العولمة وتحسين الإنسان

peshwazarabic10 نوفمبر، 20100

“الصناعيون يُغيِّرون أماكنهم تدريجياً، تاركين تلك البلدان والأقاليم التي تم لهم إثراؤها، وطائرين إلى غيرها، حيث يجتذبهم رخص المواد والعمالة؛ حتى إذا تم لهم إثراء هؤلاء أيضاً، فإنهم يُنفَونَ مرة أخرى للأسباب ذاتها.” ديفيد هيوم، حول المال، مقالات، ص 283-284.


رسالتي اليوم متفائلة حول التبادل والأسواق، واللتين بدونهما لا يمكن الانغماس في تخصص المعرفة والمهمات. هذا التخصص هو السر وراء خلق جميع أشكال الثروة. لا يوجد أي مصدر آخر للتحسين البشري المستدام، وهذا هو جوهر العولمة.
دعوني أبدأ بعرض ما أود تغطيته في حديثي هذا المساء:
 سوف أبحث تحدياً اجتماعياً وسياسياً نواجهه في العالم الحديث: العيش في عالمين اثنين مختلفين من التبادل في آن معاً، عوالم التبادل الشخصي وغير الشخصي وسوف أبحث بإيجاز العلاقة بين العالمين.
 سوف ابحث أسواق السلع والخدمات، كنظام موسع للتعاون غير الشخصي، محققة أهدافاً لم تكن جزءً من تفكير أيٍّ كان.
 سوف أشمل بعض المراجع لتجارب مختبرية.
 عندما أتحدث عن أعمال أسواق السلع والخدمات، سوف أركز على أهمية التنوع.
 بعدها، سوف أميّزُ بين رأس المال أو (الأسهم) من أسواق السلع والخدمات، وسوف أبحث لماذا أهمية التمييز بينهما.
 وفي هذا الإطار، سوف أتحدث عن المبادرات وعن “فقاعات” الأسواق المالية.
 وضع كل ما تقدم كأساس، سوف ينقلنا إلى العولمة، كاستمرار للهجرة منذ القدم، والتوسع الاقتصادي وتحسين الإنسان.
 سوف أبحث دور التكنولوجيا، والمنافسة في السياسات الوطنية، وكذلك ارتباط التنمية الاقتصادية بالحرية، ولكن ذلك لا يعني أننا نعرف كيف نجعل الحرية أو التنمية الاقتصادية حقيقة قائمة، من الرأس إلى أسفل.
 ونقطتان أخريان أخيرتان سوف تعالجان قضايا استنزاف العقول وتصدير وسائل الإنتاج، وأهمية كل منهما في التنمية الاقتصادية والعولمة.
إننا جميعنا نعمل معاً وفي آن واحد، في أكثر من عالم تبادل واحد. تلك العوالم تتقاطع، حيث نعيش أولاً في عالم من التبادل الفردي—محاباة تجارية وصداقات، وبناء سُمْعات مبنية على الثقة والوثوق في مجموعات صغيرة، وعائلات ومجتمعات، وثانياً، في عالم من التبادل غير الشخصي، من خلال الأسواق، حيث الاتصالات والتعاون انبثقا تدريجياً في تجارة بين غرباء، تفصل بينهما مسافات طويلة.
أكثر الخصائص تأكيداً في الطبيعة البشرية هو نزوعنا الاجتماعي. إنها قدرة مخلوقاتنا على التبادل الاجتماعي الفردي، والتي أتاحت، أول ما أتاحت، التخصص المهني والإنتاج فوق مجرد الحد الأدنى للبقاء. يعود التبادل في جذوره إلى التعامل المتبادل والمشاركة في أنظمة وسلوكيات العائلة، والعائلة الممتدة والقبيلة. هذا التبادل الفردي سمح بالتخصص في المهام ما بين الصيد، وجمع وتصنيع الأدوات، والتي وضعت الأساس لإنتاجية أعلى ورخاء أعمّ، والذي بدوره مكّن الناس القدامى من الهجرة إلى شتى أنحاء المعمورة.
وهكذا، فقد مكّن التخصص، مدعوماً بالتبادل الفردي، العولمة من البدء في مراحل مبكرة، قبل وقت طويل من نشوء الأسواق.
إنني ورفقائي في التأليف قد درسنا أنماط التبادل والشروط التجارية ذات الأفضلية، كما تبدو في لعبة شخصين اثنين، بين أشخاص غير معروفين، وكثيرون منهم يعتمدون على الثقة والمصداقية لتحقيق مكاسب من التبادل—نتائج تعاونية تزيد من الفوائد المشتركة. كثيرون يتجنبون اختيار نتائج تعطيهم أنفسهم ولكن دون إعطاء شيء بالمقابل لأمثالهم في الطرف الآخر. جميعنا قد مرَّ بتجارب عائلية وبين جماعات صغيرة، ندرك منها بأن الأنظمة التي تحكم المشاركة والمبادلة تمتد عميقاً في عقولنا وهواجسنا. لفظ “أنا مدين لك بواحدة” هو سمة إنسانية عالمية تملأ كثيراً من اللغات، والتي يعترف فيها الناس طوعاً بمديونيتهم لقاء تلقي عطية أو تمييز ما.
وفي تمديد التبادل إلى الأسواق مع غرباء، واستخدام المال، فإن تلك العلاقة تُستبدل بتعاملات غير شخصية. ففي التبادل الفردي، كثيراً ما نتعلم بأن عمل الخير للآخرين، يأتي من الرغبة في فعل ذلك، بينما في الأسواق، تختفي تلك النظرة، حيث يعمل كل واحد إلى تحقيق مصلحته.
