فيليب ستيفنز

peshwazarabic5 نوفمبر، 20101

ملخص تنفيذي

تعتبر التجارة الحرة أداة فعالة لتحسين صحة الإنسان، لسببين رئيسيين. الأول والأكثر أهمية، هو أن تحرير التجارة بين الأفراد والدول سبيل مثبّت لزيادة الرخاء الاقتصادي والثروة.
الثروة ضرورية للصحة لأنها تفسح المجال للناس لشراء التحسينات اللازمة لظروف معيشتهم. فالرخاء الاقتصادي يصطحب معه التّصحاح المقبول، والمياه الآمنة، والوقود المنزلي النظيف والكافي. إن الافتقار إلى هذه الضروريات مسؤول مباشرة عن نسبة كبيرة من الوفيات وانتشار المرض في أكثر الدول فقراً في العالم. في حين أن شعوب الدول الأكثر ثراء يملكون الموارد التي تكفل لهم التغذية الجيدة والعيش تحت ظروف صحية. ولهذا السبب بدأ متوسط العمر المتوقع بالارتفاع في هذه المناطق منذ بدء النمو الاقتصادي الحديث للثورة الصناعية.
السبب الثاني لاعتبار التجارة أداة فعالة لتحسين الصحة يتصل بما يسمى “نقل التكنولوجيا”. قبل القرن التاسع عشر، كانت التجارة عبر الحدود مقتصرة على عدد قليل من الدول. أما اليوم، فتقوم كافة الدول بالتجارة على الصعيد الدولي مع حدوث زيادة ملحوظة مؤخرا في نصيب الدول منخفضة الدخل في التجارة العالمية.
ونتيجة لهذا النمو في التبادل العالمي للسلع والخدمات، انتشرت المعلومات والتقنيات المتعلقة بالصحة والتي نشأت في الدول الغنية إلى باقي دول العالم. في السنوات التي تلت الحرب العالمية الثانية، كان للانتشار العالمي للأدوية—مثل البنسيلين الذي تم اكتشافه وتطويره في بريطانيا—تأثير ضخم على معدل الوفيات في دول عديدة. وعلى نحو مماثل، أدى انتشار التقنيات الأخرى التي تم تطويرها في الدول الغنية، مثل مبيد الـ دي. دي. تي. (دايكلورو ديفينيل ترايكلورو إيثان)، إلى انخفاض حالات الملاريا في العالم بشكل بالغ. ويعتقد بعض الاقتصاديين أن انتشار التكنولوجيا، الذي يُسر بواسطة التجارة الحرة، هو السبب الرئيسي في الارتفاع المستمر لمتوسط العمر المتوقع في معظم أنحاء العالم في السنوات الخمسين الأخيرة.
ومع ذلك، إدعى البعض أن تحرير التجارة، وخصوصا الاتفاقيات مثل تلك المدارة من قبل منظمة التجارة العالمية، تؤذي الفقراء. هذه الإدعاءات غير مدعومة بالبراهين.
لقد اتُهِمت الاتفاقية العامة للتجارة في الخدمات (الجاتس)، وهي إحدى اتفاقيات منظمة التجارة العالمية، بتقويض السلطة وبفرضها خصخصة الخدمات الصحية، بينما الواقع أن الجات تمنح الموقعين درجة عالية من المرونة. إضافة إلى ذلك، وأسوة باتفاقيات التجارة الأخرى، فإن اتفاقية الجات طوعية وتعتمد على الاعتراف المتبادل وليس الإكراه. علاوة على ذلك، قد تعمل اتفاقية الجات على تحفيز نقل التكنولوجيا والمعرفة لأنها تشجع تبني الأشياء المفيدة مثل الطب عن بعد والسياحة العلاجية ومستويات مناسبة للتأمين الصحي. كما أنها قد تساعد على التغلب على ما يسمى “بتفريغ العقول” للكوادر الطبية من الجنوب للشمال عبر توفير فرص عمل محلية أفضل.
كما تم اتهام اتفاقية الجوانب التجارية لحقوق الملكية الفكرية (تريبس)، وهي اتفاقية أخرى لمنظمة التجارة العالمية، ومن ضمن اتهامات أخرى، باحتجاز نقل المعرفة من “الشمال” إلى “الجنوب”. وفي الواقع، فإن العكس هو الصحيح. لقد جعلت الهند مؤخرا تشريعاتها المحلية متوافقة مع التريبس، وكانت النتيجة تدفقا هائلا من الخبرات ورؤوس الأموال الأجنبية في مجالات البحث والتنمية. وتدل المؤشرات الأولية على أن هذا القانون المتوافق مع اتفاقية التريبس سيُتيح بيئة تستطيع الهند من خلالها أن تطور مجموعة جديدة من أدوية الأمراض التي تُؤثر على سكانها.
وفي هذه الأثناء، تُتهم أيضا اتفاقيات التجارة الحرة المختلفة الموقعة بين الولايات المتحدة الأمريكية والشركاء الثنائيين بتأخير نقل التكنولوجيا عبر تعزيز حماية الملكية الفكرية. والحقيقة هي أن معظم اتفاقيات التجارة الحرة هذه تحتفظ بمرونة التريبس، كما ويوجد إلزام للآخرين. ستسمح هذه الاتفاقيات من خلال حماية الملكية الفكرية قيام المصنعين المحليين بتطوير منتجاتهم الخاصة تحت تهديد أقل بكثير لخطر القرصنة التي تتسبب في تناقص الربح. وكذلك، سيتم طمأنة الشركات متعددة الجنسيات من أن أملاكهم ستكون آمنة في أي بلد موقِّع على الاتفاقيات، مما يؤدي إلى زيادة الاستثمار الأجنبي ونقل التكنولوجيا.
للتجارة الحرة أثر إيجابي على الصحة، ولذلك، فإن استمرار الحكومات في فرض قيود على التجارة أمر يستحق الشجب. ومن المروع أن يستمر إخضاع الأدوية والأجهزة الطبية لمجموعة من رسوم الاستيراد في معظم البلدان ذات الدخول المنخفضة، مما ينتج عنه عدم تمكن العديد من المرضى توفير ثمن العلاج. يجب أن تكون إزالة هذه القيود غيرالمعقولة من الأمور ذات الأولوية بالنسبة للقائمين على المفاوضات التجارية القلقين إزاء صحة الفئة الأكثر فقرا.
إضافة إلى ذلك، هناك قضية معنوية قوية لإعطاء الأولوية لإزالة التعرفات المفروضة على التقنيات التي تُمكّن توفير المياه والطاقة النظيفتين. إن المياه والوقود غير النظيفين هما من أكبر مُسببات المرض في البلدان ذات الدخول المتدنية—مما يؤدي إلى حدوث أكثر من 4 ملايين حالة وفاة في السنة، معظمها من النساء والأطفال. فيجب أن يتم إلغاء هذه الرسوم بأسرع وقت ممكن. وإذا كان من غير المقبول سياسيا إزالة هذه الرسوم من جانب واحد، عندها ينبغي إزالتها في إطار مفاوضات الوصول إلى السلع والخدمات البيئية في جولة الدوحة متعددة الأطراف الحالية.
أخيراً، هناك ضرورة أخلاقية مطلقة لإزالة القيود المفروضة على الإتجار في الأغذية، لأن سوء التغذية لا يزال يمثل مشكلة رئيسية في أنحاء كثيرة من العالم. وينطبق هذا على العديد من الدول في إفريقيا التي تُبقي على التعرفات الضارة على المنتجات الزراعة من الدول المجاورة.
الثروة والتجارة والصحة

