نبيل علي صالح*
لا شك بأن لظاهرة الفساد المتفشية على نطاق واسع في مجتمعاتنا العربية والإسلامية أسباباً موضوعية ضاربة الجذور في داخل بنيتها الثقافية والتاريخية. حيث لعبت “الثقافة المخفية” –كمؤسسة غير شكلية- دوراً بارزاً على صعيد تكريس معادلات وأنظمة تفكير وسلوكيات عمل مهدت الطريق أمام نمو مارد الفساد في تلك المجتمعات. وقد كانت لمؤسسات الحكم العربية المتلاحقة الدور الحيوي المكمل لدور الثقافة المخفية في زيادة مساحة الفساد والمفسدين من خلال تبنيها لمختلف المناخات والأجواء الفكرية والاجتماعية القديمة التي تدعو (وتمارس) ثقافة الفساد كآلية شبه (قانونية!) تريد من خلالها الحفاظ على التوازنات التقليدية المسيطرة في المجتمع، بما يسمح لها (لمؤسسة الحكم العربية) الإبقاء الدائم على وجودها على رأس سلطة الحكم بما لا يزعزع بنيانها، ولا يؤثر سلباً على امتيازاتها.وبالنتيجة فقد أدت السياسات الفوقية القسرية التي طبقتها تلك المؤسسة (ممثلة بالنخب السياسية الحاكمة) –وعلى مدى زمني طويل نسبياً- إلى توسيع رقعة الفساد، خصوصاً مع تصاعد سياسات الانفتاح الاقتصادي، وفتح الأسواق المحلية أمام الرساميل الأجنبية الذي التزمت به تلك النخب تحت شعار ظاهري هو تنمية مجتمعاتها وتطوير بلدانها في ظل هيمنة كاملة لمؤسسات إدارية وسياسية مترهلة وفاسدة وغير مهيكلة اقتصادياً بما يتناسب مع ضرورات التحفيز الاقتصادي وعوامل الجذب الاستثماري.
وعلى الرغم من محاولة تلك النخب الاقتصادية والسياسية الحاكمة استصدار القوانين اللازمة لمواكبة التغيرات الاقتصادية العالمية بهدف تطوير مجتمعاتها ورفع معدلات التنمية فيها، مع زيادة في مساحة النشاط الاقتصادي، ورفع القدرة التنافسية للمنتجات، وضمان تسويقها ووصولها السريع للمستهلك، فإن غائلة الفساد بقيت مهيمنة على مجمل تلك الاستراتيجيات، مما أدى إلى رفع معدلاته بصورة متزايدة، بقطع النظر عن الطبيعة السياسية لتلك البلدان، وإن كانت الدول الديمقراطية منها أقل معاناة من الفساد بدرجات وأشواط كبيرة بسبب طبيعة نظمها السياسية المنفتحة، وتحرر الاقتصاد فيها من ربقة الدولة، واعتمادها الإعلام الحر والديمقراطية كآلية للحكم السياسي وتداول السلطة..
ونحن عندما نتحدث عن الفساد هنا بهذه الطريقة فإننا نقصد به إساءة استعمال السلطة العامة أو الوظيفة العامة للكسب الخاص.. أي استثمار الموظف في الدولة والمؤسسة العامة أو الخاصة للصالح العام بهدف خدمة مآرب ومنافع خاصة.أما ما يخص التعاريف التي قدمتها المؤسسات الدولية لمصطلح الفساد –وخاصة الهيئات التي تحمل صفة اقتصادية وسياسية كالبنك الدولي مثلاً- فيعرف الفساد من خلال أنه “استعمال الوظيفة العامة للكسب الخاص (الشخصي) غير المشروع (ليس له أي أساس قانوني)”.. وهذا التعريف يتداخل مع أطروحة صندوق النقد الدولي (IMF) الذي ينظر إلى الفساد من حيث أنه علاقة الأيدي الطويلة المتعمدة التي تهدف لاستنتاج الفوائد من هذا السلوك لشخص واحد أو لمجموعة ذات علاقة بالآخرين.. وهنا يتحقق اقتراب المعالجتين (معالجة البنك الدولي وصندوق النقد) من بعضهما البعض على مستوى تأطير الفساد بسلوك وسطوة (قدرة وسلطة) تظهر لنا مخرجات معاني هذا الفساد وتطرح وصفاً أولياً لبنية المجتمع الذي تسوده علاقات الفساد..
