صالح بشير

peshwazarabic11 نوفمبر، 20100

إن صح ما ذهبنا إليه في مقالة سابقة، من أن “الصيغة اللبنانية” قد تكون مستقبل كيانات المنطقة المشرقية والنموذج الذي تسير نحو احتذائه، نظرا إلى افتقار تلك الكيانات إلى مقومات الوجود والاندماج الوطنيين، تستعيض عنهما بتعايش، وإن من طبيعة نزاعية كملمح له أساسي وفارق، داخل كيان يتعذر تفكيكه أو إعادة النظر فيه، بالرغم من أنه مصطنع واضطراري، تضمنه (التعايش) قوى خارجية حليفة لكل فئة من الفئات “المحلية” أو الأهلية أو راعية لكل منها، بحيث يبقى مآل مثل تلك الكيانات مشروطا، على نحو لا فكاك منه، بمساومات بين داخل (أو دواخل) وبين خارج (أو خوارج إن جاز هذا الجمع)، تفضي إلى السلام إن استتبت وإلى الاقتتال إن انخرمت.

غير أن القول بذلك، وما قد يُستخلص منه من توقعات، لا يعدو أن يكون استجلاءً لمبدأ عام (أو أن ذلك ما يأمله) وتوصيفا لمنحى، وهو لذلك يظل منقوصا لأنه يُغفل التاريخ، وذلك ما يتعين تداركه. إذ أن بين “الصيغة اللبنانية” الأولى، والتي يبدو أنها استوت، بقوّة الأشياء، أصلا، وبين تلك التي قد تحاكيها مستقبلا، فارقا هو المتمثل في المدى الزمني، وهذا لم يكن تعاقبا خاما للأيام وللسنين، بل كان تاريخا، حافلا، بصفته تلك، بتحولات كبرى، بعضها عاصف، شهدتها المنطقة.

والفارق الذي نعنيه ونراه أساسيا، اعتبارا لتلك التحولات ولما انجرّ عنها، أن “الصيغة اللبنانية” قامت مساومة بين خارج، هو الغرب، وبين “داخل”، هو المجال العربي، السوري (بمعنى الشّامي)، في طور أوّل ارتبط بالحقبة الاستعمارية، ثم المصري (في العهد الناصري)، في طور لاحق ملازم لفترة الحرب الباردة والاستقطاب الثنائي، وهكذا دواليك، في حين أنه من المرجح لكل مساومة كيانية من ذلك القبيل تنشأ مستقبلا أن تقوم، حصرا، بين خارج وخارج. ذلك أنه لم يبق من طرف إقليمي، منتمٍ إلى المجال العربي، دولةً قطباً أو حالة سياسية ضاغطة تعتمل “جماهيريا”، قادر على أن يستوي شريكا فاعلا، إن بالمبادرة وإن بالضغط، ضالعا في توزيع النفوذ على صعيد المنطقة.

الموضوع اللبناني نفسه أضحى يعكس تلك الحالة المستجدة ويشهد عليها، فإذا كان الداخل العربي قد تمثل، طوال العقود الأخيرة، في سوريا، فإن هذه الأخيرة قد آلت في بلاد الأرز إلى انكفائها المعلوم، سحبت قواتها من ذلك البلد انصياعا لقرار أممي، ثم تمادت في الانكفاء حتى بلغت الإقرار بما امتنعت عن الإقرار به منذ أن انبعثت إلى الوجود “دولة” حديثة، أي حتى قبل أن يحكمها ثوريون قوميون وحدويون، نعني الاعتراف باستقلال لبنان وتبادل السفراء معه على ما هو سار معمول به بين دول يُفترض فيهما أنها متكافئة سيادةً.

