماط الحياة في المجتمعات الراقية ,الحضارة أفكار وقناعات وثقافة وقيم , فهل العقلية العربية قادرة على تقبل تيارات الفكر العالمي الجديد ,و إذا كانت ترفض الأفكار المستوردة , فهل هي قادرة على إنتاج أفكار عصرية خاصة بها , والجواب أن العقل العربي لا يريد هذا ولا ذاك , لأنه ببساطة غير معني بعالم الإنسان بل هو مشغول بالغيبيات , ولهذا فان الثقافة العربية لا تمتلك الأدوات المعرفية لتحليل الظواهر المستجدة حول العالم , لتتخذ منها مسبقا  دون دراسة أو تحليل موقفا معاديا , كما هو الموقف من المتغيرات الدولية والنظام العولمي الجديد , فالأغلبية العربية اعتبرت حدوثها مجرد مؤامرة امبريالية – صهيونية تستهدف العروبة والإسلام , هذا لان النظام العربي الرسمي الاستبدادي لا يتوافق مع عولمة الفكر الديمقراطي , ولان المجتمعات العربية ترفض عولمة الفكر الذي يمجد الإنسان وليس عالم الغيب , وفي واقع الأمر فان المتغيرات حدثت ليس تلبية لمشيئة المجتمع الغربي , ولكنها لم تكن محض مصادفة ,وإذا أردنا فهم كينونتها يجب العودة إلى نفس القوانين الموضوعية التي تحرك التاريخ دائما , والنظر إليها نظرة أوسع واشمل من منظور المصالح العربية الضيقة , فالمجتمع المتحضر نتيجة تسارع وتيرة تطوره, تتولد لديه حاجة مستمرة إلى التغيير , لتجاوز الآليات القديمة المادية والمعنوية  والفكرية المعيقة لعملية التطور , بإيجاد آليات جديدة تستطيع الاستجابة لزخم التطورات الحاصلة , بغية انجاز الخيرات المادية, وتوظيف مردودها في الغاية النهائية للحضارة البشرية وهي رفاهية وسعادة الإنسان , قد تكون الوسيلة براغماتية مغالية أو منافية للقيم المثالية , ولكنها بموجب صيرورة المجتمعات المعاصرة أصبحت أمرا واقعا , حيث ارتبطت سعادة الإنسان بقدرته على إنتاج السلع الزراعية والصناعية والنشاط التجاري , أي في الثورة البرجوازية – الصناعية , التي نقلت العالم إلى مرحلة تاريخية جديدة في ملامحها الفكرية والمادية , لتوفر البيئة المناسبة لتفجر طاقة الإنسان الخلاقة في إنتاج مزيد من الأفكار والاكتشافات العلمية ومخترعات التقانة , كل هذه العناصر تفاعلت في علاقة جدلية , فأصبحت عاملا ونتيجة لبعضها البعض , وحدث تزاوج كبير بين المظاهر المادية والمظاهر الفكرية للحضارة الحديثة , إذ كلما تطور الفكر تطورت عمليات إنتاج الخيرات المادية والعكس صحيح , وقد أفضى ذلك إلى الفكر الحر في السياسة والاقتصاد لينعم الإنسان بفضاء رحب , ساعد على تسارع وتيرة التطور , فهل يخطئ المجتمع الغربي في سيره إلى التطور , بحق المجتمع العربي الذي يرفض قيم التطور , وإذا كان التفوق الحضاري للغرب يبيح له الريادة على العالم, وهذه قاعدة متبعة تاريخيا , فهل يعتدي على الحق العربي خاصة أن العرب لا يملكون البديل الحضاري لمنافسة الغرب في عولمة نموذجهم .
