محمد سيف حيدر

نوح الهرموزي11 أكتوبر، 20110

بدا اختيار كرمان للفوز بجائزة نوبل للسلام، التي تعتبر الأرقى بين جوائز نوبل، أمراً مفاجئاً، وقد برزت الناشطة الحقوقية والصحفية اليمنية توكل كرمان في ساحات الاحتجاجات اليمنية التي تدخل شهرها التاسع، وعرفت بمناهضة انتهاكات حقوق الإنسان والفساد المالي والإداري في اليمن ومطالبتها بالإصلاحات السياسية، وكانت من أوائل الذين طالبوا بإسقاط نظام حكم الرئيس علي عبد الله صالح.....

peshwazarabic21 نوفمبر، 20100

على وقع الأزمة المالية العالمية، وفي ظل أزمات لا تكاد تنتهي تعيشها اليمن هذه الأيام، جاءت سلسلة الاعتداءات الإرهابية الأخيرة التي تعرض لها رعايا أجانب من كوريا الجنوبية، بين سياح وفريق تحقيق أمني، لتزيد الوضع الأمني والاقتصادي في البلاد تأزماً وتعقيداً. وبيّنت – بما لا يدع مجالاً للشك – أن تنظيم القاعدة، الذي نفّذ هذه العمليات، أخذ يمارس عنفه الأعمى بقسوة ودون هوادة، وعلى نحو استعراضي يُقصَد منه إظهار عجز الدولة اليمنية، التي يراها “غير شرعية” و”عميلة” لأميركا والغرب كما للنظام السعودي المجاور، وإنهاكها – وهي المُنهَكة أصلاً – اقتصادياً، ناهيك عن مضيّه في جهوده الرامية لضرب شرعية النظام وهزّ صورته في الخارج وبما يفقده – أي النظام- ثقة أهم حلفائه؛ ولهذا تجاوز إرهاب التنظيم الأهداف السياحية التقليدية والمعتادة، الغربية أساساً، وبدأ نطاقه يتسع ليشمل سياحاً وأفراداً من دول أخرى تربطها علاقات حسنة باليمن، ومن هؤلاء السياح الكوريين الجنوبيين الذين يُنظر إليهم بشكل واسع على أنهم أكثر السُّياح الأجانب وداعةً ومسالمة.
إن التنظيم يدرك بطبيعة الحال عمق الأزمة التي تعاني منها الحكومة اليمنية في الوقت الراهن، إذ تأثّر أداؤها الاقتصادي والمالي بشدة، كما أعترف مسئولوها أخيراً بعد طول ترددٍ ومراوغة، نتيجة التداعيات الارتدادية السلبية للأزمة المالية العالمية. وفي ظل الظروف الاقتصادية الراهنة، من المُرجّح أن يلجأ التنظيم من الآن وصاعداً إلى التركيز، وبشكل أكثر حِدّة، على الأهداف الاقتصادية الأكثر حيوية بالنسبة للحكومة اليمنية، وفي مقدمتها قطاعيّ السياحة والنفط.
لكن إستراتيجية التنظيم هذه، وعلى عكس المتوقع، قد تُفضي – في نهاية المطاف – إلى نتائج عكسية بالنسبة لجميع الأطراف، وبما يحوّل الخاسرين إلى رابحين والعكس. فمع اشتداد العنف الإرهابي الذي يستهدف موارداً وقطاعات اقتصادية حساسة في اليمن، بالتوازي مع استفحال الأزمة الاقتصادية والمالية التي تعاني منها البلاد، ستكون الحكومة اليمنية في وضع تفاوضي أفضل فيما يتعلق بقدرتها على تلقي المزيد من المساعدات الخارجية، الأمر الذي سيُعطي تحذيرات كبار مسئوليها – وفي مقدمتهم عبدالكريم الأرحبي نائب رئيس الوزراء للشؤون الاقتصادية ووزير التخطيط والتعاون الدولي – والتي تُلوِّح صراحةً بإمكانية غرق البلاد في الفوضى و”تحولها إلى صومال جديد”، أذاناً صاغية واهتماماً أكبر وبما يدفع إلى استجابة (وتحرك) أسرع من المجتمع الدولي، الذي ما فتئ يُبدي خشيته من دخول الدولة اليمنية طور “الفشل”، وتحولها تالياً إلى “حاضنة مثالية” للمتطرفين والإرهابيين، الذين سيهدد عنفهم المتشظّي واحدة من أكثر مناطق العالم حيوية من النواحي الاقتصادية والأمنية والإستراتيجية، والمقصود بالطبع منطقة الخليج حيث منابع النفط واحتياطياته الأهم والأكبر عالمياً.
وإذا تحقق ذلك، ستزداد القدرات الأمنية اليمنية مع تحسن الوضع الاقتصادي نسبياً وتجاوز الأزمة الراهنة نتيجة تدفق الأموال وارتفاع وتيرة الدعم الخارجي للاقتصاد اليمني، وبالتالي ستتخذ المواجهة مع القاعدة وجماعات العنف المسلح منحنى مختلف، في ظل جهوزية أمنية أكبر وأكثر فعالية تحظى بدعم إقليمي ودولي مهم وحاسِم.
وفي المقابل، قد تنقلب خطط تنظيم القاعدة عليه ومن حيث لا يدرك قادته أو يتوقعون. فالعاصفة المالية الحالية أخذت رياحها العاتية تطال التنظيم، الذي لطالما تفاخر بدوره المزعوم في إحداثها بفعل هجماته على أميركا و”جرّها” إلى حروب استنزاف صعبة ومُكلفة في أفغانستان والعراق، وبدأت تهدد وضع التنظيم المالي، في مركزه وتفريعاته الإقليمية، تهديداً حقيقياً، لاسيما وأن قادته، سواء أولئك المختبئين في الحدود الأفغانية – الباكستانية أو هؤلاء المحتمين بمناطق قبائل اليمن الأكثر نفوراً من قبضة الدولة المركزية –  ليس لديهم في الوقت الحاضر موارد مالية كبيرة، خلافاً للموارد التي تتمتع بها حركة أصولية كطالبان والمرتبطة بشدة بتجارة المخدرات المربحة (يتناقض الوضع المالي الحالي لقادة تنظيم القاعدة تناقضاً حاداً مع الوضع الذي كانوا عليه قبل هجمات 11 أيلول/سبتمبر 2001، عندما كانت الميزانية السنوية لتنظيم القاعدة تتراوح بين 20 و30 مليون دولار، والتي ذهبت عدة ملايين منها إلى طالبان).
وعلى الأرجح فإن الأزمة المالية، التي يحاول تنظيم القاعدة مفاقمة تداعياتها بالنسبة لدول نامية كاليمن، أخذت تؤثر في حجم مبالغ التبرعات التي يتلقاها التنظيم، في الوقت الذي تقل فيه موارد المانحين، وتزداد الطلبات من ملتمسين آخرين. والمؤكد أن المشاكل المالية ستُلحِق أضراراً فادحة بقدرة القاعدة على إدارة تنظيمها بشكل فعّال. إذ يتحتم على قيادة التنظيم أن تدفع ثمن الطعام والسكن والإقامة لأُسر الرفاق الذين فقدوا أرواحهم، وكذلك مصاريف الأمن والحماية وشراء الأسلحة والمعدات والتجهيزات اللوجيستية، فضلاً عن الأموال الضرورية لتجنيد وتدريب العاملين والانتحاريين وتهيئتهم للقيام بالعمليات الإرهابية والانتحارية.
وفي المحصلة، ثمة احتمالات كثيرة لما يمكن أن يؤول الوضع الأمني في اليمن والذي يهيمن عليه مشهد الإرهاب والحرب عليه، خاصةً وأن الدولة لم تقو بعد على هزيمة القاعدة وجماعات العنف المسلح، ناهيك عن كونها ما زالت تضرب، واعية لذلك أم لا، عرض الحائط بتعريفها الحداثي لذاتها ولدورها والذي يجعلها القوة الوحيدة التي تحتكر الاستخدام المشروع للعنف، سامحةً لقوى مجتمعية تقليدية، بل وشبه بدائية، بمزاحمتها واقتسام هذا التعريف معها. لكن المهم اليوم هو أن يدرك المجتمع اليمني، بمختلف مكوناته، طبيعة التهديد الكبير الذي تشكله جماعة “القاعدة” على حاضره ومستقبله، وأن مشروع هذا التنظيم، الذي يتأسس على العنف والمزيد من العنف دون أفق سياسي واضح، بات يتقاطع وبصورة جوهرية مع سعي هذا المجتمع لتجاوز تخلفه وعثراته، والنهوض من غيبوبته الحضارية التي طال أمدها وأصبحت تشلّ إرادته الجمعوية بشكل تام.
© منبر الحرية، 20 مارس 2009