عندما يأتي الأشخاص أنفسهم الذين يتعاونون عن وعي في علاقاتهم الأولية بين شخصين، إلى المختبر للتبادل التجاري في الأسواق التجريبية التي تضم جماعات أكبر، ماذا يفعلون؟ إنهم يحاولون تعظيم مكتسباتهم الخاصة إلى أقصى الحدود، ولكنهم، من خلال سلوكهم هذا، ودون أن يكونوا قد تعمّدوا ذلك، يعظمون المكاسب المشتركة للجماعة كلها. ولكن تلك الأسواق، تتلقى الدعم من أنظمة خارجية ملزمة تتوخى حماية الملكية، وهذه تمنع الأخذ دون العطاء.
وهكذا، ومن الناحية الفعلية، فإن النوعين من التبادل هما متطابقان: عليك أن تعطي من أجل أن تأخذ. في المبادلات الشخصية، فإن العادات التي تحكم العطاء والأخذ تأتي نتيجة القبول الطوعي المشترك للفرقاء؛ أما في مبادلات السوق غير الفردية (حقوق الملكية)، فإن الأنظمة مدوّنة في الإطار المؤسسي الحاكم.
أسواق السلع والخدمات هي أسس خلق الثروة على امتداد العالم، والمدى الذي يوجدون فيه، يقرر مدى التخصص في المعلومات وأداء المهمات في معظم أسواق التجزئة للسلع والخدمات، يتحمل المنتجون نفقات متكررة يمكن التنبؤ بها نسبياً، ويواجه المستهلكون قيماً متكررة مقابلة مقابل استهلاكهم. وبيد أن النفقات والقيم هي في مكنوناتها شخصية، وبالتالي فإن مثل تلك المعلومات تتبعثر. السيطرة والرقابة على الاقتصاديات الموجهة فشلت، لأن مثل تلك المعلومات لا يمكن إعطاؤها لأي عقل بمفرده، أو لأي عدد من اللجان المُخطِّطة.
لقد اكتشفنا في مختبرات تجريبية موجهة، بأن تلك المعلومات السوقية المتكررة، فعالة إلى درجة لا تُصدَّقْ، ومثل تلك النتائج قد أعيد التثبت منها مئات المرات. يضاف إلى ذلك، أن الأشخاص ذوي العلاقة في تلك التجارب، ليسوا على وعي بأهداف الجماعة التي تبغي تحقيق الحد الأقصى من الكسب. كل واحد، في سعيه لتحقيق مكاسبه الشخصية، ضمن نظام حقوق الملكية، يحقق فوائد قصوى للجماعة، دون أن تكون جزءً من أهدافه ومقاصده.
عندما تُستخدَم في تجارب تدريسية، فإن المُستخلَصات من معلومات أو نتائج في نهاية تجربة تسويقية، تكتشف انطباعين عن الأفراد:
1- الناس ينفون أن أي نمط من الأنماط يمكنه التنبؤ بأسعار التبادل التجاري النهائية وحجم التبادل. ومع ذلك، فإن تلك النتائج توازي جداول العرض والطلب التي تتضمن القيم والأكلاف الموزعة فردياً بين جميع المشاركين. فعالية السوق لا تتطلب أعداداً كبيرة، ومعلومات كاملة، وفهماً اقتصادياً أو فذلكة خاصة؛ وهذه حقيقة لا يجب أن تصيبنا بالدهشة كثيراً، ذلك أن الناس كانوا يتاجرون في الأسواق، قبل زمن طويل من وجود أي عالم اقتصاد لدراستهم.
2- الناس في تجارب السوق يعتقدون أيضاً بأنه كان يتوجب عليهم كسب مزيد من الربح لأنفسهم، ومع ذلك، فقد كانوا في واقع الأمر، في حالة توازن، وأن كل واحد منهم كان يبذل أقصى ما عنده من جهد، في ضوء السلوك المقيد الذي يبذله جميع المشتركين الآخرين.
إن السمة المميزة لأسواق السلع والخدمات هي التنوع: تنوع الأذواق، والمهارات الإنسانية والمعلومات، والمصادر الطبيعية، والتربة والطقس. بدءً ذي بدء، كان التنوع ممكناً ويُشجّعُ عليه، من خلال المشاركة المتبادلة في قيم العائلة، والعائلة الواسعة والقبيلة. وهكذا، في مجتمعات الصيد والجمع قبل قيام الدولة، كانت النسوة والأطفال يجمعون الفاكهة والجوز والحدبة والقمح؛ الرجال كانوا يصيدون؛ وكبار السن كانوا يقدمون النصح في عملية الصيد، ويبتدعون أدوات الصيد، ويشاركون في جميع الصيد.
الناس الأوائل، قبل زمن طويل من نشوء الدول–القومية، كانوا يتبادلون الأدوات والأسلحة والسلع العامة مثل الرموز، والعادات، والصور الزخرفية الرأسية، والحقوق الآمنة للوصول إلى طرق التجارة ومناطق الصيد. وفي أزمان كثيرة، وأماكن كثيرة في أزمان ما قبل التاريخ كان التبادل يمنح للغرباء، من خلال المقايضة، وفي نهاية الأمر، استخدام المال السلعي.
وفي الحقيقة، فإن الإنسان الأول قد هيأ المسرح لتوسع هائل في الثروة والحياة الأفضل، كلما اكتشفت قبيلة بأنه كان أفضل لها أن تتبادل التجارة مع جيرانها القبليين، من قتلهم. إذا قتلتهم فإنهم لن يستطيعوا إنتاج أي شيء وتبادلها معك في الغد، كما أنك لن تستطيع الاستفادة من مهاراتهم الفردية، ومعلوماتهم، وفنونهم، وثقافتهم، وخبرتهم.