غير أن اللافت في الأمر هذا، وما يقع منه في صلب موضوعنا، أن الانكفاء السوري ذاك، لم يتحقق فقط لصالح لبنان، ولكن كذلك، لصالح قوة خارجية، هي إيران التي انفردت بالتأثير واستأثرت بالفعل في المجال اللبناني عبر “حزب الله”، ذلك الذي اجترح، بوصفه المعبّر عن مصالح ومطامح فئة والناهض بتمثيلها، جديدا غير مسبوق في سياسات الطوائف، إذ هو ما عاد يكتفي بتحسين وتقوية موقع من يمثلهم في الدولة التي يُفترض أن تظل المرجعية المسلّم بها، بل استوى قوة محاذية لهذه الأخيرة، تنازعها صلاحياتها وتستحوذ على بعض منها شأن صلاحية إعلان الحرب أو الجنوح إلى السلام، ولا تتردد عن الاستظهار بولائها لسيادة أجنبية من خلال الجهر بالأخذ بمبدأ “ولاية الفقيه” وبالانضواء تحته… قد يعود ذلك إلى أن انعدام القطب الإقليمي الداخلي، الموازي والموازن، يفضي إلى مثل ذلك الاجتراء ويزيّنه لدى من يُقدم عليه.

مثل ذلك ما يبدو أنه ينتظر العراق أيضا، إذا ما قيض له أن ينبعث كيانا من جديد وأن يستعيد دولته، إذ لن تكون هذه الأخيرة، على الأرجح، وقد تبلورت الطوائف والمذاهب والأعراق وسواها من أشكال الانتماءات الأولية كائناتٍ وذوات سياسية، وتواجهت على نحو دموي كان له الأثر الأفعل في فرزها وإقامة “الحدود” بينها، غير نتاج مساومة، تتولى أطراف خارجية، ليس بينها طرف عربي، هي إيران والولايات المتحدة وربما تركيا، زمام رعايتها ودور الضامن لإرسائها أو المبادر إلى إجهاضها، إن دعاه اعتبارٌ إلى ذلك… وقس على ذلك حال كل كيان من كيانات المنطقة يصيبه تفكك، غير مستبعد البتة، يعيده إلى عناصره الأولى.

ذلك أن المنطقة تلك تواجه من جرّاء كل ذلك تحديين في آن، ناجمين عن الإخفاق في إنشاء الدول، أولهما أن تعميم “الصيغة اللبنانية” سيفضي، إن تحقق، إلى استفحال ظاهرة الكيانات التي لا داخل لها، طالما أن مقوماتها، في التئام فئاتها كما في تنازعها، ستتمثل حتما في استدخال القوى الخارجية، والثاني أن الأمر ذاك، معطوفا على انعدام قوة أو قوى إقليمية عربية توازن، وإن بالحد الأدنى، الأقطاب الإقليمية أو الدولية الفاعلة في المنطقة من شأنه أن يجعل هذه الأخيرة، برمتها، بلا داخل، بحيث أنها ستكون، مجرد موضوع أو مادة أولية لصيغٍ مساوماتية تخصها أو تخص كلا من كياناتها، ما يحيلها إلى مجرد مجال مفتوح، منفعل غير فاعل، لصراع الإمبراطوريات الصغرى والكبرى، المجاورة أو البعيدة، القائمة أو الصاعدة.

ولكن ذلك يطرح سؤالا آخر، ليس هذا مضمار الخوض فيه، هو لماذا أخفقت كيانات المنطقة في أن تستوي أوطانا ودولا مندمجة، ولماذا فشل أكبرها، لثقل سكاني يتمتع به، أو لوزن نفطي أو لإشعاع ديني يحوز عليهما، أو لسوى ذلك من الأسباب الموضوعية للقوة، في أن يكون القطب الوازن المنشود، في أن يبلغ، من زاوية النظر تلك، ما بلغته إيران أو ما كان في متناول تركيا.

فهل أن للفوات وللتخلف العربيين خصوصية قصرنا حتى اللحظة في النفاذ إلى كنهها؟

© معهد كيتو، مصباح الحرية، 25 أيلول 2008.

peshwazarabic11 نوفمبر، 20100

هل تكون الصيغة اللبنانية الصيغة المستقبلية للبلدان المشرقية، والأفق الذي تشخص نحوه كيانات تلك المنطقة، إن لم يمسسها تحوير يعيد تركيب مكوناتها على نحو ونسق غير ذينك اللذين عهدتهما منذ أن فُصلت عن المجال العثماني في أعقاب الحرب الكونية الكبرى، ثم منذ أن استوت دولا مستقلة في أعقاب الحرب العالمية الثانية؟