peshwazarabic21 نوفمبر، 20100

وأخيراً .. انتهى عهد بوش الصغير وإدارته الكارثية بكل المقاييس، أميركياً وعالمياً، وبدأت تباشير عهدٍ (بل وربما عصرٍ) جديدٍ آخر آتٍ، لا تحملها نسائِم القادم الأسمر إلى البيت الأبيض تحت يافطة “التغيير” بالذات، بقدر ما تحملها رياح نظام عالمي جديد، ما انفك يُنبئ بتحوّل عاصف في النفوذ وأنماط السلوك على المستوى الكوني.
فالعالم اليوم يمر بتغيير لموازين القوى يبدو واضحاً للعيان في انكفاء القوة الأميركية على نفسها تحت وطأة الأزمة المالية الحادة التي تعصف باقتصادها القومي، وتعثّر مشاريعها في كُلٍّ من أفغانستان والعراق. والأرجح أننا سنشهد خلال السنوات القليلة القادمة المزيد من التخثّر والتآكل في سلطة النظام العالمي الراهن، وستظهر معالم نظام جديد آخر يعكس المتغيِّرات العميقة التي طرأت في العالم خلال نصف القرن الماضي، والتي جعلت النظام العالمي الأحادي الحالي يبدو عاقراً وعاجزاً عن حُكم العالم.
ورغم الأجواء القاتمة السائدة والتي تشهد تراجعاً واضحاً لقطب النظام العالمي الأعظم (الولايات المتحدة) اقتصادياً وسياسياً، إلا أن العالم، وعلى النقيض من حالة القائد الأميركي، أخذ في التقدم بالاتجاه الصحيح من نواحٍ كثيرة. لهذا نشهد ظاهرة صعود لافتة لدول وقوى جديدة – قديمة، بدأت تبحث لها عن مكانة ودور تحت الشمس، فلا تجده في عصر “السلام الأميركي Pax Americana”، وعلى رأس هذه الدول، الصين، التي ستصبح أكبر اقتصاد في العالم خلال عقد أو عقدين، والهند، التي تسير بتؤدة ولكن بثبات وراء جارتها الصين، واليابان، ثاني أكبر اقتصاد في العالم، والبرازيل، العملاق الأميركي اللاتيني الصاعد، وجنوب أفريقيا، هذا بالإضافة إلى الاتحاد الأوربي وروسيا بالطبع.
وإذا كانت هذه البلدان هي التي ستُشارِك أميركا قيادة النظام العالمي خلال العقود المقبلة، إلا أن البنية التعددية لهذا النظام ستتميز كذلك، وبشكل أساسي، بتوزيعٍ جديد للقوى يشمل باقي العالم. إنه نظام متعدد القطبية ولكن بصيغة مغايرة وغير مألوفة أو مسبوقة، إذ أنه يتّجه لأن يكون أكثر تشاركية من أي زمنٍ مضى، وهذا يعود ببساطة إلى طبيعة التحول القائم الذي مَسّ، وما يزال يَمُسّ، مفهوم القوة كما علاقاتها وأنماطها. فأميركا ستواصل لأسباب عديدة لعب دور القائد العالمي على المستويين العسكري والسياسي، لكن في كل المستويات والأبعاد الأخرى، الصناعي والمالي والاجتماعي والثقافي، يتبدل توزيع النفوذ مبتعداً عن السيطرة الأميركية. وفي مجال الحرب والسلم، علم الاقتصاد والمشاريع التجارية، الأفكار والفن، سيولّد هذا الأمر مشهداً مختلفاً جداً عن ذاك الذي عرفناه وألفناه حتى الآن، مشهدٌ تُحدده وتُديره أماكن كثيرة وأشخاص كُثُر.
إننا نشهد بحق التحول الكبير الثالث في النفوذ خلال التاريخ الحديث، والذي وصف المفكر والمحلل السياسي الأميركي فريد زكريا تجلياته ببراعة وتبصُّر في كتابه “عالم ما بعد أميركا” الصادر منتصف العام الفائت. فإذا كان صعود العالم الغربي في القرن الخامس عشر الميلادي هو التحول الأول، الذي انبثق عنه العالم كما نعرفه الآن: العلوم والتكنولوجيا، التجارة والرأسمالية، الثروات الصناعية والزراعية. كما أنه أدى إلى السيطرة السياسية المطولة لدول العالم الغربي، فإن صعود الولايات المتحدة في أواخر القرن التاسع عشر وتحولها إلى بلد صناعي كان هو التحول الثاني، وقد اكتسب طابعاً فريداً بعد أن أصبحت أميركا الدولة الأكثر نفوذاً في العالم، وباتت أقوى من أي مجموعة محتملة من الدول الأخرى. وخلال عصر “السلام الأميركي”، دارت عجلة الاقتصاد العالمي وتسارعت بصورة دراماتيكية. وهذا التوسع هو الذي أسس للتحول الثالث الكبير قي النفوذ في العصر الحديث، والمتمثّل في صعود بقية العالم.
وعلى مدى جيلين أو ثلاثة، فإن نظاماً كهذا سيبقى هو الوحيد الممكن والمحتمل؛ نظامٌ تحكمه الدبلوماسية متعددة الأطراف وأقطابٌ يدور حول كُلٍّ منها مجموعة من الدول، أو لنقل معسكرات متنافسة، اقتصادياً وسياسياً على الأرجح وليس عسكرياً بالضرورة.
إنه عالم أميركا وما بعدها في الوقت نفسه؛ عالمٌ يظل تحت قيادتها ولكنه يُملي عليها – بعكس الواقع الراهن – شروطه ومعاييره التي تتحدى الأحادية بالضرورة ولا تقبل التعايش معها أو تحت ظلالها، لاسيما وأن الدول/ القوى المنافسة الصاعدة الأخرى والتي بدأت تحتل مواقعها في المشهد الكوني الجديد، ماضيةٌ بثبات في تطلعاتها ومحاولاتها لكسر السيطرة الأميركية على النفوذ العالمي. وفي حلبة نظامٍ جديدٍ ما فتئ يتخلّق شيئاً فشيئاً، ستستمر اللعبة المعهودة بين القوة القائدة والقوى المتطلعة للحلول مكانها، وإن بشكل حَذِِرٍ وأكثر بطئاً، إذ أن كل واحدة من هذه القوى – وليس أميركا وحدها – تنتابها كثير من النواقص الأساسية؛ فأوربا مُجزّأة بحكم عدم اكتمال وحدتها وأزمتها الديمغرافية، وروسيا تعاني من تذبذب وضعها الاقتصادي والديمغرافي، واليابان ما زالت محكومة بعزلتها ووضعها الديمغرافي أيضاً، أما الصين والهند فستظلان تركزان على إدارة نموهما الاقتصادي وتحسين مستوى معيشة العدد الهائل لسكانهما، بما يفوق اهتمامهما بإدارة التنافس في سباق القيادة العالمية. وهذا هو السبب الذي قد يُفسِّر لنا: لماذا لن تنتهي اللعبة الكونية الآتية بـ “كُش ملك” يرمز إلى انتصار قوة واحدة، وإنما بتعادل يُجسِّد عجز كل من هذه القوى على السيطرة الفعلية والمطلقة.
والحال أن العالم الذي سيُخلَق لن يكون إمبراطورية، تسيطر عليه قوة واحدة، بل سيكون نظاماً مُركّباً، تتوازن فيه مجموعة من الدول وما فوق الدول، على مستويات متكافئة، حتى إذا لم تكن متساوية بالمعنى الدقيق للكلمة. صحيح أن أميركا ستظل محتفظة بتأثيرها في النظام العالمي، وأكثر من أي طرف دولي آخر، ولكن قوتها وهيمنتها ستكونان أقل في عالم متعدد الأقطاب مقارنةً بما كانت تتمتع به لعدة عقود. وفي ضوء التراجع النسبي في اقتصادها، لن تتمتع الولايات المتحدة بنفس المرونة في الاختيار من بين عدة خيارات سياسية، في الوقت الذي ستكون فيه القوى/ الدول الصاعدة الأخرى أكثر حرصاً على المشاركة في صُنع حاضر العالم ومستقبله وفق رؤيتها الخاصة، بعد زمن طويل من التجاهل الأميركي والاستفراد بمقود القيادة العالمية.
© منبر الحرية، 18 مارس 2009