كذلك، إذا تركتهم يعيشون، ثم تسرق منهم، فإنهم يصبحون أقل رغبة بكثير في إنتاج المزيد لك، مما لو تبادلت التجارة معهم اليوم. التنوع يحتاج إلى الحرية، لأن الحرية هي التي تسمح لكل إنسان بأن يكون مختلفاً بالشكل الذي يقدر عليه والذي يرغبه. الأسواق بدورها، تدعم التسامح المتأتي عن الحرية.
التنوع في غياب حرية التبادل يؤدي إلى الفقر: لا يستطيع أي إنسان، مهما كانت مؤهلاته عالية في مهارة واحدة، أو مصدر ثروة وحيدة، أن يثري دون التبادل التجاري. روبنسن كروزو كان يملك جزيرة، ولكنه مع ذلك كان فقيراً.
نحن في حاجة إلى الآخرين، وإلى التنوع الذي يجلبونه إلى المائدة، إذا أردنا أن نعيش فوق مجرد الحد الأدنى للبقاء على قيد الحياة. من خلال السوق، نحن نعتمد على الآخرين، والذين لا نعرفهم أو نتعرف عليهم أو نفهمهم. نحن لا نعرف كيف، وبأية وسائل يساهم الآخرون برخائنا، ونساهم نحن في رخائهم. هكذا هي الحلقات الطويلة غير المرئية للاعتماد المتبادل من خلال الأسواق التي تضبطها الأسعار. إن رخاء كل واحد منا يعتمد جوهرياً على المعرفة والمهارات التي يملكها الآخرون، والذين نتاجر معهم من خلال الأسواق.
بدون الأسواق، سنكون حتماً فقراء، تعساء، غليظين وجهلة؛ فإذا كان البعض أقل فقراً، فقد يكون ذلك نتيجة للغزو، أو السرقة، أو الأخذ دون عطاء مقابل، والذي يمكن أن يستمر فقط، ما دام أن هناك آخرين يغزون.
الأسواق تتطلب تنفيذاً مشتركاً لأنظمة التبادل الاجتماعي والاقتصادي وقد عبّر عن ذلك أفضل تعبير ديفيد هيوم، قبل أكثر من 250 سنة، عندما قال إن هنالك ثلاثة قوانين للطبيعة البشرية:
1) حق التملك
2) نقل التملك بالقبول
3) تنفيذ الوعود
هذه هي الأسس الجوهرية للنظام، مع أو دون قانون رسمي مكتوب، التي تجعل ممكناً وجود الأسواق والرخاء.
هيوم يتحدث عن قانون موجود أو سائر نحوه، وليس قانوناً وضعياً أو مشرعاً. مانحو القانون الأوائل، لم يصنعوا القانون الذي أرادوا إعطاءه؛ إنهم درسوا التقاليد الاجتماعية، والقيم والأنظمة غير الرسمية وأبدوها بصفتها تشاريع من الله، أو، قوانين طبيعية.
قوانين الطبيعة في مفهوم هيوم مستقاة من التعاليم اليهودية القديمة: لا تسرق؛ لا تطمع في ممتلكات جارك؛ لا ترتكب شهادة زور. بيد أن هذه التعاليم نفسها، ظهرت في أديان أخرى، على امتداد العالم.
 لعبة السرقة تستهلك الثروة دون تشجيع إعادة إنتاجها، بينما لعبة التجارة تُديمُ وتُنمي الوفرة.
 الطمع في ممتلكات الآخرين يستدعي إعادة توزيع غاصبة، لمكتسبات التخصص والتجارة، وبالتالي تهديد النوازع التي تدعو إلى إنتاج حصاد الغد، تماماً مثله مثل السرقة.
 شهادة الزور تنال من المجموعة، ومصداقية الإدارة، وثقة المستثمر، والربحية الطويلة الأجل، والمبادلات الاجتماعية الفردية، التي تثري المشاعر الإنسانية أكثر من غيرها. إدارة المؤسسات الكبرى، تدفع ثمناً باهظاً إذا ما لجأت إلى تزوير الحقيقة. وعندما تفقد الإدارة المصداقية مع حاملي الأسهم، فإن السوق المالي لا يغفر، كما تبين من قضية شركة “إنرون”، التي هوت قيمة أسهمها عندما فقدت الإدارة ثقة المستثمرين فيها.
هذا يوصلني إلى موضوع رأس المال، أو الأسواق المالية، والتي هي في طبيعتها أكثر بعداً بكثير عن اليقين والتأكد، من أسواق السلع والخدمات؛ ذلك لأنه يتوجب على الأسواق المالية، أن تتنبأ وتستبق المبادرات والاختراعات الجديدة—بضائع وخدمات المستقبل. ففي الوقت الذي تدخل فيه المبادرات الجديدة، تكون حظوظها في النجاح أبعد ما يكون عن التنبؤ.
فإذا كان للمعرفة والتكنولوجيا أن تعطي سلعاً وخدمات جديدة، فإنها تحتاج إلى رؤوس أموال. أسواق المال تسمح لمستخدمي ومقدمي رأس المال أن يكونوا مُميّزين ومتخصصين؛ لا يطلب من المدخرين أن يكونوا رجال أعمال مبادرين، يُنمون ثروة جديدة من استثماراتهم الرأسمالية، وكلاهما يستفيد من تبادل الاستثمار بحصة من الربح، وكلاهما كذلك، يتحملان أخطار الخسارة.
الأسواق المالية، أكثر تقلباً وأقل تنبؤاً بكثير من أسواق السلع والخدمات القائمة، حيث أن مهمتها هي التنبؤ بسلع وخدمات مستقبلية. فقاعات وانهيارات الأسواق المالية ليست جديدة. لماذا؟ انتعاشات الأسواق المالية العظمى تشعلها وتدفعها التكنولوجيا الجديدة.