قد يبدو هذا السؤال غريبا، إن لم نقل مريبا، إذ يلوح كالزاعم إضفاء صفة النموذج على ما درجت نخب المنطقة، وتلك اللبنانية منها في المقام الأول، على حسبانه أنموذجا-مضادا، عنوان حرج وهشاشة، مبعث انشقاق أهلي مطّرد متجدد، ينفجر نزاعات على نحو دوري، نشازا مضنيا لأهله ولجواره، وذلك قياسا إلى ما يُتوهّم “قاعدة” مستتبّة أو ما يقوم مقامها، هي المتمثلة في الدولة المركزية، المتجانسة صلدةً والمنسجمة هيئةً مُحكمةً، قد يُبلغ في تبجيلها مبلغ الانسحار بمقترفي الانقلابات العسكرية بُناة أنصبة الاستبداد.

وراء ذلك، بطبيعة الحال، مسبقات هي من صلب الإيديولوجيا العربية، بالمعنى الأوسع وغير الحصري لهذه العبارة، أفكارا مبثوثة تشكل “المادة الأوّلية” للوعي السياسي لدى النخب والجمهور، سواء تبلورت في تيارات بعينها، وطنية أو قومية أو إسلامية، أم لم تتبلور، قوامها (نعني تلك المسبقات) ثنائيات راسخة مطلقة التنافر: وحدةٌ تناصب التعددَ العداء نقيضا مبرما، اندماجٌ يقابله، مقابلة الضد للضد، تجزيء وتفتيت… وقس على ذلك.

غير أن ما يعنينا هنا ليس الدخول في مفاضلة بين “النموذجين”، إذ ليس فيهما ما يدعو إلى المفاضلة. الصيغة اللبنانية معلومة عاهاتها، لا تنفك بادية للعيان منذ أكثر من ثلاثة عقود، إن نحن توقفنا عند التاريخ القريب والراهن، عسرا في تحقيق التئام ذلك الكيان ومكوناته حول ترتيب تأخذ به وتطمئن إليه، فإذا هي أزمة دائمة تراوح بين تعايش بين تلك المكوّنات لا مناص منه وبين قصور ملازم عن بلوغه. أما الصيغة المركزية فهي ليست أفضل حالا، إذ هي قد تفلح في إحلال الاستقرار، ولكن إلى حين وبثمن باهظ، أساسه الاستبداد ووسائله القسر والإرغام، قاسٍ مولّد للضغائن، وهي لذلك لا تلغي أسباب التفكك بل تؤجله، وهي إذ تفعل، متوخية تلك الوسائل، إنما ترسي الاحتقان وتغذيه.

لذلك، ليس في أخذنا بتلك الفرضية التي انطلقنا منها سؤالا حول ما إذا كانت الصيغة اللبنانية أفقا تشخص نحوه كيانات المنطقة، مستقبلا لها محتملا، لا ينم عن تبجيل لتلك الصيغة أو عن تفضيل، إنما هو يحاول استقراء الواقع القائم وممكناته.

إن كان من سمة فارقة للصيغة اللبنانية، فهي تسليمها بالفشل في استخلاص وحدة الكيان ودولته من مقومات فيهما داخلية، صير إلى التعويض عنها بعوامل (قوى) خارجية، ذات نفوذ إقليمي أو دولي، ترسي فيما بينها مساومة يكون نتاجها، في الحالة التي تعنينا، لبنان. مشكلة تلك الصيغة أنها، من جراء ذلك وبفعل افتقارها إلى مقومات التماسك الداخلية، هشة بطبيعتها، متحوّلة لا تثبت على حال، بفعل ما يطرأ على تلك القوى الخارجية، المؤثرة والضامنة للتوازن، من تقلب على صعيد النفوذ وعلى ميزان القوة بينها. ليس في القول بذلك من جديد، بل هو من البدائه البالغة مبلغ الابتذال.