peshwazarabic19 نوفمبر، 20100

عقب اندلاع الثورة الإسلامية في إيران نهاية سبعينيات القرن الماضي، تساءل أحد المسئولين المنفعلين في حكومة الولايات المتحدة باستنكار، قائلاً: “من منا يأخذ الدين مأخذ الجد؟”. فإلى ذلك الوقت، كان الكثيرون من أبناء الصفوة الثقافية والسياسية، في الغرب والشرق على حدٍّ سواء، يتفقون حول الحكمة السائدة التي كانت تقول بأن “الحداثة ستقضي لا محالة على الحيوية الدينية”. وقد بلغت الثقة بهيمنة العلمانية والأيديولوجيات المنبثقة عنها وقتئذٍ ذروتها، حتى أن مجلة “تايم” الأميركية نشرت في نيسان/أبريل عام 1966 موضوع غلاف، يطرح سؤالاً صارخاً: “هل مات الرّب؟”
لكن الوضع يبدو اليوم مختلفاً تماماً. فالمُقدّس يتبدّى في كل مكان حولنا، نراه يتوغل بمهارة ويتغلغل، إن لم يكن في اهتماماتنا العميقة، فعلى الأقل في عالمنا الأقرب. وجغرافية انتشار الدين والانبعاث الديني في زمننا الحاضر لا تكاد تستثني بعنفوانيتها بقعة من بقاع العالم، فحتى في أوروبا التي تعد معقل العلمانية الحديثة بدأ الدين يدُبُّ في أحشائها، وحدث التزام غير معهود بالتدين. وتشير الأرقام إلى أن النسبة بين من يرتادون الكنائس وبين أولئك الذين لا يفعلون قد بدأت تضيق في الدول البروتستانتية العريقة في تبنّي العلمانية، بالإضافة إلى فرنسا الكاثوليكية حيث أصبحت نسبة غير المتدينين 53% مقابل 47% هم المتدينون. ورغم التدني النسبي في عدد المتدينين لكنهم يتفوقون على نظرائهم من غير المتدينين من خلال تمتعهم بمزية مهمة، تتمثل في خصوبة الإنجاب التي تزيد عندهم بنسبة تتراوح بين 15% و20% مقارنةً بغير المتدينين. وعليه، فثمة من يتوقع أن يفوق عدد المتدينين المسيحيين في أوروبا في نهاية القرن الحالي عدد المتدينين في بداياته.
لقد برهن العالم الحديث بحق على أنه يتقبل المعتقد الديني بسخاء. وبعكس الاعتقاد الذي كان يسود معظم عقود القرن العشرين، تُثبِت مجتمعات القرن الحادي والعشرين في كل يوم يمرّ أنها مجتمعات اعتقادية بامتياز، والنتيجة: طفرة غير مسبوقة في الحيوية الدينية أخذت تشمل كل أرجاء الكوكب. فمن ناحية، أخذ المؤمنون – سواء أكانوا من المسلمين أو المسيحيين (كاثوليك وبروتستانت) أو الهندوس – في التزايد بشكل مضطرد. فإذا كان المنتمون إلى هذه المجموعات الدينية الأربع يشكلون بالكاد نصف سكان العالم في مطلع القرن الفائت، إلا أنهم في بداية القرن الحالي يشكلون ما نسبته 65% من سكان المعمورة، وقد تصل هذه النسبة إلى 70% تقريباً بحلول عام 2025.
ومن ناحية ثانية، بقدر ما تعكس هذه العودة العالمية إلى الدين، الأهمية التي ينطوي عليها المعتقد الديني بوصفه شبكة خلاص فردي وجماعي، فإنها – ومن خلال اتكاءها على التداخل الحاصل عن حركية الأفراد وتواصل الثقافات في ظل العولمة، التي يسرت عرض الأديان والعقائد في سوق ديني ممتاز، واقعي وافتراضي في آن –  تُبيّن بجلاء أن زخم العودة للمقدس وتمظهراتها هذه ليست مقصورة على دين من الأديان أو على رقعة جغرافية محددة من الأرض، ومن ثمّ فإن تضميناتها – سلبية كانت أم إيجابية – ستكون عالمية بالمثل. فعلى سبيل التدليل، لم يكن المسلمون متفردين في إظهار استيائهم وغضبهم من الطريقة المهينة التي صوّر بها الرسول محمد (ص) في الرسوم الكاريكاتورية التي نشرت – وتكرر نشرها – خلال السنوات القليلة الماضية في الصحف الدنماركية والأوروبية الأخرى، فبالمثل أبدى المسيحيون الهنود مؤخراً غضبهم من رسم كاريكاتوري ظهر به السيد المسيح، وهو يحمل في إحدى يديه زجاجة خمر وفى اليد الأخرى سيجارة مشتعلة، بأحد الكتب الخاصة بتعليم الحروف الأبجدية بالمدارس الابتدائية الهندية، وسرعان ما تحوّل الغضب إلى موجة عنف وأعمال شغب ومواجهات دامية بين المسيحيين والهندوس.
ومن ناحية ثالثة، تعمل ظاهرة صعود الدين والانبعاث الديني على إعادة تشكيل السياسة في دول مختلفة من العالم ودمغها بطابع أكثر محافظة، لاسيما في البلدان التي تتمتع بهامش معقول في مجال الديمقراطية والحرية السياسية. وهكذا أصبحت الحركات الدينية المسيسة تملأ المجال العام، وتفوز في سباقات سياسية رئيسية. وتجيء هذه الحركات في أشكال مختلفة للغاية وتوظف أدوات متباينة إلى حد كبير. ولكن، سواء أكانت ساحة المعركة الانتخابات الديمقراطية أو الصراع الأكثر أولية من أجل كسب الرأي العام العالمي، تصبح الجماعات الدينية أكثر قدرة على المنافسة بصورة متزايدة. وفي السباق تلو السباق، عندما تمنح الشعوب الخيار بين القدسي والعلماني، ينتصر الدين (لاحظوا: فوز حركة حماس في فلسطين، وحزب العدالة والتنمية في تركيا، والأحزاب الدينية في عراق ما بعد صدام).
ومن ناحية رابعة، ينبثق عن مظاهر العودة إلى الدين – كما لاحظ البعض بدقة – بيان مغاير للسياسة الدولية. ويبدو هذا البيان ذو الطابع الديني، أول ما يبدو، في اللغة والاستدلال، حيث يستعاض عن الإشارة الصريحة إلى المصلحة القومية وإلى مقتضيات التعايش السلمي بين الدول، بخطابٍ أخلاقي. وهكذا ينتقل العمل الدولي من الواقعية إلى المُطلق، إذ لم يعد يستند إلى مجرد الاتفاق والمناسبة، وإنما إلى الإحالة لقيمٍ لا تصمد للمناقشة أو للتسوية. وهكذا يصبح البيان الديني مكوناً لتناقض ظاهري: فهو جمعي في جوهره، ويرجع إلى تنوع وتنافس الأديان العالمية، ولكنه يدّعي، بحكم تعريفه، شرعية مطلقة ومانعة لكل ما عداها. ولاشك أن عملية “إضفاء صفة الشيطان” على العدو ليست خاصة يتفرد بها البيان وحده، غير أنها تتسم بأهمية بارزة وتؤدي بصفة خاصة إلى تنظيم جديد للمعايير. ويشير إلى ذلك بوضوح بالغ مثال احتلال السفارة الأميركية في طهران، عقب اندلاع الثورة الإسلامية، فقد أصبحت محاربة “الشيطان الأكبر”، بحكم التعريف، صورة أسمى من احترام اتفاقية فيينا بشأن الحصانات الدبلوماسية.
ومن نفس المنطلق، فإن الصراع العربي – الإسرائيلي يظهر أن البيان الديني لحقوق دولة إسرائيل ينتج مجموعة من الفرضيات تقلل أيضاً ما يبدو قابلاً  للتفاوض داخل هذا الصراع ذاته: سواء فيما يخص ما يسمى “الحقوق التاريخية” للشعب اليهودي على يهودا والسامرة، أو رفض التسوية بشأن وضع القدس أو طبيعة إنشاء دولة إسرائيل، ونشهد تحول القاموس القانوني إلى قاموس ديني، ومن ثمّ تحول نظام الاتفاق الحرّ إلى نظام المبدأ المقدس، والنسق البشري إلى النسق فوق الطبيعي. ويكشف تشابك الخطاب الإسلامي في قلب الشعب الفلسطيني، وكأنه أرجع الصدى عن الراديكالية المنبثقة عن هذا الانزلاق في النبرة. السلطة الفلسطينية (ومن خلفها منظمة التحرير)، بقدر ما هي مقبولة كمحاور من جانب المجتمع الدولي، تحافظ بصعوبة متزايدة على تمسكها بهويتها القومية والعلمانية، وعليها أن تتصدى لطغيان حركة منافسة، ذات هوية إسلامية، تعيد صياغة القضية الفلسطينية من قضية قومية إلى قضية دينية، وتحولها إلى نزاع يتم استبعاده من أي مجال تفاوضي.
هكذا إذن تبدو عودة الدين إحدى حقائق عصرنا الذي كان يظن أن العلمانية – كمنظومة إنسانية، ونهج حياتي، وخيار سياسي – قد عززت مواقعها فيه، وأضحت من ثمّ محل إجماع بين النخب السياسية والمثقفة في أرجاء شتى من العالم، والمفارقة أن هذه العودة قد أخذت زخمها من خلال عبورها من بوابة العلمانية والحداثة وعبر منافذ الحريات التي تكفلها هذه الأُطُر بالذات، وهذا الأمر يشير إلى البراجماتية الكامنة في معظم الحركات الدينية، والتي عادةً ما كانت ترفض في البداية أدوات الحداثة ومخرجاتها، لكنها سرعان ما أدركت أنها لن تنتصر، ولن يُقيض لها الفوز في نهاية المطاف، سوى باستخدام هذه الأدوات المُعصرَنة مطيّة لانبعاثها وانتشارها العالمي أفقياً ورأسياً، والعمل تالياً على الالتفاف على الحداثة والعلمانية والبدء بتقوي
© منبر الحرية ، 22 ماي /أيار2010

peshwazarabic19 نوفمبر، 20100

منذ اللحظات الأولى لتأسيسه، نَظَرَ تنظيم “القاعدة” إلى الصومال نظرة خاصة، ومنذ مطلع تسعينيات القرن الماضي احتلّت هذه الدولة، التي تحوّلت شيئاً فشيئاً إلى أشلاء دولة، احتلّت موقعاً مميزاًً في إستراتيجيته العالمية. وتكشف وثائق التنظيم ومراسلاته السرية، كما عملياته، عن هذه المكانة بوضوح. ففي العام 1993، توجّه بعض قادة “القاعدة” إلى هذا البلد في رحلة وصفتها أدبيات التنظيم بـ “رحلة الثواب” أو “عملية المسك”. وكان الهدف منها إنشاء معسكرات بديلة أو موازية لمعسكرات “القاعدة” بأفغانستان في كُلٍّ من بوصاصو ولوق وإقليم أوغادين، وتأمين كادر تدريبي فعّال ونشِط. وقد عُدّت هذه الزيارة البداية الحقيقية لتغلغل تنظيم “القاعدة” في الصومال وبقية بلدان القرن الأفريقي.
ومنذ ذلك الحين وتنظيم “القاعدة” يحاول الحفاظ على موطئ قدم دائم له في الصومال، مُستغِلاً حالة الحرب الأهلية الطويلة الأمد وهشاشة المؤسسات المركزية الحاكمة فيه، بهدف تحويل هذا البلد إلى ساحة مركزية لنشاطاته (التي تتضمن نقل العملاء والمعدات والتجهيزات العسكرية عبر الحدود الصومالية إلى دول الجوار)، وكذلك إلى ملاذٍ آمنٍ وقاعدة خلفية لتحركاته وهجماته الإرهابية التي تستهدف تلك الدول.
ورغم أن أنشطة “القاعدة” في الصومال لم تأخذ زخماً كبيراً وتصاعدياً كما كان متوقعاً، لاسيما بعد تمكُّن الأميركيين من تقويضها بشكل كبير في إطار حربهم على الإرهاب، لكن قدرة التنظيم على حماية وجوده ما تزال واضحة للعيان، خاصةً بعد دخوله في تحالفات وتفاهمات مع بعض جماعات العنف الصومالية الإسلامية المتشددة كحركة “شباب المجاهدين” (الفصيل الذي انشق مؤخراً، وتحديداً في كانون الأول/ ديسمبر من العام 2007، عن المحاكم الإسلامية). والظاهر أن التنظيم بدأ يدرك أن بقاءه هناك يتطلب مجهوداً إضافياً، وأن عليه العمل بسرعة على توسيع نطاق تحالفاته على الأرض الصومالية، وفي الوقت نفسه تأمين التمويل اللازم لاستمرار أنشطته وقدرته على التجنيد والاستقطاب وتخطيط العمليات وتنفيذها في الزمان والمكان اللذين يحددهما.
ويبدو أن التنظيم وجد في الآونة الأخيرة ما يبحث عنه، من خلال ملاحظته لتطور عمليات القرصنة قبالة السواحل الصومالية. فمن ناحية، تُغري ظاهرة القرصنة البحرية التنظيم بإعادة التفكير في أولوياته الإستراتيجية في المنطقة؛ فبدلاً من التركيز على البرّ بشكل شبه مطلق ثمة فرصة حقيقية لشنّ عمليات مؤثرة وصاخبة في البحر أو ضد أهدافٍ مُحاذيةٍ له، وهذه الأهداف كثيرة وضربها يَسيْرٌ ولا شك (مرافئ، وسفن تجارية، وناقلات نفط، وأساطيل وقطع حربية غربية تمخر عباب خليج عدن والمحيط الهندي بلا توقف). أما وسائل الهجوم والدعم اللوجيستي فمتوافرة هي الأخرى؛ وإذا صدقت معلومات جهاز الاستخبارات النرويجية، فإن “القاعدة” قد تكون تملك (أو تتحكم في) ما يتراوح بين 15 و23 سفينة تحمل أعلام اليمن أو الصومال وتونغا.
وفي هذا السياق، يمكننا فهم الدعوة التي أطلقها تنظيم “القاعدة” لأتباعه وأنصاره في اليمن قبل أشهر قليلة، وحضّهم فيها على “السيطرة” على الملاحة البحرية في جزيرة العرب في إطار ما عدّه التنظيم “ضرورة إستراتيجية” له. ففي رسالة بعنوان “الإرهاب البحري ضرورة إستراتيجية” تناقلتها في نيسان/ أبريل من العام الماضي 2008 مواقع إسلامية عديدة مقربة من التنظيم، ثمة تأكيد على “أن طلائع مُسلّحة قبالة الشواطئ اليمنية تقوم [منذ أكثر من عام] باصطياد السفن التجارية والسياحية والنفطية واحدة تلو الأخرى، و[أنه] بات من الضروري في المرحلة الحالية على المجاهدين وهم يديرون معركة عالمية لاستعادة الخلافة الإسلامية وحكم العالم بها، أن تكون الخطوة التالية هي السيطرة على البحر والمنافذ البحرية بدءاً بما حول الجزيرة العربية”، وأنه “كما نجح المجاهدون بتشكيل سرايا الاستشهاديين على الأرض، يبقى البحر الخطوة الإستراتيجية التالية نحو سيادة العالم وإعادة الخلافة الإسلامية”.
وتشدد الرسالة على أن “الشواطئ اليمنية تعد من أهم المنافذ البحرية للسيطرة على البحر العربي وخليج عدن”، وأنها “نقطة إستراتيجية لطرد العدو من أهم أركان معركته؛ فإذا لم يتمكن من حماية نفسه في تلك المنطقة الإستراتيجية فإنه لن يستطيع حماية نفسه على الأرض وقواعده البحرية تحت ضربات المجاهدين”. وكالعادة، استعرضت الرسالة بعض ما وصفته “نجاحات المجاهدين البحرية العالمية والعربية”، مُشيرةً إلى أنهم نجحوا في “ضرب أهداف صهيو- صليبية في البحر مرتين: الأولى كانت تهيئة للغزوتين المباركتين في نيويورك وواشنطن بضرب المدمرة الأميركية (كول) في تشرين الثاني/ أكتوبر 2000، ثم ناقلة النفط الفرنسية (ليمبورج) في العام 2002”. وتمضي الرسالة في تهديدها، مؤكدة أن “ساعة الحسم” قد اقتربت، وحينها سيشهد الجميع لحظة “تركيع قيادة الحملة الصهيو-  صليبية إلى طاولة المجاهدين ليفرضوا عليهم شروطهم؛ بالخروج من ديار المسلمين مع تسليم أسلحتهم للمجاهدين، وإيقاف الدعم للاحتلال اليهودي في فلسطين، وعدم التدخل في شؤون المسلمين أو دعم حكامهم وأنظمة الجور والفجور والفساد فيها”.
ومن ناحية ثانية، وعطفاً على ما سبق، قد يرى التنظيم الذي يُراقب باهتمامٍ متزايد نشاط القراصنة الصوماليين المثير في مياه خليج عدن والمحيط الهندي، أن له مصلحة مؤكّدة في دعم هؤلاء وتوثيق صلاته معهم على نحوٍ يتيح له توفير عوائد مالية ضخمة تساهم في تمويل أنشطته المختلفة، وتعزيز وجوده في المنطقة. وعلى الرغم من عدم توفر دليل حاسم حتى اللحظة يؤكد تورّط “القاعدة” في أنشطة القراصنة المتزايدة، إلا أن ملاحظة سيكولوجية جماعات العنف المسلح بشكل عام تُبيّن، وباستمرار، أن لديها ميولاً كامنة تُحفّزها على استغلال (وانتهاز) أي فرصة متاحة من أجل رفد كيانها بفائض قوة ما انفكت تحتاج إليه في إطار محاولتها الحفاظ على نفسها وحماية وجودها في مواجهة جميع الأخطار المُحدِقة بها؛ والشاهد الأكثر وضوحاً على ميلٍ كهذا لجوء تنظيم “القاعدة” ذاته إلى الاتجار بالمخدرات في إطار حرصه الدءوب على البقاء، ومقاومة شتى الضغوط والسياسات التي تهدف إلى تجفيف ينابيع تمويله ومحاصرته تمهيداً للقضاء عليه.
© منبر الحرية، 14 أبريل 2009