وعلى سبيل المثال، فقد ساعدت القاطرات التي تعمل بالبخار في القرن التاسع عشر السفن أن تحلَّ مكان المحركات المربعة الزوايا، كما حلّت تلك المحركات محل الخيول في تسيير السكك الحديدية، ومكان العربات التي تسيرها الخيول. لقد تجاوز التوسع في بناء السكك الحديدية في القرن التاسع عشر الشحن البحري بين الأقاليم.
الربحية تحولت إلى خسائر، وإفلاسات واندماجات. ولكن نتيجة لذلك التوسع في القرن التاسع عشر، خُلقت قيمة اقتصادية ظلّت قائمة تخدم الاقتصاد بمجموعه. في بدايات القرن العشرين نشأت تكنولوجيات جديدة عديدة. الهاتف، الكهرباء، البترول، والسيارات—هذه جميعها أحدثت موجة مستدامة من الاستثمار والتنمية. كان هنالك توسع مبالغ فيه استجابة للربحية العالية، تبعها هبوط في معدلات الربح، وخسائر وإفلاسات واندماجات؛ ولكن كانت قد نشأت في غضون ذلك قيمة بعيدة المدى ولم تحدث أية خسارة للاقتصاد. الإفلاس نمطياً، يسمح بموجودات وأصول المدراء الفاشلين—البشرية والمادية—بأن تحوّلَ إلى مدراء قادرين على إجراء محاولة جديدة لإنجاح المشروع المتعثر.
قبل قرن من الزمان، كان هنالك مئات من الشركات الصغيرة التي أقامها مبادرون من رجال الأعمال، على أمل النجاح في صناعة السيارات. ثلث تلك السيارات كانت كهربائية ومعظم السيارات الأخرى كانت تجري التجارب على محركات تعمل بالبخار. وفي النهاية كلاهما فشل: التي تحركها الكهرباء فشلت في قطع مسافات طويلة بل كان مداها صغيراً جداً، بينما كان تشغيل محركات البخار وتسخينها يستغرق وقتاً طويلاً. وكسب السباق محركات البنزين التي جمعها هنري فورد مع خطوط الإنتاج الواسع، بحيث تمكَّن من إنتاج سيارات قليلة الثمن. ورغم ذلك، فإن السيارات الكهربائية لم تصل إلى ذروتها سوى في عام 1912. وبحلول العشرينات، كان فورد قد أنتج حوالي نصف السيارات التي أنتجت حتى ذلك الحين. لم يكن بوسع أحد أن يتكهن سلفاً بمن سوف يكسب الرهان.
في بلدتي ويكيتا، كان يتواجد 15 منتجاً للطائرات عام 1929: ترافيل إير، ستيرمان، سيسنا، يونايتد، ليرد، سويفت، لارك، نول، برادلي، يانكرز، ويكيتا، واتكنز، موني، سوليفان وبَكلي. إثنان منهما كانا أسماء شركات جديدة في عام 1927: سيسنا وسيترمان. وبعد عقد من الزمان اشترت بوينغ شركة ستيرمان الناجحة، والوحيدين الذين ظلوا في ميدان الطيران العام كانا سيسنا وبيتش، اللتين جعلتا من ويكيتا المركز الوطني لهذه الصناعة الجديدة. ومع أنهما كانتا جديدتين مبتدئتين، فإن انهيار السوق المالية الكبير، لم يحل دون نجاحهما.
عقد التسعينات شهد حجماً غير مسبوق في ميدان طرح الشركات للاكتتاب العام. إنني متأكد بأن تاريخ ذلك العقد سوف يسجل عدداً غير مسبوق من نسب الفشل، ولكن كذلك، وإن لم يكن مرئياً إلا قليلاً، زيادة غير مسبوقة في القيمة الاقتصادية طويلة المدى للاقتصاد. تلك الفقاقيع والانهيارات كانت نتيجة لتكنولوجيات جديدة في حقول الإلكترونيات، والاتصالات، والكومبيوتر، والبيولوجيا وصناعات الأدوية. القيمة المستدامة التي تم تحقيقها، تظهر جلياً من خلال إحصائيات الدخل القومي في مرحلة ما بعد تلك الانهيارات: إزداد الإنتاج مع زيادة طفيفة بالعمالة. ونحن نستمر في كسب أكبر لجهد أقل.
إنه لأمر مؤلم لأولئك الذين يجازفون في تكنولوجيا جديدة ويخسرون: بيد أن الفوائد التي تكسبها صناعات أخرى، والمعرفة والاندماجات التي تتبع ذلك، تتيح للقلة الناجحة بتكوين ثروات جديدة طائلة للاقتصاد. هذا هو جوهر النمو، والتقدم، وفي نهاية الأمر، تخفيض الفقر. ولهذا السبب نرى بأن كل واحد تقريباً، هو أكثر ثراءً من آبائه وأجداده.
كيف يمكن إزالة الألم الفردي، وتحقيق النمو بعيد المدى، بوصفة سحرية تتجنب بأن يكون ضررها أكبر من نفعها؟ نحن لا نعرف. في هذا الموضوع، كما في مواضيع كثيرة أخرى، هنالك نوعان من الناس: أولئك الذين يعرفون بأنهم لا يعرفون، وأولئك الذين لا يعرفون. فإذا قال لك أحد بأنه يستطيع أن يتكهن حول من سيكون الرابح في اكتشاف سلعة جديدة ومن سيكون الخاسر، ضع يديك في جيوبك وامسك نفسك.