لقد أدت الثورات الصناعية والتطورات الاقتصادية إلى نشؤ علاقات دولية شديدة الترابط خاصة في ميادين المال والتجارة والإعمال , مما جعل مصالح الدول المتطورة تتجاوز حدودها الوطنية , حيث لا يمكن تصور حالة الاقتصاد الياباني دون اخذ الاقتصاد الأمريكي في عين الاعتبار , ولا يمكن عزل مؤثرات سوق الأوراق المالية في لندن عن نظيرتها في نيويورك , وقد رأينا كيف انتشرت أنفلونزا قطاع العقارات في أمريكا لتتحول إلى وباء أصاب اقتصاديات العالم كله ,نتيجة تشابك العلاقات الدولية أصبحت هناك حاجة إلى تغيير الآليات المتحكمة في الاقتصاد الدولي , فجاءت المتغيرات الدولية تعبيرا موضوعيا عن هذه الحاجة , وجاءت المفاهيم الجديدة التي تطرح فكرة القرية الكونية كحل ممكن لعجز الآليات القديمة عن الاستجابة لمتطلبات الاقتصاد الدولي , أي إزالة الحدود والقيود التي تحد من حرية تحرك الأموال والأعمال والتجارة ونقل التكنولوجيا وتبادل المعلومات , هذه الحرية الاقتصادية تلزمها حرية فكرية – سياسية تتمثل في الليبرالية والديمقراطية , إذ بدونهما لا يمكن الحلم بالقرية الكونية .
بقي العرب نتيجة متلازمات الجهل خارج هذه المعادلة , وحين تفاعلت عناصرها استنكر العرب ذلك , واستكثروا على الغرب عولمة نموذجه الحضاري , وتناسوا أنهم قبل ألف عام ساروا على نفس النهج الذي يسير عليه الغرب اليوم , فقد سيطرت الخلافة العربية الإسلامية على نصف العالم عسكريا وسياسيا , وتزعمت الاقتصاد العالمي القروسطي , واحتكرت الأسواق , وفرضت الدينار كعملة عالمية , ومن جانب آخر نشرت الإسلام واللغة الثقافة العربية , حيث يمكن القول أن العرب المسلمون كانوا الأسبق إلى النظام العولمي , فلماذا يبررون لأنفسهم هذا العمل ويعتبرونه رسالة حضارية – اعمارية , ولماذا يعادون الغرب ويسمون نظامه العولمي بأنه استعماري  , لماذا يتعمدون عدم فهم حقيقة أن ثقافة المجتمع المتحضر تنتشر تلقائيا إلى خارج الحدود على قاعدة الضعيف يقلد القوي , وفي عالم اليوم فان الغرب هو الأقوى , ومن الطبيعي أن تتعولم حضارته , إنها المغالاة في التعصب للهوية الدينية والقومية , وربطها بغايات لا نهائية , والتي تدفع العرب إلى طروحات غير منطقية ومطالب غير واقعية ,فمن وراء صراعهم مع العالم  لا يريدون حل القضايا العربية العادلة ,بل يتطلعون إلى الريادة على العالم, وهذا يفسر انزياح العقل إلى الماورائيات والعوالم الأخروية, والتكاثر السرطاني لإيديولوجيات ،، التهديد والوعيد ،، العنف المنظم الذي تمارسه معظم الحكومات العربية أو تكلف التنظيمات المسلحة بممارسته  , لأن عدم امتلاك المؤهلات الحضارية لمنافسة الآخر في العلوم والثقافة والتقانة والاقتصاد والأفكار , تدفع العرب إلى اختيار طريق الصدام , إيمانا منهم بان طريق العنف سوف ينتصر على العلم .
