إن صح ما ذهبنا إليه في مقالة سابقة، من أن “الصيغة اللبنانية” قد تكون مستقبل كيانات المنطقة المشرقية والنموذج الذي تسير نحو احتذائه، نظرا إلى افتقار تلك الكيانات إلى مقومات الوجود والاندماج الوطنيين، تستعيض عنهما بتعايش، وإن من طبيعة نزاعية كملمح له أساسي وفارق، داخل كيان يتعذر تفكيكه أو إعادة النظر فيه، بالرغم من أنه مصطنع واضطراري، تضمنه (التعايش) قوى خارجية حليفة لكل فئة من الفئات “المحلية” أو الأهلية أو راعية لكل منها، بحيث يبقى مآل مثل تلك الكيانات مشروطا، على نحو لا فكاك منه، بمساومات بين داخل (أو دواخل) وبين خارج (أو خوارج إن جاز هذا الجمع)، تفضي إلى السلام إن استتبت وإلى الاقتتال إن انخرمت.
غير أن القول بذلك، وما قد يُستخلص منه من توقعات، لا يعدو أن يكون استجلاءً لمبدأ عام (أو أن ذلك ما يأمله) وتوصيفا لمنحى، وهو لذلك يظل منقوصا لأنه يُغفل التاريخ، وذلك ما يتعين تداركه. إذ أن بين “الصيغة اللبنانية” الأولى، والتي يبدو أنها استوت، بقوّة الأشياء، أصلا، وبين تلك التي قد تحاكيها مستقبلا، فارقا هو المتمثل في المدى الزمني، وهذا لم يكن تعاقبا خاما للأيام وللسنين، بل كان تاريخا، حافلا، بصفته تلك، بتحولات كبرى، بعضها عاصف، شهدتها المنطقة.
والفارق الذي نعنيه ونراه أساسيا، اعتبارا لتلك التحولات ولما انجرّ عنها، أن “الصيغة اللبنانية” قامت مساومة بين خارج، هو الغرب، وبين “داخل”، هو المجال العربي، السوري (بمعنى الشّامي)، في طور أوّل ارتبط بالحقبة الاستعمارية، ثم المصري (في العهد الناصري)، في طور لاحق ملازم لفترة الحرب الباردة والاستقطاب الثنائي، وهكذا دواليك، في حين أنه من المرجح لكل مساومة كيانية من ذلك القبيل تنشأ مستقبلا أن تقوم، حصرا، بين خارج وخارج. ذلك أنه لم يبق من طرف إقليمي، منتمٍ إلى المجال العربي، دولةً قطباً أو حالة سياسية ضاغطة تعتمل “جماهيريا”، قادر على أن يستوي شريكا فاعلا، إن بالمبادرة وإن بالضغط، ضالعا في توزيع النفوذ على صعيد المنطقة.
الموضوع اللبناني نفسه أضحى يعكس تلك الحالة المستجدة ويشهد عليها، فإذا كان الداخل العربي قد تمثل، طوال العقود الأخيرة، في سوريا، فإن هذه الأخيرة قد آلت في بلاد الأرز إلى انكفائها المعلوم، سحبت قواتها من ذلك البلد انصياعا لقرار أممي، ثم تمادت في الانكفاء حتى بلغت الإقرار بما امتنعت عن الإقرار به منذ أن انبعثت إلى الوجود “دولة” حديثة، أي حتى قبل أن يحكمها ثوريون قوميون وحدويون، نعني الاعتراف باستقلال لبنان وتبادل السفراء معه على ما هو سار معمول به بين دول يُفترض فيهما أنها متكافئة سيادةً.
غير أن اللافت في الأمر هذا، وما يقع منه في صلب موضوعنا، أن الانكفاء السوري ذاك، لم يتحقق فقط لصالح لبنان، ولكن كذلك، لصالح قوة خارجية، هي إيران التي انفردت بالتأثير واستأثرت بالفعل في المجال اللبناني عبر “حزب الله”، ذلك الذي اجترح، بوصفه المعبّر عن مصالح ومطامح فئة والناهض بتمثيلها، جديدا غير مسبوق في سياسات الطوائف، إذ هو ما عاد يكتفي بتحسين وتقوية موقع من يمثلهم في الدولة التي يُفترض أن تظل المرجعية المسلّم بها، بل استوى قوة محاذية لهذه الأخيرة، تنازعها صلاحياتها وتستحوذ على بعض منها شأن صلاحية إعلان الحرب أو الجنوح إلى السلام، ولا تتردد عن الاستظهار بولائها لسيادة أجنبية من خلال الجهر بالأخذ بمبدأ “ولاية الفقيه” وبالانضواء تحته… قد يعود ذلك إلى أن انعدام القطب الإقليمي الداخلي، الموازي والموازن، يفضي إلى مثل ذلك الاجتراء ويزيّنه لدى من يُقدم عليه.
مثل ذلك ما يبدو أنه ينتظر العراق أيضا، إذا ما قيض له أن ينبعث كيانا من جديد وأن يستعيد دولته، إذ لن تكون هذه الأخيرة، على الأرجح، وقد تبلورت الطوائف والمذاهب والأعراق وسواها من أشكال الانتماءات الأولية كائناتٍ وذوات سياسية، وتواجهت على نحو دموي كان له الأثر الأفعل في فرزها وإقامة “الحدود” بينها، غير نتاج مساومة، تتولى أطراف خارجية، ليس بينها طرف عربي، هي إيران والولايات المتحدة وربما تركيا، زمام رعايتها ودور الضامن لإرسائها أو المبادر إلى إجهاضها، إن دعاه اعتبارٌ إلى ذلك… وقس على ذلك حال كل كيان من كيانات المنطقة يصيبه تفكك، غير مستبعد البتة، يعيده إلى عناصره الأولى.
ذلك أن المنطقة تلك تواجه من جرّاء كل ذلك تحديين في آن، ناجمين عن الإخفاق في إنشاء الدول، أولهما أن تعميم “الصيغة اللبنانية” سيفضي، إن تحقق، إلى استفحال ظاهرة الكيانات التي لا داخل لها، طالما أن مقوماتها، في التئام فئاتها كما في تنازعها، ستتمثل حتما في استدخال القوى الخارجية، والثاني أن الأمر ذاك، معطوفا على انعدام قوة أو قوى إقليمية عربية توازن، وإن بالحد الأدنى، الأقطاب الإقليمية أو الدولية الفاعلة في المنطقة من شأنه أن يجعل هذه الأخيرة، برمتها، بلا داخل، بحيث أنها ستكون، مجرد موضوع أو مادة أولية لصيغٍ مساوماتية تخصها أو تخص كلا من كياناتها، ما يحيلها إلى مجرد مجال مفتوح، منفعل غير فاعل، لصراع الإمبراطوريات الصغرى والكبرى، المجاورة أو البعيدة، القائمة أو الصاعدة.
ولكن ذلك يطرح سؤالا آخر، ليس هذا مضمار الخوض فيه، هو لماذا أخفقت كيانات المنطقة في أن تستوي أوطانا ودولا مندمجة، ولماذا فشل أكبرها، لثقل سكاني يتمتع به، أو لوزن نفطي أو لإشعاع ديني يحوز عليهما، أو لسوى ذلك من الأسباب الموضوعية للقوة، في أن يكون القطب الوازن المنشود، في أن يبلغ، من زاوية النظر تلك، ما بلغته إيران أو ما كان في متناول تركيا.
فهل أن للفوات وللتخلف العربيين خصوصية قصرنا حتى اللحظة في النفاذ إلى كنهها؟
© معهد كيتو، مصباح الحرية، 25 أيلول 2008.