فيرنون إل. سميث

peshwazarabic10 نوفمبر، 20100

“الصناعيون يُغيِّرون أماكنهم تدريجياً، تاركين تلك البلدان والأقاليم التي تم لهم إثراؤها، وطائرين إلى غيرها، حيث يجتذبهم رخص المواد والعمالة؛ حتى إذا تم لهم إثراء هؤلاء أيضاً، فإنهم يُنفَونَ مرة أخرى للأسباب ذاتها.” ديفيد هيوم، حول المال، مقالات، ص 283-284.


رسالتي اليوم متفائلة حول التبادل والأسواق، واللتين بدونهما لا يمكن الانغماس في تخصص المعرفة والمهمات. هذا التخصص هو السر وراء خلق جميع أشكال الثروة. لا يوجد أي مصدر آخر للتحسين البشري المستدام، وهذا هو جوهر العولمة.
دعوني أبدأ بعرض ما أود تغطيته في حديثي هذا المساء:
 سوف أبحث تحدياً اجتماعياً وسياسياً نواجهه في العالم الحديث: العيش في عالمين اثنين مختلفين من التبادل في آن معاً، عوالم التبادل الشخصي وغير الشخصي وسوف أبحث بإيجاز العلاقة بين العالمين.
 سوف ابحث أسواق السلع والخدمات، كنظام موسع للتعاون غير الشخصي، محققة أهدافاً لم تكن جزءً من تفكير أيٍّ كان.
 سوف أشمل بعض المراجع لتجارب مختبرية.
 عندما أتحدث عن أعمال أسواق السلع والخدمات، سوف أركز على أهمية التنوع.
 بعدها، سوف أميّزُ بين رأس المال أو (الأسهم) من أسواق السلع والخدمات، وسوف أبحث لماذا أهمية التمييز بينهما.
 وفي هذا الإطار، سوف أتحدث عن المبادرات وعن “فقاعات” الأسواق المالية.
 وضع كل ما تقدم كأساس، سوف ينقلنا إلى العولمة، كاستمرار للهجرة منذ القدم، والتوسع الاقتصادي وتحسين الإنسان.
 سوف أبحث دور التكنولوجيا، والمنافسة في السياسات الوطنية، وكذلك ارتباط التنمية الاقتصادية بالحرية، ولكن ذلك لا يعني أننا نعرف كيف نجعل الحرية أو التنمية الاقتصادية حقيقة قائمة، من الرأس إلى أسفل.
 ونقطتان أخريان أخيرتان سوف تعالجان قضايا استنزاف العقول وتصدير وسائل الإنتاج، وأهمية كل منهما في التنمية الاقتصادية والعولمة.
إننا جميعنا نعمل معاً وفي آن واحد، في أكثر من عالم تبادل واحد. تلك العوالم تتقاطع، حيث نعيش أولاً في عالم من التبادل الفردي—محاباة تجارية وصداقات، وبناء سُمْعات مبنية على الثقة والوثوق في مجموعات صغيرة، وعائلات ومجتمعات، وثانياً، في عالم من التبادل غير الشخصي، من خلال الأسواق، حيث الاتصالات والتعاون انبثقا تدريجياً في تجارة بين غرباء، تفصل بينهما مسافات طويلة.
أكثر الخصائص تأكيداً في الطبيعة البشرية هو نزوعنا الاجتماعي. إنها قدرة مخلوقاتنا على التبادل الاجتماعي الفردي، والتي أتاحت، أول ما أتاحت، التخصص المهني والإنتاج فوق مجرد الحد الأدنى للبقاء. يعود التبادل في جذوره إلى التعامل المتبادل والمشاركة في أنظمة وسلوكيات العائلة، والعائلة الممتدة والقبيلة. هذا التبادل الفردي سمح بالتخصص في المهام ما بين الصيد، وجمع وتصنيع الأدوات، والتي وضعت الأساس لإنتاجية أعلى ورخاء أعمّ، والذي بدوره مكّن الناس القدامى من الهجرة إلى شتى أنحاء المعمورة.
وهكذا، فقد مكّن التخصص، مدعوماً بالتبادل الفردي، العولمة من البدء في مراحل مبكرة، قبل وقت طويل من نشوء الأسواق.
إنني ورفقائي في التأليف قد درسنا أنماط التبادل والشروط التجارية ذات الأفضلية، كما تبدو في لعبة شخصين اثنين، بين أشخاص غير معروفين، وكثيرون منهم يعتمدون على الثقة والمصداقية لتحقيق مكاسب من التبادل—نتائج تعاونية تزيد من الفوائد المشتركة. كثيرون يتجنبون اختيار نتائج تعطيهم أنفسهم ولكن دون إعطاء شيء بالمقابل لأمثالهم في الطرف الآخر. جميعنا قد مرَّ بتجارب عائلية وبين جماعات صغيرة، ندرك منها بأن الأنظمة التي تحكم المشاركة والمبادلة تمتد عميقاً في عقولنا وهواجسنا. لفظ “أنا مدين لك بواحدة” هو سمة إنسانية عالمية تملأ كثيراً من اللغات، والتي يعترف فيها الناس طوعاً بمديونيتهم لقاء تلقي عطية أو تمييز ما.
وفي تمديد التبادل إلى الأسواق مع غرباء، واستخدام المال، فإن تلك العلاقة تُستبدل بتعاملات غير شخصية. ففي التبادل الفردي، كثيراً ما نتعلم بأن عمل الخير للآخرين، يأتي من الرغبة في فعل ذلك، بينما في الأسواق، تختفي تلك النظرة، حيث يعمل كل واحد إلى تحقيق مصلحته.
عندما يأتي الأشخاص أنفسهم الذين يتعاونون عن وعي في علاقاتهم الأولية بين شخصين، إلى المختبر للتبادل التجاري في الأسواق التجريبية التي تضم جماعات أكبر، ماذا يفعلون؟ إنهم يحاولون تعظيم مكتسباتهم الخاصة إلى أقصى الحدود، ولكنهم، من خلال سلوكهم هذا، ودون أن يكونوا قد تعمّدوا ذلك، يعظمون المكاسب المشتركة للجماعة كلها. ولكن تلك الأسواق، تتلقى الدعم من أنظمة خارجية ملزمة تتوخى حماية الملكية، وهذه تمنع الأخذ دون العطاء.
وهكذا، ومن الناحية الفعلية، فإن النوعين من التبادل هما متطابقان: عليك أن تعطي من أجل أن تأخذ. في المبادلات الشخصية، فإن العادات التي تحكم العطاء والأخذ تأتي نتيجة القبول الطوعي المشترك للفرقاء؛ أما في مبادلات السوق غير الفردية (حقوق الملكية)، فإن الأنظمة مدوّنة في الإطار المؤسسي الحاكم.
أسواق السلع والخدمات هي أسس خلق الثروة على امتداد العالم، والمدى الذي يوجدون فيه، يقرر مدى التخصص في المعلومات وأداء المهمات في معظم أسواق التجزئة للسلع والخدمات، يتحمل المنتجون نفقات متكررة يمكن التنبؤ بها نسبياً، ويواجه المستهلكون قيماً متكررة مقابلة مقابل استهلاكهم. وبيد أن النفقات والقيم هي في مكنوناتها شخصية، وبالتالي فإن مثل تلك المعلومات تتبعثر. السيطرة والرقابة على الاقتصاديات الموجهة فشلت، لأن مثل تلك المعلومات لا يمكن إعطاؤها لأي عقل بمفرده، أو لأي عدد من اللجان المُخطِّطة.
لقد اكتشفنا في مختبرات تجريبية موجهة، بأن تلك المعلومات السوقية المتكررة، فعالة إلى درجة لا تُصدَّقْ، ومثل تلك النتائج قد أعيد التثبت منها مئات المرات. يضاف إلى ذلك، أن الأشخاص ذوي العلاقة في تلك التجارب، ليسوا على وعي بأهداف الجماعة التي تبغي تحقيق الحد الأقصى من الكسب. كل واحد، في سعيه لتحقيق مكاسبه الشخصية، ضمن نظام حقوق الملكية، يحقق فوائد قصوى للجماعة، دون أن تكون جزءً من أهدافه ومقاصده.
عندما تُستخدَم في تجارب تدريسية، فإن المُستخلَصات من معلومات أو نتائج في نهاية تجربة تسويقية، تكتشف انطباعين عن الأفراد:
1- الناس ينفون أن أي نمط من الأنماط يمكنه التنبؤ بأسعار التبادل التجاري النهائية وحجم التبادل. ومع ذلك، فإن تلك النتائج توازي جداول العرض والطلب التي تتضمن القيم والأكلاف الموزعة فردياً بين جميع المشاركين. فعالية السوق لا تتطلب أعداداً كبيرة، ومعلومات كاملة، وفهماً اقتصادياً أو فذلكة خاصة؛ وهذه حقيقة لا يجب أن تصيبنا بالدهشة كثيراً، ذلك أن الناس كانوا يتاجرون في الأسواق، قبل زمن طويل من وجود أي عالم اقتصاد لدراستهم.
2- الناس في تجارب السوق يعتقدون أيضاً بأنه كان يتوجب عليهم كسب مزيد من الربح لأنفسهم، ومع ذلك، فقد كانوا في واقع الأمر، في حالة توازن، وأن كل واحد منهم كان يبذل أقصى ما عنده من جهد، في ضوء السلوك المقيد الذي يبذله جميع المشتركين الآخرين.
إن السمة المميزة لأسواق السلع والخدمات هي التنوع: تنوع الأذواق، والمهارات الإنسانية والمعلومات، والمصادر الطبيعية، والتربة والطقس. بدءً ذي بدء، كان التنوع ممكناً ويُشجّعُ عليه، من خلال المشاركة المتبادلة في قيم العائلة، والعائلة الواسعة والقبيلة. وهكذا، في مجتمعات الصيد والجمع قبل قيام الدولة، كانت النسوة والأطفال يجمعون الفاكهة والجوز والحدبة والقمح؛ الرجال كانوا يصيدون؛ وكبار السن كانوا يقدمون النصح في عملية الصيد، ويبتدعون أدوات الصيد، ويشاركون في جميع الصيد.
الناس الأوائل، قبل زمن طويل من نشوء الدول–القومية، كانوا يتبادلون الأدوات والأسلحة والسلع العامة مثل الرموز، والعادات، والصور الزخرفية الرأسية، والحقوق الآمنة للوصول إلى طرق التجارة ومناطق الصيد. وفي أزمان كثيرة، وأماكن كثيرة في أزمان ما قبل التاريخ كان التبادل يمنح للغرباء، من خلال المقايضة، وفي نهاية الأمر، استخدام المال السلعي.
وفي الحقيقة، فإن الإنسان الأول قد هيأ المسرح لتوسع هائل في الثروة والحياة الأفضل، كلما اكتشفت قبيلة بأنه كان أفضل لها أن تتبادل التجارة مع جيرانها القبليين، من قتلهم. إذا قتلتهم فإنهم لن يستطيعوا إنتاج أي شيء وتبادلها معك في الغد، كما أنك لن تستطيع الاستفادة من مهاراتهم الفردية، ومعلوماتهم، وفنونهم، وثقافتهم، وخبرتهم.
كذلك، إذا تركتهم يعيشون، ثم تسرق منهم، فإنهم يصبحون أقل رغبة بكثير في إنتاج المزيد لك، مما لو تبادلت التجارة معهم اليوم. التنوع يحتاج إلى الحرية، لأن الحرية هي التي تسمح لكل إنسان بأن يكون مختلفاً بالشكل الذي يقدر عليه والذي يرغبه. الأسواق بدورها، تدعم التسامح المتأتي عن الحرية.
التنوع في غياب حرية التبادل يؤدي إلى الفقر: لا يستطيع أي إنسان، مهما كانت مؤهلاته عالية في مهارة واحدة، أو مصدر ثروة وحيدة، أن يثري دون التبادل التجاري. روبنسن كروزو كان يملك جزيرة، ولكنه مع ذلك كان فقيراً.
نحن في حاجة إلى الآخرين، وإلى التنوع الذي يجلبونه إلى المائدة، إذا أردنا أن نعيش فوق مجرد الحد الأدنى للبقاء على قيد الحياة. من خلال السوق، نحن نعتمد على الآخرين، والذين لا نعرفهم أو نتعرف عليهم أو نفهمهم. نحن لا نعرف كيف، وبأية وسائل يساهم الآخرون برخائنا، ونساهم نحن في رخائهم. هكذا هي الحلقات الطويلة غير المرئية للاعتماد المتبادل من خلال الأسواق التي تضبطها الأسعار. إن رخاء كل واحد منا يعتمد جوهرياً على المعرفة والمهارات التي يملكها الآخرون، والذين نتاجر معهم من خلال الأسواق.
بدون الأسواق، سنكون حتماً فقراء، تعساء، غليظين وجهلة؛ فإذا كان البعض أقل فقراً، فقد يكون ذلك نتيجة للغزو، أو السرقة، أو الأخذ دون عطاء مقابل، والذي يمكن أن يستمر فقط، ما دام أن هناك آخرين يغزون.