ولهذا يصبح (الفساد) علاقة وسلوك اجتماعي، يسعى رموزه إلى انتهاك قواعد السلوك الاجتماعي، فيما يمثل عند المجتمع المصلحة العامة. ويقسم الفساد إلى نوعين، واسع وضيق، فالفساد الواسع ينمو من خلال الحصول على تسهيلات خدمية تتوزع على شكل معلومات، تراخيص… أما الفساد الضيق فهو قبض الرشوة مقابل خدمة اعتيادية بسيطة
وفي مواجهة النتائج الكارثية التي قد تترتب على ارتهان أي مجتمع لمارد الفساد، تقوم كل دولة باستصدار قوانين خاصة بمكافحة هذا المرض الخطير، أو محاولة السيطرة عليه.. أو على الأقل التخفيف من غلوائه وسلبياته ما أمكن ذلك..
ويمكننا أن نضع هنا خطة أولى سريعة على هذا الطريق الطويل والشاق، لكبح جماح الفساد الضارب في مجتمعاتنا ومؤسساتنا العربية. وهذه الخطة جزء من منظومة تطبيقات علاجية متكاملة متلازمة ومتشارطة في المقدمة والنتيجة، نذكر منها:
1. إجراء تغييرات سياسية حقيقية تتركز حول إصلاح مؤسسة الحكم العربية القائمة على الحكم الفردي لا المؤسسي الحديث.
2. الاقتناع الكامل بأهمية الديمقراطية كآلية للعمل السياسي الحر، والتنافس السلمي الخلاق، وتداول السلطة.
3. تطبيق القانون من خلال تربية الناس أولاً على ثقافة احترام القانون، وثانياً، معاقبة كبار المخالفين واللصوص والمفسدين المحترفين.
4. تبسيط وسائط العمل، وأتمتتها ومكننتها، وتحديد مهل إنجاز المعاملات.
5. إنشاء نظام رقابي فعّال مستقل مهمته الوحيدة هي في الإشراف المباشر على العمل.
6. تفعيل دور منظمات المجتمع المدني في المساهمة بالحد من الفساد وبأشكاله المختلفة.
7. لا بديل عن زيادة دخل الموظف، وهو من الضمانات الأساسية لمكافحة الفساد القائم، شرط وضعه ضمن جملة إجراءات إدارية ورقابية قانونية فعالة.
8. العمل بمبدأ الشفافية والوضوح الكامل في جميع المرافق والمؤسسات.
9. إشاعة المدركات الأخلاقية والدينية والثقافية والحضارية بين عموم المواطنين.
10. تفعيل الجهاز الإعلامي لما له من أثر كبير في الكشف عن عمليات الفساد الصغيرة والكبيرة.
11- تعزيز الاتفاقيات الدولية التي من شأنها أن تكافح الفساد العالمي.
12- إقامة المؤتمرات وإعداد البحوث والدراسات بشكل مكثف لتسليط الضوء وبشكل واسع على الفساد وآثاره المختلفة.
وباعتقادي إن تطبيق ما ذكرناه أعلاه من خطوات مهمة للتخفيف من سلبيات وأضرار الفساد التي قد تلحق بالفرد والمجتمع والدولة ككل، لن يكون له أي فائدة ترجى ما لم تعالج أسباب ومقدمات الفساد لا نتائجه فقط.
والمسألة هنا ليست المناداة على المنابر بالقضاء على الفساد (السياسي أو الاقتصادي أو غيرهما..) دون وضع الأسس العقلانية الممهدة لمعالجته، بل هي في التأكيد على استحالة بدء العلاج من دون وجود مناخ سياسي واجتماعي صحي مناسب. أما أن نرفع الشعارات الجوفاء حول ضرورة مكافحة الفساد ومحاسبة المفسدين، من دون أن نبادر عملياً لاتخاذ الإجراءات التنفيذية المطلوبة فإن هذا العلاج الحدي المرفوع لا يعدو أن يكون أكثر من تكريس لمعادلات الفساد القائمة.
لذلك ينبغي الالتزام بتبني منظومة قيم وأخلاق إنسانية وقانونية في مجتمعاتنا، وهي أساساً موجودة ولكنها تحتاج إلى تفعيل على مستويات: فردية ومجتمعية ومؤسساتية (سياسية-اقتصادية)..
– فعلى الصعيد الفردي لا بد من إعادة التركيز على تنمية الوازع القيمي والسلوك الأخلاقي.
– وعلى المستوى المجتمعي العام نجد أن هناك ضرورة ملحة في إصلاح ثقافتنا الضعيفة والمضعضعة القابلة للتأويل والتفسير بحسب الرغبات والأهواء. والقيام بعملية نقد لمجمل تراثنا الثقافي والديني كشرط أساسي للتجديد والانخراط في الحياة والعصر.
– وأما على صعيد المؤسسات والدولة فإننا نجد هنا أنه إن لم تجرِ معالجة متكاملة لإشكالية الحكم والسلطة، فإننا سنبقى نلف وندور في حلقة مفرغة، ولن يحقق أي مشروع لمكافحة الفساد جدواه وأهدافه المرجوة منه.
* كاتب وباحث سوري.
© منبر الحرية، 17 مارس 2009
www.minbaralhurriyya.org