تشير الوقائع اليومية، إلى تدهور الحريات الشخصية في مجتمعاتنا، حيث لم تعد العملية تقتصر على حرمان الفرد من حقوقه الخاصة، بل بإجباره على تبني خيارات الآخرين، في ميدان العمل والثقافة والديانة والسياسة، ليحكموا عليه بالجمود، فيتم حرمان المجتمع من الاستفادة من طاقته الذهنية الخلاقة، حيث لا يمكن للفرد أن يكون منتجا، ما لم يكون حرا محبا لاختياراته. إن إقصاء الفرد عن المشاركة في اتخاذ القرار يعني غياب المبادرة الفردية كشرط أساسي للإبداع والابتكار، لذلك لم يعد مقبولا النظر إلى النزعة الفردية تلك النظرة البدائية السلبية، التي لم تتغير، رغم تكاثر الحركات المطالبة بآليات أفضل تستطيع الاستجابة لزخم التبدلات المتسارعة على كل صعيد، حيث المفاهيم تكتسب مضامين وأنماط جديدة، فنادرا ما تدرج جماعات الحراك المحلية حقوق الفرد في مداولاتها، لأنها لم تتلقى القدر الكافي من مؤثرات الحراك العالمي، بفعل وعورة التضاريس السياسية، ومشقة المسافة الثقافية الفاصلة بين بلدان المنطقة وبين مراكز تيارات ثقافة التغيير، لتبقى مجتمعاتنا أسيرة ثقافة جمعية قاحلة، حيث قضية الأفراد، شبه غائبة عن البرامج الحكومية، وعن أنشطة هيئات المجتمع المدني، فهل يمكن تقدم المجتمع إذا كانت ثقافته تكاد تلغي الفرد كليا، مع أنه الركيزة الأولى في عملية البناء هذه.
لا معنى للحديث عن الإصلاح والحقوق العامة، بينما حقوق الفرد، شبه معدومة، وحريته معطلة، فبدون الحرية الشخصية تنعدم إنسانية الكائن البشري، ويغدو أسير غرائز الخوف والجوع، تحت ظروف الاستلاب، فلا تعود ملكة العقل تفيده، حتى يكون قادرا على إفادة مجتمعه، فالمجتمع حصيلة الجهد الذهني والعضلي لمجموع أفراده، فإذا توقفت حركة الأفراد، فلن تتحرك عربة المجتمع، وما يحز في النفس هو أن مجتمعاتنا تعيق تطورها، بالحجر على الفرد وتذويب شخصيته في مرجل الجماعة، بفعل خلفيات ثقافية، اجتماعية ،دينية، تنتج إيديولوجيا جمعية، فالبداوة الفكرية كمنظومة أخلاقية وتقاليد وأنماط سلوك وفكر تسود أكثر مجتمعاتنا تحضرا، رغم تجاوزها مرحلة البداوة كنمط معيشة، وهي الزاد الفكري لعقلية النخبة، تغذيها دعوات النصوص الدينية إلى الفكرة الواحدة، النمط الواحد، الجماعة الواحدة، التقليد الواحد، القيمة الواحدة، لتؤكد على الروح الجماعية المناقضة للروح الفردية، فالقمع في دائرتنا الحضارية يأتي من البنية التحتية والسلطة معا، فحق الاختلاف والاستقلالية كبائر، بعكس المجتمعات الأخرى التي تعطي قيمة عالية للأفراد، وقد شهدنا الجهود الخارقة لحكومة تشيلي لانتشال عمالها المحتجزين تحت الأرض، بينما إسرائيل أشعلت الحروب في لبنان وغزة لتحرير جندي أو جنديين لها وقعوا في الأسر، وهي تشترط على إطلاق ألف أسير فلسطيني ورفع الحصار عن شعب بأكمله، مقابل تحرير احد جنودها، حتى أنها لا تنسى مصير موتاها، فقد أطلقت أسرى عرب مقابل تسليم جثة جندي لها، أما بريطانيا فقد ضحت بمصالحها الحيوية مع إيران دفاعا عن حياة مواطنها سلمان رشدي الذي أباح حكم الملالي دمه، واليوم فإن أمريكا تخصص جهود جبارة وتخوض صراع عالمي يكلفها المليارات فقط لحماية مواطنيها من الاعتداءات الإرهابية داخل وخارج أراضيها، هذه الأهمية التي تعطيها المجتمعات للأفراد، نابعة من إيمانها بأن توفير المناخ الأنسب لهم يعني تمكينهم من انجاز الابتكارات والاختراعات لزيادة رقي المجتمع وتقدم البشرية، ولكن في بلداننا ليس للفرد قيمة، غير العبودية للجماعة، بذريعة حماية الخصوصية الحضارية، فالمفكر محروم من حقه في حرية التعبير، ليعجز عن المشاركة في الحياة العامة، والمرأة كيانها الفردي مغيب، فحقها في التعليم والعمل والعلاج والزواج والوراثة، مرهونا بمشيئة الذكر، فمن أين لها القدرة على التعبير عن ذاتها وتفجير طاقاتها الإبداعية، لتساعد نفسها وتنهض بمجتمعها، والشباب ليس لهم حق اختيار نوعية تعليمهم، هواياتهم، طريقة عيشهم، والطالب تحت استبداد المعلم يفرض عليه وجهة نظره التربوية والعقائدية، والفرد ليس حرا في اختيار معتقده الديني، وان أي فعل يقام عليه حد الردة، أين هي حقوق السياسي ليطرح وجهة نظر مخالفة للنظرة العامة حول قضية ما؟، ماذا يكون مصيره غير البطش بحجة خروجه عن الثوابت الفكرية ومحظورات الفكر السياسي الأوحد، الذي يفشل في الاستجابة للتحديات الراهنة؟، أين هي حقوق الملكية الفردية، إذا كانت بعض الحكومات، تفصل القانون على مقاس مصالح الشريحة المتنفذة؟، فتحرم المواطن من امتلاك العقارات وحتى من امتلاك مسكنه الخاص، وتمارس في ذلك أشكال التمييز على الهوية العرقية أو الدينية بين مواطنيها، أين هي خصوصية الفرد في منزله، حين تداهمه الأجهزة فجرا وتهين كرامته، وترعب أفراد أسرته، دون مذكرة قانونية؟.