الأسواق تتطلب تنفيذاً مشتركاً لأنظمة التبادل الاجتماعي والاقتصادي وقد عبّر عن ذلك أفضل تعبير ديفيد هيوم، قبل أكثر من 250 سنة، عندما قال إن هنالك ثلاثة قوانين للطبيعة البشرية:
1) حق التملك
2) نقل التملك بالقبول
3) تنفيذ الوعود
هذه هي الأسس الجوهرية للنظام، مع أو دون قانون رسمي مكتوب، التي تجعل ممكناً وجود الأسواق والرخاء.
هيوم يتحدث عن قانون موجود أو سائر نحوه، وليس قانوناً وضعياً أو مشرعاً. مانحو القانون الأوائل، لم يصنعوا القانون الذي أرادوا إعطاءه؛ إنهم درسوا التقاليد الاجتماعية، والقيم والأنظمة غير الرسمية وأبدوها بصفتها تشاريع من الله، أو، قوانين طبيعية.
قوانين الطبيعة في مفهوم هيوم مستقاة من التعاليم اليهودية القديمة: لا تسرق؛ لا تطمع في ممتلكات جارك؛ لا ترتكب شهادة زور. بيد أن هذه التعاليم نفسها، ظهرت في أديان أخرى، على امتداد العالم.
 لعبة السرقة تستهلك الثروة دون تشجيع إعادة إنتاجها، بينما لعبة التجارة تُديمُ وتُنمي الوفرة.
 الطمع في ممتلكات الآخرين يستدعي إعادة توزيع غاصبة، لمكتسبات التخصص والتجارة، وبالتالي تهديد النوازع التي تدعو إلى إنتاج حصاد الغد، تماماً مثله مثل السرقة.
 شهادة الزور تنال من المجموعة، ومصداقية الإدارة، وثقة المستثمر، والربحية الطويلة الأجل، والمبادلات الاجتماعية الفردية، التي تثري المشاعر الإنسانية أكثر من غيرها. إدارة المؤسسات الكبرى، تدفع ثمناً باهظاً إذا ما لجأت إلى تزوير الحقيقة. وعندما تفقد الإدارة المصداقية مع حاملي الأسهم، فإن السوق المالي لا يغفر، كما تبين من قضية شركة “إنرون”، التي هوت قيمة أسهمها عندما فقدت الإدارة ثقة المستثمرين فيها.
هذا يوصلني إلى موضوع رأس المال، أو الأسواق المالية، والتي هي في طبيعتها أكثر بعداً بكثير عن اليقين والتأكد، من أسواق السلع والخدمات؛ ذلك لأنه يتوجب على الأسواق المالية، أن تتنبأ وتستبق المبادرات والاختراعات الجديدة—بضائع وخدمات المستقبل. ففي الوقت الذي تدخل فيه المبادرات الجديدة، تكون حظوظها في النجاح أبعد ما يكون عن التنبؤ.
فإذا كان للمعرفة والتكنولوجيا أن تعطي سلعاً وخدمات جديدة، فإنها تحتاج إلى رؤوس أموال. أسواق المال تسمح لمستخدمي ومقدمي رأس المال أن يكونوا مُميّزين ومتخصصين؛ لا يطلب من المدخرين أن يكونوا رجال أعمال مبادرين، يُنمون ثروة جديدة من استثماراتهم الرأسمالية، وكلاهما يستفيد من تبادل الاستثمار بحصة من الربح، وكلاهما كذلك، يتحملان أخطار الخسارة.
الأسواق المالية، أكثر تقلباً وأقل تنبؤاً بكثير من أسواق السلع والخدمات القائمة، حيث أن مهمتها هي التنبؤ بسلع وخدمات مستقبلية. فقاعات وانهيارات الأسواق المالية ليست جديدة. لماذا؟ انتعاشات الأسواق المالية العظمى تشعلها وتدفعها التكنولوجيا الجديدة.
وعلى سبيل المثال، فقد ساعدت القاطرات التي تعمل بالبخار في القرن التاسع عشر السفن أن تحلَّ مكان المحركات المربعة الزوايا، كما حلّت تلك المحركات محل الخيول في تسيير السكك الحديدية، ومكان العربات التي تسيرها الخيول. لقد تجاوز التوسع في بناء السكك الحديدية في القرن التاسع عشر الشحن البحري بين الأقاليم.
الربحية تحولت إلى خسائر، وإفلاسات واندماجات. ولكن نتيجة لذلك التوسع في القرن التاسع عشر، خُلقت قيمة اقتصادية ظلّت قائمة تخدم الاقتصاد بمجموعه. في بدايات القرن العشرين نشأت تكنولوجيات جديدة عديدة. الهاتف، الكهرباء، البترول، والسيارات—هذه جميعها أحدثت موجة مستدامة من الاستثمار والتنمية. كان هنالك توسع مبالغ فيه استجابة للربحية العالية، تبعها هبوط في معدلات الربح، وخسائر وإفلاسات واندماجات؛ ولكن كانت قد نشأت في غضون ذلك قيمة بعيدة المدى ولم تحدث أية خسارة للاقتصاد. الإفلاس نمطياً، يسمح بموجودات وأصول المدراء الفاشلين—البشرية والمادية—بأن تحوّلَ إلى مدراء قادرين على إجراء محاولة جديدة لإنجاح المشروع المتعثر.
قبل قرن من الزمان، كان هنالك مئات من الشركات الصغيرة التي أقامها مبادرون من رجال الأعمال، على أمل النجاح في صناعة السيارات. ثلث تلك السيارات كانت كهربائية ومعظم السيارات الأخرى كانت تجري التجارب على محركات تعمل بالبخار. وفي النهاية كلاهما فشل: التي تحركها الكهرباء فشلت في قطع مسافات طويلة بل كان مداها صغيراً جداً، بينما كان تشغيل محركات البخار وتسخينها يستغرق وقتاً طويلاً. وكسب السباق محركات البنزين التي جمعها هنري فورد مع خطوط الإنتاج الواسع، بحيث تمكَّن من إنتاج سيارات قليلة الثمن. ورغم ذلك، فإن السيارات الكهربائية لم تصل إلى ذروتها سوى في عام 1912. وبحلول العشرينات، كان فورد قد أنتج حوالي نصف السيارات التي أنتجت حتى ذلك الحين. لم يكن بوسع أحد أن يتكهن سلفاً بمن سوف يكسب الرهان.
في بلدتي ويكيتا، كان يتواجد 15 منتجاً للطائرات عام 1929: ترافيل إير، ستيرمان، سيسنا، يونايتد، ليرد، سويفت، لارك، نول، برادلي، يانكرز، ويكيتا، واتكنز، موني، سوليفان وبَكلي. إثنان منهما كانا أسماء شركات جديدة في عام 1927: سيسنا وسيترمان. وبعد عقد من الزمان اشترت بوينغ شركة ستيرمان الناجحة، والوحيدين الذين ظلوا في ميدان الطيران العام كانا سيسنا وبيتش، اللتين جعلتا من ويكيتا المركز الوطني لهذه الصناعة الجديدة. ومع أنهما كانتا جديدتين مبتدئتين، فإن انهيار السوق المالية الكبير، لم يحل دون نجاحهما.
عقد التسعينات شهد حجماً غير مسبوق في ميدان طرح الشركات للاكتتاب العام. إنني متأكد بأن تاريخ ذلك العقد سوف يسجل عدداً غير مسبوق من نسب الفشل، ولكن كذلك، وإن لم يكن مرئياً إلا قليلاً، زيادة غير مسبوقة في القيمة الاقتصادية طويلة المدى للاقتصاد. تلك الفقاقيع والانهيارات كانت نتيجة لتكنولوجيات جديدة في حقول الإلكترونيات، والاتصالات، والكومبيوتر، والبيولوجيا وصناعات الأدوية. القيمة المستدامة التي تم تحقيقها، تظهر جلياً من خلال إحصائيات الدخل القومي في مرحلة ما بعد تلك الانهيارات: إزداد الإنتاج مع زيادة طفيفة بالعمالة. ونحن نستمر في كسب أكبر لجهد أقل.
إنه لأمر مؤلم لأولئك الذين يجازفون في تكنولوجيا جديدة ويخسرون: بيد أن الفوائد التي تكسبها صناعات أخرى، والمعرفة والاندماجات التي تتبع ذلك، تتيح للقلة الناجحة بتكوين ثروات جديدة طائلة للاقتصاد. هذا هو جوهر النمو، والتقدم، وفي نهاية الأمر، تخفيض الفقر. ولهذا السبب نرى بأن كل واحد تقريباً، هو أكثر ثراءً من آبائه وأجداده.
كيف يمكن إزالة الألم الفردي، وتحقيق النمو بعيد المدى، بوصفة سحرية تتجنب بأن يكون ضررها أكبر من نفعها؟ نحن لا نعرف. في هذا الموضوع، كما في مواضيع كثيرة أخرى، هنالك نوعان من الناس: أولئك الذين يعرفون بأنهم لا يعرفون، وأولئك الذين لا يعرفون. فإذا قال لك أحد بأنه يستطيع أن يتكهن حول من سيكون الرابح في اكتشاف سلعة جديدة ومن سيكون الخاسر، ضع يديك في جيوبك وامسك نفسك.
هذه هي القضية: إذا حدَّدت قرارات الناس في اتخاذ استثمارات مغامرة، في محاولة لحمايتهم من إيذاء أنفسهم، إلى أي مدى سيؤدي ذلك إلى تقليص قدرتنا على تحقيق إنجازات تكنولوجية رئيسية؟ إن الأمل الذي يساور الأفراد في تحقيق مكاسب كبيرة، هو الذي يدفع بإجراء مئات من التجارب، في بيئة من عدم اليقين الشديد، حول أية تجربة، وأي مزيج من الإدارة والتكنولوجيا سوف يكتب له النجاح. إن نجاح الكثيرين، قد يكون جزءً حيوياً من الثمن الذي يدفع لانتقاء القلة من الناجحين. بعد موجة من المبادرات الجديدة، وبعد عدد من الفقاقيع، سوف يعرف المدراء كثيراً حول ما لم ينجح، وحتى قليلاً، حول ما يكون قد نجح.
عملية الاكتشاف هذه أصبحت عالمية بشكل متزايد
العولمة هي كلمة جديدة لعملية كانت على امتداد الزمن، وكانت تتمثل بالهجرة وتوسيع الأسواق اللذين بدأنا بهما جميعنا، عندما كان أجدادنا المشتركون يخرجون من أفريقيا قبل حوالي 50000 عام مضى، ليستقروا في آسيا وأستراليا، 40 إلى 50000 سنة مضت، وأوروبا قبل 40000 سنة، وسيبيريا والقطب الشمالي قبل حوالي 20000 سنة. وممر بيرينج إلى أمريكا الشمالية 13 إلى 15000 سنة، والأمريكيتين بعد ذلك بزمن قليل، ونيوزيلندا ومدغشقر، قبل 1000 عام فقط. لقد استوطن أجدادنا كل قارة ما عدا القطب الشمالي، وجميع الجزر الرئيسية قبل 500 عام من اكتشاف الدولاب الرباعي في السفن الشراعية.
أول تجارة بعيدة المدى بين أوروبا والشرق الأدنى أتاح الهرب من النهايات الميتة المغلقة، ومن القرون الوسطى التي كان يعتصرها الفقر. وقد أدى ذلك إلى اكتشافات جديدة، قامت بها الشركات المساهمة والدول–القومية.
وقد أدى ذلك في نهاية المطاف إلى أن تتخصص كل منطقة، في إنتاج سلع زراعية وصناعية مختلفة، بناءً على الميزة النسبية التي يتمتع بها كل إقليم. وقد تطورت المزارع التي كانت تكاد تكفي للحد الأدنى من العيش، بحيث أصبحت مزارع كبيرة تربي المواشي، وتنتج على نطاق واسع الحنطة والقمح والشعير والأرز، وقامت مزارع تربية الدواجن ومزارع إنتاج الحليب.
في زماننا هذا، انبثقت الثورة العالمية الخضراء من أصناف البذور المحسنة الجديدة التي طوَّرها نورمان بورلوج، الذي نال جائزة نوبل عام 1970. لقد أنقذ نورمان بورلوج حياة أعداد أكبر من الناس ممن أنقذها أي إنسان آخر في الوجود. فقد أدت اختراعاته إلى مضاعفة إنتاج الحنطة والذرة والأرز، مرتين إلى ثلاث مرات، ومكَّنت المكسيك والهند والباكستان والصين من إطعام شعوبها التي ازدادت أعدادها زيادة كبيرة، بزيادة 1% فقط من رقعة أراضي العالم المزروعة. لقد كانت تنبؤات الفزع التي أطلقت في عقد الستينات، والتي تحدثت عن وفاة أعداد ضخمة من الناس جوعاً، في غير محلها؛ واليوم، تبشر الهندسة الوراثية، بسبل واعدة من شأنها ابتكار أساليب أكثر نجاعة وتقدماً في إنتاج الأطعمة، من أراضي أقل، ومياه أقل، وسماد أقل، وتربة أقل انجرافاً. أصبح بالإمكان جني الأكثر من الأقل، وفي بيئة تتفوق تفوقاً هائلاً على سابقتها.
إن آخر مُحرِّك عظيم في العولمة، يتمثل في المبادرات في عمل الحواسب والكومبيوترات، والاتصالات، واساليب الانتقال اللوجستية. هذه الميادين الثلاثة تخدم مبادلات الإنترنت.