يُظهر تاريخ البشرية أن أضمن الطرق وأكثرها استدامة لتحسين صحة الإنسان يتمثل في زيادة ثروة ورخاء الفرد. ولقد أظهرت دراسة قام بها الاقتصادييْن لانت بريتشيت ولورانس سمرز في عام 1996 التأثيرَ الكبير على الصحة المترتبَ على زيادة الدخل حيث وجَدا تأثيراً سببياً قوياً للدخل على معدل وفيات الأطفال، وبيَّنا أنه لو ارتفع معدل النمو للعالم النامي في الثمانينيات بحوالي 1.5 نقطة مئوية، لكان من الممكن تفادي وفاة نصف مليون طفل.
في الواقع، تم تحسين صحة سكان العالم منذ بدء النمو الاقتصادي الحديث المتزامن مع الثورة الصناعية. فتحسن معدل وفيات الأطفال ومتوسط العمر المتوقع بشكل ملحوظ حول العالم، وأصبح هناك وفرة في الغذاء زهيد الثمن أكثر من أي وقت مضى. ولقد تحسنت هذه المؤشرات التي تدل على تحسن حياة الإنسان بشكل ملفت للنظر في البلدان الغنية منذ منتصف القرن التاسع عشر عندما بدأت الدول بتطهير إمدادات المياه ووضع التدابير الأساسية للصحة العامة، مثل التّصحاح والبسترة والتطعيم. وفي النصف الأول من القرن العشرين، أضيفت العديد من المواد إلى ترسانة الأسلحة ضد المرض مثل المضادات الحيوية والمبيدات مثل الـ دي. دي. تي ومجموعة من اللقاحات. وعندما تم قهر الأمراض المعدية والطفيلية التقليدية بشكل جوهري، قامت الدول الغنية بتحويل إبداعها وثروتها نحو التعامل مع ما يُسمّى بـ”أمراض الغنى”: السرطان وأمراض القلب والسكتات القلبية (إضافة إلى نقص المناعة المكتسبة/الإيدز وهو مرض معدٍ غير تقليدي). وبالرغم من أنه لم تتم هزيمة هذه الأمراض بعد، إلا أنه يوجد الآن مجموعة واسعة من العلاجات والأدوية والتكنولوجيات الجديدة لتخفيف آثارها.
خلال النصف الثاني من القرن العشرين، أدى انتشار التكنولوجيا من الدول الغنية إلى الدول منخفضة الدخل، وكذلك الزيادة في ثروة الدول منخفضة الدخل، إلى ما يوصف بثالث الثلاث موجات الكبرى لانخفاض معدل الوفيات (غواتكين، 1980). شهدت هذه الفترة زيادة في وسائل الحصول على المياه المأمونة وخدمات التِّصحاح في البلدان منخفضة الدخل؛ والتي كانت، وبالاقتران مع الزيادات الحاصلة في كل من نصيب الفرد من الغذاء وخدمات الصحة العامة الأساسية والمعرفة بأساسيات العادات الصحية والأدوية الحديثة (مثل المضادات الحيوية واختبارات التشخيص المبكر)، فعّالة في خفض معدلات الوفيات.
ونتيجة لهذه التطورات، طال متوسط العمر المتوقع في كافة أنحاء العالم، ولم يقتصر ذلك على الدول الغنية فقط. فازداد متوسط العمر المتوقع العالمي من 46.6 سنة في الفترة من 1950-1955 إلى 66.8 سنة بين 1950-1955 و2003، بانتشار المعرفة والتكنولوجيا حول العالم (البنك الدولي، 2005). يوضح الشكل 1 العلاقة بين الثروة والصحة، مبينا أن متوسط العمر المتوقع يزداد بزيادة نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي.[1]

التجارة والصحة

من الواضح أن الإنسانية تدين بالصحة الجيدة الحالية وغير المسبوقة إلى الرخاء المتزايد وانتشار التقدم في المعرفة. وستكون هذه المعرفة محدودة الأهمية من دون الموارد الاقتصادية اللازمة لتنفيذها؛ على سبيل المثال، فإن نظم الصرف الصحي مكلفة، وكذلك الأمر بالنسبة إلى برامج التحصين الجماعية أو بناء مساكن صحية.
ولكن، لم يكن ليتحقق الكثير من هذا النمو الاقتصادي ونشرالمعرفة الصحية دون الزيادة الكبيرة في التجارة الدولية التي تُميِّز أواخر القرن التاسع عشر والنصف الثاني من القرن العشرين. قبل القرن التاسع عشر، كانت التجارة عبر الحدود محصورة بعدد قليل من الدول. أما اليوم، فإن جميع البلدان تتاجر دوليا كما أنها تتاجر بنسب متزايدة وهامة من دخلها القومي، مع بعض الاستثناءات مثل كوريا الشمالية. وبينما لا تزال الدول ذات الدخول المرتفعة تُمثل ثلاثة أرباع التجارة العالمية في عام 2000، شهدت الدول ذات الدخل المنخفض مؤخرا ارتفاع نصيبها بحوالي الثلث عندما قامت بتخفيض التعرفات الجمركية وإزالة الحواجز الأخرى أمام التجارة الحرة. ولقد انخفض متوسط التعرفة في البلدان المنخفضة الدخل من 25% في أواخر الثمانينات إلى 11% اليوم (البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، 2005). ووفقا لمنظمة التجارة العالمية، فإن الدول ذات الدخل المنخفض تسيطر على 31% من تجارة السلع العالمية، مسجلة بذلك أعلى مستوى لها منذ الخمسينات (منظمة التجارة العالمية، 2005).
الحواجز أمام فتح الأسواق

استطاعت البلدان منخفضة الدخل أن تبدأ بالمشاركة بنجاح في الأسواق العالمية إلى حد ما من خلال التخلي عن سياسات الحمائية القديمة لفترة ما بعد الحرب. وكانت سياسات تصنيع بدائل الاستيراد رئيسية من بين هذه السياسات، والذي جرى الترويج لها على نطاق واسع جداً بعد الحرب العالمية الثانية وطُبقت بشكل قوي وبحماس كبير في البلدان منخفضة الدخل، وخاصة في إفريقيا بعد الاستقلال.
كان تبرير سياسات تصنيع بدائل الاستيراد مزدوجا. أولاً، اتُّخذ كأمر مسلم به من أن التصنيع أمر ضروري للتنمية. ثانيا، افتُرِض أن باستطاعة الحكومات أن تُسرع هذه العملية بمنع استيراد السلع الصناعية، مشجعة بذلك تطوير الصناعة المحلية.
وباتباع النصيحة المقدمة من أنصار سياسات تصنيع بدائل الاستيراد، وضعت البرازيل واقتصادات أخرى في أمريكا اللاتينية قيودا ضخمة، مثل القيود الجمركية والحصص والحظر الكامل على استيراد السلع الصناعية. ونتيجة لذلك، حصل زيادة مؤقتة في الإنتاج الصناعي. هذا الأمر ليس مستغربا: فإذا تم تقييد استيراد البضائع التي يستوردها الناس عادة، عندها سيقوم الإنتاج المحلي بتعويض ذلك إلى حد ما.
كانت التكلفة الأولية انخفاضا في الإنتاج الزراعي بسبب انتقال العوامل المنتجة إلى الصناعة وبعيدا عن الزراعة، وهجرة الناس من الريف إلى المدن. وبعد فترة من الزمن، بدأ الإنتاج الصناعي بالانخفاض. ويعود هذا في الأساس إلى أن الإنتاج لم يعد تنافسيا. وأصبحت كفاءة المنتجات مقيدة لأنه لم يعد بالإمكان شراء مدخلات الإنتاج الأساسية من الخارج. وارتفعت تكاليف المدخلات مما أدى بدوره إلى أن أصبح إنجاز المنافسين الخارجيين أفضل.
بدأت الحكومات بتقديم الدعم المالي للصناعات التي كانت ترعاها بواسطة سياسات تصنيع بدائل الاستيراد بهدف إنقاذها. فقامت برفع الضرائب على قطاع الزراعة وسيّلت ديون الحكومة من خلال التضخم لتسديد هذا الدعم. وكانت النتيجة تضخما جامحا مشتركا مع البطالة ومعدلات نمو سلبية.


إضافة إلى ذلك، خُلقت فوضى اجتماعية. ويرجع ذلك إلى هجرة العديد من الناس إلى المدن والذين أصبحوا الآن عاطلين عن العمل. ولو كان هؤلاء عاطلين عن العمل في الريف، لكان لديهم دعم الشبكات الاجتماعية التي تم إنشاؤها على مدى العقود. ولكنّ المهاجرين الجدد إلى المدن لم يقوموا بتطوير هذه الشبكات.
التجارة المفتوحة تحسن الصحة