هذه هي القضية: إذا حدَّدت قرارات الناس في اتخاذ استثمارات مغامرة، في محاولة لحمايتهم من إيذاء أنفسهم، إلى أي مدى سيؤدي ذلك إلى تقليص قدرتنا على تحقيق إنجازات تكنولوجية رئيسية؟ إن الأمل الذي يساور الأفراد في تحقيق مكاسب كبيرة، هو الذي يدفع بإجراء مئات من التجارب، في بيئة من عدم اليقين الشديد، حول أية تجربة، وأي مزيج من الإدارة والتكنولوجيا سوف يكتب له النجاح. إن نجاح الكثيرين، قد يكون جزءً حيوياً من الثمن الذي يدفع لانتقاء القلة من الناجحين. بعد موجة من المبادرات الجديدة، وبعد عدد من الفقاقيع، سوف يعرف المدراء كثيراً حول ما لم ينجح، وحتى قليلاً، حول ما يكون قد نجح.
عملية الاكتشاف هذه أصبحت عالمية بشكل متزايد
العولمة هي كلمة جديدة لعملية كانت على امتداد الزمن، وكانت تتمثل بالهجرة وتوسيع الأسواق اللذين بدأنا بهما جميعنا، عندما كان أجدادنا المشتركون يخرجون من أفريقيا قبل حوالي 50000 عام مضى، ليستقروا في آسيا وأستراليا، 40 إلى 50000 سنة مضت، وأوروبا قبل 40000 سنة، وسيبيريا والقطب الشمالي قبل حوالي 20000 سنة. وممر بيرينج إلى أمريكا الشمالية 13 إلى 15000 سنة، والأمريكيتين بعد ذلك بزمن قليل، ونيوزيلندا ومدغشقر، قبل 1000 عام فقط. لقد استوطن أجدادنا كل قارة ما عدا القطب الشمالي، وجميع الجزر الرئيسية قبل 500 عام من اكتشاف الدولاب الرباعي في السفن الشراعية.
أول تجارة بعيدة المدى بين أوروبا والشرق الأدنى أتاح الهرب من النهايات الميتة المغلقة، ومن القرون الوسطى التي كان يعتصرها الفقر. وقد أدى ذلك إلى اكتشافات جديدة، قامت بها الشركات المساهمة والدول–القومية.
وقد أدى ذلك في نهاية المطاف إلى أن تتخصص كل منطقة، في إنتاج سلع زراعية وصناعية مختلفة، بناءً على الميزة النسبية التي يتمتع بها كل إقليم. وقد تطورت المزارع التي كانت تكاد تكفي للحد الأدنى من العيش، بحيث أصبحت مزارع كبيرة تربي المواشي، وتنتج على نطاق واسع الحنطة والقمح والشعير والأرز، وقامت مزارع تربية الدواجن ومزارع إنتاج الحليب.
في زماننا هذا، انبثقت الثورة العالمية الخضراء من أصناف البذور المحسنة الجديدة التي طوَّرها نورمان بورلوج، الذي نال جائزة نوبل عام 1970. لقد أنقذ نورمان بورلوج حياة أعداد أكبر من الناس ممن أنقذها أي إنسان آخر في الوجود. فقد أدت اختراعاته إلى مضاعفة إنتاج الحنطة والذرة والأرز، مرتين إلى ثلاث مرات، ومكَّنت المكسيك والهند والباكستان والصين من إطعام شعوبها التي ازدادت أعدادها زيادة كبيرة، بزيادة 1% فقط من رقعة أراضي العالم المزروعة. لقد كانت تنبؤات الفزع التي أطلقت في عقد الستينات، والتي تحدثت عن وفاة أعداد ضخمة من الناس جوعاً، في غير محلها؛ واليوم، تبشر الهندسة الوراثية، بسبل واعدة من شأنها ابتكار أساليب أكثر نجاعة وتقدماً في إنتاج الأطعمة، من أراضي أقل، ومياه أقل، وسماد أقل، وتربة أقل انجرافاً. أصبح بالإمكان جني الأكثر من الأقل، وفي بيئة تتفوق تفوقاً هائلاً على سابقتها.
إن آخر مُحرِّك عظيم في العولمة، يتمثل في المبادرات في عمل الحواسب والكومبيوترات، والاتصالات، واساليب الانتقال اللوجستية. هذه الميادين الثلاثة تخدم مبادلات الإنترنت.
لقد جلبت سرعة التغييرات العالمية، عالماً جديداً من التنافس بين الأمم. الجموح في الموازنات والسياسات المالية من قبل الحكومات الوطنية، تثبِّطُ همم المستثمرين، بينما تشجع المواطنين المحليين على السعي للاستفادة من فرص الاستثمار الأجنبية، الأكثر استقراراً. التنمية الاقتصادية، مرتبطة بالأنظمة الاقتصادية والسياسية الحرة، والتي تترعرع في ظل حكم القانون في الأنظمة القائمة على الملكية الفردية. لقد فشلت الأنظمة الشمولية المركزية في تحقيق الأهداف المرجوَّة في كل مكان. إن حقائق التاريخ والاقتصاد تشكل إنذاراً نهائياً، وقد أقدمت بعض البلدان على إصلاح نظمها وتحرير اقتصادها وتحسين أدائها.
ولكن هنالك عالم من الفرق بين القول بأن التنمية والنظم الحرة مرتبطتين أو متوازيتين، وبين اعتماد الوسائل الكفيلة بتحقيق التنمية الاقتصادية. لا أحد يعرف كيف يخطط مركزياً للانتقال من اقتصاد رديء الأداء إلى اقتصاد جيد الأداء.
ومع ذلك، هنالك أمثلة كثيرة من نيوزيلندا، وليختنشتاين، وإيرلندا، والصين التي قامت فيها حكوماتها بإزالة القيود على النشاط الاقتصادي، ورأت نمواً باهراً بمجرد ترك المجال أمام شعوبها لتحقيق تقدمها الاقتصادي.