لقد جلبت سرعة التغييرات العالمية، عالماً جديداً من التنافس بين الأمم. الجموح في الموازنات والسياسات المالية من قبل الحكومات الوطنية، تثبِّطُ همم المستثمرين، بينما تشجع المواطنين المحليين على السعي للاستفادة من فرص الاستثمار الأجنبية، الأكثر استقراراً. التنمية الاقتصادية، مرتبطة بالأنظمة الاقتصادية والسياسية الحرة، والتي تترعرع في ظل حكم القانون في الأنظمة القائمة على الملكية الفردية. لقد فشلت الأنظمة الشمولية المركزية في تحقيق الأهداف المرجوَّة في كل مكان. إن حقائق التاريخ والاقتصاد تشكل إنذاراً نهائياً، وقد أقدمت بعض البلدان على إصلاح نظمها وتحرير اقتصادها وتحسين أدائها.
ولكن هنالك عالم من الفرق بين القول بأن التنمية والنظم الحرة مرتبطتين أو متوازيتين، وبين اعتماد الوسائل الكفيلة بتحقيق التنمية الاقتصادية. لا أحد يعرف كيف يخطط مركزياً للانتقال من اقتصاد رديء الأداء إلى اقتصاد جيد الأداء.
ومع ذلك، هنالك أمثلة كثيرة من نيوزيلندا، وليختنشتاين، وإيرلندا، والصين التي قامت فيها حكوماتها بإزالة القيود على النشاط الاقتصادي، ورأت نمواً باهراً بمجرد ترك المجال أمام شعوبها لتحقيق تقدمها الاقتصادي.
وقد أجرت دائرة الإدارة والموازنة في الكونغرس دراسة مقارنة للعبء الذي تمثله قيود الأنظمة في 130 بلداً؛ وقد توصلت إلى نتيجة، بأن البلدان العشرة الأقل عبءً تنظيمياً هي هونج كونج، وسنغافورة، والولايات المتحدة، ونيوزيلندا، والمملكة المتحدة، وكندا، وسويسرا، وإيرلندا، وأستراليا، وهولندا. هذه هي البلدان التي تظهر في أعلى قوائم الاقتصاد الحر. وكثير منها على رأس قوائم البلدان الأعلى دخلاً لأفرادها. ومن بين الـ20 بلداً على رأس جدول البلدان الأكثر حرية، 11 بلداً منها بين أعلى 20 بلداً في الإنتاج القومي العام؛ و13، من الأكثر حرية بين الـ20، هي كذلك على رأس جدول العشرين بلداً من حيث المبادرات الجديدة. (انظر مجلة الإيكونومست، العالم في أرقام، 2005).
وقد تحولت الصين كثيراً في اتجاه حرية الاقتصاد. وقبل عام ونيِّف، أدخلت الصين تعديلات على دستورها، يسمح للناس بالتملك، وشراء وبيع الممتلكات الخاصة. لماذا؟ كانت خطوة تستهدف السيطرة على الفساد المستشري في الحكومة، والذي يقف عائقاً أمام التنمية الاقتصادية. وقد نشرت النيويورك تايمز، بقلم جوزف كان، مقالاً بتاريخ 23 كانون أول، 2003، ص 1 جاء فيه:
“أقدمت هيئة الصين التشريعية على تغيير الدستور من أجل المحافظة على حقوق الملكية الخاصة، وهي المرة الأولى التي يقدم فيها الحزب الشيوعي رسمياً على حماية الثروة الخاصة منذ السيطرة على الحكم قبل خمس وخمسين سنة. التغيير يسجل نصراً لطبقة رجال الأعمال المبادرين، الذين أمضوا 10 سنوات وهم يحاججون بأن الدستور الماركسي يتحيز ضدهم، ويعطي المجال للشرطة والمحاكم بمصادرة أملاكهم بموجب أوامر الحزب… الفساد مستشري في الصين. السلطات المحلية والوطنية كثيراً ما تصادر أراضي وأموال الناس الذين تعتبرهم خطرين أو عاصين، بزعم أنهم قد فقدوا حقوقهم بسبب مخالفتهم لقانون أو نظام في أثناء جمعهم لثروتهم”.
بالاعتراف بحقوق التملك، تحاول الحكومة المركزية سحب البساط من تحت أقدام منبع القوة الذي يغذي الفساد، على أيدي رجال السلطة المحليين، والذين تصعب مراقبتهم والسيطرة عليهم من قبل السلطة المركزية. وكما أرى الموضوع، فإن التغيير الدستوري هو وسيلة عملية للسيطرة على التدخل السياسي في عملية التنمية الاقتصادية؛ إنها ليست وليدة نزوع سياسي نحو الحرية، بيد أن الضرورة قد تفتح الطريق أمام مزيد من الحرية.
قبل فترة وجيزة، قمت أنا وزوجتي كانداس بزيارة المجمع الضخم زي-بارك، وهو مجمع للأبحاث والتنمية في مدينة بكين، على مساحة 343 فداناً. يحتوي زي-بارك على معظم الشركات المتخصصة في التكنولوجيا العالية في العالم، بما في ذلك 276 من بين أكبر 500 شركة في العالم بموجب مجلة فورتشين. إنهم يستثمرون في المنشآت الموجودة هناك، على أسس سهلة من الاستئجار من الحكومة الصينية ولمدة 50 عاماً. الاستئجار طويل المدى هو وسيلة الالتفاف القانونية على القيود التي تحيط بالتملك.
إيرلندا تدلل على مبدأ أنه ليس ضرورياً أن تكون بلداً كبيراً لكي تُنمّي الثروة لشعبك، بل بمجرد تغيير السياسات الحكومية. كانت إيرلندا في الماضي—إذا قيس ذلك بحجم سكانها—مُصدِّراً كبيراً للناس. لقد كان ذلك، وكما قال جيه. بي. ليمان معلقاً في بروجيكت سينديكيت بتاريخ تشرين الثاني 2002: “لحسن حظ أمريكا وبريطانيا العظيم، ذلك لأن كلاً منهما استقبل أعداداً كبيرة من العقول الإيرلندية اللامعة التي هربت من الحياة الفكرية الخانقة في بلدها. ومع ذلك ومن فقر العالم الثالث حتى مجرد عقدين اثنين، تجاوزت إيرلندا سيدها الاستعماري القديم، في الإنتاج القومي العام للفرد. لقد أصبحت إيرلندا لاعباً أوروبياً مهماً، يدعم الاستثمارات الأجنبية المباشرة، بما في ذلك رأس المال المغامر، ويُنمّون الخدمات المالية وتكنولوجيا المعلومات والتي أدت إلى هجرة عقول معاكسة قوية لصالح إيرلندا. ووفق إحصاءات البنك الدولي، قفزت نسبة نمو الناتج القومي العام من 3.2% في عقد الثمانينات إلى 7.8% في عقد التسعينات من القرن الماضي. كانت إيرلندا في الآونة الأخيرة ثامن أعلى إنتاج للفرد، بينما كانت المملكة المتحدة الخامسة عشرة والولايات المتحدة الرابعة.
كلما أسافر أواجه قصصاً أكثر فأكثر تدلل على هجرة عقول معاكسة لصالح الصين وغيرها، على امتداد العقدين الماضيين، حيث يعود الشباب إلى بلدانهم الأصلية بسبب وجود فرص جديدة وَفَّرها التوسع في حرية الاقتصاد في بلدانهم. هؤلاء الناس هم أمثلة على مبدأ “أستطيع أن أفعل” مبنية على قاعدة من المعرفة والمبادرة؛ وقد أصبحوا يكوِّنون الثروة لأوطانهم الأصلية ويُحسّنون مستويات المعيشة فيها، وللولايات المتحدة، وغيرها من البلدان على امتداد العالم. قصصهم تُدِللُ على حتمية هجرة العقول التي تتأتى عن السياسات الاقتصادية السيئة، ولكنها تدلل كذلك كيف أنه يمكن تغيير تلك السياسات، من أجل توفير فرص اقتصادية قادرة على عكس هجرة العقول.
ريشارد لي كان تلميذاً لدي يدرس لشهادة الدكتوراة، وقد أتم كتابة أطروحته في الاقتصاد التجريبي في جامعة أريزونا عام 1991. عمل أستاذاً مساعداً لفترة في جامعة في الساحل الشرقي للولايات المتحدة، ثم ترك منصبه للبدء بإنشاء شركة له إسمها الآن أمزينو إنترناشونال. إنه يقسم وقته بين مكاتبه في أمزينو في لوس أنجلوس وبين شنغهاي. شركته تصنع و/أو تُجمّع منتوجات طبية في الصين لتوزيعها في الولايات المتحدة وفي أكثر من ثلاثين بلداً آخر. معظم منتوجاتهم تصمم وتجرب وتطور في الولايات المتحدة وهذا هو النهج المتَّبع على امتداد الصناعة، حيث يتم التطوير هنا والإنتاج يوكل إلى الخارج؛ هذا هو السبب الذي جعل الولايات المتحدة الأولى في العالم بالنسبة لجدول المبادرة على مستوى العالم. ريتشارد لي هو مثال على مواطن صيني، جاء إلى الولايات المتحدة عبر هونج كونج. لقد تعلم ونال خبرته في الولايات المتحدة، ولكن، ونظراً للتحول الذي جرى نحو حرية اقتصادية هناك، عاد إلى الصين ليربط عمله مع الصين، وهو يعمل على تحقيق الثروة في البلدين.
جنيفر بان كانت مضيفتنا في زيارة لمجمع زي-بارك في بكين. كانت تتكلم الإنجليزية بطلاقة، وكانت دقيقة التعبير، واسعة الاطلاع في حقل الكومبيوتر وتكنولوجيا البرمجة. ومن قبيل الفضول استفسرت كانداس عن خلفيتها. لقد كانت شاهدة تملكها الرعب في المجزرة التي ارتكبت في ميدان تيننمن في بكين، وقررت ترك البلاد، وهي تظن بأنها لن تعود إليها أبداً؛ ولكنها عادت بالفعل نظراً للتغيير الذي طرأ على سياسة الحكومة الصينية، وبحثها هي نفسها عن تحقيق طموحاتها. وكما أوضحت لي في رسالة بالبريد الإلكتروني مؤخراً، وأنا أنقل بعض ما ذكرت بموافقتها:
“لقد شهدت أحداث ميدان تيننمن عندما كنت في الصفوف الثانوية. وقد ذهبت في العام التالي إلى جامعة بكين حيث أرسلت فوراً إلى مركز تدريب عسكري “لغسل الدماغ”، لفترة سنة. وبعد أن تخرجت من جامعة بكين، ذهبت إلى الولايات المتحدة للانغماس في “الروح الأمريكية”. ولفترة ثماني سنوات، درست وعملت واكتسبت لنفسي حياة مريحة. ولكن شيئاً ما كان ناقصاً—تحقيق الذات بإحداث فرق أساسي بين حالتين، والقبول بتحمل المغامرة. كان الفراغ أكبر من أن يملأه شراء منزل أكبر أو سيارة أجمل. لذا، فقد وضعت نفسي على طائرة عائدة إلى الصين، لملاحقة “الروح الأمريكية” مرة أخرى. إنني أحب أن أقدم الدروس التي تعلمتها للآخرين، إذا كان بإمكانهم الاستفادة منها. ففي رأيي، هذه هي الوسيلة التي تمكن الإنسان من التقدم، نحن نتعلم من تجاربنا، وكذلك من تجارب الآخرين”.
ريتشارد وجينفر هما مثلان على مبدأ “أستطيع الإنجاز المستند إلى المعرفة وروح المبادرة”. إنهم يخلقون الثروة والحياة الأفضل للصين، وللولايات المتحدة، ولبلدان كثيرة أخرى.
الارتباط الفردي والشخصي بالموطن الأصلي، وبالمؤسسات الثقافية في عالم التبادل الشخصي والاجتماعي، سوف يقود الناس في حالات كثيرة إلى العودة إلى جذورهم وإثراء مجتمعاتهم المحلية والوطنية. وهذه القصص، هي جزء من توجه طويل الأمد لاستخراج الإنتاج والخدمات في الخارج.
جزء من شريان حياة التغيير، والنمو وتحسين الأوضاع الاقتصادية، هو السماح لوظائف الأمس بالذهاب إلى طريق تكنولوجيا الأمس. فإذا مُنعت الشركات المحلية من إيلاء إنتاجها إلى شركات خارجية، فإن ذلك لن يمنع منافسيهم الأجانب من إنتاج الشيء ذاته، وتخفيض الأكلاف واستخدام الوفورات لتخفيض الأسعار ورفع سوية تكنولوجيتهم، وتكون النتيجة أنك توقع الشركات الوطنية بالإفلاس.