لذلك، إن كان من عنصر جدّة في هذا الطرح، فهو ذلك الذي يتوقع لبقية كيانات المنطقة المشرقية أو لبعضها، مآلا كذلك اللبناني، يجد في تنامي الهويات العضوية، الطائفية والمذهبية والإثنية والعشائرية وفي نزوع الكيانات إلى التفكك، أماراتٍ ترجّحه. ربما مثّل العراق، ذلك الذي جاء الغزو الأمريكي قبل سنوات خمس ليودي بالنظام الذي كان يحكمه فأودى بدولته، مثالا ذا دلالة على كيان قام، حتى احتلاله، على مركزية قسرية شديدة القسرية، كانت قد تأزمت وفقدت مقوّمات الاستمرار حتى قبل ذلك الغزو ربما، فانطلقت قوى الانتماء العضوي من عقالها، وبرزت إلى الواجهة الطوائف والقوميات والمذاهب، تشخص بأبصارها نحو خارج ما تنشد الدعم، على أساسٍ مذهبي أو طائفي، أو على أساس مجرد التحالف.

ما هو في حكم اليقين أو يكاد، أن بروز تلك القوى مبرم لا رجعة فيه وأنها ستظل، في المدى المنظور، فاعلة تحظى بالتأثير، حتى إذا ما استعادت بلاد الرافدين تماسكاً، فإنه سيكون خلاصة مساومات بينها على تعايش لا مناص منه، على شكلٍ قد يكون فيدراليا أو على أي شكل سواه يُصار إلى توخيه، سيكون، على أية حال، بحاجة هو بدوره، وعلى نحو تأسيسي، إلى ضمانة خارجية (إيرانية وأمريكية وربما تركيّة أو سواها) بحيث يكون التوازن الداخلي جزءا من توازن إقليمي، أي، بمعنى آخر، خلوصا إلى ما يمثل لب ما يُعرف بالصيغة اللبنانية.

وذلك ما قد يكون أيضا مآل سوريا، إن اعترى تماسكها (وهو أمني في المقام الأول) اضطراب، وجدّ من العوامل الداخلية أو الخارجية ما يفضي إلى انهيار نظامها.

فالصيغة اللبنانية هي، على علاّتها، ما يتبقى متاحا، حيث ما وُجد كيان متعدد المكوّنات، يتعذر القفز من فوقه، مجالا اضطراريا للتعايش من ناحية، ولا يمتلك مقوّمات تماسكه الداخلي من وجه آخر، يستقيها من بيئته الاستراتيجية، ازدواجية ولاء، استقواء بخارج كاسر على داخل غير مطمئِنٍ، بحيث لا يتيسر الانتماء إلى الوطن إلا بالانتقاص منه، شرطا لذلك الانتماء شارطا.

كل ذلك لأن الصيغ “المركزية”، فشلت، منذ أن بعثت إلى الوجود مع استقلال دول المنطقة، في اجتراح وطنيات ناجزة، بحيث يمكن القول أنه إذا ما كان لمقولة “الدول الفاشلة”، تلك التي ترددها أوساط أمريكية بعينها، من جدوى تفسيرية في ما يخص تلك المنطقة، فهي تلك المتمثلة في أنها قد تمثل تشخيصا لا يخلو من دقة لذلك الوضع.

بل أن الفشل ذاك قد يكون أشمل من أن يتوقف عند حال تلك الكيانات وأبعد مدى، وقوامه أنه ليس بين تلك القوى الخارجية الراعية للتوازنات الداخلية لتلك الكيانات قوة تتأتى من المجال العربي. وذلك ما سيكون موضوع تناول مستقل.

© معهد كيتو، مصباح الحرية، 17 تموز 2008.

peshwazarabic9 نوفمبر، 20100

هناك مصادرة يجري التسليم بها دون مساءلة، كأنها من البدائه ومن تحصيل الحاصل، هي القائلة بأن حرية السوق، التي ترتقي لدى دعاتها إلى مرتبة “أم الحريات”، ستجترح لا محالة، وقد سادت وتعولمت، على الصعيد الكوني ما سبق لها أن حققته، في مبتدئها، على صعيد أوطان الغرب وأممه، أي أنها ستكون قابلة الديمقراطية وشرطها الضروري.