لقد عجز العقل العربي عن التعامل مع قضايا الواقع , ولهذا لم نجد طرح حقيقي للتعامل  العقلاني مع العولمة ما يضمن الاستفادة من حسناتها وتجنب مساوئها , لان الثقافة العربية غير مؤمنة بأولويات الثقافة العالمية المعاصرة حول حقوق الإنسان والحريات والديمقراطية ومكافحة الجهل والتخلف والفقر والمرض, إنهم لا يريدون تحرير الإنسان من جهله وتخلفه حتى يبقى عبدا لغاياتهم الجهنمية في السيادة على العالم وفرض إيديولوجية الغيب المطلق على البشرية , إنها لمأساة أن يسعى بدوي لا يحظى بشربة ماء إلى القضاء على أمريكا دون أن يفكر بالذين يتركونه عرضة للعطش والجوع …
© منبر الحرية، 14 نوفمبر/تشرين الثاني2009

peshwazarabic15 نوفمبر، 20100

اعتمد الفكر السياسي العربي على الرابطة القومية و الانتماء الديني  أساسا لتقوم عليها غالبية الدول العربية, وإذا تتبعنا جذور الرابطة القومية سنجد لها امتداداتها القبلية والعشائرية , التي تحيل الدولة إلى ملكية خاصة لقومية واحدة أو عشيرة واحدة وفي بعض البلدان لعائلة واحدة , ومن جهة أخرى فان الانتماء الديني يأخذ جذوره من الانتماءات المذهبية والطائفية , فيتم بها  احتكار الدولة لأتباع  ديانة أو مذهب معين , لنقف على نماذج متنوعة ومتعددة لدول الأقليات أو دول الاكثريات, أما دولة المواطنة دولة الكل وليس الجزء فلا وجود لها , وهذا جلي في ديباجة دساتير الدول العربية , التي تنص على تعريف هوية الدولة على أنها دولة عربية أي مخصصة لقومية واحدة هي القومية العربية , وأنها دولة إسلامية وهي بذلك تكون دولة المسلمين وحدهم , ومع أن الدساتير على عيوبها لا قيمة واقعية لها, حيث نادرا ما يتم العمل بها, وكثيرا ما يتم خرقها من قبل واضعيها, فإنها تعطي مشروعية مزيفة لهذا الشكل المتخلف من أشكال الدول التي ثبت أن هياكلها السياسية والاقتصادية والاجتماعية لم تكن مناسبة لبناء الدولة الحديثة في المرحلة السابقة، بقدر ما هي غير قادرة على الاستجابة لمتطلبات المرحلة الجديدة التي تشهد تبدلات في المفاهيم وتعطيها مضامين جديدة تساعد النماذج الأخرى من الدول الأكثر تقدما على التأقلم مع المناخات السياسية والاجتماعية والاقتصادية الجديدة التي أخذت تسود العالم , حتى تكون قادرة ليس على مواجهة التحديات بل السيطرة عليها والاستفادة منها في تحقيق مصالحها الوطنية بدفع قوى التطور نحو مزيدا من الإنتاجية المادية والمعنوية الرفيعة .
إن الانتماء العرقي و الديني ليس هو النموذج الأفضل لبناء الدول, لأنه لا توجد امة نقية الدماء ولا يوجد مجتمع من ديانة واحدة, بفعل حركات الهجرة الطوعية والإجبارية للبشر التي تغير باستمرار خرائط ديموغرافيات الكرة الأرضية.
كان أعداد المهاجرين حول العالم 190 مليوناً لعام 2005، وفقاً لإحصاءات المنظمة العالمية للهجرة، والصورة الدينامكية العالمية متغيرة باستمرار, أما بالنسبة للبلدان العربية فانه بنتيجة عملية انتقال السكان في الحقبة الإسلامية بموجات هجرة كبيرة أدت إلى تغيير التركيبة العرقية والدينية للسكان لتفقد المجتمعات المحلية هويتها الأحادية , وتتحول إلى مجتمعات متنوعة الأديان والأعراق , فصار العنصر العربي أكثرية  و تحول السكان الأصليين إلى اثنية, وفق هذه المعطيات تشكلت اللوحة الديموغرافية في المجتمعات العربية الراهنة, حيث التنوع العرقي والديني والثقافي .
