في فجر يوم 23/1/2007 فجّر مسلحون فلسطينيون الجدار الحدودي الفاصل بين مصر والأراضي الفلسطينية في قطاع غزة الذي تسيطر عليه حركة المقاومة الإسلامية (حماس) منذ منتصف حزيران (يونيو) الماضي، وقد جاءت هذه الخطوة التي لم تكن مفاجئة لبعض الأطراف بعد ما يزيد عن ستة أشهر من الحصار الإسرائيلي الخانق على قطاع غزة والذي تزايدت حدته في الأيام التي سبقت فتح الحدود، عندما قررت إسرائيل تقليص إمدادات الوقود والكهرباء إلى قطاع غزة، مما أدى لغرقه في ظلام دامس لعدة أيام. وقد أدى تفجير الحدود إلى فتح مجموعة ثغرات كبيرة في الشريط الحدودي ساعدت في دخول الآلاف من الفلسطينيين للأراضي المصريّة. وخلال الفترة التي امتدت إلى ما يزيد عن عشرة أيام منذ فتح الحدود، تحوّلت المنطقة الضيقة الممتدة على طول الحدود بين الطرفين إلى منطقة تجارة حرة تجري فيها مبادلات تجارية متفاوتة في الحجم ونوعية السلع المتبادلة، أما المناطق المصرية الصحراوية المحاذية للحدود وصولا لمدينة العريش القريبة، فقد تحولت إلى سوق يرتاده الآلاف من الفلسطينيين الذين يعانون نقصا كبيرا في المواد الأساسية بسبب الحصار حيث قدر عدد الفلسطينيين الذي تجولوا في الأراضي المصرية بحوالي 700.000.
الحركة التجارية النشطة التي شهدتها الأيام التي أعقبت تدمير الحدود، عكست مجموعة مهمة من المؤشرات:
- غزة-مصر: تجارة في اتجاه واحد: فقد لوحظ أن الاندفاع البشري الفلسطيني داخل الأراضي المصرية لم يرافقه دخول مصريين بهذا العدد إلى داخل الأراضي الفلسطينية. وبطبيعة الحال، فقد انعكس هذا الأمر على اتجاه التجارة وطلب السلع، إذ كانت الحاجة لدى الفلسطينيين أكبر لدخول الحدود وشراء السلع المختلفة بسبب أشهر الحصار الطويلة التي ساهمت في تخفيض المتوفر من المواد الأساسية في الأسواق الفلسطينية. وأمكن خلال أسبوعي التبادل التجاري بين الطرفين رصد ما يلي:
أولا: حجم التبادلات: قدرت مصادر رسمية مصرية مجموع ما أنفقه الفلسطينيون خلال العشرة أيام بحوالي 250 مليون دولار. لكن يمكن القول أن الرقم الحقيقي هو ضعف الرقم المذكور إذا ما أخذنا بالاعتبار أن كثيرا من المعاملات لم يجرِ تسجيلها بنكيا، وأن غياب الرقابة—بسبب عدم مجيء فتح الحدود في ظرف طبيعي—أدى لنشوء سوق سوداء انتشرت فيها مبيعات الممنوعات المختلفة والتي يصعب تقدير قيمتها.
ثانيا: اتجاهات الإنفاق وطبيعة السلع: تَركّز الإنفاق الفلسطيني على السلع الاستهلاكية التي افتقدها السوق الفلسطيني بسبب الحصار، فيما ركّزت صفقات التجار الفلسطينيين على سلع الوقود والاسمنت والمواشي. وبالإضافة إلى ذلك، فقد جرى شراء سلع بدافع إشباع بعض الحاجات الكمالية وذلك بسبب انخفاض أسعارها في السوق المصري، على الرغم من محدودية فرص استخدامها بشكل جيد (يمكن أخذ مستويات الطلب الكبيرة على الدراجات النارية والحوادث الكثيرة التي وقعت على طرق غزة بسببها كمثال).