peshwazarabic17 نوفمبر، 20100

حينما سُئِل طريد العدالة الأميركي ويلي سوتون عما يدعوه لسرقة البنوك، ردّ بالقول: “لأن الأموال موجودة فيها”. وبالبساطة ذاتها يمكن تسويغ السبب الذي دفع – ولا يزال يدفع – منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) إلى لعب دور هو الأول من نوعه في سواحل القرن الأفريقي، بأن “الجهات التي تُهدد الأمن الأوربي والعالمي موجودة فيها”.
من ناحية المبدأ، قد نقبل بهذا المنطق الذي يُحمّل قراصنة الصومال مسئولية تدخل الحلف في عمليات هدفها حماية الأمن البحري في مياه خليج عدن والمحيط الهندي، بالنظر إلى تعاظم خطر القرصنة البحرية على خطوط الملاحة العالمية في هذه المنطقة بالتوازي مع عدم قدرة دولها على الحدّ من هذه الظاهرة الإجرامية، لاسيما وأن لأوربا، التي تنضوي غالبية دولها في منظومة الحلف الأمنية، لها مصلحة حيوية في حماية الممرات البحرية التي يمر عبرها جزء كبير من تجارتها مع آسيا وشرق أفريقيا.
لكن، في المقابل، لا يمكننا تجاهل حقيقة أن ثمة فرصة ثمينة لحلف الناتو أخذت تتبلور بفعل تفاقم ظاهرة القرصنة البحرية في سواحل القرن الأفريقي، وأن المشهد – بشكل أو بآخر- أصبح مواتياً لكي يمد الحلف نشاطه، ولو مؤقتاً، إلى منطقة جغرافية جديدة، وعلى نحو يُعزز مساعيه الحثيثة منذ نهاية الحرب الباردة لتحويل نفسه إلى منظمة أمنية كونية من حيث نوع مهماته وطبيعة مشاركاته، بل وحتى الصيغة المستقبلية للعضوية فيه.
وكما كان نابليون يقول دائماً فإنه “كما في الحرب كذلك في السياسة: كل فرصة تضيع ولا تعود”، فإن الحلف لم يلبث أن أبدى إدراكه لذلك، ووعيه به، بالفعل. وفي هذا الإطار، يمكننا فهم خلفية التحركات الأوروأطلسية الأخيرة والمتواصلة قبالة السواحل الصومالية. ففي تطور غير مسبوق، قرر حلف الناتو في منتصف تشرين الأول/ أكتوبر الماضي إرسال سبعٍ من بوارجه الحربية إلى خليج عدن والمحيط الهندي. ولم تأتِ القوة الأطلسية هذه المرة تحت ذريعة وقف نزاع مسلّح، أو المحافظة على الاستقرار الإقليمي، بل تحت شعار ضمان “الأمن الملاحي” وحماية سفن برنامج الغذاء العالمي التابع للأمم المتحدة، وهو بالتأكيد شعارٌ زاهٍ يُناسب ظروف المرحلة وتعقيداتها، ومن ثمّ فإن نجاحه، كشعار مجرد، سواء أكان طابعه استهلاكياً ودعائياً أم لا، مضمونٌ ولاشك.
والحقيقة أن تحرك الناتو هذا يبدو منسجماً مع توجهه خلال السنوات الأخيرة نحو توسيع دوره في منطقة “الشرق الأوسط الكبير” كما هو ظاهر في عملياته ونشاطاته المختلفة في كل من أفغانستان والعراق، وكذلك مع دوره الأمني المستجد في القارة الأفريقية والذي احتل فيه موضوع الأمن البحري موقعاً رئيسياً ولافتاً. ففي صيف العام 2007، قامت مجموعة بحرية متعددة الجنسيات وتابعة لحلف الناتو بالإبحار حول أفريقيا للمرة الأولى، في خطوة أراد منها الحلف إظهار “قلقه ومخاوفه” بشأن أمن الممرّات البحرية البعيدة والمكشوفة، و”إثبات قدرته على فرض قوّة بحرية في مناطق تتجاوز مياه الحلف الأوربية التقليدية”. وقامت هذه المجموعة، خلال تلك المهمة، التي امتدت شهرين، وقطعت خلالها 12500 ميلاً بحرياً، بأعمال دوريّة على شواطئ القارة، وتنفيذ مناورة مشتركة مع سلاح بحرية جنوب أفريقيا، بالإضافة إلى إنقاذ جنود يمنيين نجوا من انفجار بركاني مفاجئ في إحدى الجزر مقابل السواحل اليمنية.
وإذا كانت مهمة الناتو الأفريقية السابقة قد نجحت في تحقيق أهدافها المحددة لها من قبل قيادة الحلف، إلا أن مهمة الناتو الأخيرة (والمستمرة) قبالة سواحل الصومال وخليج عدن لم تكن سهلة كسابقتها، وفي المحصلة فإنها لم تُكلّل، في مرات عديدة، سوى بخيبة وإخفاق كبيرين في مواجهة القراصنة الصوماليين، الأمر الذي دفع الاتحاد الأوربي إلى إسناد قوة الحلف بقوة أخرى تابعة للاتحاد في إطار عملية أمنية أُطلِق عليها اسم “أتلانتا”، ولم يلبث الحلف أن أَطلَق، هو الآخر، عملية ثانية في أواخر أسابيع الربع الأول من العام الحالي لمكافحة القرصنة في خليج عدن.
والمؤكد أن الحلف كان يدرك، ومنذ البداية، التعقيدات التي تكتنف مهمته البحرية في القرن الأفريقي وأنها قد لا تتحقق بالشكل المطلوب؛ فبنية القوة التي أرسلها إلى المنطقة – كما لاحظ العديد من المراقبين – ليست منسجمة أصلاً مع الغرض الذي أتت من أجله، لا من حيث الكم ولا من حيث النوع. فقد تشكّلت من قطع حربية ثقيلة تتراوح حمولتها بين أربعة وسبعة أطنان، وهي بالتالي غير مهيأة لمطاردة الزوارق السريعة، التي يستقلها القراصنة. كما أن قدراتها الهجومية والاستطلاعية المتقدمة لا بد أن تُثير هواجس عديد من الأطراف في المنطقة.
على أن المهم في الأمر في النهاية، وبغض النظر عن فشل حلف الناتو أو نجاحه في التصدي للقراصنة الصوماليين وحماية الأمن البحري في المنطقة، أن الناتو قد تمكّن، ومن دون صعوبات أو اعتراضات تُذكر، من مدّ حدود دوره الأمني إلى واحدة من أكثر مناطق العالم أهمية من الناحية الجيوستراتيجية بالنسبة له، وبخطوته هذه يبدو أن الحلف استجاب لدعوة أميركية عمرها 28 عاماً للمساهمة في “ترتيبات الأمن” في هذه المنطقة. والأهم من هذا كله، فقد استطاع الحلف، الذي ما زالت خططه الرامية للتوسع شرقاً تصطدم بمقاومة روسية شرسة، أن يُشرعِن وجوده في نطاق جيوبوليتيكي جديد آخر بعيد عن النطاق المركزي لمهامه الأمنية الأصلية، وأثبت لنفسه وللآخرين أن دوره الأمني العالمي بات موضع ترحيب (أو لنقُل بالأحرى موضع قبول) من المجتمع الدولي الذي ما فتئ يؤطّر هذا الدور ويقننه بقرارات صريحة من مجلس الأمن (في حالة مكافحة القرصنة البحرية في الصومال، أهم هذه القرارات: 1816 و1838 و1851).
وهذا كله يصُبّ – في نهاية المطاف – في مصلحة الحلف ودوله؛ فبدلاً من أن ينتهي به الحال إلى فقدان أهميته كلياً تقريباً بعد انقضاء مهمته الأصلية التي أوجدتها الحرب الباردة، أظهر حلف الناتو قدرة مدهشة على التكيّف مع تحولات مهمة في البيئة الأمنية العالمية. وبطبيعة الحال، فإن ظاهرة القرصنة البحرية في خليج عدن والمحيط الهندي لن تكون آخرها برغم إخفاقه الواضح، حتى الآن على الأقل، في كبح جماح حفنة من قراصنة ولصوص البحار في واحد من أهم خطوط الملاحة العالمية.
© منبر الحرية، 10 نوفمبر/تشرين الثاني2009