لحسن الحظ، اتفقت معظم الدول باختتام جولة أوروغواي من المفاوضات في عام 1994 على التحرك بعيدا عن هذه الاستراتيجية المضادة للإنتاج وكذلك على خفض تعرفات الحماية الجمركية بشكل كبير. في كثير من البلدان، أدى هذا إلى إرساء أسس النمو الاقتصادي السريع وتعميق الاندماج في الاقتصاد العالمي.
وفضلا عن كون النصف الثاني من القرن العشرين فترة زيادة التجارة العالمية والنشاط الاقتصادي، فلقد شهد أيضا تحسنا ملحوظا في الصحة في معظم البلدان منخفضة الدخل. فعلى سبيل المثال، انخفض معدل وفيات الأطفال في الهند بين أعوام 1950-55 وعام 2003 من 190 إلى 63 لكل 1000. في الواقع، ارتفع متوسط العمر المتوقع في البلدان منخفضة ومتوسطة الدخل باطّراد منذ منتصف القرن العشرين، مع استثناء دول جنوب صحراء إفريقيا الكبرى في التسعينات. وحدث هذا التقدم على خلفية تزايد التجارة الدولية.
هل يمكن تحديد أي علاقة بين زيادة الأهمية العالمية للتجارة وتحسين الصحة في دول العالم النامية؟ من الممكن أن تكون زيادة الثروة الوطنية التي تأتي من المشاركة في التجارة الدولية هي التي تجعل الأفراد والحكومات قادرين على شراء التكنولوجيات والبنية التحتية الأساسية الملائمة للصحة. وتظهر الكميات الكبيرة والواسعة من الكتابات أن زيادة حجم التجارة ترتبط بشكل مسبَّب مع النمو الاقتصادي القوي (مثلا، دولار، 1995، ودولار وكراي، 2001، وفرانكل ورومر، 1999، وساكس وورنر، 1995). وكما شاهدنا، يؤدي ارتفاع الدخل إلى صحة أفضل، وخاصة لأنه يتيح للناس المجال لشراء وسائل التّصحاح المحسنة والوقود الأنظف وتكنولوجيات الصحة الأكثر تقدما.
وبذلك، يعتبر فتح أبواب بلد ما للتجارة طريقة فعالة لتحسين صحة السكان. ويؤكد هذا الطرح الكتابات القليلة حول العلاقة بين تحرير التجارة والصحة. ولقد وجد أوين ووا (2004) في دراستهم حول 219 دولة، أن زيادة الانفتاح على التجارة ترتبط بمعدلات منخفضة لوفيات الأطفال وبارتفاع لمتوسط العمر المتوقع وخاصة في الدول منخفضة الدخل. وكذلك بيّن وي ووا (2002) أن زيادة الانفتاح على التجارة (وخاصة عندما تقاس مع انخفاض معدل التعرفة) ترتبط بمتوسط عمر متوقع أطول ومعدل وفيات أكثر انخفاضا. وتقدم التجارب الحديثة لدول مثل الصين والهند وفيتنام، والتي تحسنت المؤشرات الصحية لديها خلال سعيها نحو سياسات تجارية أكثر تحررا، تأكيدات قوية وملموسة لهذه النقطة.
إذا حُررت التجارة إلى مسافة أبعد من هذا، سينتج للأجيال المستقبلية في البلدان منخفضة الدخل عدد أكبر من المكاسب المالية والاجتماعية. وجاء في دراسة حديثة للبنك الدولي أن إلغاء التعرفات والمعونات المالية وبرامج الدعم المحلية سيؤدي إلى زيادة الرفاهية العالمية بحوالي 300 مليار دولار في العام بحلول عام 2015. وسيأتي ثلثا هذه المكاسب من إصلاح التجارة الزراعية لأن قطاع الزراعة هو الأكثر تشوها من القطاعات الأخرى. إضافة إلى ذلك، ستتلقى الدول ذات الدخل المنخفض 45% من المكاسب العالمية كنتيجة لتحرير تجارة جميع السلع تماما. وحيث أن للبلدان الفقيرة حصة صغيرة جدا من الثروة العالمية، فإن مكاسبها المحتملة من تحرير التجارة ستكون كبيرة بشكل غير متناسب، قد تصل إلى أكثر من ضعفيْ حصتها من الناتج المحلي الإجمالي العالمي (مارتن وأندرسون، 2005).
إنتشار المعرفة: الآثار الجانبية الصحيّة للتجارة الحرة
وبالرغم من أن الفوائد الاقتصادية الناتجة عن التجارة الدولية ذات أهمية أساسية لفهم العلاقة بين التجارة الحرة والصحة، إلاّ أنه من الممكن أن تكون التجارة مفيدة أيضا للصحة بطرق أخرى. في الواقع، يعتقد بعض الاقتصاديين أن انتشار المعرفة المتصلة بالصحة المقترنة بتحرير التجارة عامل حاسم رئيسي للصحة في البلدان منخفضة الدخل (ديتون، 2004، أوين ووا، 2004، جيميسون وساندبو ووانج، 2001). ويعود ذلك إلى أن معظم المعرفة حول كيفية تحسين صحة الإنسان—من اللقاحات إلى نظرية الجراثيم المُسببة للأمراض—قد تم توزيعها على نطاق واسع إلى جميع أنحاء العالم من الدول الأكثر ثراء التي تم تطويرها فيها.
عند خفض تكاليف التجارة، يصبح من السهل نشر المعرفة والتقنيات والمنتجات الطبية من الدول المتقدمة التي طورتها إلى دول أخرى. فعلى سبيل المثال، كان لاكتشاف جون سنو في لندن عام 1854 حول انتشار الكوليرا عن طريق المياه الملوثة، آثارا هامة في الوقاية من الأمراض المعدية في العالم. انتشرت هذه المعرفة تدريجيا من لندن إلى أوروبا، دافعة السلطات في المدن نحو تحسين وتحديث أنظمة المياه والصرف الصحي لتفادي تلويث مصادر المياه بالنفايات الآدمية (وليامسون، 1990). إن نظرية الجراثيم المُسببة للأمراض مفهومة ومعترف بها اليوم على نطاق واسع من قبل السلطات المعنية بالصحة العامة في جميع انحاء العالم كأداة هامة لمكافحة الأمراض (حتى وإن كانت الموارد غير متاحة دائما لبناء وصيانة نظم فعّالة لإدارة المياه).
كذلك، يمكن أن يؤدي خفض تكاليف التجارة إلى الإسراع في معدل تبني التكنولوجيات الطبية المُثبتة من قبل بلدان أخرى. كانت الدول الغنية أول من طور بعض أنجع وأبسط الأدوية مثل المضادات الحيوية واللقاحات، ولكن الصناعة والتجارة الدولية لهذه التكنولوجيات سمحت لها بأن تُصبح متوفرة في معظم أنحاء العالم. ومن المحتمل أن يكون اعتماد هذه التكنولوجيات من جانب البلدان الفقيرة في آسيا في سنوات ما بعد الحرب مسؤولا إلى حد كبير عن الانخفاض الملحوظ في معدلات الوفيات الخام في هذه الفترة.
في الاربعينات، أنهت آسيا عدة عقود من العزلة الاقتصادية والثقافية النسبية وبدأت بالاندماج في الإقتصاد العالمي. تزامن مع هذا نشر ونقل مكثف لبرامج وتكنولوجيات وأساليب الصحة العامة التي نشأت في الدول الأكثر ثراء. ولقد شهد عقدا العشرينات والأربعينات تقدما هائلا في الاكتشافات الطبية مثل اكتشاف البنسيلين وأدوية السلفا والباستريسن والستربتوميسين والكلوروكوين. وبوصول هذه الأدوية وغيرها من العقاقير الفعالة إلى آسيا، أصبح علاج الأمراض التي قتلت في الماضي الملايين متاحا بتكلفة منخفضة. إضافة إلى ذلك، أعطى اختراع الـ دي. دي. تي. في عام 1943 السلطات سلاحا قويا جدا في المعركة ضد الملاريا والذي أدى إلى القضاء على المرض في كل من الولايات المتحدة وأوروبا، كمل أدى إلى خفض عدد الحالات بأكثر من 99% في أجزاء من سريلانكا والهند (غراميشيا وبيليس، 1988). وبسبب توفر هذه التدخلات على نطاق واسع وخفض تكلفتها—التي أصبحت ممكنة من خلال تجارة أكثر حرية—انخفضت معدلات الوفيات الخام بشكل حاد، خاصة في شرق آسيا في أواخر الأربعينات. وبحلول الخمسينات والستينات، قلّ عدد الأطفال والشباب الذين يموتون من هذه الأمراض التي يمكن الوقاية منها بسهولة والتي كانت مسؤولة عبر التاريخ عن هبوط المؤشرات الصحية في المنطقة، كما ارتفع متوسط العمر المتوقع في جميع أنحاء المنطقة (بلوم وويليامسون، 1988).
وتستمر هذه العملية اليوم، حيث تتوفر الأدوية الجديدة التي استُحدثت في مكان ما في الأسواق الدولية. وبالرغم من أن معظم الأدوية تقريبا تبدأ حياتها بحماية براءة الاختراع، إلاّ أنها في آخر الأمر تنتهي، وتنفتح الأسواق للمنافسة العامة. ونتيجة لذلك، فإن العديد من الأدوية التي لا تخضع لبراءات الاختراع متوفرة في جميع أنحاء العالم وبأسعار زهيدة للغاية، فاتحة المجال أمام سكان البلدان الفقيرة للاستفادة من معرفة وابتكار الدول الأوفر ثراء في العالم. وتشمل الأمثلة الأكثر حداثة على أدوية خفض الكولسترول (مجموعة ستاتين) وأدوية معالجة الالتهابات الناتجة عن الريتروفيروس وتحديدا فيروس نقص المناعة فضلا عن تلك البنود مثل وحدات الرعاية المكثفة لحديثي الولادة ووحدات غسيل الكلى ومعدات الفحص وعدد ضخم من المعدات الطبية الحديثة الأخرى. وبالطبع، يخضع الكثير من الأدوية التي لها براءات اختراع إلى منافسة الأدوية الأخرى المشابهة. وبسبب تنويع الأسعار، من الممكن أن تكون الأدوية المحمية ببراءات الاختراع في متناول الفقراء بأسعار قريبة من تكلفة الإنتاج.
الضرائب والتعرفات الجمركية تُؤخر نقل التكنولوجيا

ستكون الفوائد المرجوة من نقل التكنولوجيا أعظم إذا قامت الدول منخفضة الدخل بإلغاء التعرفات الجمركية والضرائب الكثيرة التي تفرضها على الأدوية. فغالبا ما تؤدي التعرفات إلى تضخيم سعر الأدوية للمستهلك في الدول منخفضة الدخل كما وتعمل كحاجز أمام التوزيع الفعّال للأدوية والتكنولوجيا الطبية. لقد وجدت دراسة أجريت في عام 2003 بإسم المفوضية الأوروبية لـ 57 دولة أن الدول منخفضة الدخل تفرض ضرائب وتعرفات جمركية كبيرة على الأدوية المستوردة، فتقوم الهند ونيجيريا والباكستان بفرض أسعار موحدة تبلغ 55% و34% و33%، على التوالي (المفوضية الأوروبية، 2003). وتدعي الحكومات غالبا أن هذه الضرائب ضرورية لحماية صناعة الأدوية المحلية، ولكنها في الواقع تعمل وببساطة على حرمان المرضى لأفضل نوعيات الأدوية وأقلها أسعارا.
تشير الأدلة إلى أن الشركات الأجنبية التي ترغب في تصدير أجهزة طبية مثل منظم نبضات القلب إلى الهند تواجه تعرفات جمركية بحوالي 50%، بالرغم من أن خُمس الوفيات في الهند تُعزى لأمراض القلب وأن منظمة الصحة العالمية تقدر أن 60% من مرضى القلب في العالم سيكونون من الهنود بحلول عام 2010. وبالرغم من ذلك، لا يوجد في الهند مصنعون محليون لأجهزة تنظيم نبضات القلب وتلك المستوردة تخضع لضرائب كبيرة. ونتيجة لذلك، يتوجب غالبا على المرضى في الهند اللجوء إلى أجهزة تنظيم النبضات الأقدم أو تلك المجددة، إذا توفرت لهم (أنيلكومار وبالاشاندر، 2004).
التكنولوجيات الأخرى