ومع انتشار الفكر القومي في العصر الحديث وتنامي حركة الشعوب من اجل الحرية وحق تقرير المصير, فإن حركة القومية العربية واجهت المسالة القومية, ولسوء الحظ فان التيار الغالب الذي حمل الفكر القومي العربي قد تأثر بالإيديولوجية الألمانية القائمة على التعصب العرقي والتي تدعوا إلى بناء الدولة على أسس رابطة الدم , وحين استلم هؤلاء السلطة اخذوا بمبادئ النظرية العرقية كعقيدة رسمية لدولهم وطريقة لمعالجة هذه المسالة,  لتصبغ مجتمعاتها بالصبغة العروبية- الإسلامية  وترفض كليا وجود قوميات أخرى في دولها وتهمش الأديان الأخرى لصالح الدين الرسمي, ولم تتوقف هذه السياسة على حدود الإقصاء والتهميش ,بل تطورت إلى إيديولوجيات شوفينية تحاول صهر الاثنيات الأخرى في البوتقة العربية, وحين رفضت هذه الاثنيات تطبيق سياسة التعريب عليها, لجأت النخب العربية الحاكمة إلى ممارسة سياسة الاضطهاد القومي في إجراءات تمييزية في بعض الدول وأساليب العنف في دول أخرى , مما أدى إلى ظهور مسالة الاثنيات والأقليات في هذه البلدان لتفجر حروب أهلية وصراعات دامية, تكلف الدولة خسائر بشرية ومادية باهظة وتنشط عوامل تعطيل مشاريع التنمية فيها وتهدد السلم الأهلي , وتقود إلى مآسي إنسانية و كوارث , حيث جرائم الإبادة الجماعية والتصفية على الهوية العرقية والدينية .
وهذا يدل على أن نموذج الدولة العرقية لا يناسب تكوين مجتمعات المنطقة القائمة على التنوع, وقد بات مطلوبا من النخب الحاكمة والسياسية والفكرية البحث عن وسائل لعصرنة الدولة وتحديثها وإعادة النظر في أسس بنائها وصولا إلى وضع تعريف جديد لها يراعي مسالة التنوع القومي والديني لسكانها , من خلال الأخذ بتجارب ناجحة لبناء الدول على أسس جديدة يمكن الاستفادة منها في عصرنة الدول العربية دون المساس بسلامتها ووحدة أراضيها ,إذ كثيرا ما تتذرع الحكومات القائمة بالحرص على سلامة الدولة لتتهرب من استحقاقات التغيير لتحافظ على الشكل القديم للدولة القومية .
هناك تجارب ناجحة وراقية, تستند على نظريات أخرى غير النظرية العرقية في وضع أسس الدولة, كنظرية المصالح الاقتصادية والإرادة المشتركة , التي تقدم مفاهيم جديدة عن الأمة والشعب والدولة ,حيث تكون رابطة الانتماء إلى الأرض هي الرابطة المشتركة بين جميع سكانها بغض النظر عن أعراقهم وأديانهم , إنها رابطة المواطنة التي يضمنها دستور حر وديمقراطي يحدد حقوق وواجبات المواطن دون تمييز ليحقق العدل والمساواة ما يضمن لكل المكونات الاجتماعية في الدولة أن تعبر عن هويتها القومية والدينية بحرية تامة , ليتحقق ذاك الانسجام الخلاق بين موزاييك مجتمع متعدد الأعراق والأديان , ويصبح التنوع عامل قوة واستقرار وتطور للمجتمع والدولة , فالتجربة السويسرية حققت نجاحا مذهلا في التعايش بين الأعراق ما سمح لها أن تكون في مصاف الدول المزدهرة حضاريا لتؤكد أن التنوع ثراء وغنى وليس نقمة , وفي الولايات المتحدة الأمريكية نجد النموذج الأرقى لدولة المواطنة لأنها بموجب الدستور قامت على أساس الانتماء إلى أرض الولايات المتحدة الأمريكية وليس على أساس الانتماء إلى عرق محدد أو ديانة معينة , وهذا ما ساعد على التفاعل بين سكان الولايات المتحدة التي تضم مجتمعا هو الأكثر تنوعاً اثنيا و دينياً في العالم ومع ذلك فان هذه الدولة تحافظ على وحدتها وتماسكها وليس هذا فحسب بل أصبحت أعظم قوة عالمية , و مرد ذلك أنها إلى جانب الثقافة