وقد أجرت دائرة الإدارة والموازنة في الكونغرس دراسة مقارنة للعبء الذي تمثله قيود الأنظمة في 130 بلداً؛ وقد توصلت إلى نتيجة، بأن البلدان العشرة الأقل عبءً تنظيمياً هي هونج كونج، وسنغافورة، والولايات المتحدة، ونيوزيلندا، والمملكة المتحدة، وكندا، وسويسرا، وإيرلندا، وأستراليا، وهولندا. هذه هي البلدان التي تظهر في أعلى قوائم الاقتصاد الحر. وكثير منها على رأس قوائم البلدان الأعلى دخلاً لأفرادها. ومن بين الـ20 بلداً على رأس جدول البلدان الأكثر حرية، 11 بلداً منها بين أعلى 20 بلداً في الإنتاج القومي العام؛ و13، من الأكثر حرية بين الـ20، هي كذلك على رأس جدول العشرين بلداً من حيث المبادرات الجديدة. (انظر مجلة الإيكونومست، العالم في أرقام، 2005).
وقد تحولت الصين كثيراً في اتجاه حرية الاقتصاد. وقبل عام ونيِّف، أدخلت الصين تعديلات على دستورها، يسمح للناس بالتملك، وشراء وبيع الممتلكات الخاصة. لماذا؟ كانت خطوة تستهدف السيطرة على الفساد المستشري في الحكومة، والذي يقف عائقاً أمام التنمية الاقتصادية. وقد نشرت النيويورك تايمز، بقلم جوزف كان، مقالاً بتاريخ 23 كانون أول، 2003، ص 1 جاء فيه:
“أقدمت هيئة الصين التشريعية على تغيير الدستور من أجل المحافظة على حقوق الملكية الخاصة، وهي المرة الأولى التي يقدم فيها الحزب الشيوعي رسمياً على حماية الثروة الخاصة منذ السيطرة على الحكم قبل خمس وخمسين سنة. التغيير يسجل نصراً لطبقة رجال الأعمال المبادرين، الذين أمضوا 10 سنوات وهم يحاججون بأن الدستور الماركسي يتحيز ضدهم، ويعطي المجال للشرطة والمحاكم بمصادرة أملاكهم بموجب أوامر الحزب… الفساد مستشري في الصين. السلطات المحلية والوطنية كثيراً ما تصادر أراضي وأموال الناس الذين تعتبرهم خطرين أو عاصين، بزعم أنهم قد فقدوا حقوقهم بسبب مخالفتهم لقانون أو نظام في أثناء جمعهم لثروتهم”.
بالاعتراف بحقوق التملك، تحاول الحكومة المركزية سحب البساط من تحت أقدام منبع القوة الذي يغذي الفساد، على أيدي رجال السلطة المحليين، والذين تصعب مراقبتهم والسيطرة عليهم من قبل السلطة المركزية. وكما أرى الموضوع، فإن التغيير الدستوري هو وسيلة عملية للسيطرة على التدخل السياسي في عملية التنمية الاقتصادية؛ إنها ليست وليدة نزوع سياسي نحو الحرية، بيد أن الضرورة قد تفتح الطريق أمام مزيد من الحرية.
قبل فترة وجيزة، قمت أنا وزوجتي كانداس بزيارة المجمع الضخم زي-بارك، وهو مجمع للأبحاث والتنمية في مدينة بكين، على مساحة 343 فداناً. يحتوي زي-بارك على معظم الشركات المتخصصة في التكنولوجيا العالية في العالم، بما في ذلك 276 من بين أكبر 500 شركة في العالم بموجب مجلة فورتشين. إنهم يستثمرون في المنشآت الموجودة هناك، على أسس سهلة من الاستئجار من الحكومة الصينية ولمدة 50 عاماً. الاستئجار طويل المدى هو وسيلة الالتفاف القانونية على القيود التي تحيط بالتملك.
إيرلندا تدلل على مبدأ أنه ليس ضرورياً أن تكون بلداً كبيراً لكي تُنمّي الثروة لشعبك، بل بمجرد تغيير السياسات الحكومية. كانت إيرلندا في الماضي—إذا قيس ذلك بحجم سكانها—مُصدِّراً كبيراً للناس. لقد كان ذلك، وكما قال جيه. بي. ليمان معلقاً في بروجيكت سينديكيت بتاريخ تشرين الثاني 2002: “لحسن حظ أمريكا وبريطانيا العظيم، ذلك لأن كلاً منهما استقبل أعداداً كبيرة من العقول الإيرلندية اللامعة التي هربت من الحياة الفكرية الخانقة في بلدها. ومع ذلك ومن فقر العالم الثالث حتى مجرد عقدين اثنين، تجاوزت إيرلندا سيدها الاستعماري القديم، في الإنتاج القومي العام للفرد. لقد أصبحت إيرلندا لاعباً أوروبياً مهماً، يدعم الاستثمارات الأجنبية المباشرة، بما في ذلك رأس المال المغامر، ويُنمّون الخدمات المالية وتكنولوجيا المعلومات والتي أدت إلى هجرة عقول معاكسة قوية لصالح إيرلندا. ووفق إحصاءات البنك الدولي، قفزت نسبة نمو الناتج القومي العام من 3.2% في عقد الثمانينات إلى 7.8% في عقد التسعينات من القرن الماضي. كانت إيرلندا في الآونة الأخيرة ثامن أعلى إنتاج للفرد، بينما كانت المملكة المتحدة الخامسة عشرة والولايات المتحدة الرابعة.