بالرغم من التأثير المحبط للتعرفات الجمركية على نشر الأدوية وغيرها من التكنولوجيات الصحية، كسبت حجة “انتشار المعرفة” مزيدا من الدعم على إثر دراسة أجراها عالميْ اقتصاد هما آنجس ديتون وكريستينا باكسون في عام 2004. لقد بينا أن اتجاهات وفيات الأطفال ومتوسطي العمر تظهر في الولايات المتحدة قبل ظهورها في المملكة المتحدة بنحو أربع إلى خمس سنوات. وقد يُعزى هذا إلى أن نظام الرعاية الصحية في الولايات المتحدة، الموجه إلى الأسواق بدرجة أعلى، يسمح باعتماد أسرع للتكنولوجيات الجديدة مقارنة مع النظام المدار من قبل الدولة في المملكة المتحدة، وإن لم تكن هذه التكنولوجيات قد اخترعت أصلا في الولايات المتحدة. تتيح التجارة الحرة المجال أمام مقدمي الخدمات الصحية في الولايات المتحدة إلى اعتماد تلك التكنولوجيات والأدوية الجديدة فور إمكانية ذلك للحفاظ على ميزة التنافسية. ومن الواضح أن هذا يعود بالفائدة على المرضى.
كذلك، أسفر خفض تكاليف التجارة إلى سعي الدول الغنية والفقيرة نحو تكنولوجيات الاتصالات مثل الراديو والتلفزيون والإنترنت بشكل كبير. ولقد ساعد هذا على تحسين الصحة العالمية عبر تسهيل انتشار الأفكار مثل الآثار الصحية للتدخين أو ممارسة الرياضة. وأخيرا، هناك بعض الأدلة التي تُشير إلى أن لزيادة التجارة أثرا إيجابيا على نوعية مؤسسات الحكم، مما يؤدي إلى وجود بيئة سياسية أكثر ملائمة تُفضي إلى تحسين الصحة (أوين ووا، 2004). ولقد أظهرت الدراسة أيضا أن نتائج تحسن الصحة الناجمة عن زيادة حجم التبادل التجاري ظهرت بشكل قوي في الدول الأكثر فقرا.
اتفاقيات التجارة والصحة
تدين عودة التجارة الحرة عقب التدمير الاقتصادي جراء “الكساد الكبير” في الولايات المتحدة والحرب العالمية الثانية بالكثير لوضع نظام عالمي للتجارة، وبشكل أكثر تحديدا، لخلق الاتفاقية العامة للتعريفـات والتجارة (الجات) في عام 1947. تأملت هذه المؤسسة بأن تقوم على تعزيز فكرة بسيطة تتلخص في أنه إذا قام شخص في بلد ما بإنتاج سلع أو خدمات يحتاجها أشخاص آخرون في بلدان أخرى، فلهم الحق في بيعها لهم من دون تدخل الدولة. من نقطة البداية هذه، تطور نظام التجارة العالمي اليوم إلى أبرز مثال للتعاون الدولي. فشهدت الجولات المتتالية لتحرير التجارة سقوط التعرفات الجمركية وتوحيد الممارسات التجارية ودخول عدد كبير من الدول إلى النظام التجاري العالمي.
لقد تم الآن استيعاب الجات ضمن منظمة التجارة العالمية التي تعمل على الافتراض المقبول على نطاق واسع بأن رفاه الإنسان سيزداد عن طريق النمو الاقتصادي المبني على أساس تحرير التجارة في سياق مبادىء عدم التمييز وتبادل الامتيازات والعدل والشفافية والنزاهة. وفي حين كان لهيئة تسوية المنازعات الأصلية للجات سلطات محدودة للتنفيذ، فإن قرارات هيئة تسوية المنازعات في منظمة التجارة العالمية ملزمة تلقائيا ومطبقة من خلال العقوبات والروادع بشكل أساسي.
التجارة في الخدمات
ومع ذلك، واجه قيام النظام التجاري الأكثر إلزاما معارضة وانتقادا شديديْن وخاصة من طرف المنظمات غير الحكومية الناشطة التي ادعت أنها تمثل مصالح الصحة العامة. وهذا ينبع في معظمه من تفاصيل بعض اتفاقيات التجارة متعددة الأطراف. وعلى الرغم من أن اتفاقيات التجارة متعددة الأطراف تهدف إلى تسهيل التجارة الحرة ونقل المعرفة، فلقد نددها الناشطون على أنها تضر بالصحة العامة وخاصة في الدول منخفضة الدخل. وكانت اتفاقية الجوانب التجارية لحقوق الملكية الفكرية (التريبس)، التي سيتم مناقشتها أدناه، من أبرز هذه الاتفاقيات بين هؤلاء الناشطين في حملاتهم، ولكن قد تكون الاتفاقية العامة للتجارة في الخدمات (الجاتس) ذات علاقة مساوية، إن لم تكن أكثر، بالصحة العامة.
بدأت فعالية الجاتس، التي نوقشت من قبل 120 دولة، في عام 1995 وتهدف إلى خلق مناخ موات للتجارة في الخدمات في ظل الشفافية والتحرير التصاعدي التدريجي. وتحقق الجاتس هذا من خلال السماح للدول تقديم تعهدات ملزمة لخفض الحواجز أمام التجارة. أما بالنسبة إلى الرعاية الصحية تحديدا، فتشمل الاتفاقية على المجالات الواردة في الجدول أدناه. ويفسر نقاد الجاتس ذلك على أنه يتطلب خصخصة الخدمات الصحية، مشكلا تحديا لقدرات الحكومات على تنظيم مقدمي الخدمات الصحية وتحديد شكل أنظمتها الصحية (سنكلير، 2000؛ بولوك وبرايس، 2003). على سبيل المثال، يطالب النقاد أن نصَّ الاتفاقية لا يعفي تحديدا جميع خدمات الرعاية الصحية المقدمة من الحكومة من إشراف الجاتس (كراجيفسكي، 2001). وهناك مجال آخر للخلاف حول الحد الذي تسمح به الجاتس للحكومات القيام بتنظيم الخدمات الصحية، مع جدل البعض في أن الاتفاقية “ستحظر استخدام آليات لا تستند إلى السوق مثل الدعم المالي ودمج المخاطر العالمية والتضامن والمساءلة العامة في تمويل وإنجاز الخدمات (بولوك وبرايس، 2000). وأخيرا، يؤكد النقاد على أن هذه الاتفاقية غير شرعية ديمقراطيا، لأنها تضحي، إلى حد ما، بملكية الأمم ذات السيادة لسياستها الصحية الإجمالية إلى نظام تجارة يخضع إلى قوى وجهات خارجية (سنكلير، 2000). ولقد أظهر تقييم الجاتس الذي قامت به ليا بيلسكي وآخرون في عام 2004 أن معظم هذه المخاوف لا أساس لها من الصحة. وبالرغم من وجود مخاوف من أن نظام الجاتس مبهم جدا بحيث لا يستثني تحديدا الخدمات الصحية المقدمة من القطاع العام (كراجيفسكي، 2001)، إلا أن هذا غير متصل بالموضوع لأن الدول لا تزال محتفظة بحق تنظيم جميع مقدمي الخدمات العامة والخاصة. ومع أن الدول محدَّدة في السياسات التي يسعون لها نحو القطاعات التي تم إلزامها بالجاتس، تستطيع الدول اختيار المشاركة أو عدمها ولها حرية انتقاء القطاعات التي ترغب في الالتزام بها. ولذلك، من الخطأ الإدعاء أن الجاتس تقوض السيادة الوطنية لأن الدولة تفرضها على نفسها طواعية. كما أنه من الصعب الجدل بأن الجاتس تُصور مثالا مهينا لعدم شرعية الديمقراطية—إن جدل ذلك يعني القول أن جميع القرارات الصادرة حول سياسات التجارة مشبوهة ديمقراطيا. وبما أن هذه الاتفاقيات ضمن منظمة التجارة العالمية لا تتم إلا بموافقة المشرعين في الدول الأعضاء، فهي في نواحي عديدة أكثر ديمقراطية من غيرها من الهيئات متعددة القوميات مثل الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي.
وبوضع هذه المخاوف جانبا، تجدر الإشارة إلى الآثار الإيجابية على الصحة العامة والتي تترتب على الالتزام بتحرير التجارة، مثل الآثار المترتبة على الجاتس. قد يكون للالتزام بالجاتس فوائد إجمالية كبيرة، وخاصة لأنه يساعد على الإسراع في “انتشار المعرفة” ونقل التكنولوجيا والتي سبق وأن رأينا أهميتهما في تحسين الصحة. كما قد يمثل الالتزام بالجاتس كوسيلة للدول للحصول على كميات كبيرة من إيرادات الصادرات، مما يُسهم في النمو الاقتصادي.