peshwazarabic16 نوفمبر، 20100

لم يكن يخطر في بال الباحث الأميركي مايكل كلير، وهو يُسطِّر صفحات كتابه المهم والمثير للقلق، والذي عنونه بـ “الحروب على الموارد: الجغرافيا الجديدة للنزاعات العالمية” (صدر في عام 2001 عن دار نشر ميتروبوليتان بوكس)، أن إحدى أكثر المناطق برودة وهدوءاً في العالم، وأبعدها عن أيدي الإنسان العابثة (ونعني القطب المتجمد الشمالي)، سيكون إحدى الساحات التي تتشكل منها هذه “الجغرافيا الجديدة للنزاعات العالمية” التي بشّر بها كلير واستقصاها في كتابه من شمال كوكبنا إلى جنوبه، ومن شرقه إلى غربه، مُحذّراً من تبعات ظهورها في سياق مشهدٍ عالمي يصبح فيه التنافس على الموارد الحيوية “السمة الأبرز للبيئة الأمنية العالمية”، والمبدأ الناظم الذي تُعبأ له الطاقات، وتستخدم من أجله، القدرة العسكرية بين القوى المتنافسة.
لكن المشهد الجيوبوليتيكي الذي بدأ يتكشّف الآن، سيدفع كلير بالتأكيد (إن لم يكن قد دفعه بالفعل)، وباحثين آخرين يشاطرونه الاهتمامات نفسها، إلى إعادة رسم خريطة النزاعات العالمية من جديد؛ فالقطب الشمالي القارس البرودة لم يعد استثناءاً، وانضم هو الآخر إلى باقي بؤر التوتر الساخنة الكثيرة التي يزخر بها عالمنا اليوم. والسبب، كالمعتاد، هو السباق المحموم والشرس على الموارد الطبيعية.
وإذا صدقت التقديرات الأولية، فإن الثروة الكامنة في قلب الجليد القطبي يسيل لها اللُّعاب حقاً، وحتماً فإنها تستثير الكثير من الأطماع والمشاحنات كذلك. ورغم أن معظم هذه التقديرات لا تزال غير رسمية، لكن تقريراً صدر عن دائرة المسح الجيولوجي الأميركي، رجّح أن القطب الشمالي يحتوي على أكثر من 90 بليون برميل من النفط الخام (13% من احتياطيات النفط العالمي التي لم تستكشف بعد)، وحوالي 47.3 تريليون سنتيمتر مكعب من الغاز الطبيعي (30% من احتياطيات الغاز العالمي التي لم تستكشف بعد) ونحو 20% من الغاز الطبيعي السائل. أما وزارة الموارد الطبيعية الروسية فتقول إن بإمكان روسيا استخراج ما يزيد عن 586 بليون برميل من النفط من أعماق مياه القطب الشمالي في مناطق تعتبرها روسيا ضمن أراضيها مثل: بارينتز، وبيشورا، وكارا، وشرق سيبيريا، وبحر تشوكشي، وبحر لابتيف، إذ يمكن أن تصل كمية النفط في هذه المناطق إلى 418 مليون طن (3 بليون برميل)، بينما تصل احتياطيات الغاز حوالي 7.7 تريليون سنتيمتر مكعب. وتقول الوزارة أيضاً: إن الاحتياطيات غير المستكشفة حتى الآن تقدر بنحو 9.24 بليون طن (67.7 بليون برميل) من النفط، و88.3 تريليون سنتيمتر مكعب من الغاز. وإضافة لذلك، يحتوي القطب الشمالي على ترسيبات هائلة من المعادن النفيسة والأحجار الكريمة مثل الذهب والفضة والنحاس والحديد والماغنسيوم والهيدروكربون والبلوتينيوم والزنك والماس، ثم الثروة السمكية الهائلة غير المستغلة بعد. وكل هذه الثروات لها سوق عالمي كبير اليوم وتشعل التنافس التجاري الدولي خاصة مع صعود الهند والصين وبعض الدول النامية الأخرى على المستوى العالمي.
ويأتي هذا الاهتمام الجديد بالمنطقة القطبية الشمالية، من عدة زوايا. فمن ناحية قانونية، أمهلت اتفاقية الأمم المتحدة للبحار الدول المحاذية للقطب (وهي روسيا وكندا والولايات المتحدة والنرويج والدنمارك وأيسلندا والسويد وفنلندا)، عشر سنوات من لحظة التوقيع على الاتفاقية ومصادقته، لإثبات سيادتها على منطقة القطب. كما أن ما شهدته المنطقة القطبية في صيف العام 2007 للمرة الأولى في تاريخها مثّل حدثاً فارقاً ومفصلياً؛ إذ بدأت مساحات كبيرة من الجليد الكائن بها في الاضمحلال والتلاشي، وبالمثل فإن المنطقة قد تعرضت في العام المنصرم (2008) لثاني أكبر عملية انكماش لرقعتها الجليدية، وهو ما رصدته الأقمار الصناعية التي تعمل لهذا الغرض منذ 30 عاماً. ويقول العلماء إن هذا سيساعد على فتح الممرات البحرية إلى القطب الشمالي من جهة مناطق على الحدود الكندية – الأميركية ومن جهة مناطق أخرى قريبة من الحدود الروسية، الأمر الذي سيصبح معه الإبحار خلال تلك الممرات ممكناً في المستقبل المنظور، وهذا سيسمح بتأمين معبر بين المحيطين الهادئ والأطلسي، قد يشكل طريقاً تجارية دولية جديدة بعد قرون من البحث المضني الذي أودى بحياة مئات المستكشفين عن طريق يصل آسيا بأوروبا. والفضل -إذا جاز التعبير- في ذلك، يعود إلى ظاهرة التغيّر المناخي، الذي يُغيّر شكل القطب الشمالي، حيث باتت المساحات الجليدية التي تطفو على معظم المحيط القطبي أصغر بنسبة 25 في المائة على الأقل مما كانت عليه قبل ثلاثة عقود. وأخيراً ابحث عن النفط؛ ففي ظل الزيادة الحالية للأسعار والطلب العالمي المتزايد على الطاقة، فإن كل دولة من الدول المتاخمة للقطب تحاول الاستحواذ على مناطق سيادة سياسية واقتصادية فيه، لتزيد من مخزوناتها من النفط والغاز ومصادر الطاقة الأخرى.
وكانت روسيا هي أول من بدأ سباق السيطرة على القطب الشمالي. ففي العام 2001 سلّمت موسكو إلى الأمم المتحدة وثائق تزعم فيها أن حافة “لومونوسوف” التي توجد تحت مياه المحيط الشمالي المتجمد، هي في الحقيقة جزء من الرصيف القاري لسيبيريا، لذا يتعين ضمّها إلى الأراضي الروسية، ومع أن الطلب رُفِض من قِبل الأمم المتحدة، إلا أن الروس أصرّوا على مطلبهم. وقد دفعت التحركات الروسية هذه كندا، التي تتوفر على ثاني أطول شريط ساحلي يطل على القطب الشمالي، إلى الدخول بقوة إلى مضمار السباق القطبي ومحاولة قطع الطريق أمام أي “إدعاءات” قد تنال من ما تعتبره حقوقاً لها في المنطقة القطبية. وفي اتجاه موازٍ، أشرع علماء دنماركيون مراكبهم في حملة لاستكشاف قاع المحيط شمالي جزيرة جرينلاند ومحاولة إثبات أن القطب الشمالي كان في السابق جزءاً من هذه الجزيرة التابعة للدنمارك. وكي لا يكونوا الخاسرين، أرسل حرس الشواطئ الأميركي مهمة بحرية مماثلة إلى شمالي ألاسكا. فبالنسبة للولايات المتحدة، البلد الوحيد على الأرض الذي لم يتمكن من استخراج كميات معقولة من احتياطه النفطي، تبدو المناطق الأميركية القريبة من القطب الشمالي محل جذب خاص إذا ما قورنت بالمحمية القطبية الشمالية الواقعة في ولاية ألاسكا حيث لا توجد قيود تشريعية، فيدرالية أو محلية، للتنقيب عن البترول، كما أن الاعتماد على نفط هذه المناطق يُجنِّب الولايات المتحدة التقلب الهائل في أسعار النفط العالمي الذي تجاوز قبل الأزمة المالية 147 دولاراً، كما يجنبها عدم الاستقرار في مناطق شرق أوسطية وأفريقية وأميركية جنوبية.
والحقيقة أن فورة النشاطات هذه من جانب الدول المحاذية للقطب الشمالي، والمتصارعة عليه، قد سلطت الأضواء على اتجاهين قويين يهيمنان على قضية هذه المنطقة. أولهما، السرعة غير المتوقعة لتتابع الأحداث، ما يعكس بصورة جزئية الاعتقاد بأن القمم الجليدية تذوب بصورة أسرع مما كان يعتقد في الماضي. وأما الاتجاه الثاني، فهو العدد الكبير من القضايا السياسية والقانونية والفنية التي تظل دون حل بصورة خطيرة، إذ تهدد توقعات الإدارة المنظمة لإحدى أكثر مناطق العالم هشاشة واستدامة للحياة.
غير أن السؤال (والهاجس) الأكثر أهمية، بلا شك، يتعلق بحدة التنافس ومداه بين دول المنطقة؛ فهل يتم تصعيد التنافس إلى حافة المواجهة المسلحة للسيطرة على القطب الشمالي؟ الواقع أن التجارب التاريخية تُفيد عكس ذلك ولا تدعو للقلق. ففي منتصف القرن العشرين شهد العالم تنافساً مشابهاً على القطب المتجمد الجنوبي بعدما زعمت دول، وهي بريطانيا والأرجنتين وتشيلي وفرنسا والولايات المتحدة وأستراليا ونيوزيلندا، سيادتها على أراضيه. لكن، وفي تطور غير مألوف خلال فترة الحرب الباردة، انتهى ذلك السباق إلى تطوير نوع من التعاون جاء بمناسبة “السنة الدولية للعلوم الجيوفيزيائية” لعامي 1957- 1958 قامت خلالها 12 دولة بتوقيع معاهدة وضعت الإطار القانوني لإدارة القارة المتجمدة في القطب الجنوبي. وحرّمت المعاهدة على الدول القيام بتفجيرات نووية، والتخلص من النفايات النووية في القارة المتجمدة، أو نشر قوات عسكرية فوق أراضيها.
وبالمثل، فإن حلاً دبلوماسياً مشابهاً يمكنه أن يُنهي السباق المحتدم بين الدول لبسط السيادة على أراضي القطب الشمالي المتجمد. ورغم وجود هيئة دولية تسمى “مجلس القطب الشمالي” تضم الدول المجاورة للقطب مثل كندا والدانمرك وفنلندا وأيسلندا والنرويج والسويد وروسيا والولايات المتحدة، فإن اتفاقية شاملة حول القطب الشمالي قد يكون لها أثر أكبر في الحد من التنافس الدولي وتنظيم إدارة مشتركة للقطب الشمالي. ويمكن للاتفاقية مثلاً أن تفتح المجال أمام التنمية المستدامة للموارد التي تزخر بها مناطق القطب الشمالي، والقيام بالمسح الضروري لقاع البحر لتسوية النزاعات الحدودية، وتطوير ممرات مائية مختصرة تقود إلى مياه القطب المتجمد، ووضع معايير للإبحار، فضلاً عن حماية السكان الأصليين الذين يعيشون في المناطق المجاورة للقطب الشمالي.
وفي حال لم تقبل الدول المعنية بمثل هذه “الاتفاقية الشاملة”، فإنه بالإمكان العودة إلى القانون البحري للأمم المتحدة الذي يُعد السلطة المشتركة المفروض بها منع تطور النزاعات بين دول القطب إلى صراع قطبي عنيف. ويتيح هذا القانون المجال أمام سلسلة من الطرق القانونية، بما في ذلك التحكيم، والتقدم إلى محكمة العدل الدولية التابعة للأمم المتحدة، حيث يمكن للدول تسوية ادعاءاتها المتنافسة. ولا تزال هذه الآليات تتطور من خلال استخدامها في قضايا حول العالم في مناطق تتدرج من خليج غينيا الغني بالنفط في غرب أفريقيا إلى مناطق الأسماك الوفيرة حول بربادوس، وترينيداد وتوباغو في البحر الكاريبي.
لكن حتى لو حُلّت قضية النزاع حول القطب وموارده في النهاية، فإن هذا الأمر لا يعني أن الحظ ابتسم كلياً للدول المتنافسة وعلى نحو تختفي معه كل المعوقات أمامها لاستثمار المنطقة، إذ أن هذا سيدشن البداية الحقيقية في مشوار المتاعب القطبي. وتشير المعطيات إلى أن ثمة مشكلات تقنية كثيرة تعترض عمليات التنقيب عن النفط والغاز واستثمارهما في تلك المجاهل. ويأتي على رأس هذه المشكلات التكلفة الباهظة والصعوبة البالغة التي تكتنف عمليات التنقيب والحفر وحاجتها إلى وسائل تكنولوجية متطورة للغاية نظراً لطبيعة منطقة القطب الجغرافية والمناخية. وإذا كان التنقيب والحفر عملية صعبة ومعقدة، فإن ضخ النفط والغاز بعد استخراجه من الأعماق الباردة سيكون، والحالة هذه، أصعب بكثير. ولا بد من القول أن طبقات الجليد والثلج في القطب الشمالي لا يمكن دحرها بالتكنولوجيات المتوافرة. ولا يمكن للدول الراغبة في استغلاله اقتصادياً الاعتماد على كاسحات الجليد فحسب، بل يتعيّن عليها إزالة الجليد باستمرار كي لا تؤذي حركته منصّات الاستخراج. ومما لا شك فيه أن هذه العملية تتطلب أموالاً طائلة، لاسيما في فصل الشتاء. وأيضاً هناك مشكلة أخرى تتمثل في كيفية نقل هذا الإنتاج إلى الأسواق العالمية، خاصة أن الناقلات لا تستطيع الإبحار في المياه المتجمدة، وأيضاً، فإن الأنابيب تتجمّد من شدّة البرد.
ومهما يكن من أمر، تبقى الحقيقة الأكيدة هنا أن الصراع حول موارد القطب الشمالي سيستمر ما دامت كل الإغراءات، آنفة الذكر، موجودة فيه، ومادامت الأمور تدور حول قضايا تتجاوز تماماً الحاجات المحلية والمصالح القومية. ويشير المتشائمون، في هذا السياق، إلى النزعة القتالية لدى كل من روسيا وكندا في الأمور المتعلقة بالحدود، وكذلك إلى الرفض المستمر من جانب الولايات المتحدة للمصادقة على القانون البحري الدولي، على الرغم من أن الرئيس السابق، جورج دبليو بوش، حثّ الكونغرس على إقراره.
غير أن الحقيقة الأكثر رسوخاً تظل كامنة – للأسف- في نبوءة مايكل كلير، التي أشرنا إليها في بداية مقالنا هذا، والمتعلقة بمستقبل الصراعات العالمية في كوكبنا المضطرب. إن الحروب القادمة، كما حروب العقد الأول من القرن الحالي، ستتمحور حول الموارد ومن أجل السيطرة عليها، وإذا ما اندلعت حربٌ على موارد القطب الشمالي، في يومٍ من الأيام، فليتأكد الجميع أنها لن تكون الأخيرة!
© منبر الحرية، 8 فبراير 2009.