يفترض الرأي هذا، بل يجزم، أنه يكفي ترك حرية المبادرة تفعل فعلها “يدا خفيّة” في المجال الاقتصادي، حتى تنجرّ عنها سائر الحريات الأخرى، من سياسية وسواها. في ماضي الرأسمالية ما قد يشهد بذلك والحق يُقال، إذ لا ينفك نشوء الديمقراطيات الحديثة واشتداد عودها، واستتبابها نظامَ حكم عُدّ الأفضل في تاريخ البشرية، عن تطور الرأسمالية واقتصاد السوق، بحيث كاد يتماهى المواطنُ الفاعل اقتصاديا، ذاتا مستقلة مبادِرة، مع ذلك الفاعل سياسيا، ذاتا حرة، طالما أنه يُفترض في الاقتصاد الحر أن يوفر فرصة الحراك والصعود الاجتماعيين للجميع، أقله نظريا، فأنهى حالة الجمود الطبقي التي كانت سائدة في الماضي، ترتهن الفرد (الذي لا تكاد تصح عليه هذه الصفة) إلى شرط الولادة، لا فكاك منه ولا مناص، كل في طبقته لا يبرحها.

كل ذلك صحيح وليس محل خلاف جدّي. المشكلة إذن ليست هنا، بل في النظرة الليبرالية المغالية التي أضحت سائدة، سيادة مطلقة تقريبا، والتي تضع السوق في مواجهة الدولة، وتفترض بينهما علاقة تنافٍ متبادل، أو عداء مستحكم، بحيث لا يمكن، وفق تلك النظرة، للدولة إلا أن تكون، لنزوعٍ فيها طبيعي ملازم، معرقلة للسوق حادّة من حريتها، ولا يمكن للسوق، بالمقابل وبالتالي، إلا أن تكون في حالة صدام مع الدولة، فلا تزدهر إلا بانحسارها.

والحال أن التاريخ لا يؤيد هذه النظرة، بل هو قد يفندها وقد يفيد عكسها. ذلك أن تطور الرأسمالية وتمكّنها قد تزامنا مع اشتداد سلطة الدولة واستفحال نفوذها واستفادا من تلك السلطة ومن ذلك النفوذ. إذ من المعلوم، إلى درجة البداهة والابتذال، أن الدولة الحديثة بلغت من السيطرة على حيزها الترابي ما لم يسبق لنظيرتها التقليدية، ما قبل الحديثة، أن حققته أو حلمت بتحقيقه. فهي قد ألغت كل سلطة لها موازية، وامتلكت من الوسائل، التقنية والإدارية، ما مكنها من التغلغل في كافة ثنايا المجتمع ومن توحيده حول سلطتها المركزية. تلك هي الدولة-الأمة، وهذه من اختراع الحقبة الرأسمالية، لا شك في ذلك ولا مراء. وخلال تلك الفترة، سارت تلك الدولة يدا بيد مع السوق، فهي إذ أحكمت سيطرتها على التراب الوطني إنما اجترحت سوقا وطنية ووحدتها وتولت حمايتها، وسهرت على مصالحها في الداخل، بأن ألغت كل ما من شأنه أن يعرقل تبادل البضائع، كما في الخارج، إن بالدبلوماسية وإن بالحرب. وهي إذ اضطلعت بدور لا يُنكر، وأحيانا حصري، في إقامة البنى التحتية، إنما أنشأت الوسائل الكفيلة بفرض مركزيتها، ولكنها في الآن نفسه خدمت اقتصاد السوق. والأمثلة على ذلك كثيرة. فحتى القرن التاسع عشر، كان لكل مدينة بريطانية توقيتها، إلى أن أدى تعميم شبكة سكك الحديد إلى اعتماد توقيت موحد على الصعيد الوطني، وحتى ثورة سنة 1789، وهي الثورة البورجوازية بامتياز كما هو معلوم، كانت فرنسا تعاني فوضى الموازين والمكاييل واضطرابها، حتى جاءت السلطات الجمهورية الجديدة وتولت تنظيمها وتوحيدها. وما ذلك إلا غيض من فيض.