أحد أحسن الأمثلة على الإنتاج في الخارج كان ما بعد الحرب العالمية الثانية عندما نقلت صناعة النسيج في ولاية نيو إنجلند مصانعها إلى الجنوب، استجابة لأجور أدنى—وكالعادة، أدى ذلك إلى رفع مستوى الأجور في الجنوب، وفي النهاية انتقلت تلك الصناعة إلى مصادر أجور أكثر تدنياً في آسيا. بيد أن صناعة النسيج في نيو إنجلند، استبدلت بصناعة الإلكترونيات العالية والمعلومات وتكنولوجيا علم البيولوجيا. لقد ربحت ولاية نيو إنجلند أرباحاً طائلة صافية، على الرغم من فقدانها لصناعة كانت في وقت ما مهمة. وفي عام 1965، حاز وارن بافت على واحدة من تلك المصانع النسيجية المتداعية في ولاية مساتشوستس، كان اسم المصنع بيركشير هثوي، واستخدم تدفق المال الكبير المتأتي للمصنع، وإن كان بوتيرة أقل كمنصة انطلاق لإعادة استثمار التدفقات المالية للشركة، في مجموعة المبادرات الاقتصادية الناجحة. بعد أربعين عاماً من ذلك، أصبح لشركته رأسمال سوقي يقدر بـ(113) مليار دولار. نفس النقلة تجري الآن مع مجموعتي كي مارت وسيرز ريبوك. ليس هنالك شيء يُخلّدُ إلى الأبد، حيث تتأخر شركات قديمة وتحول مواردها إلى نشاطات اقتصادية جديدة.
وقد نشر المركز الوطني للأبحاث الاقتصادية دراسة جديدة حول الاستثمارات المحلية والخارجية التي تقوم بها الشركات الأمريكية متعددة الجنسيات. إنها شركات تستثمر استثمارات ضخمة في الخارج، ولكنها تستثمر أكثر من ذلك محلياً. لكل دولار يصرف على رأس مال يستثمر في الخارج، تصرف تلك الشركات 3.5 دولاراً على رؤوس أموال محلية. هذه الحقيقة تدعم دعماً قوياً الفكرة القائلة بأن هنالك علاقة متممة بين الاستثمارات الخارجية والداخلية. هذه العلاقات المتممة بعضها بعضاً، آخذة في النمو يوماً بعد يوم مع العولمة، ويستدل عليها في العلائق بين الاقتصادين الصيني والأمريكي.
ما دام أن الولايات المتحدة تظل الأولى في جدول الابتكارات العالمية، فإنني أعتقد بأنه لا شيء تخشاه من توجيه الإنتاج إلى الخارج، وسوف نخسر الكثير إذا نجح سياسيونا في معارضته. ووفق إحصائيات مؤسسة الاقتصاد الدولي، كان هنالك أكثر من 115000 وظيفة ذات مردود أعلى في قطاع برمجيات الكومبيوتر، أنشئت ما بين 1999-2003، بينما تم الاستغناء عن 70000 وظيفة في الفترة ذاتها. ومثل ذلك في قطاع الخدمات حيث توفرت 12 مليون وظيفة جديدة، بينما تم الاستغناء عن 10 ملايين وظيفة. هذه الحالة من التغيرات التكنولوجية السريعة، واستبدال وظائف قديمة بوظائف جديدة، هو ما تقوم عليه التنمية.
وقد قدرت شركة مكنزي أنه، مقابل كل دولار تنقله الشركات الأمريكية لينتج في الهند، فإن 1.14 دولاراً يتحقق لصالح الولايات المتحدة. نصف هذه الفائدة تعود إلى المستثمرين والعملاء، ومعظم المتبقي يصرف على الوظائف الجديدة التي تكون قد استحدثت. وعلى النقيض من ذلك في ألمانيا، حيث العائد من الفائدة هو مجرد 80%. ويعود السبب في ذلك إلى أن نسبة إعادة التوظيف للعمالة المستبدلة، هي أقل كثيراً، كما توجد أنظمة كثيرة تعرقل العمل. (الإيكونومست، 13 تشرين الثاني 2004).
الخلاصة
أسواق السلع والخدمات هي أسس تكوين الثروة. حقيقة أن الأسواق المالية تخدم من حيث أنها توفر رأس المال لتمويل سلع استهلاكية جديدة، يفسر لماذا هي في طبيعتها غير مستقرة أو مؤكدة، ولا يمكن التنبؤ بها، وبمعرفتنا لسلوكيات المستثمرين، لماذا يقعون ضحية الفقاقيع والانهيار.
أسواق المال العالمية أكثر تعتيماً من أسواق السلع والخدمات، لأن على أسواق المال التكهن بالنسبة للابتكارات والمبادرات—لأنها السلع الجديدة والخدمات المستقبلية. وبإيلاء الإنتاج إلى بلدان خارجية، فإن الولايات المتحدة توفر المال الذي يصبح متاحاً للاستثمار في تكنولوجيا جديدة، ووظائف جديدة، كما أنها تظل في وضع تنافسي في الأسواق العالمية.
إننا لا نعرف ما فيه الكفاية عن التغيرات الاجتماعية والاقتصادية، بحيث نستطيع إدارتها، حتى نتمكن من جني فوائدها دون آلام مراحلها الانتقالية.
العولمة ليست جديدة. إنها كلمة حديثة لوصف حركة إنسانية موغلة في القدم—إنها كلمة تعبّر عن سعي الجنس البشري لتحقيق حياة أفضل، عن طريق المبادلات، والتوسع العالمي في تخصص الموارد؛ إنها كلمة تنُمّ عن السِّلم. إنها حكمة نطق بها عالم الاقتصاد الفرنسي العظيم باستيا: “إذا لم تعبر البضائع الحدود، فسوف يعبرها الجنود…”
مؤسسة التعليم الاقتصادي، 17 أيلول 2005.
© معهد كيتو، منبر الحرية، 4 آذار 2006.

peshwazarabic5 نوفمبر، 20100

إن جوهر فكر لودفيغ فون ميزس هو نظرية الفعل البشري أو الممارسة العملية، وهو العلم العام الذي يسعى إلى بلورته. ويضم هذا العلم العام—وملتصقاً به—الحوافز، أو علم التبادل (ميزس [1949] 1996: 1-3، ويعرف فيما بعد بحرف “م”). ونتيجة لذلك، فإن كل ما نسعى إلى دراسته في موضوع الاقتصاد بالنسبة لميزس ينبثق في نهاية الأمر من الخيار الفردي، ومفتاحه الاقتصاد الذاتاني أو المذهب الذاتي، الذي انبثق عن ثورة منجر، وجيفونز، وولراس، في عقد السبعينات من القرن التاسع عشر. وهكذا، فإن “الاختيار هو الذي يقرر جميع القرارات الإنسانية. وفي عملية اختياره تلك، فإن الإنسان يختار، ليس فقط الأشياء المادية المختلفة والخدمات. جميع القيم الإنسانية هي متاحة للاختيار. جميع الأهداف، وجميع الوسائل قائمة في اصطفاف واحد، وخاضعة لقرار يختار بموجبه شيئاً مُعيّناً ويطرح شيئاً آخر.” (م: 3). يضاف إلى ذلك “أن الفعل البشري هو بالضرورة، عقلانياً دائماً” (م: 19). بالنسبة لميزس، فإن ما تقدم هو حقيقة وليس نظرية خاضعة للتجربة لتقرير ما إذا كانت صحيحة أم خاطئة، ذلك بسبب أن الممارسة العملية هي محايدة فيما يتعلق بأية أحكام قِيَمِيّة بالنسبة للمعطيات المتوفرة عنها—إنها الهدف النهائي الذي يتم اختياره في الفعل الإنساني. وبالتالي، ليست هنالك أسس موضوعية للتأكيد بأنه يمكن لأية اختيارات ما بأن تكون لا عقلانية.
المعطيات الخارجية (سواء كانت حول الثمن أو الفائدة المرجُوَّة) لا تُشكل مشكلة من حيث المبدأ بالنسبة لميزس، لأنه رأى بوضوح، مثلما رأى كوز، بأنها تنطوي على ترسيم أو تحديد لحقوق الملكية—قضية مِلكٍ لا يملكه أي إنسان أو موارد متاحة لعامة الناس دون مقابل. القضية هي اعتبار أشخاص مسؤولين عن تحمل أثمان الفعل البشري الذي يتحمله الآخرون. ميزس يرى أن مبدأ استحقاقية المسؤولية هو مبدأ مقبول على نطاق واسع؛ وأية ثغرات مفترضة هي ناشئة عن “ثغرات متبقية في النظام” (م: 658). وأخيراً، وفي هذا العرض الموجز، هنالك الآراء القوية المعروفة لميزس ضد التدخل: “لا تكاد توجد أية حالات من التدخل الحكومي في السوق، والتي كما تُرى من وجهة نظر المواطنين المعنيين، لا يمكن إلا أن تُعدل بحيث تعتبر إما مصادر أو هدية. لا يوجد هنالك أي شيء يمكن اعتباره وسيلة عادلة ومنصفة، نتيجة ممارسة السلطة الهائلة للتدخل، التي توضع في أيدي الهيئات التشريعية أو التنفيذية” (م: 734). كما أننا نرى حتى مقدمات السعي للحصول على الإيجارات والخيار العام، في معرض تلخيصه للبحث حول الفساد، كنتيجة حتمية وصفها بأنها “نتيجة لازمة للتدخل” (م: 736). لذا، فإن نظرية الاختيار هي أوسع كثيراً من “الجانب الاقتصادي” للجهد الإنساني—إنها رئيسية لجميع الأفعال البشرية.
قرأت ميزس لأول مرة عندما كنت طالباً في السنة الأخيرة لمعهد كاليفورنيا للتكنولوجيا، متخرجاً في هندسة الكهرباء. كان ذلك أحد الأسباب العدة وراء انتقالي في آخر الأمر، إلى دراسة الاقتصاد. قراءة ميزس بعد خمسين عاماً، جعلتني أشعر بمدى أثر وصحة وحيوية كتاب الفعل البشري بالنسبة للوضع الاقتصادي في نهاية الألفية الثانية. لقد أثبت جدواه لأن كثيراً من عناصره الرئيسية—حقوق الملكية، أنظمة المسؤولية القانونية، فعالية الأسواق، عبثية التدخل، وأولوية الفرد—قد أصبحت عناصر مهمة في تحليل الاقتصاد الجزئي، سواء نظرياً أو كسياسات عامة. يضاف إلى ذلك أن تلك العناصر والمعطيات قد أصبحت مهمة بسبب ميزس وهايك وغيرهم من الأتباع (كوز، ألكيان، نورث، بيوكانن، توللوك، ستيجلر، وفيكري، من بين آخرين كثيرين)، وليس نتيجة للنظريات الاقتصادية السائدة. هنالك الكثير من آراء ميزس بحاجة إلى التحديث، بسب الأشياء التي نعتقد بأننا أصبحنا نعرفها الآن، والتي لم نكن نعرفها قبل 50 عاماً.
بيد أن رسالة ميزس الأساسية حول كيفية عمل الاقتصاد هي الآن صحيحة كما كانت صحيحة قبل 50 عاماً. إن الذي تغيّر بقفزات واسعة هي أساليب دراسة طبيعة اتخاذ القرار الإنساني. في هذا البحث الموجز، سوف أختار عدداً من العناصر في فكر ميزس للتدليل على ذلك التغيير. وسوف أضيف إلى ذلك البحث بعض التعليقات على فكر هايك، ذلك أن هذه السنة تصادف الذكرى المائة لمولده. لذا هنالك الكثير مما يمكن مشاركة النمساويين الاحتفال به.
حول الفعل البشري والتجارب المختبرية
أفكار ميزس حول الأساليب التجريبية تعكس النظرة المنهجية التي كانت سائدة في هذا الميدان قبل 50 عاماً—أي أن علم الاقتصاد هو بالضرورة علم غير تجريبي:
“هنالك عدد من علماء الطبيعة والفيزيائيين الذين ينحون باللائمة على الاقتصاد، بسبب أنه ليس علماً من علوم الطبيعة ولأنه لا يستخدم أساليب ووسائل المختبر… بيد أن الخبرة التي تُعزى إليها جميع نجاحات علوم الطبيعة هي خبرة التجربة التي يمكن فيها ملاحظة عناصر التغيير الفردية بمعزل عن غيرها… الخبرة التي يترتب على علوم الفعل الإنساني التعامل معها هي دوماً تجربة معطيات معقدة. لا يمكن إجراء تجارب مختبرية بالنسبة للفعل الإنساني. نحن لا نكون أبداً في موقع يمكّننا من ملاحظة التغيير الذي يطرأ بالنسبة لعنصر واحد فقط، مع بقاء جميع شروط الحدث دون تغيير” (م: 7-8، 31).
إن وجهة نظري حول سبب الاعتقاد بأن علم الاقتصاد ليس علماً قابلاً للخضوع للتجربة هو بكل بساطة لأن لا أحد حاول أو اهتمّ بذلك. رأي ميزس كان مقبولاً عالمياً في حينه، وهو ما يزال يشار إليه. وهكذا، فقد لُفت نظر تشارلز هولت، وهو عالم تجريبي بارز من قبل مستشاره، بأن “الاقتصاد التجريبي كان طريقاً مسدوداً في عقد الستينات، وأنه سوف يكون كذلك في عقد الثمانينات” (كيجل وروث 1995: 428، 2). ما هو غير واضح هو السؤال التالي: لماذا استمر ما اعتبر طريقاً مسدودة في عقد الستينات طريقاً مسدودة في عقد الثمانينات أيضاً؟ إنني أتطلع في الأشهر القليلة الباقية من عام 1999 إلى أن يكون عقد التسعينات طريقاً مسدودة كذلك.