ثالثا: خروج العملة الصعبة: يعاني قطاع غزة بالأساس نقصا حادا في الدولار بسبب قرار الحكومة الإسرائيلية في التاسع عشر من أيلول (سبتمبر) 2007 باعتبار قطاع غزة كيانا معاديا والذي امتنعت بموجبه البنوك الإسرائيلية عن التعامل مباشرة مع بنوك غزة، وقد أدى اجتياح الحدود إلى استنزاف المزيد من الاحتياطات النقدية سواء تلك المتواجدة لدى البنوك أو لدى الأفراد لتغطية الطلب المتزايد على السلع المصرية، وتجلت تلك الزيادة في الطلب على الودائع البنكية في زيادة واضحة في عمليات الاقتراض بين المواطنين العاديين.
رابعا: مستوى النشاط الاقتصادي: على الرغم من أن تدمير الحدود ساهم في تنشيط الحركة التجارية داخل قطاع غزة، وأدى لإيجاد فرص عمل لبعض المتعطلين الذين جلبوا بعض السلع للاتجار بها داخل السوق الفلسطيني، إلا أن هذا الأمر اقتصر على فئة صغيرة، بالإضافة إلى محدودية آثاره التي لم تستمر بسبب إغلاق الحدود، وقد امتد الأمر ليشمل التجار الغزيين الذين يجدون صعوبة الآن في تصريف المنتجات التي اشتروها، بسبب ارتفاع أسعارها من المصدر وعدم قدرة الفلسطينيين على شرائها بسبب استنفاذ مواردهم المالية، بسبب الحصار الطويل والشلل الذي أصاب الاقتصاد الغزي نتيجة لذلك.
خامسا: أفق العلاقة لاحقا: من المتوقع إذا تم إعادة فتح الحدود بذات الطريقة في المدى القريب أن يتقلص الطلب الفلسطيني على المشتريات المصرية لمجموعة من الأسباب، منها إشباع الحاجات الفلسطينية من بعض السلع؛ وضبط أنماط الاستهلاك حتى تتلاءم مع الإمكانات المادية المتاحة فلسطينيا؛ وتفضيل السلع المباعة داخل السوق الفلسطيني بسبب ارتفاع الجودة وعدم وجود فارق كبير في الأسعار (وهو ما لوحظ بعد فتح الحدود بعدة أيام حيث كانت بعض السلع المباعة في السوق الفلسطيني أرخص)؛ وانتشار عمليات الغش ورفع الأسعار.
- قوة شرائية فلسطينية أكبر: عكست الحركة التجارية الأخيرة أيضا أن الفلسطينيين يتمتعون عموما بمستويات دخول أعلى، وأنهم يحظون بقوة شرائية أفضل إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن الشيكل يشهد ارتفاعات كبيرة في قيمته مقابل الدولار، وقد استطاع المراقب أن يلمس الدهشة المصرية من حجم الطلب الفلسطيني الكبير داخل الأسواق المصرية، ويمكن في هذا الإطار تسجيل عدة ملاحظات:
1. إن القوة الشرائية لمواطني غزة تبدو قوية عند مقارنتها بالحالة المصرية، وذلك بسبب حجم الهوّة بين مستويات الأسعار في الاقتصادين المصري والفلسطيني، تحديدا فيما يخص السلع الأساسية. لكن على الصعيد الفلسطيني الداخلي، يبرز بوضوح ضعف القوة الشرائية لدى المواطن الفلسطيني بسبب ارتفاع الأسعار، وتفشي البطالة والفقر، وغياب فرص الاستثمار.
2. إن الدخل المتولد للفلسطينيين ناجم عن نشاط ريعي كـ أجور\مساعدات (سواء نقدية أو إغاثية). كنا أن هناك انفصالا بين الدخل والإنتاج الفلسطينيين، وغالبية الدخل يوجه لأغراض استهلاكية؛ لا يعاد حقنها في بنية الاقتصاد لأغراض الاستثمار.
3. استطاع المصريون أن يعرضوا بضاعتهم في السوق الفلسطيني، لكن هذا لم يحدث مع الفلسطينيين الذين لم ينجحوا في استغلال فتح الحدود للترويج لبعض بضائعهم، وذلك بسبب التشابه الكبير بين مخرجات الإنتاج لدى الطرفين، وفي الحالة المذكورة، كانت الأسعار والحاجة هما الفاصل، فرجحت كفة البضائع المصرية أمام السوق الفلسطيني المتعطش بسبب الحصار.