الدولة لم تكن إذن هيئة مفارِقة للسوق معرقلة لها، على ما يقوله أو يوحي به غلاة دعاة السوق المعاصرين، أو هي ليست في تناقض معها أصلي وجوهري. بل أن الدولة، في صيغتها الغربية الحديثة، كانت إلى حد بعيد، دولة السوق، وإن عاندت هذه الأخيرة أحيانا في التفاصيل، بأن سعت إلى الاضطلاع بدور الناظم للحياة الاقتصادية، والاجتماعية تاليا، حفاظا على التوازنات الأساسية للمجتمعات، وقد تم ذلك دوما على نحو، جزئي أو آني، لا يخل بالنواميس المؤسسة لاقتصاد السوق، ولا ينال منها ناهيك عن إبطالها.

لذلك، فإن الخطاب الليبرالي المغالي، بإنكاره كل دور للدولة في الحياة الاقتصادية والاجتماعية، يبدو في أفضل حالاته وتجلياته، استئنافا لسجال لم يعد قائما أو لم تبق له من أسس موضوعية، يسحب على الدولة بإطلاق، ما كان يصحّ على دولة عينيّة، هي تلك التي كانت تجسيدا للتوتاليتارية، من شيوعية أو سواها، وكانت، بصفتها تلك تنطلق من رؤية أيديولوجية تجعلها تُقبل على الواقع فرضا وقسرا، تزعم التحكم في كل مناحيه وتوجيهها وفق مرجعية مفارِقة له، بما في ذلك الحياة الاقتصادية.

لم يبق راهنا من معترض على اقتصاد السوق، يدّعي فرض أو مجرد اقتراح نموذج بديل عنه، أو يتوهم اقتصاد الدولة منافسا له. مثل ذلك المنافس سقط منذ نهاية الحرب الباردة وانهيار الشيوعية، معسكرا وأيديولوجية، بل وبرهن على فشله قبل ذلك، وأضحى اقتصاد السوق الباراديغم الأوحد، تأخذ به حتى دول، شأن الصين، لا يزال يحكمها حزب شيوعي لم يتخل عن سطوته وانفراده، بل أن الدولة كانت، في ذلك البلد، المبادر والفاعل الرئيس في الانتقال إلى اقتصاد السوق. ربما تمثلت علة ذلك في أن الشيوعية تراجعت حتى حيث لم تنهر وظلت حاكمة مسيطرة، لأن النخب التي لا تزال تدين بها، اضطرت إلى الانتقال بها من التوتاليتارية، تُخضع الواقع في جميع مناحيه، بما فيه الحياة الاقتصادية، إلى رؤية تعتبرها صوابا مطلقا، إلى مجرد أداة لتأبيد الاستبداد، أي إلى مجرد أداة تسلط وانفراد بالحكم، تنحصر وظيفتها في ذلك دون ادعاء إنتاج المعنى.

لكل ذلك، ربما لم يعد مجديا وضع اقتصاد السوق مقابلا نقيضا للدولة بإطلاق، بل البحث في سبل التعايش بينهما، بما يمكّن الدولة من الاضطلاع بدورها الناظم في الحياة العامة، حكَما بين قوى المجتمع ومكوّناته، على أساس الديمقراطية، خصوصا حيث تخفق “اليد الخفية” للسوق في استخلاص النظام من الفوضى، وهي كثيرا ما تفعل، على ما دلت تجربة السنوات الأخيرة. وذلك موضوع يتطلب مزيدا من سبر، سنعود إليه في مساهمات لاحقة.

© معهد كيتو، منبر الحرية، 23 نيسان 2008.

منبر الحرية3 نوفمبر، 2010

 كاتب تونسي، ينشر مقالاته، مساهماتٍ منتظمة، في عدد من الصحف العربية، لا سيما ملحق “تيارات” في يومية “الحياة” ويومية “الجريدة” الكويتية. أصدر دراسات حول الشؤون العربية والفكر السياسي في عدد من الدوريات والكتب المشتركة باللغات العربية والإنجليزية والفرنسية والإيطالية. من مؤلفاته: “تصدع المشرق العربي، السلام الدامي في فلسطين والعراق” (بالاشتراك مع الكاتب حازم صاغية)؛ عن دار رياض الريس للكتب والنشر في بيروت.


فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

تواصل معنا

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018