من الواضح أن البلدان التي تتمتع بميزة نسبية في تقديم الخدمات الصحية ستستفيد حتما من التحرير المذكور؛ وفي حين أن هذا ينطبق أساسا على الدول الأكثر ثراء، فإن بعض الدول منخفضة الدخل مثل الهند تقوم بتنمية تخصصات وقدرات بشكل سريع في مجالات طبية مختلفة.
الطب عن بعد

يعد الطب عن بعد أكثر مجالات الخدمات الطبية وضوحا التي يمكن أن تُقدَّم عبر الحدود. ومع أن الطب عن بعد لا يزال نسبيا في مراحله الأولى، إلا أن إمكاناته المستقبلية هائلة. إن خفض تكاليف الاتصالات يؤدي إلى توسيع النطاق للاطباء لفحص صور الأشعة أو حتى إلى أداء جراحة عن بعد لمريض في بلد مختلف تماما. من الممكن نشر المعلومات السريرية والرقابية والوبائية من خلال تكنولوجيات الاتصالات، مثل الإنترنت. لقد ساهمت هذه الابتكارات الحديثة في جعل مجاراة الأطباء لآخر الأخبار والمعرفة والمعلومات الطبية أكثر سهولة عنها في الماضي، حتى في أكثر المناطق النائية في العالم.
لدى تكنولوجيات الاتصالات القدرة على خفض التكاليف، حيث ستقوم المستشفيات بتفويض خدمات المزودين ذوي أكثر الأسعار تنافسية، ولن تكون خياراتهم محدودة حسب الموقع. ويمكن أن يساعد الطب عن بعد العاملين في المناطق النائية على التشاور مع المتخصصين في المراكز الحضرية، مما يؤدي إلى تقليل الحاجة للإحالات المكلفة. قد يساعد الطب عن بعد في توسيع نطاق التجارب السريرية مثل إمكانية شمول المناطق الريفية، أو نطاق أوسع من الأجناس والأعراق. وبالنسبة للمريض، فإن الطب عن بعد سيزيل الحاجة إلى السفر المُكلف المُضني ويقلل من التأخير بين الإحالة والعلاج (هيلي وروين وأوهينما، 2002).
هناك أدلة أيضا على أن الطب عن بعد قد يكون له فائدة مباشرة للدول ذات الدخل المنخفض. وجدت أحد الدراسات أن مشروعا لطب العيون عن بعد بين المملكة المتحدة وجنوب إفريقيا قد ساعد الأطباء على تحسين معرفتهم المحدودة في مجال طب العيون، كما أدى إلى خفض عبء مرض العيون (جونستون، 2004). بالطبع، من المتوقع أن تجني الدول منخفضة الدخل فوائد أكبر من الطب عن بعد من الدول الغنية. لقد تم إقرار خبراء الصحة العامة منذ زمن طويل على أن نقص سبل الحصول على العناية الطبية المؤهلة والخدمات التحتية الملائمة هما أحد أهم العوائق أمام الصحة الجيدة في البلدان الفقيرة. ويعتبر استقطاب المتخصصين إلى المناطق الريفية والضواحي مشكلة رئيسية متصلة بالموضوع. ولذلك، فإن بناء وصيانة الخدمات التحتية للاتصالات اللازمة لاستخدام الطب عن بعد يعدُّ أكثر سهولة من وضع الأطباء المتخصصين في المناطق الريفية.

الاستهلاك في الخارج

يتزايد الاتجاه نحو سفر المرضى إلى الخارج من أجل الحصول على أفضل نوعية للرعاية الطبية، وبأقل التكاليف ومع الحد الأدنى من الانتظار. إذ يسافر حاليا عدد كبير من السياح الطبيين إلى الهند وجنوب شرق آسيا وأمريكا اللاتينية وجنوب إفريقيا، حيث يوجد العديد من المرافق الطبية عالية الجودة. ويأتي العديد من هؤلاء المرضى من مناطق من العالم لا يتوفر لديها المرافق الطبية الحديثة؛ بينما يأتي البعض الآخر من دول أخرى مثل المملكة المتحدة وكندا حيث أنظمة الرعاية الصحية العامة مثقلة لدرجة كبيرة يمكن معها أن يستغرق المريض سنوات للحصول على الرعاية اللازمة. وتعتبر التكلفة دافعا آخرا للسياحة الصحية: تقدر تكلفة إجراء عملية جراحية في الهند أو تايلندا أو جنوب إفريقيا عشر التكلفة في الولايات المتحدة أو أوروبا الغربية، بل واحيانا اقل. وتساعد الجاتس على توفير الإطار الذي سيتم من خلاله وصول المرضى لهذه الخدمات.
لقد كان مستوى السياحة الطبية قبل عشر سنوات لا يُذكر. اليوم، يزور سنغافورة أكثر من 200000 مريض كل عام، نصفهم تقريبا من منطقة الشرق الأوسط. ويقدر أنه في عام 2005، سيسافر نحو نصف مليون مريض أجنبي إلى الهند للرعاية الطبية، بينما في عام 2002 بلغ العدد 150000 مريض فقط. سيُحقق هذا بطريقة ما تخفيف العبء عن النظم الصحية في الدول الغنية في العالم التي تعاني من قيود مالية متزايدة، وفي نفس الوقت، يخلق حوافز أكبر للكوادر الطبية المدربة للبقاء في بلدانهم بدلا من الخروج بخبراتهم إلى دول أخرى. إضافة إلى ذلك، تقدم الجاتس آلية تستطيع الدول من خلالها تبادل طلاب الطب، مما يزيد من معدل نقل المعرفة.
قد يكون جذب المرضى الأجانب أيضا مصدرا للعملة الأجنبية في الدول منخفضة الدخل. فباستطاعة السياحة الطبية تحقيق حوالي 2.2 مليار دولار بحلول عام 2012، وفقا لدراسة قام بها خبراء الإدارة ماكنزي آند كومباني واتحاد الصناعات الهندية. ولقد دخلت كل من الأرجنتين وكوستاريكا وكوبا وجامايكا والأردن وجنوب إفريقيا وماليزيا وهنغاريا ولاتفيا وإستونيا في هذا السوق، أو لا تزال تحاول أن تفعل ذلك، مع انضمام دول أخرى إلى القائمة كل عام.
الوجود التجاري
توفر الجاتس آلية مبنية على قواعد تمكِّن مقدمي الخدمات الصحية التجارية، مثل المستشفيات أو شركات التأمين، من العمل في الدول الأجنبية. وبينما تزداد بعض الدول مثل الولايات المتحدة والمملكة المتحدة انفتاحا على الاستثمار الخارجي الخاص في القطاع الصحي، بدأت الدول الفقيرة مثل الهند وإندونيسيا ونيبال وسريلانكا وتايلندا أيضا تخطو طريقا حرا مشابها في هذا المجال (منظمة الصحة العالمية، 2002). هناك عدة أسباب لأهمية هذا النوع من التجارة في تسريع “انتشار المعرفة” التي قد رأينا أنها تؤدي إلى تحسين الصحة العامة.
أولا، سيؤدي وجود رأس المال الأجنبي الإضافي إلى تعجيل سرعة اعتماد التكنولوجيا الطبية الجديدة. سيحضر المزودون الأجانب أساليب إدارة متقدمة، والتي ستزيد من كفاءة المستشفيات المحلية.
ثانيا، سيقدم تطوير الخدمات الطبية عالية الجودة وظائف إضافية للكوادر الطبية، مما يساعد في الحفاظ عليهم في بلدهم. وغالبا ما يقوم الجراحون الاستشاريون بتقسيم وقتهم بين القطاعين العام والخاص. فإذا كانت خياراتهم الوظيفية محصورة في القطاع العام، لن يكون لديهم الحوافز الكافية لبقائهم في بلدهم. وعليه، فإن وجود المزودين التجاريين الأجانب سيساعد على التغلب على ما يُسمى “بهجرة الأدمغة” التي تؤثر على الخدمات الطبية في بعض الدول منخفضة الدخل.
ثالثا، سيكون بإمكان المزودين الأجانب ورأس المال الخاص في داخل بلد أجنبي المساهمة أيضا في التخفيف من واقع الخدمات العامة التي تعاني من قيود مالية، عبر تخفيض عدد المرضى الذين يحتاجون للعلاج.
وأخيرا، يمكن أيضا للجاتس أن تساهم في تسريع إدخال التأمين الصحي الخاص في الدول منخفضة الدخل والذي سيكون تطورا إيجابيا لأولئك المحرومين من الحصول على الرعاية بسبب الاحتكارات العامة غير الفعالة والجائرة. ويمكن لهذا تحسين الوصول الشامل فقط.
وجود الأشخاص الطبيعيين