هذا يذكرني بملاحظة بول سامويلسن بأن العلم يتقدم جنازة إثر جنازة. وفي الحقيقة، فقد صادف العام الماضي الذكرى الخمسين (وإن لم يُؤبه بها) لأول دراسة صدرت حول تجارب السوق في الاقتصاد (تشيمبرلن 1948). ما ظن تشيمبرلن أنه أظهره هو أن نظرية السوق التنافسية غير قابلة للتطبيق (على الرغم من أن التجارب التي أُجريت في صفوفه كان يُراد بها التمهيد لإثبات نظريته فيما يتعلق بالتنافس الاحتكاري، وأن تجاربه لم تظهر بأن الأسواق تفشل في تحقيق مكاسب كبيرة من التبادل التجاري).
إن نقدي وتعديلي لتجربة تشيمبرلن، بما في ذلك شمول مكاسب مالية، وتغيير في التركيز حول دور المؤسسات (أنظمة لسوق مُعَّين) هو أمر معترف به، ليس هنالك شيء عجيب أو غير عادي حول النتائج التي توصل إليها تشيمبرلن. الاقتصاد التجريبي يؤيد تأييداً قوياً ليس فقط نظرية ميزس بالنسبة لأسعار السوق، ولكن كذلك نظرية التوازن في ظروف غير متغيرة، وحتى في ظروف متغيرة تغيُّراً ديناميكياً. نظرية التوازن بمجموعها، كانت في نظر ميزس “معطيات خيالية” (م: 250-51). وكانت هذه هي الحقيقة، مثلما كانت كثير من أفكار ومساهمات ميزس. هكذا هي طبيعة النظريات، وقد وُضعَت جميعها دون أن يتوقع أحدٌ بأنها سوف تخضع للتجربة. ما فعلته تجارب السوق بالنسبة لي هي إحياء “هذا البناء النظري الخيالي.” وأمام عيّني رأيت الناس الذين لديهم المعلومات الخاصة، والذين لم يكونوا يملكون علماً مسبقاً بالنتائج التي كانوا يحققونها، يحققون أقصى درجات الربح من عمليات التبادل ونتائج التوازن المتأتي عن ذلك. يوجد الآن مئات عدة، بل آلاف من التجارب التي تدلل على قوة الأسواق—وبالأخص عندما تُجَّمَعُ وتُنظمُ في إطار مؤسسات المزاد المضاعف الواسع الانتشار في جميع الأسواق المالية وأسواق السلع؛ إنها تعطي نتائج قوية ليس فقط بالنسبة للعمليات التنافسية، بل كذلك في العروض البريدية والمناقصات ذات السعر الواحد في عمليات التصفيات السوقية (أنظر كيجل وروث 1995، ديفيس وهولت 1993، سميث 1991). هذه النتائج، والتي أعيد تكرارها من قبل العديد من الدارسين هي جليّةٌ بالنسبة للمواضيع المجمعة المطروحة: طلبة البكالوريوس الجامعيون، طلبة الدراسات العليا، تلامذة وأساتذة المدارس الثانوية، رجال الأعمال والمنظمات النسائية. ومن ثمَّ، في منتصف الثمانينات، أجرينا تجربة، مستخدمين في ذلك الموظفين الإداريين لوزارة الطاقة، أوضحت أن المشرفين الحكوميين على تطبيق الأنظمة، يستطيعون بسهولة طبيعية مماثلة خلق سوق.
إن ما نتعلمه من مثل تلك التجارب هو أن أية جماعة من الناس تستطيع الدخول إلى غرفة، وتكون مُحفزةً ببيئة اقتصادية خاصة ومحددة الأهداف، وتكون أنظمة المشاركة في المزاد المضاعف قد شُرحت لها لفظياً للمرة الأولى، تستطيع أن تخلق سوقاً يتحول عادة إلى توازن تنافسي، ويكون 100 في المائة منظماً تنظيماً جيداً؛ مثل تلك الجماعة تستطيع أن تحقق حداً أقصى من الربح نتيجة التبادل، في غضون مرتين أو ثلاث مرات من المشاركة في أية فترة تجارية. ومع ذلك فإن المعلومات تكون مبعثرة، بحيث لا يكون المشارك مُلماً أو مطَّلعاً على العرض والطلب، أو حتى استيعاب ما يعني ذلك. هذا يدلل بشكل مثير للانتباه ما أسماه آدم سميث (مؤلف كتاب ثروة الأمم) “بنزوع مُعيّن في الطبيعة البشرية، لنقل ومقايضة وتبادل سلعة ما لسلعة أخرى” (سميث، 1776، 1909: 19). كذلك، فإنه يدلل على ما أكّده ميزس “بأن كل إنسان يعمل من أجل نفسه؛ ولكن أفعال كل إنسان تهدف إلى تلبية حاجات الآخرين بمثل ما تهدف إلى تحقيق أهداف الإنسان الذاتية. كل إنسان في فعله يخدم مواطنيه الآخرين” (م: 257).
حول التطور والعقل البدائي

إن فهم ميزس للتطور يتلاقى جيداً مع التفسيرات المعاصرة، مثل سيكولوجية التطور (توبي وكوزميدس 1992):
“العقل البشري ليس صفحة بيضاء التي تكتب عليها الأحداث الخارجية تاريخها. إنها مزودة بمجموعة من الأدوات لاستيعاب وفهم الحقيقة. لقد اكتسب الإنسان تلك الأدوات أي، التركيب المنطقي لعقله، من خلال تطوره من الخلية الأميبية إلى الوضع الذي وصل إليه حالياً. بيد أن تلك الأدوات هي منطقياً جاءت سابقة لأية تجربة. لا توجد أية حقائق مستقاة من علم الأعراق البشرية “الإثنولوجيا”، أو من التاريخ تدحض التأكيد بأن التركيبة المنطقية للعقل هي واحدة في جميع الرجال، من كافة الأجناس، والأعمار والبلدان.” (م: 35، 38).
هذه في جوهرها هي النظرة الراهنة للسيكولوجية التطورية فيما يتعلق بنظرية التطور والنشوء، والعقل، وبشكل محدد اللغة الطبيعية. إن الادعاء بأننا نكتسب أدواتنا العقلية قبل مراحل التجربة هي موضحة توضيحاً جيداً في دراسة كيفية اكتسابنا للغة: “عندما يركز الباحثون على قاعدة نحوية (أمثال في اللغة الإنجليزية تتمثل في نظام العدّ الذي يضيف حرف [s] للاسم العادي للدلالة على الجمع؛ وإضافة [ed] لوصف صيغة الماضي في الفعل العادي)، وملاحظة كم هي المرات التي يستجيب الطفل لها، وكم هي المرات التي يتجاهلها، فإن النتائج تبدو باهرة: بأي قياس تختاره، فإن الأطفال في سن الثالثة يستجيبون لها في معظم الحالات (بينكر 1994: 271). التفسير هو أن العقل يجيء مزوداً سلفاً بحلقة دائرية جاهزة لاستيعاب ألفاظ أية لغة؛ وأن تشغيل تلك الحلقة يتطلب فقط التحدث إلى الآخرين لتحريك مفاتيح الحلقة. الاستثناءات (الأخطاء) للأطفال في سن الثالثة، يدفع في الواقع إلى تأكيد هذا المبدأ: “Two mans are at the door” أو “He builded the house” هما خطآن لا يستخدمان. فالأفعال غير العادية والأسماء يجب أن تحفظ عن ظهر قلب، وتودع بعملية من عمليات العقل تبدأ أولاً بإغلاق وتصريف الحساب المنعطف، ومن ثم تجفيف تلك الحالات غير العادية من الذاكرة. إن كثيراً من الحالات غير العادية لا تستخدم إلا نادراً من قبل الكبار، لذا فقد يستغرق وقتاً أطول لتحقيق عملية الإغلاق/والاستبدال، أما الأطفال في سن الثلاثة أعوام فإنهم دائماً يستخدمون الاصطلاحات الحسابية الصحيحة. هكذا تعمل أدوات اللغة المودعة في العقل عملها الطبيعي. إن استخدام الحساب المنعطف في العقل البشري هو وسيلة العقل في تقنين الذاكرة الصحيحة ومصادر المعلومات. إنك تحتاج فقط إلى أن تحفظ في ذاكرتك الجذور الرئيسية والفروع، ثم استنهاض الحسابات الأوتوماتيكية لتغذية الكلمات الأساسية بحيث يتسع معجم الكلمات في اللغة اتساعاً كبيراً. هكذا، فإن ما يعرفه في المتوسط خريج مدرسة ثانوية أمريكية هو (45000) كلمة—وهي ثلاثة أضعاف الكلمات التي استطاع شكسبير استخدامها في مجموع رواياته وأبياته (بينكر 1994: 150).
بيد أن البعض يرفضون هذا التفسير للغة، معربين عن الرأي بأن قدراتنا اللغوية ليست تأقلماً مع، وإنما هي وسيلة جرى تطويرها لأغراض أخرى، وأعيدت صياغتها لتحقيق أهداف جديدة (جولد وفربا 1981). ولكن تبدو لي مثل هذه الآراء تحويلة تباعدية. يمكن أن يكون التأقلم معقداً، ووضع اليد على وحدة قياس، يبدو لعالم البيولوجيا (الأحياء) بأنها تشبهه، قد تم تطويره لخدمة أهداف أخرى، هو سبيل واحد فقط، من بين سبل كثيرة، يمكن للأقلمة التطورية أن تنتهجه. رجل حكيم فقط، هو الذي يستطيع أن يقول لنا لأي سبب تم تطوير آلية بيولوجية معينة في الأصل. لا يتوجب عليك الاعتقاد بأن اللغة قد تطورت بسبب أن الإنسان الأول نطق بكلمة زادت من لياقته، وأن هذه الكلمة الجينية انتشرت بعد ذلك بين السكان. ميزس لا يدعي معرفة كيف خلق التطور قدرة الإنسان العقلية. ولكن بالنسبة له، فإن من الطبيعي النظر إلى العقل كنتيجة للتطور والنشوء، بمثل الاعتقاد بأن عملية التطور قد أدت إلى خلق الأيدي والأرجل.
جولد وليوينتين (1979) قد اتهما الكثيرين من علماء التطور البيولوجيين بإضفاء مصداقية مبالغ فيها للانتقاء النوعي. وسوف يجد أحفاد مدرسة ميزس الفكرية طرافة في تقييم بينكر (1994: 359) لدراسة جولد وليوينتين المتنفذة والتي تقول: “إن أحد أهدافهم هو النيل من نظريات السلوك البشري، والتي في تصورهم تنطوي على ميول سياسية يمينية. إن جولد الذي ينتمي إلى جامعة هارفارد، هو طبعاً مثل بارز على ادعاء مأفون بالقيل والقال، بأن الماركسيين الوحيدين الذين ظلوا في العالم يُعلمون في الجامعات البريطانية والأمريكية. الذي يبدو أن اليساريين الذين يروِّجون لاكتمال البشر من خلال الهيمنة، المجتمعية (الحكومة)، يخشون تداعيات إعطاء وزن كبير للطبيعة، في الوقت الذي يخشى فيه اليمينيون (على الأقل تلك الفئة التي تؤمن بمحدودية دور الحكومة) من تداعيات الدولة على مطواعية العنصر البشري. هذه هي طبيعة النقاش بين الطبيعة مقابل التنشئة والذي ينطوي على انحيازات سياسية كامنة. ميزس يصطف على جانب الطبيعة في قوله بأن للعقل أدوات تُشكلُ جزءً من التجربة. بيد أن العقل اكتسب تلك الأدوات لأنها كانت طيِّعة وقابلة للأقلمة، ولأنها ازدهرت في بيئات لم تغلق في وجهها قدرة التعبير عن نفسها. هكذا، فإن وجهة نظر معاصرة مهمة هي التوأمة بين الطبيعة والثقافة—الثقافة تؤثر على ذلك الذي يبقى ويزدهر، والطبيعة تؤثر على ما هو بشكل أو بآخر، قابل للتغيير.
الفعل الواعي والفعل اللاشعوري

هنا في هذا المجال، نجد أنه تم تجاوز ميزس، نتيجة التطورات الأخيرة في علوم النفس، ذلك أنه يقول “إن الفعل الواعي أو المتعمد هو على نقيض حاد مع السلوك اللاشعوري، أي الانعكاسات والاستجابات اللاشعورية لخلايا الجسم والأعصاب” (م: 10). إنه يريد أن يدعي بأن الفعل الإنساني هو فعل متعمد وواع. ولكن ذلك ليس شرطاً ضرورياً لنظرياته. فالأسواق هناك تفعل فعلها بغض النظر عما إذا كان وراء الفعل الإنساني خيار ذاتي متعمد أم لا.