الانكليزية السائدة سمحت بازدهار الثقافات الفرعية والمحلية لشعبها المتعدد الأعراق فإلى جانب العنصر الأوروبي والسكان الأصليين توجد العناصر الأفريقية والآسيوية والاقيانوسية. هؤلاء المهاجرين الذين يفدون إلى الولايات المتحدة يحافظون على روابط قوية مع أوطانهم الأصلية، عن طريق السفر، والبريد الإلكتروني، والهواتف الخلوية، و الفضائيات ولكن ليس هناك ما يخيف أميركا من هذه الناحية  فقد آمن مواطنوها الأوروبيين  المهاجرون الأوائل كما المهاجرين الجدد بهذا التنوع ولا تنظر الإدارة الأمريكية إلى هذا التنوع كمصدر خطر للصراعات العرقية بل وجدت فيه أسلوب ثري للتفاعل بين الشعوب و تمازج الحضارات , فإذا بالنموذج الأمريكي شكل مذهل وفريد من بين أشكال الدول الحديثة , حيث نجح الآباء المؤسسون  في خلق مجتمع متجانس فقد تضمنت الكلمات الأولى من الدستور الأمريكي عبارة ،، نحن شعب الولايات المتحدة ،، ليعطي فضاء رحب لمعنى الشعب متجاوزا المفهوم القومي أو العرقي لمصطلح الأمة أو الشعب إلى مفهوم المواطنة فكل من يسكن ارض الولايات المتحدة هو من شعب أمريكا مهما كان انتمائه العرقي أو الديني ، فالجميع  جماعة أهلية منضوية تحت التنظيم الواحد والمصالح المشتركة التي يجد كل أمريكي انه جزء منها كون هذا التنظيم الاجتماعي – السياسي الراقي يوفر حقوق متساوية للجميع .
فما الذي يمنع الحكومات العربية من الاستفادة منها لتعيد صياغة دساتيرها حتى تؤسس دولة الجماعة الأهلية والمواطنة, وليست دولة العرق أو المذهب ,حيث لم يعد مقبولا إقامة  دين أو قومية للدولة، بل يجب التركيز على  منح الحريات العامة للاثنيات مع الحرية الدينية، ففي ذلك يكون الاتجاه نحو المسار الصحيح للدخول إلى العصر الجديد, هذا هو التحدي الحضاري الذي يواجه الحكومات العربية إن كانت قادرة على وضع مبادئ جديدة  تضمن حقوق الاثنيات العرقية وتحافظ على الحريات الدينية للأقليات حتى تفسح المجال أمام هذا التنوع الثري ليعطي ثماره ، بخلق مجتمع تعددي لا تكون فيه هذه التعددية مجرد أمر نتحمله ونتعايش معه فحسب، بل تصبح هي ذاتها مصدر قوة المجتمع نفسه. ولكي تتحقق هذه الخطوة، يجب تغيير الأفكار المسبقة التي تصور الأقلية العرقية أو الدينية خطرا على امن دولة الأكثرية , من الضروري التخلص من هذه القناعات القديمة وإيجاد ثقافة عصرية تسمح لأبناء المجتمع الواحد بالتعرف على بعضهم بعضا حتى يعبّر فيها كل مكون اجتماعي عن شخصيته ويعرض مساهمته ورغبته بالمشاركة في  تأسيس دولة المواطنة كإطار جامع لمصالح كافة الشعب .
إن فكرة القومية ليست مقدسا ثابتا لا تقبل المساس بها . وإذا كانت بعض النخب العربية تعتقد أن إيديولوجيتها القومية هي الحقيقة المطلقة فهي مخطئة , فالفكر متحرك وليس ساكن، متبدل وليس جامد، والنظريات العلمية قابلة للتعديل كلما اكتشفت حقائق جديدة حول ظاهرة اجتماعية أو طبيعية , والمجتمع البشري حقل حيوي و مثير لدراسة ديناميكية التاريخ  فالشعوب تتطور وكذلك معتقداتها لذلك لا بد من التخلي عن التعصب القومي والديني حتى تستطيع الأغلبية فهم الأقلية على أساس أنها جزء أصيل من مكونات المجتمع وليس شيء طارئ يجب تصفيته, لقد بات على منظري الفكر القومي إعادة التفكير في مجموعة مفاهيمهم الشمولية حول الحياة والعالم ضمن سياق الواقع الديموغرافي و الديني المتعدد والمتنوع في مجتمعاتهم  حتى تعرف كيف تستطيع من هذه الكثرة أن تصيغ دولة واحدة .