توفر الجاتس إطارا قانونيا يستطيع الأفراد العاملون في المهن الطبية الانتقال من خلاله بين الدول لممارسة الطب. وهذه قضية خلافية لأن أكبر حركة انتقال للمهنيين العاملين في مجال الصحة تكون من الدول منخفضة الدخل إلى الدول الغنية، حيث الرواتب أعلى وظروف العمل أفضل. إذ يصعب على المهنيين العاملين في المجال الطبي العثور على وظيفة في مجال مهنتهم في العديد من الدول منخفضة الدخل، وينتهي بهم المطاف باللجوء إلى العمل في وظائف لا تتطلب مهارات عالية.
في الإعلام الشائع بين العامة، توصف هذه الظواهر بأنها “هجرة معاكسة تماما للأدمغة” تستنزف الأنظمة الصحية للدول ذات الدخل المنخفض من القدرات والموارد. وفي الواقع، قد يقدم ما يُسمى بـ “هجرة أدمغة” الكوادر الطبية بعض المساهمات الإيجابية لانتشار المعرفة ويساهم أيضا في العملة الأجنبية للدولة عبر التحويلات. وسيكتسب العديد من المهنيين العاملين في المجال الطبي المهارات التي لا يقدرون على اكتسابها في بلدهم، وفي كثير من الحالات يعود هؤلاء إلى بلادهم محملين بهذه المهارات. ففي مجال البحوث الصحية، يمكن للعلماء المهاجرين من الدول منخفضة الدخل تعزيز النشاط البحثي في المجالات ذات الأولوية بالنسبة لبلدهم، مما يُساعد على تحسين توزيع تمويل البحوث الصحية لهذه المناطق. علاوة على ذلك، فإن السماح بحرية حركة الشعوب يضمن استغلال الإمكانيات البشرية. فعلى سبيل المثال، لم يكن باستطاعة ألبرت أينشتاين وضع نظرياته لو بقي في ألمانيا النازية في الثلاثينات.
ومن منظور فلسفي أوسع، فإن الفكرة القائلة بوجوب تقييد حرية التنقل لبعض الفئات الخاصة من الأفراد من قبل الحكومات هي فكرة تسلطية مقيتة. أولئك الداعون بوقف الحركة الدولية للمهنيين العاملين في القطاع الصحي يلمحون أن هؤلاء الناس هم من الممتلكات المالية للحكومات. ويبدو هذا تعصب على نحو خطير لتقييد الناس من تحقيق طموحاتهم وإمكاناتهم بهذه الطريقة.
تريبس ونقل التكنولوجيا — حالة الهند