peshwazarabic16 نوفمبر، 20101

[3] في الكفاح ضد القرصنة البحرية،  يجب التركيز دوماً على الاستخدام الأمثل لسلاح المعلومات، وتنسيق جهود المؤسسات الأمنية المعنية بشؤون الأمن البحري وتطوير قدرتها على العمل معاً.
بما أن معظم الهجمات التي قام بها القراصنة الصوماليون تم التخطيط لها على أساس معلومات تم جمعها مسبقاً عن السفن والناقلات المستهدفة (إذ يستعملون لهذا الغرض نظام تحديد المواقع العالمي والهواتف التي تعمل بالأقمار الاصطناعية، ولديهم شبكة نشطة من الجواسيس في موانئ مجاورة مثل دبي وجيبوتي وعدن لرصد ضحاياهم)، فإنه لا مناص للدول المعنية بمحاربتهم من استخدام سلاح المعلومات نفسه لهذا الغرض. ولأن البيئة البحرية لا تزال أقل مناطق العالم انضباطاً من الناحية الأمنية في الوقت الراهن، فإن الوعي بالمجال البحري يُعد ذا أهمية كبيرة من أجل التنبوء بالوقت والمكان المحتملين لتنفيذ هجمات القرصنة والإرهابيين، وهذا يتطلب الاستعانة ببيانات المراقبة والمعلومات الاستخباراتية، وتوفير هذه المعلومات للأطراف التي تحتاج إليها.
ودول إقليم البحر الأحمر، كبقية دول العالم التي تواجه تهديد القرصنة البحرية والإرهاب البحري، ينبغي أن تولي هذا الجانب اهتماماً متزايداً؛ فتبادل المعلومات يلعب دوراً جوهرياً في تحسين الأمن والسلامة البحرية. ومن هنا تبرز الحاجة، ليس إلى إنشاء بعض المراكز الإقليمية لمكافحة القرصنة البحرية كما فعلت دولة كاليمن وحسب، بل كذلك إلى تكوين خلية (أو خلايا مشتركة بالأحرى) لإدارة الأزمات المتعلقة بالأمن البحري، بالتوازي مع إقامة مركز عمليات مشترك يجمع بين المعلومات الاستخباراتية وبيانات المراقبة، ويتولى عملية تخطيط وتنفيذ التدريبات والمناورات والتخطيط للعمليات، وهذا الأمر يستلزم بدوره تعاوناً وثيقاً وتنسيقاً نشطاً بين المؤسسات والهيئات المعنية داخل كل دولة على حده (خفر السواحل والقوات البحرية بصفة خاصة) وهو الأمر الذي قد يتطور خلال فترة وجيزة إلى أنشطة تتم على مستوى دول الإقليم والقوى العالمية الكبرى المهتمة بأمن الملاحة البحرية في هذه المنطقة.
على أن حاجة حكومات دول الإقليم المتضررة الذاتية إلى جهود قوات البحرية وخفر السواحل معاً وفي نفس الوقت، تقتضي منها القيام بدراسة السُّبل المُثلى لتنفيذ العمليات المشتركة بين الجانبين. وأول خطوة يمكن اتخاذها في هذا الإطار هي توفير المعدات الأساسية والتواصل بين الطرفين ثم تقديم الدعم اللوجيستي والتدريب المشترك. ومن بين الخيارات المتاحة عند وجود كلا الجهتين في المكان نفسه، انتداب ضباط بحرية رفيعي المستوى لقيادة قوات خفر السواحل. فعلى سبيل المثال، يتولى ضابط بحرية هندي برتبة لواء قيادة حرس السواحل الهندية بينما يتولى ضابط بحرية أسترالي برتبة فريق قيادة قوات حماية الحدود الأسترالية. ويتم الاستعانة بكبار الضباط للاستفادة من خبرتهم الواسعة وقدرتهم على إيجاد تواصل فعال بين المؤسستين الأمنيتين.
وإذا كان التعاون بين القوات البحرية وخفر السواحل بات ضرورياً في هذه المرحلة، وبما أن قوة خفر السواحل تستخدم كثيراً من مهارات قوات البحرية، فلا بد من وضع آلية خاصة لإقامة تدريب مشترك متى أمكن. ولا شك في أن التدريبات والمناورات وتبادل المواقع والمسئوليات أمرٌ مهمٌ للغاية؛ إذ تسهم جميعها في الارتقاء بالمهارات الفردية ثم المهارات الجماعية داخل السفينة وبين السفن الأخرى، وقبل هذا كله ينبغي على الجهتين إقامة نوع من الاتصال، بناء على تنسيقٍ مُسبق عالي المستوى بين المؤسسات الأمنية الكبرى كوزارة الداخلية والدفاع وأجهزة الاستخبارات القومية، مع التأكيد على فهم كل منهما للطرف الآخر واستيعاب مبادئه وإجراءات التشغيل الخاص به.