- تعزيز الفصل القائم بين الضفّة وغزّة: من المعروف أن دائرة الجمارك الإسرائيلية اتخذت في يوم 21/6/2007 قرارا بإلغاء الكود الجمركي الذي يحمل الرقم (1) الخاص بقطاع غزّة والمنصوص عليه في بروتوكول باريس الاقتصادي، وقد أدى هذا القرار إلى منع القطاع الخاص من المتاجرة مع إسرائيل والعالم الخارجي، وأدى إلى قطع الصلات مع الضفة الغربية، لأن القرار في جوهره يعني إخراج غزّة من دائرة الغلاف الجمركي التي تجمعها مع الضفة، والتي على أساسها كانت تتم المبادلات الخارجية بين الطرفين. فبالرغم من أن فتح الحدود بين مصر وقطاع غزة قد ساهم في تخفيف آثار الحصار المفروض على قطاع غزة منذ ستة شهور، إلا أنه كشف في ذات الوقت عن الخطورة الكامنة في الذهاب بعيدا في مشروع الربط الاقتصادي مع مصر بدون أن يكون هذا الأمر مُتَضمَّنا في إطار مشروع متكامل—سياسيا واقتصاديا—يكون نقطة ارتكازه الأولى التخلص من التبعية الاقتصادية لإسرائيل، والثانية تحقيق ربط فعال بين اقتصادي الضفة وغزّة بحيث يعمل الاقتصاد الفلسطيني كوحدة واحدة متسقة مع ذاتها، وضرورة اندماج الاقتصاد الفلسطيني مع اقتصاد العالم العربي، وبالتالي الاقتصاد العالمي في إطار مشروع سياسي اقتصادي كامل. تكمن خطورة هذا السيناريو فيما يلي:
1. كشف اجتياح حدود مصر مع قطاع غزة عن أن الفلسطينيين ينفقون دخولهم على السلع الاستهلاكية، وأن الفتح الأخير أحدث رواجا أكبر في السوق المصري عنه في السوق الفلسطيني، وذلك بسبب انهيار القاعدة الإنتاجية في قطاع غزة. وفي مثل هكذا حالة، يكون الدخل الفلسطيني فيها مُتحققا من أنشطة ريعية لا إنتاجية، ومُنفقا على سلع ليست منتجة محليا، مما يؤدي إلى إحداث اغتراب لعدم وجود دورة دخل متكاملة، وهو ما من شأنه تعزيز أزمة الهوية الوطنية بسبب غياب عملية الإنتاج الوطني.
2. إن ربط اقتصاد غزة بمصر واقتصاد الضفة الغربية بالأردن سيؤدي إلى ضياع وحدة المشروع السياسي الفلسطيني وإنهاء الوحدة الاقتصادية المتكاملة بينهما، وهما الهدفان المركزيان في سياسة إسرائيل منذ الاحتلال الثاني عام 1967.
إن مأسسة العلاقة الاقتصادية بين غزة ومصر من جهة، والضفة الغربية والأردن من جهة ثانية، إذا تمت بشكل اعتباطي غير مدروس وقبل تحقق الاستقلال بالمعنى السياسي والاقتصادي، من شأنها أن تعيد طرح مشاريع الوصاية والإلحاق التي جرى طرحها في أعقاب نكبة فلسطين في العام 48 لسكان قطاع غزة والضفة الغربية، مع العلم بأن الصلات العائلية والثقافية والجغرافية القائمة بين فلسطين\مصر والأردن سيكون من شأنها تسهيل هذا الإلحاق. لذا يجب على الحركة الوطنية الفلسطينية تجاوز هذه المعضلة وتحجيم آثارها من خلال طرح بديل سياسي متكامل يتمثل في دولة فلسطينية مستقلة كاملة السيادة. يأتي بعدها التكامل الاقتصادي الطبيعي مع الدول العربية المجاورة وخاصة جمهورية مصر العربية والمملكة الأردنية الهاشمية.
© معهد كيتو، مصباح الحرية، 17 شباط 2008.