كان إدخال قضايا الملكية الفكرية الدولية في التجارة العالمية مثيرا للجدل منذ أن تم التوقيع على اتفاقية منظمة التجارة العالمية المتعلقة بالجوانب التجارية لحقوق الملكية الفكرية (تريبس) في عام 1994. ولقد تركز معظم النقاش اللاحق حول فيما إذا كان فرض براءات الاختراع على المنتجات الدوائية سَيَحول دون حصول الدول ذات الدخل المنخفض على الأدوية. تحاول هذه الاتفاقية أن توازن بين الحاجة لضمان الحصول على الأدوية وبين ضرورة حماية استثمارات المبتكرين. ومن غير المحتمل أن يستثمر القطاع الخاص المبالغ الكبيرة المطلوبة من أجل تطوير أدوية جديدة بدون هذه الحماية.
لا تنوي هذه الورقة أن تطيل الحديث عن هذه الجوانب للجدل حول التريبس، والتي هي الآن مألوفة لجميع المهتمين بالصحة العامة. سيكون جديرا بالأحرى النظر في تأثير اتفاقية التريبس على نقل التكنولوجيا والمعرفة.
الهند هي أحد الأمثلة التي تستحق الفحص والبحث. فلكي تُصبح الهند ممتثلة مع اتفاقية التريبس، سنَّت الهند قانون براءة اختراع في أوائل عام 2005. المؤشرات الأولى أن هذا القانون قد أدى إلى زيادة الاستثمار في مجال بحوث وتنمية الأدوية (البحث والتطوير) في الهند من قبل الشركات المحلية ومتعددة الجنسيات، والتي من المفترض أن تُنتج مع مرور الوقت أدوية أرخص مصممة خصيصا لتلبية احتياجات سكان الهند. بهذه الطريقة، لن تستفيد الهند من الخبرات الفنية في مجال الصناعات الدوائية التي تجلبها الشركات متعددة الجنسيات معها فحسب، وإنما ستستفيد أيضا من زيادة مستويات الاستثمارات الأجنبية المباشرة التي تساعد على تعزيزالاقتصاد. هناك أيضا بعض الأدلة التي تشير إلى أن القوانين الجديدة تخلق مناخا جذابا لعودة العلماء والباحثين الهنود إلى بلدهم من الولايات المتحدة وأوروبا.
ولكن، قوبل هذا التحرك من جانب الحكومة الهندية بالكثير من المعارضة من قبل جماعات “المصلحة العامة” وحملات المهتمين بالصحة الذين يرون أن امتثال الهند مع تريبس سيُغلق أكبر مصدر للأدوية الرخيصة في العالم لأنه لن يعود بمقدور الشركات الهندية المصنعة للأدوية العامة إنتاج ونسخ الأدوية الحيوية التي تحظى ببراءة اختراع في أماكن أخرى.
لكن هذا الادعاء كاذب. إن 97% من الأدوية التي تُنتجها شركات الأدوية العامة الهندية لا تخضع لبراءة اختراع، وبذلك سيؤثر القانون على 3% من جميع الأدوية التي تنتجها الدولة كأقصى حد. وعلاوة على ذلك، فإن أقل من 2% من الأدوية الأساسية المدرجة في قائمة منظمة الصحة العالمية تخضع حاليا لبراءة اختراع (أتاران، 2004)، وعليه، فإنه من غير المحتمل أن يكون لقانون براءة الاختراع الهندي الجديد اثر كبير في الوصول إلى الأدوية في أجزاء أخرى من آسيا وإفريقيا.
قبل تنفيذ اتفاقية تريبس كان هناك حوالي 20000 شركة لإنتاج الأدوية في الهند، لا يزال بعضها يخضع لبراءة اختراع في بلدان أخرى. وقُدّر في عام 1999 أن أقل من 40% من السكان يستطيعون الحصول على أي نوع من الأدوية (لانجاو، 1999). لا شك في أن تنفيذ قانون براءة الاختراع المتماثل مع تريبس قد أدى إلى تخفيض عدد الشركات التي تنتج نسخا من الأدوية—والتي يقدر عددها بحوالي 9000—ولكن لم يكن لهذا أثر ملحوظ على معدلات إمكانية الوصول للأدوية التي لا تزال منخفضة لدرجة تبعث على الأسى. والواقع أنه هناك مشاكل أكثر خطورة تؤثر في إمكانية الوصول إلى الأدوية إلى جانب حقوق الملكية الفكرية، مثل الخدمات الطبية الأساسية غير الملائمة تماما.
ومع ذلك، فإن التغييرات الأخيرة في قانون الملكية الفكرية في الهند تُحفز الآن الشركات الهندية لإجراء بحوث وتطوير لأدوية الأمراض التي تؤثر على السكان المحليين بشكل سائد. فعلى سبيل المثال، افتتحت مؤخرا شركة نيكولاس بيراميل مركزا للبحوث والتطوير في بومباي بتكلفة 20 مليون دولار لإجراء البحوث الأساسية على مجموعة واسعة من الاضطرابات، ابتداء من السرطان إلى الملاريا. فالملاريا مرض يصيب ما لا يقل عن 600 مليون شخص سنويا، غالبا في الدول الفقيرة بما فيها الهند. وتقوم كل من شركة رانباكسي، أكبر شركة أدوية في الهند، وشركة الدكتور ريدي بمتابعة مشاريع بحث وتطوير مماثلة. لدى الهند حاليا أكبر عدد من شركات تصنيع الأدويه الموافق عليها خارج الولايات المتحدة، كما زادت الانفاق على البحث والتطوير من 4% قبل خمس سنوات إلى 8% في الوقت الحاضر.
يجذب التغيير في قانون براءة الاختراع أيضا استثمارا أجنبيا ذا قيمة. فتنظر الشركات متعددة الجنسيات مثل شركة ميرك وبريستول مايرز سكويب الآن إلى الهند كموقع رئيس لإنشاء مرافقا للبحث. ولا تعود جاذبية الهند إلى قلة التكاليف الأساسية فحسب، بل أيضا إلى وجود العديد من الباحثين المثقفين الذين يستطيعون إجراء الاختبارات السريرية عالية التكاليف وأشكالا أخرى أكثر تعقيدا لمراحل تطوير الأدوية المتقدمة. ويقدر الخبراء الإداريون ماكنزي أنه بحلول عام 2010، ستنفق شركات الأدوية الأمريكية والأوروبية حوالي 1.5 مليار دولار سنويا في الهند على التجارب السريرية وحدها (بادما، 2005).
تسعى الكثير من الشركات الغربية أيضا للشراكة مع الخبرات المحلية. ومثال حديث على هذا هو التعاون القائم بين شركة دنماركية، نوفو نورديسك، وشركة الدكتور ريدي لإيجاد علاج جديد لمرض السكري. ولقد أعربت الشركات اليابانية عن رغبتها في استثمار مبالغ كبيرة في مشاريع البحث والتطوير الهندية. وبدلا من فرض حواجز مانعة، كما فعلت الهند في السابق، دأبت الحكومة الهندية على جذب هذه الاستثمارات الأجنبية بتوفير الحوافز، مثل منح إعفاء ضريبي لمدة عشر سنوات لشركات الأدوية التي تُشارك في البحوث والتنمية.
تعني هذه التطورات أنه بإمكان الشركات الهندية تطوير لقاح لمرض الملاريا أو تحسين علاجات السل المتوفرة حاليا والتي تساهم المقاومة لها في وفاة أكثر من 1000 شخص كل يوم في الهند وحدها. وتدخل الاستثمارات في مجالات البحث والتطوير في محاولة العثور عن لقاح لفيروس الإيدز. وتُجرى حاليا تجارب على الإنسان للّقاح الوقائي المرشح ضد فيروس الإيدز الثاني الذي أنتجته الهند.
في وقت قصير نسبيا، سرّع قانون براءة الاختراع الجديد في الهند التعاون بين قطاع تكنولوجيا المعلومات والصناعات الدوائية والتكنولوجيا الحيوية. وحتى وقت قريب، اعتمدت القطاعات النامية للتكنولوجيا الحيوية والأدوية المبنية على الأبحاث على تسجيل براءات الاختراع في أوروبا والولايات المتحدة. كما واجهت صعوبات في إنشاء مشاريع مشتركة مع شركات تكنولوجيا المعلومات بسبب ضعف قوانين براءة الاختراع المحلية وإحجام الشركات الأجنبية عن تقديم التزامات كبيرة وخطرة. الآن، وبدلا من تصدير المواد الخام والعناصر الفعالة الأساسية التي تدخل في إنتاج الأدوية العامة زهيدة الثمن، فإن الشركات في الهند قادرة الآن على المنافسة عالميا، منتجة أدوية منقذة للحياة ذات قيمة مضافة مرتفعة. وسوف يسهِم هذا أيضا في النمو الاقتصادي المستمر للهند الذي شهد ارتفاعا في متوسط العمر المتوقع من 36 سنة في عام 1951 إلى مستواه الحالي وهو 61 سنة.
اتفاقيات التجارة الحرة
لقد أدى الاتجاه المتزايد لدى الولايات المتحدة للتوقيع على اتفاقيات التجارة الحرة الثنائية والإقليمية، أسوة بالتريبس، إلى الخوف من أن تكون اتفاقيات التجارة مضرة على الصحة من خلال إعطاء الأولوية لاعتبارات الملكية الفكرية بدلا من إمكانية الوصول إلى الأدوية. ولدى الولايات المتحدة حاليا اتفاقية تجارة حرة مع الأردن وتشيلي وسنغافورة وأستراليا والمغرب والبحرين ومجموعة من ستة بلدان من أمريكا الوسطى (منطقة التجارة الحرة للأمريكتين). وهناك مفاوضات متقدمة بين الولايات المتحدة وتايلندا ودول الأنديز وخمسة اتحادات جمركية لدول إفريقيا الجنوبية (ساكو) و34 دولة من أمريكا اللاتينية ودول الكاريبي. وعلى نحو مشابه للتريبس، يمكن لهذه الاتفاقيات أن تحسن الصحة عبر تشجيع نقل التكنولوجيا وإثراء الدول الموقعة.
هناك بعض الشكوك حول اتفاقيات التجارة الحرة. فعلى سبيل المثال، تؤكد بعض الجماعات الناشطة أن بعض أحكام الملكية الفكرية في هذه الاتفاقيات ستمنع الدول من استخدام الضمانات الواردة في إعلان الدوحة بشأن اتفاقية التريبس والصحة العامة. لقد صرح الإعلان الموقع من قبل جميع الدول الأعضاء في منظمة التجارة العالمية ثانية بمرونة اتفاقية التريبس التي تسمح للدول اتخاذ التدابير اللازمة، بما في ذلك الترخيص الإجباري للأدوية، لحماية الصحة العامة. ولقد أكد توضيح آخر في آب 2003 أنه بإمكان دول ثالثة أيضا أن تجعل ترخيص الأدوية إلزاميا للتصدير للدول الفقيرة التي ينقصها القدرة على التصنيع.
ولكن ادعاء الناشطين أن اتفاقيات التجارة الحرة “تقتل” من خلال الميل بالتوازن بين “الصحة العامة مقابل الملكية الفكرية الخاصة” لصالح المصالح التجارية لشركات الأدوية الأمريكية هو ببساطة ادعاء غير صحيح. إذ تصرح جميع اتفاقيات التجارة الحرة بوضوح على أنها لن تُقيِّد أية مرونة مسموح بها في التريبس أو إعلان الدوحة لحماية الصحة العامة. وحيث لم يظهر هذا التصريح في الاتفاقية الرئيسية، قامت الولايات المتحدة والدولة الشريكة (الدول الشركاء) بتوقيع “رسائل جانبية” ملزمة بنفس المفعول.
عند القيام بحملات ضد اتفاقيات التجارة الحرة، يرفع الناشطون شبح فترات البراءة التي تتجاوز الحد الأدنى لسنوات التريبس العشرين، مقترحين بذلك حالة يتوجب فيها انتظار الفقراء 20 عاما أو أكثر قبل تمكنهم من الحصول على الأدوية العامة. ولكن، كما شاهدنا، فإن 95% من الأدوية الضرورية على قائمة منظمة الصحة العالمية لا تخضع لبراءة الاختراع وستبقى كذلك (أتاران، 2004). وبالمثل، فإن الأدوية المسجلة في الولايات المتحدة وليس في غيرها من البلدان، بما فيها الأدوية المضادة للفيروسات، لا يمكنها الآن أن تكتسب حماية براءة الاختراع. وفي أي حال لا يكون للأدوية بحكم الواقع 20 سنة مدة براءة الاختراع. ويتطلب الأمر، وبشكل نموذجي، مدة تتراوح من 10 إلى 12 سنة لإجراء تجارب على مادة ما وللحصول على الموافقات القانونية—ويحدث جميع هذا بعد منح براءة الاختراع—حيث لن تقوم أية شركة بالاستثمار في مادة غير مسجلة ببراءة اختراع. في هذه الأثناء، قد يتطلب تسجيل براءة الاختراع من سنة إلى ثلاث سنوات بعد تقديم الطلب. لذلك، فإن لمعظم الأدوية مدة براءة فعالة لمدة تتراوح من ست إلى عشر سنوات، وفي العادة أقل بكثير من ذلك. ووفقا لإدارة الغذاء والدواء الأمريكية، فإن متوسط فترة البراءة المتبقية بعد الحصول على الموافقة على التسويق في عام 2001 كان 7.8 سنة من العشرين عاما الأصلية لحماية براءات الاختراع (إدارة الغذاء والدواء الأمريكية، 2002). بالمقابل، تتمتع القطاعات الصناعية الأخرى بمتوسط عمر براءة اختراع تتجاوز 18 سنة. وتقدم بعض اتفاقيات التجارة الحرة تعويضا لمدة البراءة في حالة التأخير غير الضروري في الحصول على الموافقة التسويقية. وفي الولايات المتحدة، حيث توجد مثل هذه التشريعات، لا تتجاوز المدة الإضافية في العادة السنتين. وبعبارة أخرى، ستحصل معظم الأدوية على فترة تفرّد أقل بكثير من العشرين سنة المذكورة.
وفي حين تفتح اتفاقية التريبس المجال للحكومات لحماية الصحة العامة، فهي تهدف أيضا إلى تشجيع الدول على احترام الملكية الفكرية بالامتناع عن استنساخ الأدوية الموجودة، مثل الفياجرا وغيرها من “أدوية أساليب الحياة”. وبإجراء ذلك يتم استقطاب الاستثمار كما يساعد على نمو صناعاتهم المبتكرة الخاصة. سيُتيح هذا زيادة نقل المعرفة والتكنولوجيا، حيث ستشعر الشركات متعددة الجنسيات أن باستطاعتهم العمل في بلد بدون التعرض لاختلاس ممتلكاتهم. وبحماية الملكية الفكرية، تشجع اتفاقيات التجارة الحرة إطلاق المنتجات المبتكرة التي بواسطة الصناعات الدوائية المحلية. على سبيل المثال، منذ أن وُقعت اتفاقية التجارة الحرة بين الأردن والولايات المتحدة في عام 2000، تم إطلاق أكثر من 32 منتجا جديدا في الأردن (ممثلية التجارة الأمريكية، 2004).
وللتأكيد، فإن اتفاقيات التجارة الحرة تُمثل ثاني أفضل حلّ لتحرير التجارة. ومع ذلك، فهي تحسن للوضع القائم عبر تحرير التجارة وتحسين الرفاه الاقتصادي. هذا سيسمح للدول الإنفاق بشكل أكبر على الرعاية الصحية، فضلا عن تمكين الأفراد من تحسين ظروفهم المعيشية وبالتالي تحسين الصحة. إضافة إلى ذلك، فهي تشجيع نقل التكنولوجيا والمعرفة عن طريق تحسين بيئة العمل لشركات الأدوية المبتَكِرة.
الخاتمة