كلما أسافر أواجه قصصاً أكثر فأكثر تدلل على هجرة عقول معاكسة لصالح الصين وغيرها، على امتداد العقدين الماضيين، حيث يعود الشباب إلى بلدانهم الأصلية بسبب وجود فرص جديدة وَفَّرها التوسع في حرية الاقتصاد في بلدانهم. هؤلاء الناس هم أمثلة على مبدأ “أستطيع أن أفعل” مبنية على قاعدة من المعرفة والمبادرة؛ وقد أصبحوا يكوِّنون الثروة لأوطانهم الأصلية ويُحسّنون مستويات المعيشة فيها، وللولايات المتحدة، وغيرها من البلدان على امتداد العالم. قصصهم تُدِللُ على حتمية هجرة العقول التي تتأتى عن السياسات الاقتصادية السيئة، ولكنها تدلل كذلك كيف أنه يمكن تغيير تلك السياسات، من أجل توفير فرص اقتصادية قادرة على عكس هجرة العقول.
ريشارد لي كان تلميذاً لدي يدرس لشهادة الدكتوراة، وقد أتم كتابة أطروحته في الاقتصاد التجريبي في جامعة أريزونا عام 1991. عمل أستاذاً مساعداً لفترة في جامعة في الساحل الشرقي للولايات المتحدة، ثم ترك منصبه للبدء بإنشاء شركة له إسمها الآن أمزينو إنترناشونال. إنه يقسم وقته بين مكاتبه في أمزينو في لوس أنجلوس وبين شنغهاي. شركته تصنع و/أو تُجمّع منتوجات طبية في الصين لتوزيعها في الولايات المتحدة وفي أكثر من ثلاثين بلداً آخر. معظم منتوجاتهم تصمم وتجرب وتطور في الولايات المتحدة وهذا هو النهج المتَّبع على امتداد الصناعة، حيث يتم التطوير هنا والإنتاج يوكل إلى الخارج؛ هذا هو السبب الذي جعل الولايات المتحدة الأولى في العالم بالنسبة لجدول المبادرة على مستوى العالم. ريتشارد لي هو مثال على مواطن صيني، جاء إلى الولايات المتحدة عبر هونج كونج. لقد تعلم ونال خبرته في الولايات المتحدة، ولكن، ونظراً للتحول الذي جرى نحو حرية اقتصادية هناك، عاد إلى الصين ليربط عمله مع الصين، وهو يعمل على تحقيق الثروة في البلدين.
جنيفر بان كانت مضيفتنا في زيارة لمجمع زي-بارك في بكين. كانت تتكلم الإنجليزية بطلاقة، وكانت دقيقة التعبير، واسعة الاطلاع في حقل الكومبيوتر وتكنولوجيا البرمجة. ومن قبيل الفضول استفسرت كانداس عن خلفيتها. لقد كانت شاهدة تملكها الرعب في المجزرة التي ارتكبت في ميدان تيننمن في بكين، وقررت ترك البلاد، وهي تظن بأنها لن تعود إليها أبداً؛ ولكنها عادت بالفعل نظراً للتغيير الذي طرأ على سياسة الحكومة الصينية، وبحثها هي نفسها عن تحقيق طموحاتها. وكما أوضحت لي في رسالة بالبريد الإلكتروني مؤخراً، وأنا أنقل بعض ما ذكرت بموافقتها:
“لقد شهدت أحداث ميدان تيننمن عندما كنت في الصفوف الثانوية. وقد ذهبت في العام التالي إلى جامعة بكين حيث أرسلت فوراً إلى مركز تدريب عسكري “لغسل الدماغ”، لفترة سنة. وبعد أن تخرجت من جامعة بكين، ذهبت إلى الولايات المتحدة للانغماس في “الروح الأمريكية”. ولفترة ثماني سنوات، درست وعملت واكتسبت لنفسي حياة مريحة. ولكن شيئاً ما كان ناقصاً—تحقيق الذات بإحداث فرق أساسي بين حالتين، والقبول بتحمل المغامرة. كان الفراغ أكبر من أن يملأه شراء منزل أكبر أو سيارة أجمل. لذا، فقد وضعت نفسي على طائرة عائدة إلى الصين، لملاحقة “الروح الأمريكية” مرة أخرى. إنني أحب أن أقدم الدروس التي تعلمتها للآخرين، إذا كان بإمكانهم الاستفادة منها. ففي رأيي، هذه هي الوسيلة التي تمكن الإنسان من التقدم، نحن نتعلم من تجاربنا، وكذلك من تجارب الآخرين”.
ريتشارد وجينفر هما مثلان على مبدأ “أستطيع الإنجاز المستند إلى المعرفة وروح المبادرة”. إنهم يخلقون الثروة والحياة الأفضل للصين، وللولايات المتحدة، ولبلدان كثيرة أخرى.
الارتباط الفردي والشخصي بالموطن الأصلي، وبالمؤسسات الثقافية في عالم التبادل الشخصي والاجتماعي، سوف يقود الناس في حالات كثيرة إلى العودة إلى جذورهم وإثراء مجتمعاتهم المحلية والوطنية. وهذه القصص، هي جزء من توجه طويل الأمد لاستخراج الإنتاج والخدمات في الخارج.
جزء من شريان حياة التغيير، والنمو وتحسين الأوضاع الاقتصادية، هو السماح لوظائف الأمس بالذهاب إلى طريق تكنولوجيا الأمس. فإذا مُنعت الشركات المحلية من إيلاء إنتاجها إلى شركات خارجية، فإن ذلك لن يمنع منافسيهم الأجانب من إنتاج الشيء ذاته، وتخفيض الأكلاف واستخدام الوفورات لتخفيض الأسعار ورفع سوية تكنولوجيتهم، وتكون النتيجة أنك توقع الشركات الوطنية بالإفلاس.