إزاء هذه الانتهاكات، فإن فتح النقاش حول حقوق الفرد بات مطلبا ملحا، حيث إفساح المجال لمنهج مخالف ليس عطاءا مثاليا من الطرف المسيطر بل حاجة لإتاحة الفرصة للجميع للسير بالمجتمع في الاتجاه الصحيح، والمشاركة في صياغة أفكار غير تقليدية، فتنوع الآراء إثراء للخيارات المصيرية وللنظريات الإبداعية، تسعف أصحاب القرار وقت الحاجة إلى الفكرة الأنفع، في حال فشل الفكرة المستخدمة، ولهذا فان ضمان حقوق الفرد، من ضرورات تطوير المجتمع طالما هو قائم على تقسيم العمل والتخصص فيه، حيث الحاجة إلى أدوار اجتماعية مختلفة للأفراد، بمؤهلاتهم وخبرتهم وكفاءتهم، يؤدون فعاليات اجتماعية وسياسية حيوية ويحركون آليات النشاط الاقتصادي، وهذا أصل تميز المجتمع بالطابع الفردي، وعلى المجتمع أن يفجر طاقات أفراده بمنحهم الاستقلالية، ليكونوا فاعلين في بنائه، لقد تخلت المجتمعات المتقدمة عن قدسيتها لصالح الأفراد، فظهر القانون الفردي لحماية الحريات الفردية، ونشأ مجتمع جديد مؤمن بكرامة الفرد واستقلاله، وتبلورت الايدولوجيا الفردية إزاء النظريات الجمعية المناهضة للنزعة الفردية، لتبين أن الاختلاف مسألة طبيعية، والاعتراف بها يعمل على تنمية الحياة، فينال الأفراد والجماعات حقهم في الاختيار، ويتوفر للمجتمع الاستقرار الاجتماعي وفرص التنوع المبدع وتعدد الخيارات وانتقاء أفضلها، لتفادي الإقصاء والاحتقان الداخلي، ويا ليتها مجتمعات العقلية الجمعية تدرك بأن تراجع حركة الإبداع والأدب والفن والتفاعل الحضاري، إنما ينتج عن جهلها بان انتقاص حقوق فرد واحد يعني فقدان حقوق جميع الناس.
إن الإنسان فردي النزعة، والمجتمع مفروض عليه من الخارج، متحكم فيه بغير إرادته، لذلك يجب إبراز كيان الفرد، ومنع المجتمع المساس بحريته، بردع الطغيان الديني والاستبداد السياسي، وإتاحة الفرصة أمام الفرد لتحقيق ذاته، ونفع نفسه، لينطلق متحررا من حالات كبت رغباته، ومن ضغوطات المجتمع، التي تعوق نموه، فالمجتمع لا يضره شيء في أن يستمتع الفرد بحريته في شؤونه الشخصية، وعليه يجب أن تنطلق التربية من الفرد وتنتهي بالمجتمع، فهذا أفضل من تستر الأفراد بالقناعات الزائفة التي يفرضها المجتمع عليهم، وهم يؤمنون بقيم أخرى، إن مساعدة الأفراد على إخراج القيم النابعة من داخلهم، تفيد في تعاملهم مع بعضهم طبقاً لرغباتهم الفطرية، لذا يجب أن تتضمن الدساتير حقوق الفرد بعيدا عن انتماءاته السياسية والدينية والمذهبية، حق الحياة، التعلم، السكن اللائق، احترام المعتقدات، أسلوب العيش والفكر، توفير الأمن والسلامة، الضمان الاجتماعي، سيادة القانون، حق التملك، وحق الطعن في القوانين، حتى لا تتحول المحاكم إلى سلاح للاستبداد السياسي “ملاحقات، اعتقالات، تعذيب، محاكمات مزيفة ” تمارسها الأنظمة الدكتاتورية على الأفراد، فالبشر لم يُخلقوا لخدمة الحكومة، بل الحكومة وُجدت لحماية البشر وحقوقهم، والحرية ليست وسيلة لغاية سياسية، بل هي غاية بحد ذاتها، فلا يجوز للسلطة أو المجتمع انتقاص الحقوق الفردية، نظرا لصلتها الوثيقة مع الديمقراطية، فالإيمان المشترك بالحرية الفردية ركيزة أساسية لبناء مجتمع حر وحكومة ديمقراطية.
© منبر الحرية،12 يناير/كانون الثاني 2011
تشير الوقائع اليومية، إلى تدهور الحريات الشخصية في مجتمعاتنا، حيث لم تعد العملية تقتصر على حرمان الفرد من حقوقه الخاصة، بل بإجباره على تبني خيارات الآخرين، في ميدان العمل والثقافة والديانة والسياسة، ليحكموا عليه بالجمود، فيتم حرمان المجتمع من الاستفادة من طاقته الذهنية الخلاقة، حيث لا يمكن للفرد أن يكون منتجا، ما لم يكون حرا محبا لاختياراته.