بالرغم من وضوح قيام التجارة الحرة بحثّ اثنين من أهم العوامل الصحية—النمو الاقتصادي ونقل التكنولوجيا—فهي لا تزال تواجه الكثير من الشك من قبل مجموعة متنوعة من الناس. وتشمل هذه المجموعة جماعات الضغط في قطاع الصناعة الخائفين من المنافسة الدولية، والناشطين الذين يسعون إلى الحد من حرية القطاع الخاص، والحكومات التي تُملي السياسات وفقا لرغبات مجموعات المصالح الخاصة. ويؤكد المعارضون أن التجارة الحرة شيء سيىء بسبب تصوُّر أنها ستخلق فائزين وخاسرين. وعلى الرغم من الأدلة الجديرة بالاعتبار والمبنية على التجربة التي تدل على عكس ذلك، فهناك أيضا شك شديد بقدرة النمو الاقتصادي على تحسين رفاهية الإنسان. وغالبا ما تبدو هذه الآراء المعارضة واضحة كآراء رسمية لبعض الهيئات مثل الأمم المتحدة ووكالاتها، والذي يبدو أنها تعتقد أن معالجة قضية اللامساواة ذات درجة أعلى من الأولوية عن تعزيز النمو الاقتصادي.
إن تقرير التنمية البشرية لعام 2005 لبرنامج الأمم المتحدة للتنمية هو أحد الوثائق التي تتبنى هذا الموقف، والذي يناقش بضرورة تقديم المزيد من المساعدات الخارجية لمعالجة اتساع التفاوت الذي يعتبره البرنامج العائق الرئيسي أمام تحقيق أهداف التنمية للألفية. تشك الوثيقة أيضا بقوة التجارة الحرة في تحسين ظروف الإنسان. وتقترح أن التجارة الحرة قد تجعل التفاوت في الصحة والتعليم والدخل في الدول منخفضة الدخل أسوأ. وتشكل هذه النظرة الأساس لمفوضية المحددات الاجتماعية للصحة التابعة لمنظمة الصحة العالمية، كما تم مناقشتها أيضا في تقرير التنمية العالمية للبنك الدولي لعام 2006.
يغفل الهاجس العالمي للتخلص من “اللامساواة” النقاط التي تتعلق بالقضايا الصحية. كثيرا ما يصاحب النمو الاقتصادي ازدياد في التفاوت الصحي، ولكن من المهم أن نعترف بأن النمو الاقتصادي قلما يتسبب في الإضرار بصحة السكان الكلية. وفي الواقع، تظهر الأدلة المستقاة من التجربة أن ما يحدث هو العكس تماما. وجد آدم واجستاف (2002) في تحليله للبيانات المأخوذة من 42 دولة أن التفاوت الصحي يزداد فعلا مع ارتفاع دخل الفرد في كل من الدول الغنية والفقيرة. ويعود هذا جزئيا إلى تحسين توفر التكنولوجيا الصحية الجديدة التي تُرافق النمو الاقتصادي، الذي يمكن تبنيه بسرعة أكبر من قبل الأغنياء وليس الفقراء. ولكن من المهم أن نلاحظ أن أكثر الناس فقرا لا يصبحون أقل صحة بازدياد صحة عناصر المجتمع الأكثر ثراء، بل يصبحون أوفر صحة كذلك، ولكن بمعدل ابطأ قليلا من أولئك الأكثر ثراء نسبيا. ولكن إذا رغبت الدول منخفضة الدخل في التغلب على هذه التفاوتات من خلال إدارة التجارة بواسطة سياسات بدائل الاستيراد وما شابه ذلك، فمن المحتمل أن يتأخر النمو الاقتصادي وأن يدام الفقر، مما يجعل الناس غير قادرين على الحصول على الوقود النظيف والمرافق الصحية الملائمة والظروف المعيشية الصحية.
بالنسبة لأولئك المعنيين بالتفاوت من موقف معياري، يجدر التذكير أيضا أن الارتفاع المذهل للازدهار الفردي الذي حصل في السنوات الأخيرة في الهند والصين قد ساهم كثيرا في خفض التفاوتات العالمية في التعليم والصحة. وبالرغم من وجود تباين في الدخول العالمية (نتيجة لفشل إفريقيا في تشجيع النمو الاقتصادي)، تقاربت مؤشرات التنمية البشرية بسرعة في انحاء العالم خلال نصف القرن الأخير. وقد لاحظ الاقتصادي تشارلز كيني مؤخرا أنه بالرغم من اتساع الفجوات في الدخل بين أغنى الدول وأفقرها، فإن معظم الدول تتقارب بسرعة في مؤشرات التنمية مثل الصحة والتعليم (كيني، 2005). ويعود هذا جزئيا إلى أن عمليات التجارة الحرة والعولمة الاقتصادية أدت إلى انتقال أسرع للتكنولوجيا والمعرفة من الدول الغنية إلى الدول الفقيرة مما كان ممكنا في القرون السابقة. وأظهرت دراسة نفذها الاقتصادي ديفيد دولار من البنك الدولي أن تسارع العولمة الاقتصادية وتدفقات التجارة في المراحل الأخيرة من القرن العشرين قد أتاح المجال لمعدل النمو الاقتصادي في الدول منخفضة الدخل أن يتجاوز معدل النمو للدول الغنية للمرة الأولى في التاريخ (أنظر الشكل 4). إضافة إلى ذلك، إن عدد الفقراء في العالم يتناقص بحوالي 375 مليون شخص منذ عام 1981 في حين ازداد عدد سكان العالم بحوالي 1.6 مليار في نفس الفترة.
في المقابل، لم يعترف معارضو التجارة الحرة بتأثيرها المفيد على الإنسانية. إنهم ينظرون إليها كلعبة “مجموع الصفر” حيث تستغل الدول ذات الدخل المرتفع والشركات متعددة الجنسيات الفقراء والمهمشين. ويدفع نشطاء مكافحة الفقر باستمرار الرسالة التي تدور حول أن تحرير التجارة سيىء بالنسبة للفقراء، لأنهم غير قادرين على منافسة التفوق المالي والتكنولوجي للمنتجين من الأسواق الأكثر ثراء.
يُلبس معارضو التجارة الحرة بمحض إرادتهم أحيانا “التجارة الحرة” بما هو في الواقع تجارة موجهة. لقد قدمت إحدى الحملات الأخيرة المناهضة للتجارة الحرة والتي تقودها منظمة العون المسيحية بمكر فكرة أن المزارعين الأفارقة يعانون بسبب التجارة الحرة مع الدول الغنية، بينما أن المعرفة السطحية بالحقائق كفيلة بأن تكشف أنهم يعانون من الدعم المالي السخي والحواجز الجمركية الواقية الممثلة من خلال السياسة الزراعية المشتركة. ومن الواضح أن هذا لا يمثل التجارة الحرة، وهو سيىء للمزارعين في الدول الفقيرة والمستهلكين في الدول الغنية. ولكن عندما يقاس تأثير التجارة الحرة الحقيقية على صحة السكان من قبل الاقتصاديين، تُشير الدلائل إلى أنها قوة للخير تُساعد على تحسين متوسط العمر المتوقع ووفيات الأطفال (وي ووا، 2004).

ستتحسن الصحة من خلال أداء اقتصادي أفضل للدول التي تقبل التجارة الحرة وترفض سياسات بدائل الاستيراد، كذلك ستجعل بإمكان المستهلكين الحصول على سلع تساهم في صحة الإنسان ذات جودة أعلى وتكلفة أقل. وعلى سبيل المثال، تزداد معدلات الوفيات وانتشار الأمراض في الدول منخفضة الدخل زيادة كبيرة نتيجة لتلوث الهواء الداخلي الذي ينشأ من احتراق الوقود الحيوي البدائي مثل روث البقر. ستجعل التجارة الحرة الوقود المستورد الأنظف مثل الكيروسين والغاز أرخص ثمنا وأكثر وفرة، كما وستضغظ بطريقة غير مباشرة على الحكومات من أجل إصلاح قطاع الطاقة. وبالمثل، فإن جزءا كبيرا من عبء المرض في أكثر الدول فقرا هو نتيجة مباشرة للمياه الملوثة، ولذلك ستكون التجارة الحرة في تنقية المياه والتكنولوجيات الأخرى ذات الصلة مفيدة جدا. وأخيرا، ستُتيح التجارة الحرة في المواد الغذائية توازنا أفضل بين العرض والطلب عما هو الحال حاليا في أجزاء كثيرة من العالم، وستساعد على مكافحة سوء التغذية—أحد أهم محددات الصحة. هذه الحالة صحيحة لعديد من الدول الإفريقية، التي تُقيم، وعلى نحو غير ضروري، حواجز جمركية صارمة بينها من أجل حماية قطاع الزراعة المحلية. وتكون النتيجة غذاء أغلى ونقصا في الأغذية وفي بعض الأحيان المجاعة.
ملاحظات:

[1] المنحنيات المصقولة في هذا الشكل مبنيّة على تحليل تراجعي خطي لوغارثمي. عدد القراءات = 268 لعام 1977 و2003 على نحو تراكمي؛ R2 المعدلة = 0.56. الزيادة في متوسط العمر المتوقع المترتبة على زيادة الدخل ومرور الوقت ذات أهمية على مستوى 99.9%.
© معهد كيتو، منبر الحرية، 13 كانون الأول 2006.

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

تواصل معنا

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018