أحد أحسن الأمثلة على الإنتاج في الخارج كان ما بعد الحرب العالمية الثانية عندما نقلت صناعة النسيج في ولاية نيو إنجلند مصانعها إلى الجنوب، استجابة لأجور أدنى—وكالعادة، أدى ذلك إلى رفع مستوى الأجور في الجنوب، وفي النهاية انتقلت تلك الصناعة إلى مصادر أجور أكثر تدنياً في آسيا. بيد أن صناعة النسيج في نيو إنجلند، استبدلت بصناعة الإلكترونيات العالية والمعلومات وتكنولوجيا علم البيولوجيا. لقد ربحت ولاية نيو إنجلند أرباحاً طائلة صافية، على الرغم من فقدانها لصناعة كانت في وقت ما مهمة. وفي عام 1965، حاز وارن بافت على واحدة من تلك المصانع النسيجية المتداعية في ولاية مساتشوستس، كان اسم المصنع بيركشير هثوي، واستخدم تدفق المال الكبير المتأتي للمصنع، وإن كان بوتيرة أقل كمنصة انطلاق لإعادة استثمار التدفقات المالية للشركة، في مجموعة المبادرات الاقتصادية الناجحة. بعد أربعين عاماً من ذلك، أصبح لشركته رأسمال سوقي يقدر بـ(113) مليار دولار. نفس النقلة تجري الآن مع مجموعتي كي مارت وسيرز ريبوك. ليس هنالك شيء يُخلّدُ إلى الأبد، حيث تتأخر شركات قديمة وتحول مواردها إلى نشاطات اقتصادية جديدة.
وقد نشر المركز الوطني للأبحاث الاقتصادية دراسة جديدة حول الاستثمارات المحلية والخارجية التي تقوم بها الشركات الأمريكية متعددة الجنسيات. إنها شركات تستثمر استثمارات ضخمة في الخارج، ولكنها تستثمر أكثر من ذلك محلياً. لكل دولار يصرف على رأس مال يستثمر في الخارج، تصرف تلك الشركات 3.5 دولاراً على رؤوس أموال محلية. هذه الحقيقة تدعم دعماً قوياً الفكرة القائلة بأن هنالك علاقة متممة بين الاستثمارات الخارجية والداخلية. هذه العلاقات المتممة بعضها بعضاً، آخذة في النمو يوماً بعد يوم مع العولمة، ويستدل عليها في العلائق بين الاقتصادين الصيني والأمريكي.
ما دام أن الولايات المتحدة تظل الأولى في جدول الابتكارات العالمية، فإنني أعتقد بأنه لا شيء تخشاه من توجيه الإنتاج إلى الخارج، وسوف نخسر الكثير إذا نجح سياسيونا في معارضته. ووفق إحصائيات مؤسسة الاقتصاد الدولي، كان هنالك أكثر من 115000 وظيفة ذات مردود أعلى في قطاع برمجيات الكومبيوتر، أنشئت ما بين 1999-2003، بينما تم الاستغناء عن 70000 وظيفة في الفترة ذاتها. ومثل ذلك في قطاع الخدمات حيث توفرت 12 مليون وظيفة جديدة، بينما تم الاستغناء عن 10 ملايين وظيفة. هذه الحالة من التغيرات التكنولوجية السريعة، واستبدال وظائف قديمة بوظائف جديدة، هو ما تقوم عليه التنمية.
وقد قدرت شركة مكنزي أنه، مقابل كل دولار تنقله الشركات الأمريكية لينتج في الهند، فإن 1.14 دولاراً يتحقق لصالح الولايات المتحدة. نصف هذه الفائدة تعود إلى المستثمرين والعملاء، ومعظم المتبقي يصرف على الوظائف الجديدة التي تكون قد استحدثت. وعلى النقيض من ذلك في ألمانيا، حيث العائد من الفائدة هو مجرد 80%. ويعود السبب في ذلك إلى أن نسبة إعادة التوظيف للعمالة المستبدلة، هي أقل كثيراً، كما توجد أنظمة كثيرة تعرقل العمل. (الإيكونومست، 13 تشرين الثاني 2004).
الخلاصة
أسواق السلع والخدمات هي أسس تكوين الثروة. حقيقة أن الأسواق المالية تخدم من حيث أنها توفر رأس المال لتمويل سلع استهلاكية جديدة، يفسر لماذا هي في طبيعتها غير مستقرة أو مؤكدة، ولا يمكن التنبؤ بها، وبمعرفتنا لسلوكيات المستثمرين، لماذا يقعون ضحية الفقاقيع والانهيار.
أسواق المال العالمية أكثر تعتيماً من أسواق السلع والخدمات، لأن على أسواق المال التكهن بالنسبة للابتكارات والمبادرات—لأنها السلع الجديدة والخدمات المستقبلية. وبإيلاء الإنتاج إلى بلدان خارجية، فإن الولايات المتحدة توفر المال الذي يصبح متاحاً للاستثمار في تكنولوجيا جديدة، ووظائف جديدة، كما أنها تظل في وضع تنافسي في الأسواق العالمية.
إننا لا نعرف ما فيه الكفاية عن التغيرات الاجتماعية والاقتصادية، بحيث نستطيع إدارتها، حتى نتمكن من جني فوائدها دون آلام مراحلها الانتقالية.
العولمة ليست جديدة. إنها كلمة حديثة لوصف حركة إنسانية موغلة في القدم—إنها كلمة تعبّر عن سعي الجنس البشري لتحقيق حياة أفضل، عن طريق المبادلات، والتوسع العالمي في تخصص الموارد؛ إنها كلمة تنُمّ عن السِّلم. إنها حكمة نطق بها عالم الاقتصاد الفرنسي العظيم باستيا: “إذا لم تعبر البضائع الحدود، فسوف يعبرها الجنود…”
مؤسسة التعليم الاقتصادي، 17 أيلول 2005.
© معهد كيتو، منبر الحرية، 4 آذار 2006.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.
جميع الحقول المشار إليها بعلامة * إلزامية

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

تواصل معنا

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018