إنه يقلل لدرجة هائلة من عمل العقل اللاواعي. معظم الذي نعرفه لا نذكر بأننا قد تعلمناه، مثلما أن عملية التعلم ليست متوفرة لتجاربنا الواعية—أي للعقل. الطفل الذي ينمو بشكل طبيعي يكون قد أتقن تركيب الجمل في أشكالها الصحيحة، عندما يبلغ السنة الرابعة من عمره، ودون أن يكون قد تعلم ذلك. وكما لاحظ بينكر “الأطفال يستحقون معظم الثناء لاكتسابهم اللغوي. وفي الحقيقة، فإننا نستطيع أن نبيّن بأنهم يعرفون أشياء لا يمكن أن يكونوا قد تعلموها” (بينكر 1994: 40). وحتى قرارات حول قضايا مهمة نواجهها تعالج من قبل العقل دون طاقاته الواعية. يبدو ذلك واضحاً عندما تكون منغمساً في اتخاذ قرار، أو محاولة حل مشكلة، أو الذهاب للسرير حيث تصحو وقد أحرزت تقدماً مهماً، أو حتى توصلت إلى حل. وكما أوضح عالم النفس ميشيل جازانيجا ببيان واضح كما هو دأبه:
“ما أن يحين الوقت الذي نعتقد فيه أننا نعرف شيئاً (أي أنه جزء من خبرتنا الواعية) يكون العقل قد أتم فعل ما يتوجب عمله. إنها أخبار قديمة بالنسبة للعقل، ولكنها جديدة بالنسبة لنا (العقل الواعي). الأنظمة المشيّدةُ في العقل تفعل فعلها أوتوماتيكياً، وإلى حد كبير، خارج إدراكنا الواعي. العقل ينهي العمل قبل نصف ثانية من وصول المعلومات التي يتعامل معها إلى عقلنا الواعي… نحن (أي عقولنا) خاليو الذهن حول كيفية عمل ذلك والتأثير عليه. نحن لا نخطط أو نبلور تلك الأعمال. إننا ببساطة نراقب النتيجة. ويبدأ العقل بالتغطية على ذلك (أي الفعل الذي تم من مناحي العقل) بخلق الانطباع الخاطئ بأن الأحداث التي نمر بتجربتها هي أحداث في زمن حقيقي—وليس قبل فعلنا الواعي بتقرير ما يتوجب عمله” (جازانيجا 1998: 63-64).
وفي الحقيقة، فإن أحد الألغاز المحيّرة في علم النفس هي: لماذا يخدع الدماغ العقل إلى الاعتقاد بأنه يسيطر على النشاطات العقلية. ولكن، لا شيء مما تقدم ينال من تأثير نظرية ميزس. الأسواق هي إحدى وسائل العقل الاجتماعية لتوسيع قدرتها على معالجة المعلومات من عقول غيرها، والمساهمة في خلق الثروة، بما يتجاوز كل ما يستطيع العقل البشري أن يفهمه. وكما أن معظم ما يفعله الدماغ هو غير متاح للعقل، كذلك هنالك إخفاق واسع بين الناس في فهم الأسواق كأنظمة تنظم نفسها بنفسها، وتنسقها أسعار تهدف إلى تحقيق مكاسب مشتركة من عمليات التبادل، ودون توجيه من أحد. إن تفاعلات الاقتصاد هي بعيدة عن إدراك المتعاملين فيه، بما في ذلك رجال الأعمال، كبعد إدراك المتعامل نفسه عن فعل عقله. إن عمليات الاقتصاد ليست نتاج، ولا يمكن أن تكون نتاج العقل الواعي، والذي يتوجب عليه الاعتراف بمحدوديته وأن يواجه، وفق ما كتب هايك “تداعيات الحقيقة المذهلة، والتي كشف عنها علم الاقتصاد وعلم البيولوجيا، بأن النظام الذي يعمل دون تخطيط مسبق، يفوق بمراحل كبيرة الخطط التي يضعها الإنسان عمداً” (هايك 1988: 8).
حول شبكة العقل المتخصصة بمعرفة كلفة الفرصة وتشابك علاقة العقل والعواطف
نظرية تبرز بإصرار ومتابعة في كتابات ميزس، هي أن الاختيار يقوم على التفكير، وتحليل الأفضليات المقارنة والأحكام المتصلة بما هو أكثر وما هو أقل: “الفعل هو محاولة استبدال وضع أفضل من وضع أقل منه… الثمن يساوي القيمة المعطاة لوضع ما، والتي يتوجب التخلي عنها لتحقيق الهدف المنشود” (م: 97). “الرجل وحده يملك الملكة على تحويل الحوافز الحسيّة إلى ملاحظة وتجربة [ويستطيع أن يرتبهما] ضمن نظام متكامل. الفعل يسبقه التفكير” (م: 177).
أود أن ألفت النظر إلى حقيقة أن توجهاً في أبحاث تتصل بالحيوان والإنسان تقود إلى السنّة ذاتها، قد نشرت بعنوان الفعل البشري، وقد أثبتت الأساس لمقارنات قيمية مقنعة، تتعلق بكيفية عمل الدماغ الحيواني. قدم زيمان (1949) تقريراً يعرض فيه نتائج تجارب على فئران دُرِّبت على السعي لتحقيق هدف تحفزها إليه المكافأة المقدمة. ومن ثمَّ انتقلت التجربة إلى إعطاء مكافأة أقل، وقد كانت استجابة الفئران الركض ببطء أكثر نتيجة المكافأة الأقل. فريق ثان من الفئران بدأ بمكافأة صغيرة، ثم انتقل إلى مكافأة أعلى. وعلى الفور ركضت تلك الفئران بوتيرة أسرع مما لو كانت المكافأة الأعلى وحدها هي التي طبقت. كانت تلك التجربة المبكرة متوافقة مع الفرضية التي مفادها أن الحافز يعتمد على المكافأة النسبية—كلفة الفرصة—وليس على مقياس كُلِّي من القيمة ينتجها الدماغ. بيد أن ذلك التفسير لم يُقدَّر بما يستحق في ذلك الوقت. ومنذ ذلك الحين، أظهر القياس المباشر لنشاط نبضات الدماغ أهمية المقارنة القيمية النسبية في فهم كيفية عمل أدمغة المخلوقات. هكذا، فإن أدمغة كل من القردة والفئران تستجيب لمقارنات متفاوتة من المكافآت. فالدراسات العصبية الفيزيولوجية لكل من القردة والفئران تدل على أن النيورونات الجزئية في الأقسام المكونة من طبقات ست في مقدمة ذلك الجزء من الدماغ (فوق العينين)، تقوم بتمحيص الأحداث المحفّزة، وتميزُ بين الشهية وبين الحوافز الموضوعية الطاردة، وأنها تكون نشطة خلال فترات توقع النتائج (شولتز وترمبليه 1999: 704).
لقد أصبح ثابتاً الآن بأن نشاط النيورون الأمامي المحرك في القدرة يُمكِّنها من التمييز بين المكافآت النسبية ذات العلاقة المباشرة بالتفضيل النسبي للحيوانات، بين مجموعة من المكافئات مثل الزبيب والتفاح والحبوب (مرتّبةٌ وفق التفضيل النسبي). وهكذا، فإن نشاط النيورونات هو أكبر بالنسبة للزبيب منه إلى التفاح عندما يكون الخيار بين الزبيب والتفاح، وكذلك بين التفاح والحبوب. بيد أن النشاط المحفّز من التفاح هو أكبر كثيراً بالمقارنة مع الحبوب منه بالمقارنة مع الزبيب. هذا يتعارض مع ما يتوقع المرء لو كانت المكافئات الثلاث مسجلة على قياس ثابت من المواصفات الفيزيولوجية، بدلاً من القياس النسبي (شولتز وترمبليه 1999: 706، الشكل 4).
وحيث أن التقنيات التي تستخدم في الحيوانات نزّاعة إلى التوغل في الأنسجة أكثر مما هو مُستحب بالنسبة للبشر، ما هو المغزى بالنسبة للإنسان لتلك الأبحاث حول عمل الدماغ الحيواني؟ الجواب هو أن الأبحاث قد دلَّت على أن القشرة الأمامية المتحركة في الدماغ البشري تعمل عملاً متطابقاً مع ما تفعله تلك القشرة في الحيوانات. وقد تبين ذلك من خلال دراسة البشر والقردة اللذين أصيبت قشرتهما الأمامية بالعطب: كلا الجنسين أبديا تعبيرات متغيرة بالنسبة للمكافئات والخيارات المفضلة، كما أظهرا العطب الذي أصاب قدرتهما على اتخاذ القرارات، والحوافز والسلوك العاطفي، وجميعها تؤدي إلى اختلالات مهمة في سلوكها الاجتماعي. وكما لاحظ داماسيو في تلخيص نتائج تلك الدراسات: “على الرغم من الفروقات النيوروبيولوجية بين القردة والشمبنزي، وبين الإنسان والشمبنزي، هنالك جوهر مشترك للعطب الذي ينتج عن إصابة الأعضاء الأمامية في الدماغ: فقد نتج عن ذلك تدهور شخصي واجتماعي شديد في سلوكيهما” (داماسيو 1994: 75).
يود الناس أن يعتقدوا بأن اتخاذ القرارات الصائبة هي نتيجة لاستخدام العقل، وأن أية مؤثرات قد تولدها العواطف هي مناقضة للقرارات الصائبة. إنَّ ما لم يُقدّره ميزس وغيره الذين يعتمدون أيضاً على أولوية العقل في نظرية الاختيار هو الدور الإيجابي الذي تلعبه العواطف في الفعل الإنساني. وعلى سبيل المثال، فقد قام بيكارا وآخرون (1997) بدراسة سلوك المرضى الذين يعانون من إصابات في الحيِّز الأمامي للدماغ في عملية اتخاذ القرار، مقارنة مع الأشخاص الطبيعيين.[1] لقد دلت تلك الدراسات على أن الأشخاص الطبيعيين، عندما علموا بالبيئة الاختبارية، قد دخلوا في مرحلة انتقالية حرجة، غيّروا فيها من أنماط اتخاذهم للقرارات. بيد أنه وقبل التحول الذي وقع في اتخاذ القرار، أظهرت التجارب التي أُجريت على القشرة الجلدية الناقلة للحواس استجابة عاطفية، بينما فقط بعد تغيير القرار، استطاعوا أن يبلوروا شفوياً السبب الذي أدّى إلى إجراء التغيير. وبالتالي، فإن الدماغ العاطفي ينتقل إلى الفعل قبل تغيير القرار، بينما العقل، في شكل تبرير عقلاني، يعمل بعد اتخاذ القرار. الذين أُصيب دماغهم بالعطب فشلوا في إبداء استجابة عاطفية، وفشلوا في تغيير صنع القرار، ويقدمون تبريرات لفظية لأدائهم الضعيف. ومما يلفت النظر أن هنالك مشكلة عامة فيمن أصاب العطب دماغهم ألا وهي، فقدان وظائفهم، أو الإفلاس، ويجدون صعوبة في اتخاذ قرارات على المدى البعيد (بيكارا وآخرون 1997). أعتقد بأن هنالك إشارات لا شعورية، تصدر عن ذلك الجزء العاطفي من العقل (يسمى في بعض الأحيان بـ”Limbic System”)، وهو الذي يوجه أو يؤثر على تشكيل استراتيجية المعرفة، وأن هذه الاستدارة تتأثر بما يحل بمقدمة الدماغ من انشقاقات ونتوءات. ونتيجة لذلك، فإن العواطف، وبعيداً عن أن تكون ضارة باتخاذ القرار الصائب، قد تكون أساسية له، بينما التحليل العقلي الواعي يكون الأخير في معرفة ما جرى.
حول المجتمع الإنساني والتعاون
وفق نظريات ميزس، فإن جميع العلاقات الاجتماعية تنشأ من تقسيم العمل، والذي أصبح ممكناً نتيجة اقتصاد السوق:
“داخل نظام التعاون الاجتماعي، يمكن أن تنشأ بين أعضاء المجتمع مشاعر التعاطف والصداقة، والشعور المشترك بالانتماء. هذه المشاعر هي مصدر أكثر تجارب الإنسان علواً ومسرّة. إنها أغلى مُزيّنات الحياة.. بيد أنها ليست الأداة التي جلبت العلاقات الاجتماعية. إنها ثمرة التعاون الاجتماعي، وإنها تنمو فقط ضمن أُطره… الحقائق الأساسية التي جلبت التعاون والمجتمع والحضارة، وحوَّلت الحيوان البشري إلى كائن إنساني، هي الحقائق التي أظهرت بأن العمل الذي يتم في إطار تقسيم العمل، هو أكثر إنتاجية من العمل المنعزل، وأن عقل الإنسان قادر على إدراك هذه الحقيقة” (م: 144).
أود أن أسلط ضوءً مختلفاً على هذه القضايا، دون أن أنفي، أو أُقلّلَ من جوهر رسالة ميزس. إن صيغتي، القائمة على أسس من علم الآثار، والأعراق والدراسات التجاربية، تعطي منظوراً مختلفاً حول الجذور السيكولوجية الاجتماعية للتبادل، وحقوق الملكية والمال. وحيث أنني قد سبق وبحثت هذا الموضوع بإسهاب في موقع آخر، فإنني سوف أستخدم هذه المناسبة لتحديثها وإعادة صياغتها في إطار تكريم مساهمات ميزس الخالدة (سميث 1998).
ربما في الترتيب الثاني بعد اللغة، كظاهرة إنسانية عامة، يقوم الناس دائماً، وإلى درجة كبيرة لا شعورياً، في الإقدام على التبادل مع الأصدقاء والمشاركين وحتى الغرباء، إذا لم يكن الإطار لذلك التعاون عدائياً. إنك تدعو المعارف إلى العشاء، يتلو ذلك دعوتهم لك، إنك تعطي تذكرة المسرح إلى صديقة عندما تكون خارج المدينة، وبعد ذلك، فإنها تعطيك تذاكر لحضور حفلات موسيقية، تكون هي غير قادرة على حضورها. الأصدقاء يتبادلون العطايا، ويقرضون الممتلكات، ويقدمون الخدمات لبعضهم بعضاً بشكل أوتوماتيكي، دون إجراء حسابات تفصيلية دقيقة. ومن هنا تجيء العبارة الشائعة “أنا مدين لك بواحدة.” مجتمعات الصيد، التي تمت دراستها على امتداد المائة عام الماضية، مليئة بأنظمة تبادلات اجتماعية، ذات نتائج وتداعيات اقتصادية بعيدة المدى. ومع أن بعضها كان يتعامل بشكل من أشكال السلع المالية، فإن الكثيرين منها لم يكونوا يفعلون ذلك، بل يعتمدون كلياً على التبادل الاجتماعي من خلال التعامل بالمثل، لاكتساب الربح من خلال التبادل، في عالم خالٍ من المال أو الحفظ في التبريد.