[4] ضرورة إدماج الإدارة الأمريكية وإقناعها ، بوضوح ودون مواربة، بأن مواجهة القراصنة الصوماليين ليست شأناً إقليمياً فقط بل يقع في صميم مسئوليات الولايات المتحدة الأمنية العالمية، وحربها الكونية ضد الإرهاب.
تكمن إحدى المفارقات المثيرة للانتباه في قضية القرصنة البحرية على امتداد السواحل الصومالية في الدور الأميركي غير المباشر الذي ساهم في مفاقمة هذه الظاهرة الإجرامية إلى الحد الذي شكلت معه مصدر قلق عالمي جدّي ومتعاظم. وإذا استخدمنا تعبير مجلة نيوزويك الأميركية فإن “هوس واشنطن بالإرهاب كان نعمة بالنسبة إلى قراصنة المنطقة”، إذ أن حرب الولايات المتحدة على الإرهاب في المنطقة أدت إلى عواقب غير مقصودة؛ فخلال سيطرة المحاكم الإسلامية على الأوضاع في مقديشو وأجزاء واسعة من الصومال غابت القرصنة بصورة شبه كلية في منطقة القرن الأفريقي، ولم يشهد صيف العام 2006 أي عمليات قرصنة ضد السفن، لكن إدارة بوش بدعمها التدخل العسكري الإثيوبي في الصومال نهاية العام ذاته والذي قوّض حكم الإسلاميين ونفوذهم في البلاد، دفعت الصومال – وعن غير قصد، على الأرجح – إلى الغرق في الفوضى من جديد.
وقد استغلت عصابات القرصنة هذه الفرصة أحسن استغلال، وبعد فترة من غيابها القسري عن المشهد الصومالي إثر هزيمتها على يد المحاكم الإسلامية عادت مجدداً إلى واجهة الأحداث، وبدعم من بعض زعماء الحرب الصوماليين المرتبطين بالحكومة الانتقالية، ولم تمضِ سوى أشهرٍ قليلة حتى أخذت عجلة القرصنة في الدوران من جديد ولكن بزخمٍ غير مسبوق هذه المرة. ففضلاً عن تقويض التجارة وتهديد خطوط الملاحة البحرية الدولية، أخذ القراصنة أيضاً بتهديد شحنات المساعدة الضرورية لإعالة ما يزيد على ثلث الشعب الصومالي (نحو 2.6 مليون شخص) يعيشون على شفير المجاعة.
والحال أن تغيّر المشهد الإستراتيجي والأمني في الصومال تحت وطأة التدخل الأميركي المنسجم مع إلتزام واشنطن المعلن بمحاربة ما تسميه “التطرف الإسلامي”، كان باهظ الثمن هذه المرة وبدأت فواتيره تظهر تباعاً. وفي حين شرعت العديد من دول المنطقة في الدَّفع من خلال تحملها عبء مواجهة القرصنة البحرية المزدهرة في مياه المنطقة، الأمر الذي أثقل كاهلها بعبءٍ أمني آخر يضاف إلى قائمة أعبائها الكثيرة، ناهيك عن تأثرها المباشر والسريع بالتداعيات السلبية لظاهرة القرصنة على الصعيد الاقتصادي، والتي تجلت بعض مظاهرها مؤخراً في زيادة رسوم التأمين على النقل البحري عبر خليج عدن بنسبة عشرة أضعاف، وتصاعد احتمال توقف الملاحة عبر باب المندب وقناة السويس وتحول مسارها إلى طريق رأس الرجاء الصالح مرة أخرى؛ فإن الولايات المتحدة في المقابل، وبعكس قوى دولية أخرى كفرنسا التي تمكّنت مؤخراً (تحديداً في 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2008) من استصدار القرار 1838 من مجلس الأمن الدولي، والذي يُشرِّع – في سابقة “تاريخية” هي الأولى من نوعها وبموجب الفصل السابع – استخدام القوة بهدف مكافحة القرصنة في الصومال؛ لم تُبدِ (أي الولايات المتحدة) حتى الآن تقديراً ملائماً وكافياً لجهة تعاظم تهديد القرصنة البحرية في منطقة القرن الأفريقي وجنوب البحر الأحمر، رغم أنها لاعب رئيسي في المنطقة ويعتد بدورها الأمني كثيراً.
ويبقى الرهان في سبيل تحفيز الدور الأميركي المنتظر واستنهاضه، وهو ما ينبغي أن يركز عليه صانعو السياسات في المنطقة ويعملوا على إثارته في حواراتهم المختلفة مع الأميركيين، يبقى كامناً في حضور العامل الإرهابي في الصورة، وبعبارة أخرى أكثر صراحة فإن الطريقة الوحيدة لجذب اهتمام واشنطن هي إظهار أن هناك صلة ما بين القراصنة الأعداء والإرهاب الكوني.
وتنبع أهمية هذا الرابط من حساسية العامل الإرهابي ودوره المفصلي في توجيه سياسة أميركا الخارجية وتوجهاتها الأمنية الراهنة على المستوى العالمي. ومع أن هذا الرابط لم يفلح في استثارة الإدارة الأميركية في أوقات سابقة بحيث جعلها تنظر إلى القرصنة البحرية على أنها أولوية، رغم حاجة عالم الشحن بالسفن وقتذاك أيضاً إلى الحماية، لكن الوضع تغير بدءاً من شهر أيلول/ سبتمبر 2005 عندما أصدرت إدارة الرئيس الأميركي جورج بوش وثيقة أمنية إستراتيجية بعنوان “الإستراتيجية القومية لأمن الملاحة البحرية”. وتشدد هذه الوثيقة على أن حماية البحار مهمة حساسة تواجهها الولايات المتحدة كجزءٍ من حربها على المتشددين الإسلاميين في أرجاء العالم لمنعهم من استخدامها كمسرح للهجمات، أو كوسيلة لنقل الأفراد والموارد، وخصوصاً من تنظيم “القاعدة”.
وتحتوي الوثيقة على عدد من البنود والالتزامات التي من شأنها تعزيز خطوات التعامل مع الأخطار التي تواجهها الملاحة البحرية، ويهم دول الإقليم منها البند المتعلق بـ “عرض توفير عمليات التدريب في مجال أمن الموانئ والملاحة البحرية للدول المعنية، وإعطاء أولوية لبرامج الدعم الأمني بهدف تقديم المساعدة في ما يخص أمن الموانئ ونطاق الملاحة البحرية”، وكذلك البند الذي تؤكد فيه الولايات المتحدة على “تشجيع جميع الدول على زيادة نطاق الوعي بتعزيز قدراتها في مجال الملاحة البحرية، وهي القدرات التي يمكن في المقابل التشارك بها في المناطق المهمة ذات الحساسية العالية”.
والحال أن هذه الوثيقة تتيح لهذه الدول، وبعضها كاليمن وجيبوتي وعمان والسعودية حليف رئيسي في الحرب على الإرهاب، طلب عون مباشر من الولايات المتحدة يساعدها في الحد من خطر القرصنة والسطو المسلح على السفن، وذلك من خلال تقديم المزيد من الدعم لقوات خفر السواحل التابعة لها، وتوفير عمليات التدريب لعناصرها بما من شأنه رفع مستواهم المهاري والتقني وتطوير قدرتهم على مواجهة التهديدات المحتملة. وبالمثل، مساندة – لا عرقلة – أي توجهات ترمي إلى إطلاق حوار إقليمي يهدف إلى تطوير نظام أمني بحري جماعي يشمل جميع القضايا والهواجس الأمنية المشتركة، بما فيها قضية القرصنة البحرية.
على أن استمرار حالة التراخي الأميركية تجاه قضية أمنية مستجدة بالنسبة لها، كقضية تفاقم القرصنة البحرية قبالة السواحل الصومالية، سيظل كعب أخيل الجهود الإقليمية والدولية التي ترمي لبناء إستراتيجية شاملة هدفها الحدّ نهائياً من خطر القرصنة في المنطقة واحتواء تداعياتها وأضرارها الأمنية كما الاقتصادية. وطالما استمر الشعور في واشنطن بأن هذه قضية هامشية، لا توازي في أهميتها وحجمها المعضلات الأمنية التي تواجهها الإدارة في العراق وأفغانستان أو الأزمة المالية المحتدمة التي زعزعت الاقتصاد الأميركي بشدة وألقت بظلالها على الاقتصاديات العالمية كافة، فإن العمل على تغيير هذه القناعة سيكون ضرورياً، والنقطة الجوهرية التي يجب التركيز عليها في هذا السياق، والتي قد تثير حماسة واشنطن وتوليها اهتماماً مضاعفاً، هي تذكير الأخيرة على الدوام بأن أيٍّ من أشكال التراخي في مواجهة القرصنة في القرن الأفريقي والبحر الأحمر من شأنه عرقلة الجهود الأميركية والدولية الخاصة بمكافحة الإرهاب خصوصاً مع ظهور بوادر تغيّر في اتجاهات القرصنة على المدى القريب والمتوسط؛ فإذا كان القراصنة الحاليين لا يطالبون إلا بفدية مالية، لكن المطالب قد تتغير إذا دخل أفراد من شبكة إرهابية، كالقاعدة أو مجموعات موالية لها، هذه الحلبة؛ إذ قد يحاولون إغراق سفينة كبيرة عند مدخل قناة السويس، كما أن حدوث كارثة بيئية ضخمة، نتيجة قيام القراصنة بإتلاف إحدى ناقلات النفط التي تمر عبر خليج عدن، يظل احتمالاً قائماً كذلك.
© معهد كيتو، مشروع منبر الحرية، 20 تشرين الثاني (نوفمبر) 2008.

