تعكس علاقة الأمّة بالثقافة موقفها من تاريخها و راهنها ومستقبلها، وتعكس درجة استقلالها ووعيها بذاتها. وتختلف هذه العلاقة، من حيث القوة والحجم والتأثير المتبادل، من مجتمع لآخر، ومن زمن لآخر في المجتمع الواحد. إذ ليس لأمة حيّة، طموحة ومتقدمة، أن تكتف بثقافة تقليدية- عامة تقتصر على الأعراف والعادات المتوارثة والأشكال الأولية من المعارف الجمعية والعقائد والقيم التي تشير إلى خصوصيتها وتؤكدها. ولذلك تطلع، بصورة مستمرة، إلى ثقافة أرقى وأكثر تقدماً تتناسب مع آفاق تقدمها، وتستجيب لغاياتها المستقبلية، مع الحفاظ على الحد الأدنى من خصوصيتها ومن سمات هويتها الثقافية، التي لا تتعارض سيرورة تطورها الشامل.
تمتلك الثقافة بذاتها قدرات هائلة على تغيير المجتمعات وتجديدها، بل تشكل أسّ هذا التغيير وجوهره. وبالمقابل فإن البشر حينما يعمدون إلى تغيير أنفسهم وأوضاعهم، إنما ينتجون وعياً أرقى بهذا التغيير يشكل روح ثقافة أكثر تقدماً. وهنا تتراكم المعارف والخبرات في سياقٍ إعادة تشكيل ثقافة الأمّة وتطور هويتها.
إذن، ثمة علاقة ضرورية بين التحولات الثقافية والتحولات التاريخية، تكون الهويّة الثقافية، وفقاً لها، مشروعاً بنائياً متواصلاً، يقوم على الاحتواء لما هو ماض وحاضر و يتجاوزهما. إنها علاقة جدلية قوامها النفي والاستبقاء، أي تحرير الذات مما هو سلبي في الماضي، والاستبقاء النقدي لما هو إيجابي وفاعل. وعليه فإن ما يميّز الذات أو الهويّة الثقافية للأمة هو هذا السياق التاريخي الخاص لتطورها.
بهذا المعنى، الهويّة الثقافية للأمة ليست ثابتة ومنجزة دفعة واحدة في التاريخ، ولا ينقصها التناقض والانقسام الداخلي، اللذين يشكلان حافزاً لتخطي ذاتها على الدوام، ولهذا هي تتجاوز ذاتها باستمرار في الأزمنة المختلفة. فلا يمكن القول عنها إنها مغلقة، بل مفتوحة بالمعنى التاريخي التفاعلي، ويتم إنتاجها وإعادة تشكيلها في صيرورة تاريخية لا تكتمل أبداً.
ويمكن القول أيضاً، إن الهويّة الثقافية لأمة من الأمم ليست مفارقة للتاريخ، للزمان والمكان، وإنما هي محايثة لها، تنبثق في جغرافية معينة، وفي زمان معين، ولها تاريخها الخاص. إنها أبعد ما تكون عن الثبات المطلق. ومن هنا فإن هذا التأكيد على الخصوصية التاريخية لثقافة لا ينبغي أن يكون لهدف تكريس وهم أيديولوجي معين، يقود إلى تصور لا تاريخي للهوية الثقافية، أي بوصفها جوهراً خالداً، أو ماهية ثابتة تتعالى على التاريخ.
انطلاقا من هذا الموقف، فإن النظر إلى تلك العلاقة يستدعي تعريفاً إجرائياً لمفهوم( الثقافة الحرّة) بإزاء( الثقافة التابعة أو المقيدة) أو ثقافة الإتباع لا الإبداع. فإذا كانت الثقافة عموماً هي فكرة الأمة بالذات عن ذاتها وعن الآخر، فإن الثقافة الحرّة هي ثقافة وعيُّ أمة بضرورة حريتها، التي تطلع إلى المزيد منها، تمارسها وتنافح عنها، تعبير عن الشغف الدائم بها. فالحرية حاجة متواصلة، والحاجة برأي هيغل، هو وعيّ النقص. والحال أن الحرية لا تكون بالنسبة للأمة حاجة، ما لم تدرك هذا النقصان بها، وتعي افتقارها الدائم إليها. هنا تقاس قيمة الثقافة الحرّة وأهميتها، بدرجة وعيّ الأمة المنتجة لها بالحاجة المستمرة إلى الحرية، على أنها ثمرة وعيها الحرّ بضرورتها. الثقافة الحرّة هي ممارسة كلّ القوى من أجل هدف الحرّية الكاملة اللامتناهي.
الأمة الأكثر حرّية، هي الأقل جهلاً، والأكثر عقلانية ووعياً بالضرورة. وتبدو لنا الثقافة الحرّة، حاجةً تلازم كل أمة لا تريد لنفسها أن تكون خاضعة للضرورة اللاواعية والفوضى والاعتباطية. وهي في الوقت نفسه الأقل تعصباً والأكثر تسامحاً. فالثقافة الحرّة ليس لها أن تحقق امتداداً إلا في التواصل الإنساني والتعايش، تكرّس الحوار والتفكير الحرّ وسيلةً، ويصاحبها التسامح وقبول الآخر مظهراً لها.
لا تسعى الثقافة الحرّة إلى تأبيد الواقع وتكريس ما هو قائم، بل تتطلع إلى تجاوز العالم الراهن وتخطيه. إنها في العمق تنطوي على قناعة بأن ثمة واقعاً أكثر كمالاً وجمالاً يمتد وراء الوضع القائم، الذي يبدو ناقصاً من وجهة نظرها، وتعبر عن الثقة بالمستقبل والتفاؤل به.
وتفصح الثقافة الحرّة عن إمكانات تطور هذا الواقع وتقدمه، عبر التشكيك والنقد. إن ما يعدّ نتاجاً لهذه الثقافة يدخل في نطاق الثقافة النقدية، التي تعيد تشكيل أسئلتها وتعيد إنتاج ذاتها في سياق تشكيل الواقع باستمرار. وحينما تصل الثقافة الحرّة إلى هذه الدرجة من نقد العالم فلا تكون مقيّدة إليه أو تابعة، أو في حالة إمحاء تامٍّ، تنشأ لديها الرغبة في تخطي ذاتها وعالمها الواقعي. فلا تمنح موافقتها الدائمة لأيّ واقعٍ قائمٍ يفترض أنه الأمثل أو ينبغي الاعتراف به على أنه الواقع الصحيح والعقلاني معاً. هنا تقبع معارضة الثقافة الحرّة لكلّ سلطة، أيّاً كانت، أخلاقية، سياسية، دينية، اجتماعية، تسبغ على نفسها القداسة.
© منبر الحرية، 06 سبتمبر/أيلول 2009