إن أشكال المؤسسات تختلف اختلافات كبيرة، بيد أن عملها هو الشيء ذاته. هنالك تقسيم عال في العمل على امتداد الأجيال وبين الجنسين: النساء والأطفال وكبار السن، في العادة، يجمعون ويوضبون الناتج الزراعي؛ بينما الرجال والأولاد ما بعد سن الثامنة عشرة يصيدون؛ كبار السن يعطون النصائح حول الصيد ويصنعون الآلات؛ الجدات يساعدن في توليد الأطفال وتنشئتهم، كجزء من تأقلم إنساني بيولوجي—انقطاع الطمث—أي سن اليأس، الذي يؤدي إلى حياة عائلية وخدماتية للمجتمع، في فترة ما بعد الإنجاب.
هذه “الغريزة” لتبادل المنافع قد ظهرت بقوة، وعلى نطاق غير متوقع، في تجارب واسعة معملية (فير، جاكتر وكيركستايجر 1996؛ مكايب، راسينتي وسميث 1996). وكما ذكر أعلاه، فإن أبحاث السوق التجاربية تؤيد بقوة وجهة نظر سميث-هايك-ميزس حول التعاون من خلال مؤسسات السوق، والتي من خلالها تسخّرُ حقوق الملكية المصلحة الذاتية لخلق الثروة. بيد أن النصف أو أكثر من الناس الذين يُعظمون مكاسبهم من التبادل، وإن كان عن غير وعي، وبتعاملات غير محدودة من قبل أنظمة السوق، يختارون أيضاً التنازل عن المصلحة الذاتية لتحقيق نتائج تعاونية بدلاً منها، من خلال الثقة والائتمان، في مبادلات بسيطة ضمن لعبة معلومات تامة.
وعلى سبيل المثال، وفي أحد لعب الثقة، فإن اللاعبين الاثني عشر يصلون على المختبر “لكسب المال في تجربة الاقتصاد.” فعندما يصل الأفراد يدفع لهم مبلغ خمس دولارات لوصولهم في الوقت المحدد، كما يُخصص لهم كمبيوتر في غرفة تحتوي على أربعين جهازاً تفصل بينها حواجز تقسيم. وبعد أن يصل جميع المشتركين، وكل واحد منهم يضم إلى شريك باختيار عشوائي وسرّي، ومن ثم يعطى وبشكل عشوائي أيضاً مركز المحرك الأول أو الثاني. اللعبة تلعب مرة واحدة. المحرك الأول يستطيع أن يختار تقسيم مبلغ 20 دولاراً بالتساوي، 10 دولارات لنفسه و10 دولارات للاعب رقم 2. وخلافاً لذلك، يستطيع أن ُيمرر للاعب رقم 2، مما يضاعف الكعكة الأصلية إلى 40 دولاراً. اختياران أمام اللاعب رقم 2: أخذ الـ40 دولاراً، تاركاً لا شيء للاعب رقم 1، أو أن يأخذ 25 دولاراً، تاركاً 15 دولاراً للاعب رقم 1. ومهما يكن الاختيار، ففي النهاية كل واحد من المشتركين يدفع له بشكل انفرادي خاص ويغادر التجربة. تستغرق مدة التجربة حوالي 15 دقيقة. لا يعرف أحدهم مع مَنْ مِنَ المشاركين تم ازدواجه. اللعبة اليتيمة، والازدواج السرّي، فيهما يعترف بالبروتوكول على أنه يحدد الشروط الأكثر نجاعة للحركات غير المتعاونة التي يقوم بها كل لاعب. نظرية اللعبة تفترض بأنه، في غياب لعبة مكرّرة، أو أي تاريخ أو مستقبل للتفاعل بين اللاعبين، فإن كل واحد منهم سوف يختار استراتيجية الهيمنة، وكل واحد منهم سوف يفترض بأن الآخر سوف يختار الشيء ذاته. ونتيجة لذلك، فإن توازن اللعبة يتطلب أن يأخذ اللاعب الأول 10 دولارات، تاركاً 10 دولارات للاعب الثاني. وخلافاً لذلك، فإذا لم يلعب المحرك الأول يختار المحرك الثاني أخذ مبلغ الـ40 دولاراً كلها.
وخلافاً لذلك، لنفترض بأن اللاعب رقم 1 هو شخص سياسته في التفاعل الاجتماعي مع الآخرين هي كثيراً ما تكون قائمة على تبادل وُدِّي. ضمن هذا الإطار فإن ترك اللعبة للاعب رقم 2 يراد به إعطاء عرض للتعاون. اللاعب رقم 1 يغامر بخسارة فرصة إضاعة 10 دولارات، من أجل فرصة يربح فيها 5 دولارات. يمكن تفسير ذلك بأنه إشارة للاعب رقم 2 مفادها: “إنني لا أنوي التخلي عن الكسب المؤكد للدولارات العشر، لأنني أتوقع منك أن تترك لي (صفراً). إنني أعرض عليك مردوداً يساوي 250%، بحيث أستطيع الحصول على 150% كعائد على التبادل. إنني أثق فيك بأن تكون موثوقاً.” فإذا كان للاعب رقم 2 توجهٌ مماثل، فإننا نكون قد حققنا تجارة تُدرُّ عائداً على التبادل، يستلم اللاعب 1 فيه 15 دولاراً واللاعب 2 يستلم 25 دولاراً.
الجدول رقم 1 يعطي نتائج لعيِّنة من 24 زوجاً من طلاب البكالوريوس، وعيِّنة لـ28 زوجاً لطلاب الدراسات العليا (البيانات من مكايب وسميث 1999). الدرس المستفاد هو أن نصف عينة طلبة الجامعات، بما في ذلك طلبة الدراسات العليا على امتداد الولايات المتحدة وأوروبا، المؤهلين بتدريبات اقتصادية وبنظرية اللعبة، يثقون، بينما 64 إلى 75 في المائة ممن تم الازدواج معهم، هم جديرون بالثقة. لماذا مثل هذه النسبة العالية من أولئك اللاعبين المجهولين المتفاعلين يتخلون عن الفعل الأناني غير المتعاون، كما تنبأت بذلك النظرية الاقتصادية ونظرية اللعبة؟ نعتقد بأن الجواب بسيط: معظم الناس في المجتمعات المستقرة نسبياً تجد أنها سياسة ناجحة تؤتي أُكلها على المدى البعيد، سياسة التعاون والتجاوب مع الآخرين. هذا الموقف المعتاد قوي إلى درجة أنه ظل فعالاً حتى في حالات التفاعل المجهولة، في لعبة تجريبية تتم مرةً واحدة؛ معظم من تم الازدواج معهم يفهمون الرسالة، ويبادلونها تعاوناً بتعاون لمصلحة الفريقين المتبادلة. إن بياناتنا تُظهرُ بأن اللاعبين رقم 1 الذين يتعاونون، مغامرين بالخسارة، هم في أغلب الحالات يكسبون مالاً أوفر من أولئك الذين لا يتعاونون.

أود أن أقترح بأن هذا الشكل من السلوك قد ميَّز سلوك أسلافنا ربما على امتداد المليوني سنة الماضية. وفي الحقيقة، فإنني أتفق مع ميزس بأنه من خلال التبادل، تُمكِّننا من الوصول إلى ما وصلنا إليه اليوم، ما عدا القول بأن التبادل، على امتداد معظم تاريخنا، قد جرى في نطاق التبادل بين العائلة والعشيرة والقبلية. هذا هو الذي وضع الأساس لأقدم مراحل التخصص، وقبل زمن طويل من قيام السوق. ونتيجة لذلك، عندما اخترع أحدهم “المقايضة”، وفيما بعد، ما أصبح يعرف بالنقد، فقد كان للإنسان خبرة شاسعة في ميدان التبادل. ما فعله النقد كان تحرير العقل من الحسابات القائمة على حسن النوايا—الحاجة إلى التدقيق بين الحين والحين، حول ما إذا كانت الحسابات الجارية مع صديق دقيقة أو غير متوازنة إلى حد كبير. هذا العنصر الجديد هو الذي جعل التجارة طويلة الأمد ممكنة، والتي بلغت ذروتها اليوم في الأسواق العالمية، والدخول في عصر التجارة الإلكترونية (نورث 1991).
النموذج الذي ذكرناه أعلاه حول الفرد—أن يسلك سلوكاً غير متعاون في الأسواق العامة غير الشخصية، وتعظيم الربح من التجارة، ولكن التعاون في التبادل الشخصي وتعظيم الكسب من التبادل—يمكّن الإنسان من فهم السبب الذي يدفع الناس إلى الرغبة في التدخل بالأسواق “لتحسين الأوضاع.” إن خبرتهم في التبادل الشخصي الاجتماعي، هو أن عمل الخير (عن طريق أن يثق وأن يكون موثوقاً)، يؤدي إلى نتائج جيدة (مكاسب واضحة من التبادل الاجتماعي). أما في المبادلات العامة غير الشخصية من خلال الأسواق، فإن المكاسب من التبادل ليست جزءً من خبرتهم. وكما لاحظ آدم سميث ([1776] 1909: 19): “تقسيم العمل هذا، ليس في الأصل نتيجة لأية حكمة إنسانية، تتنبأ وتتوجه نحو تلك الثروة الغريزية، والذي يوصل لها.” التبادل غير الشخصي من خلال السوق يعطي الانطباع بأنه لعبة ليس فيها رابح أو خاسر، وهو انطباع لا يُقللُ بأي شكل من الأشكال من قدرة الأسواق على إنجاز الأهداف التي بلورها آدم سميث وميزس. البرامج التدخلية في نظري ناتجة عن أن الناس يطبقون بشكل غير صحيح تجاربهم وخبراتهم من التبادل الشخصي الاجتماعي على الأسواق العامة، والتوصل إلى قناعة بأنه يمكن التدخل وتحسين أوضاع السوق. الناس يستخدمون حدسهم وليس عقلهم (كما كان يظن ميزس) في نظرتهم إلى الأسواق، وهم بذلك يرتكبون خطأً.
الخاتمة
معْلَمان اثنان فريدان يختص بهما العنصر البشري، وهما في الغالب أساسيان لقيام التخصص (نظام التعاون الموسع) كظاهرة إنسانية عامة، مكّنتْ أسلافنا من “السيطرة على الأسماك في البحار، والطير في الفضاء، والمواشي، وعلى جميع الأرض، وعلى كل دابة” (سفر التكوين 1: 26). هذان المعلمان أو العنصران هما: (1) استخدام لغة طبيعية مؤهلة و(2) التبادل أو “القدرة على التنقل ومقايضة وتبادل شيء بشيء آخر” (سميث، 1776، 1909: 19). من الصعب التصور بأن هذين العنصرين قد تطورا على انفراد. إنهما بكل تأكيد جزءٌ من شبكة تطور ثقافي–بيولوجي مشترك على امتداد أكثر من مليوني سنة. إن غريزة التبادل تفسر بقاء أنظمة التجارة في الصين، والاتحاد السوفييتي السابق، وغيرهما، تحت أنظمة الدولة ومحاولات القمع الاجتماعي.
ميزس وهايك بلورا وأثريا إثراءً عظيماً المبادئ التي جاء بها آدم سميث، في مرحلة حرجة في هذا القرن (القرن العشرين)، عندما كان يُنظر إلى تفكيرهما بأنه عفا عليه الدهر، وغير عملي، ومثالي. لقد تحدثا عن الحرية عندما لم يكن لها تأييد شعبي؛ تحدثا بحكمة وعقل ثاقب. ولكنهما تحدثا من منطلقات مستقلة، وفي بعض الحالات متعارضة. بالنسبة لميزس “التفكير العقلي هو الأداة التي حققت كل شيء إنساني محدد” (م: 91). ولكن في رأي هايك، فإن قمة الغرور هي “الفكرة القائلة بأن القدرة على امتلاك المواهب تتأتى عن العقل. إنها على النقيض من ذلك: ذلك أن تفكيرنا العقلي هو نتيجة عملية التطور الانتقائي، بقدر ما هو تطور أخلاقياتنا”، ولكنها تنبع من تطور مستقل: “لا يجب لأحد أن يظن بأن قدرتنا العقلية هي في المستوى الأعلى، وأن القوانين الأخلاقية الوحيدة النافذة هي تلك التي يسندها العقل” (هايك 1988: 21). “ولفهم حضارتنا، على المرء أن يقدر بأن النظام الموسع للتعاون قد نتج، ليس بفعل الإرادة الإنسانية أو توجهاتها، ولكن عفوياً: لقد نشأ نتيجة اتباع عدد من الممارسات التقليدية، في معظمها أخلاقية، وبدون قصد متعمد. وكثير منها مكروهة، كما أنهم في العادة لا يستوعبون مغزاها، كما لا يستطيعون إثبات صلاحيتها؛ ولكن رغم ذلك، فقد انتشرت بسرعة بفعل التطور الانتقائي—الزيادة المقارنة في حجم السكان والثروة—لتلك الجماعات التي تبعتها” (هايك 1988: 6).