إن التنوع سمة من سمات الدول العربية وفي العصر الجديد حيث تنتشر قيم الحرية والديمقراطية ومبادئ حقوق الإنسان بات من الضروري إلقاء نظرة أكثر عقلانية على الأعراق والأديان والثقافات والفنون الموجودة في هذه البلدان , حيث لم تعد سياسة الإنكار والتجاهل مجدية لان مثل هذه المواقف لا تحل المشكلة بل تزيد من تفاقمها, وترفع كلفة معالجتها خاصة أن المحاولات السابقة في حل هذه القضايا بوسائل العنف قد باءت بالفشل وعادت بسوء العاقبة على رؤوس أصحابها، ففي وسط مثل هذا التنوع الهائل ليس هناك من حلول غير الاعتراف بالأمر الواقع , وذلك بإعلان المساواة بين سكان الدولة وضمان الحريات العامة والدينية , وهذا يعني تغيير الدستور وإعادة صياغة تعريف للدولة , فهل النخب الحاكمة مستعدة لمثل هذه الخطوة, أم أنها مصرة في المحافظة على الشكل القديم للدولة القومية – الدينية التي تضمن لها استمرار سلطتها والحفاظ على مصالحها تحت شعار الوصاية على القومية وعلى المذهب.
© منبر الحرية، 07 مارس/آذار 2010

peshwazarabic15 نوفمبر، 20100

مثلها مثل المحافل الدولية، فان القمم العربية تحظى باهتمام الدوائر الإقليمية والدولية والتغطية الإعلامية الواسعة قبل وبعد انعقادها، وكأن مصير العالم سوف يتحدد على ضوء جدول أعمال القمة وما سيصدر عنها من قرارات خطيرة، تحبس أنفاس العواصم العالمية ، مع أن الجميع يدركون بأن الفارق بين المحافل الدولية والعربية، هي أن المحافل الدولية تحترم نفسها وتلتزم بما يصدر عنها من قرارات التي سرعان ما تجد طريقها إلى التنفيذ، بينما المحافل العربية لا تحترم نفسها ولا تقيم اعتبارا لملايين البشر الذين ينتظرون منها معالجة القضايا الملحة التي تواجه دولهم ومجتمعاتهم، فإذا بقرارات الحكام العرب تتبخر قبل عودتهم إلى عواصمهم، فيكون انعقاد القمة من عدمها، ولهذا نسال هل من ضرورة لهذا الاهتمام الإعلامي والسياسي بالقمم العربية العادية منها والاستثنائية، طالما مقدماتها ونتائجها معروفة سلفا، حيث الديباجة هي هي من أول قمة إلى آخر قمة لم يتغير فيها شيء. فالجامعة هي جامعة الحكومات العربية وليست جامعة الشعوب العربية، فمن الطبيعي أن تخصص جهودها واهتماماتها حول حماية نظام الحكم العربي، وضمان بقاء الحاكم المستبد السلطة، ومعالجة كافة المشاكل التي تعكر صفو هذا الحاكم أو ذاك. لم يحدث مرة أن الإنسان العربي سأل نفسه : عجبا في كل قمة يتحفنا حكامنا بنفس الديباجة من القرارات المزركشة ولكننا بعد كل هذه العقود لم نجد قرارا واحدا قد اخذ طريقه إلى التنفيذ،والمصيبة أن المواطن العربي يقدس حاكمه مهما كان صالحا أو طالحا خيرا أو شريرا ليعتبر أن محاسبة أو مساءلة الحاكم من اكبر الكبائر، لم يحدث أن الشعوب العربية حاسبت حكامها على تهربها من قراراتهم التي يتخذونها في سلسلة قممهم المتكررة.

منبر الحرية3 نوفمبر، 2010

كاتب من سوريا، يكتب باللغتين الكردية والعربية، حاصل دبلوم في العلوم الاجتماعية من جامعة دمشق، باحث في التاريخ والدراسات  الكردية،  له دراسات سياسية تتناول جوانب من المسالة الكردية في سوريا، و نتاجات أدبية من شعر ورواية باللغة الكردية، إضافة إلى  المقالات  المنشورة في الصحافة و بعض مواقع الانترنت.

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

تواصل معنا

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018