ومع أن هايك في رأيي، هو المفكر الاقتصادي الأبرز في القرن العشرين، والذي رأى ما يتوجب أن يكون عليه النظام الموسع، فقد كان ميزس التقني المُختار، ولم يكن أحد يفوقه في بلورة أولوية الفرد، والحاجة إلى تحديد وتنمية الحقوق الفردية. الاقتصاد التجريبي، الذي أنشئ في السنوات الخمسين منذ الفعل البشري كان منصفاً لأهل النمسا، في تمكيننا من إظهار أن النظام العفوي، الذي يعمل من خلال مؤسسات الملكية الفردية، يظهر المعالم المرغوبة التي ادّعى النمساويون مزايا وجودها. هذه القوة في الإظهار والإثبات هي بالنسبة لي أشد إقناعاً بكثير من اللجوء إلى العقل، وبالأخص من قبل ميزس. العقل، كما تعلمون هو يُدعى أيضاً على أنه في جانب تدخل الدولة، وأن مثل هذا الشكل من العقل له القدرة على التأثير في عقول الناس، بسبب محاكاته السطحية لتجاربهم، على الرغم من أن النظم التي أقيمت حوله قد انهارت، وتراهم يبدون اليأس والإحباط مدَّعين بأن كل شيء سوف يصبح على ما يرام، لولا الجشع البشري.
طرائق الفعل البشري
لورنس إتش. وايت[3]

لقد أعطانا فيرنون سميث، مجموعة مشوِّقة من الآراء حول كتاب ميزس، الفعل البشري، ففي حقل الطرائق والأساليب، يمكن اعتبار الفعل البشري على أنه بيان يؤكد الاستنتاجية الافتراضية من القاعدة العامة المسبقة إلى الخاصة، بينما يمكن اعتبار سميث على أنه ملتزم بالمذهب التجريبي (من الطراز الاختباري). وعندما يؤخذ ذلك بعين الاعتبار، فإن سميث يبدي انفتاحاً حميداً غير متوقع نحو الكتاب.
الحيادية الأخلاقية والعقلانية في علم الاقتصاد
أوضح ميزس (1966: 19) كما نقل عنه سميث، أنه قال: “الفعل البشري هو بالضرورة عقلانياً دائماً.” ويعلمنا سميث بأن ميزس يعتبر ذلك صحيحاً “لأن التطبيق العملي محايد فيما يتعلق بأية أحكام تقييمية تتعلق بالبيانات—ألا وهي الأهداف النهائية التي يتم اختيارها في الفعل البشري. لذا، فليس هنالك أساس موضوعي للتأكيد بأن اختيارات أي إنسان يمكن أن تكون لا عقلانية.” أعتقد أن استخدام سميث لكلمة (لأن) السببية، ليست في مكانها. ومع أن الفترة التي ينقل عنها سميث تبحث بالفعل ضرورة العقلانية في الفعل البشري، جنباً إلى جنب مع الحيادية الأخلاقية في التطبيق العملي، فإن الأخيرة ليست السبب وراء الأولى. يجب أن لا نخلط بين أمرين اثنين مختلفين: (1) معنى عبارة العقلانية في الاقتصاد، و(2) الحيادية الأخلاقية في التحليلات الاقتصادية.
الحيادية الأخلاقية تعني أن الاقتصاد مهتم باستكشاف نتائج نشاطات السوق والسياسة الاقتصادية، وليس في الحكم على سوءاتهما أو حسناتهما. أن تكون عقلانياً بالنسبة لميزس (1966: 20) هو الانغماس في نشاط متعمد، أي المحاولة المتعمدة لتحقيق هدف ما. كما إن الـ”فعل” يعني عملاً متعمداً (ميزس 1966: 11). السلوك الوحيد غير المتعمد (الذي لا هدف وراءه) هو السلوك الانعكاسي اللاإرادي، لذا، وكتحصيل حاصل، فإن جميع “الأفعال البشرية” هي عقلانية، حتى ولو تقبّل المرء أو رفض الحيادية الأخلاقية في التحليلات الاقتصادية (ويضيف ميزس قائلاً: “عبارة فعل عقلاني هي، تبعاً لذلك، حشو كلامي، ويجب أن ترفض على هذا الأساس.”) يمكن للمرء أن يقبل بعبارة ميزس، ومع ذلك يرفض العبارة المبنية على أساس الاعتقاد بأن للاقتصاد مهمة أخلاقية في الحكم على القرارات، بأنها جيدة أو سيئة. المسألتان تبدوان متداخلتين فقط عندما تُستعمل العبارتان بشكل مختلف، وبالأخص عندما يصف مراقب قرار إنسان ما بأنه “غير عقلاني”، وهو يعني بذلك أنه قرار “سيء”، أو أنه مخالف “لأهداف” المراقب. ميزس يبحث الحيادية الأخلاقية من أجل تحذيرنا ضد مثل ذلك الاستخدام، وليس من أجل توضيح كون الفعل البشري بالضرورة عقلاني.
علم الاقتصاد ليس علماً طبيعياً
يشرع سميث مبكراً في تقديم انتقادات إيجابية: “هنالك الكثير في كتابات ميزس، في حاجة إلى التحديث، بسبب أشياء نظن أننا نعرفها الآن، والتي لم نكن نعرفها قبل 50 سنة،” وبالأخص “بالنسبة لطبيعة اتخاذ القرار البشري.” إن معلوماتنا الجديدة حول عملية اتخاذ القرار تستخلص من (1) تجارب سميث الخاصة بشأن الحوافز والأسواق لدى العنصر البشري، (2) الأنثروبولوجيا (علم الإنسان)، والإثنوجرافيا (علم نشوء الأعراق)، والسيكولوجية التطورية، و(3) الأبحاث في علم الأعصاب—على سبيل المثال، على أدمغة القردة، والأدمغة البشرية المعطوبة.
من السهل الموافقة على القول بأن أي بيان صدر قبل 50 عاماً مضى بشأن العلوم الطبيعية هو في الغالب في حاجة إلى تحديث. إنني أتفق مع سميث بأن ميزس كان على خطأ، أو على الأقل، إنه كان جامحاً عندما كتب يقول (ميزس 1966: 31): “لا يمكن إجراء أية تجارب مختبرية بشأن الفعل البشري.” إنصافاً إلى ميزس، مع ذلك، فقد جاءت تلك العبارة في وسط فقرة حول قضية شرح التجربة التاريخية. كان ميزس ببساطة يوضح بأن التاريخ الاقتصادي لا يجري في محيط مختبر، لذا يجب استخدام أساليب أخرى، غير التجارب المختبرية المنضبطة، للوصول إلى نتائج سببية تفسر الفعل البشري. فالبيانات التاريخية ليست بيانات مختبرية.
انتقادات سميث تشير إلى قضية أهم وأوسع بالنسبة لأي إنسان يأخذ على محمل الجد نظريات ميزس (الاستنتاجية المسبقة من القاعدة العامة إلى الخاصة، والتي تبدأ من منطلق المنطق التام في الاختيار). هل نظريات ميزس حول الوسائل المناسبة للاقتصاد في حاجة إلى تحديث؟ إنني أعتقد بأنها ليست في حاجة لذلك. أعتقد أن ميزس على حق في إصراره على أن المعطيات الجوهرية في النظريات الاقتصادية متأصلة في وسائل منفصلة عن تلك المتواجدة في العلوم الطبيعية. فالنظرية التطبيقية مستقلة عن العلوم الطبيعية، والاقتصاد التجريبي من وجهة النظر هذه يعتبر من العلوم الطبيعية. هذا لا يعني بأن الاقتصاد التجريبي لا ينتمي إلى دائرة الاقتصاد، أو أنه غير معني بكيفية عملنا نحن الاقتصاديون الذين لا ينتمون إلى المدرسة التجريبية. هنالك متسع كبير لكلا الجانبين: التطبيقي النظري المسبق، والعلم الطبيعي في دراسة السلوك البشري في الأسواق.
إن موقفي يتلخص في الآتي: الاقتصاد التجريبي وغيره من العلوم الطبيعية ليسا في وضع يتيح لهما تكذيب المعطيات الاستنباطية للنظرية الاقتصادية. تلك المعطيات تعتمد على نظرتنا “الداخلية” حول الناس كعملاء في السوق، بينما العلوم الطبيعية تعطينا أفقاً خارجياً حول الناس. تستطيع التجارب أن تُبين أفعال النظرية الاقتصادية. وبتعبير سميث، إنها تستطيع أن تعيد إلى الحياة معطياتها المتصوَّرة. وأهم من كل ذلك، أنها تستطيع مساعدتنا في تسوية قضايا مهمة لا يستطيع الاستنباط المسبق أن يحُلَّها. إن مجموعة من مثل تلك الأسئلة التجريبية ليست خالية من المضمون (كما أن ميزس لم يكن يعتقد ذلك). ومن الناحية الأخرى، فإن مجموعة من الأسئلة الاستنباطية المفيدة ليست كذلك خالية من المضمون. إنها تشمل، ليس فقط نظرية الاستهلاك، ولكن بعض نظريات المال أيضاً، وعلى سبيل المثال قانون جريشام.
إكتشاف ظاهرة المبادرات الاقتصادية
يقول سميث إن علم الأعصاب الراهن يدحض وجهة نظر ميزس القائلة بأن هنالك تغاير حاد بين السلوك المتعمد والسلوك اللاشعوري أو الانعكاسي غير المتعمد. لا يساورني شك بأن هنالك—من وجهة نظر علم الأعصاب—استمرارية وليس تناقضاً حاداً. ولكنني أجد نفسي على خلاف مع سميث في قوله بأن “الإرادة المتعمدة ليست شرطاً ضرورياً في نظام ميزس.” فالأسواق موجودة هناك، تفعل فعلها سواء كانت دوافع الفعل الإنساني تنطوي على اختيار إرادي أم لا. أقوال سميث قد تنطبق على نظام ولراس النظري، والذي أعتقد أن باريتو قال فيه: “إن الفرد قد يختفي، بشرط أن يترك لنا وراءه صورة فوتوغرافية عن أذواقه.” ولكنها لا تنطبق على نظام ميزس النظري. فمفهوم ميزس للكيفية التي يتم بموجبها عمل السوق بالفعل هي عملية اكتشاف المبادءة والمبادرة، وليس فقط الاستجابة التلقائية للمحفزات. أن يكون النظام الاجتماعي الناجم عن ذلك غير متعمد لا يعني بأن القرارات الفردية التي ينطوي عليها ليست بالضرورة متعمدّة.
ملاحظات:
[1] إن مهمة الأشخاص موضوع الدراسة هي تكديس كمية النقد من خلال طرح أي جزء أو كل مجموعات أوراق اللعب الأربع. الاوراق في المجموعات (أ) و(ب) يعطون 100$، بينما في (ج) و(د) 50$. لكن في الحالة الأولى يبدو أن هنالك ورقة مناسبية تنطوي على خسارة كبيرة غير قابلة للتنبؤ. إن الجزاء يستمر بغير نمط، بينما لا يعرف الأشخاص موضوع الدراسة متى ستنتهي المهمة. جميع الاشخاص موضوع الدراسة موصولون بإلكترودات كهربائية في الجلد من أجل قياس الاستجابة الجلفانية الجلدية. إن رد الفعل العاطفي للأحداث يسبب مزيداً من الافراز للعرق، وهذا يسجل على شكل إيصالية أعلى للجلد، كما هو مقاس بقيمة أعلى على الجلفانوميتر. إن أول نتيجة مثيرة للاهتمام للتجربة هي أن هناك إستجابة عاطفية تمت ملاحظتها في قراءات الاستجابة الجلفانية الجلدية للأشخاص الطبيعيين موضوع الدراسة قبل قرارهم للتحول من مجموعة (أ) و(ب) إلى (ج) و(د). فقط في ذلك الوقت، لاحقاً للتغيير في اتخاذهم للقرار، تمكن الأشخاص موضوع الدراسة من الإفصاح عن سبب تحولهم. الملاحظة الثانية الهامة هي أن المرضى الذين يعانون من أذى في الفص الأمامي لم يتحولوا إلى المجموعتين (ج) و(د)، وإن هذا لم يصاحبه تغييرا في القراءات، وأنهم مالوا إلى إعطاء ذرائع شفوية لتبرير أدائهم الضعيف، وبعضهم أشار إلى أن المجموعتين (أ) و(ب) قد يتحسنا.
[2] عدد الأزواج الذين حازوا على هذه النتيجة شريطة الوصول إلى المرحلة الثانية من اللعبة (اللاعب 1 يستنكف). ولذا، بالنسبة لطلبة البكالوريوس، 12 من 24 لاعب رقم 1 تحركوا إلى الأسفل، ومنهم 9 لاعبين تحركوا إلى اليمين و3 تحركوا إلى الاسفل.
[3] بروفيسور الاقتصاد في كلية تيري لإدارة الأعمال، جامعة جورجيا.

© معهد كيتو، منبر الحرية، 25 حزيران 2006.

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

تواصل معنا

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018