peshwazarabic16 نوفمبر، 20100

القراصنة قادمون”! صرخة دوّت مؤخراً وأخذت تترد بقوة، مُكتسبةً طابعاً طناناً، ليس فقط في وسائل الإعلام والأقنية الإخبارية المختلفة حول العالم، وإنما تكاد، بالنظر إلى مضامينها الأمنية والإستراتيجية المهمة، تقضّ مضاجع صُنّاع السياسات ومسئولي الأمن في منطقة القرن الأفريقي وجنوب البحر الأحمر.
فعلى امتداد السواحل الصومالية في المحيط الهندي وخليج عدن، أخذت موجة متزايدة ومتسارعة من أعمال وأنشطة القرصنة في تهديد خطوط الملاحة العالمية وسلامة الأمن البحري بالمنطقة على نحوٍ غير مسبوق، وبانتهاء شهر تشرين الأول/ أكتوبر الفائت تم تسجيل أكثر من 80 هجوماً تعرضت له السفن التجارية وسفن الاصطياد وناقلات النفط الأجنبية، العابرة لخطوط الملاحة الدولية في المحيط الهندي وخليج عدن والبحر الأحمر عبر مضيق باب المندب، على أيدي القراصنة الصوماليين، الأمر الذي حدا بالمكتب البحري الدولي (IMB) إلى تصنيف هذه المياه بأنها “أخطر منطقة شحن بحرية” في العالم، مُتخطية بذلك كل من إندونيسيا ونيجيريا، اللتين كانتا في الصدارة.
وفي ضوء إدراك دول المنطقة المتزايد بخطورة هذه الظاهرة الإجرامية، اتخذت بعضها وفي مقدمتها اليمن، التي تطل على خليج عدن وبحر العرب، العديد من الاجراءات والتدابير العاجلة للحدّ من أنشطة القرصنة في خليج عدن وباب المندب. فبدأت البحرية اليمنية بتكثيف وجودها ودورياتها الأمنية في المياه الإقليمية، ونشرت مصلحة خفر السواحل نحو ألف جندي وعدداً من الزوارق الحربية المجهزة في خليج عدن وباب المندب، وفي اتجاه موازٍ بدأت في إجراء عمليات تنسيق مع القوات المشتركة للقرن الأفريقي وماليزيا واليابان بهدف إنشاء مركز إقليمي لمكافحة القرصنة، وتعزيز جهود حماية الطريق الملاحي الدولي المار عبر خليج عدن.
على أن الصحوة المتأخرة هذه، في النتيجة، قد لا تُجدي نفعاً مع “شياطين البحر” الجُدد من الصوماليين، وبرغم أهميتها فإن تأثيرها سيظل محدوداًً. ويزداد الأمر تعقيداً إذا علمنا أن هذه العصابات تقوم بأعمال القرصنة وهي تتمتع بحصانة ولا تخشى الملاحقة؛ فالصومال تملك أطول ساحل في أفريقيا، وعلى مسافة قريبة من أهم خطوط الملاحة البحرية، ولكنها تفتقد لسلاح البحرية أو خفر السواحل، كما أن الحكومة الصومالية الانتقالية تزداد ضعفاً يوماً بعد يوم، وهي غير قادرة على تحمل هذه الأعباء.
وفي ضوء المعطيات المذكورة، أصبح التفكير بإستراتيجية أكثر شمولاً وفعاليةً لمكافحة القرصنة البحرية، تشترك دول الإقليم المشاطئة لخليج عدن والقرن الأفريقي في صياغتها مع المجتمع الدولي، أمراً ملحّاً وذا أهمية كبرى.
[1] ضرورة الاستمرار في التشديد على ضرورة حلّ المشكلة الصومالية حلاً جذرياً، وعدم التواني في الانخراط في أي جهود إقليمية أو دولية تهدف إلى بلورة مثل هذا الحل.
إن إحدى الحقائق التي لا يمكن تجاوزها في أي إستراتيجية إقليمية أو دولية تهدف إلى إنهاء خطر القرصنة قبالة السواحل الصومالية، أن هذه الظاهرة تبقى، وستستمر – إن قُيّض لها الاستمرار -، واحدة من النتائج المباشرة لانهيار الدولة الصومالية وإحدى تجلياتها الرئيسية. وتجاوز هذه الحقيقة الجوهرية لا يعد انتكاسة في التفكير الإستراتيجي وحسب بل وفي التدبير السياسي والأمني أيضاً.
لقد نشطت عمليات القرصنة البحرية بخليج عدن والبحر العربي والمحيط الهندي في الأساس بسبب القلاقل الداخلية التي تشهدها الصومال‏، حيث تطل السواحل الصومالية التى يبلغ طولها 3700 كيلومتر وهى واحدة من أطول السواحل فى العالم، على ممرات مائية إستراتيجية تربط بين البحر الأحمر والمحيط الهندي‏، مما جعل السفن التجارية وسفن الصيد التي تمرّ بها على مدى السنوات الأخيرة عُرضة لهجمات القراصنة، وبدلاً من أن تكون سواحل الصومال بمثابة وسيلة مضمونة للحصول على مساعدات دولية وإغاثية في بلدٍ دمرته تماماً الحرب الأهلية التي اندلعت عقب سقوط نظام الرئيس المخلوع محمد سياد بري سنة 1991، فإن المساعدات الغذائية الضرورية تكاد تتوقف تحت تأثير الضربات المتوالية للقراصنة، الأمر الذي فاقم من حدة الأزمة الإنسانية الخطيرة في هذا البلد المنكوب.
وبطبيعة الحال، فإن الأمور لن تتحسن ما لم يحصل تغيير نحو الأفضل في الصومال نفسها، وهذا الأمر لن يتأتى إلا من خلال تسوية سياسية شاملة تُنهي الحرب الأهلية المستمرة في هذا البلد. ومن المتوقع أن تركز الأمم المتحدة بصورة أكثر فاعلية في الأيام المقبلة على تحقيق المصالحة الصومالية لمواجهة القرصنة البحرية التي تستفيد من غياب حكومة مركزية قوية هناك‏.‏ وإذا كانت بعض دول الإقليم كاليمن وجيبوتي ومصر قد حرصت على تأييد مساعٍ كهذه، من منطلق إدراكها أن الحل الجذري لظاهرة القراصنة الصوماليين، يكمُن في تدخلٍ آخر للمجتمع الدولي ما انفكت هذه الدول وغيرها تدعو إليه “للأخذ بيد الحكومة الصومالية الانتقالية من أجل بناء الدولة الصومالية، وحتى لا يكون الصومال وكراً أو محطة أخرى مثل أفغانستان لتصدير الإرهاب”؛ فإنه يجب عليها، والحالة هذه، الاستمرار في التشديد على ضرورة حلّ المشكلة الصومالية حلاً جذرياً ومتوازناً يرضي القوى المحلية الرئيسية، في جميع المحافل الدولية بما فيها تلك المخصصة لمناقشة التحديات الأمنية الراهنة وطبيعتها المتغيرة، والانخراط في أي جهود إقليمية أو دولية تهدف إلى بلورة مثل هذا الحل الذي بات تحقيقه اليوم أكثر ضرورة وحيوية من أي وقتٍ مضى.

[2]  ضرورة الدعوة إلى (والمساهمة في) تأسيس نظام أمني بحري جماعي في منطقتي القرن الأفريقي والبحر الأحمر، يبدأ بقضية القرصنة البحرية ولا يقف عندها بل يشمل مختلف القضايا والهواجس الأمنية المشتركة.
لقد ظلت قضية الأمن في منطقة جنوب البحر الأحمر وتأمين المياه المشاطئة للساحل الأفريقي هاجساً للعديد من دول المنطقة طوال السنوات الماضية، خاصة بعد دخول مُعطى الإرهاب في المعادلة الأمنية الإقليمية، واستمرار دوامة العنف في منطقة القرن الأفريقي، ومحدودية قدرات كثير من دول المنطقة على تأمين شريطها الساحلي، إلا أنه، وعلى الرغم من ذلك، لم تتمكن هذه الدول حتى اليوم من بلورة صيغة مؤسسية مناسبة للتعاون الأمني فيما بينها تؤدي في النهاية إلى تأسيس نظام أمني بحري جماعي بينها.
على أن مشكلة تفاقم عمليات القرصنة البحرية في خليج عدن وباب المندب والمحيط الهندي أظهرت، وبكل وضوح، حاجة الدول المُشاطِئة الشديدة والمتزايدة (بما فيها الدول المطلة على البحر الأحمر) إلى تأسيس نظام للتعاون الأمني البحري الجماعي في المنطقة. وإذا كان من المهم اليوم أن تركز هذه البلدان على تطوير ترتيب جماعي للتعاون في مجموعة من المشروعات والقضايا الأمنية البحرية ومكافحة الإرهاب الإقليمي، بحيث لا يقتصر على قضية أمنية بعينها (كقضية القرصنة)، وإنما تنطلق منها وتؤسس عليها.
وهذه الخطوة الأوسع، متى تتحقق، ستُشكل نقطة البداية الصحيحة لبلورة إجراءات لبناء الثقة بين دول المنطقة تعود بالنفع أيضاً حتى على أطراف دولية عديدة، نظراً إلى الأهمية الأمنية والاقتصادية التي تتمتع بها هذه المنطقة الإستراتيجية من العالم. ولئن دأب بعض المحللين على التشكيك في جدوى إجراءات بناء الثقة كتدبيرٍ مُستدام أو فعّال بدعوى أنها مجرد أداة لإدارة الأزمات وليس لحلّها، إلا أنها أثبتت نجاحها في الغالب كأداة عملية مهمة لتطوير التعاون الأمني البحري بين الدول. فتطبيق إجراءات بناء الثقة في مجال التعاون البحري كوسيلة لحل الخلافات والنزاعات ومنع الحوادث البحرية ذات التداعيات الخطيرة، فضلاً عن معالجة الهواجس الأمنية المتعلقة بعمليات البحث والإنقاذ وحماية البيئة البحرية ومراقبة صيد الأسماك بطريقة غير مشروعة، أثمر بالفعل منافع جمّة على نطاق واسع.
والحقيقة أن الحاجة لتطوير نظام أمني بحري جماعي في منطقتي القرن الأفريقي والبحر الأحمر (اللتين تشكلان في الواقع منطقة أمنية عضوية واحدة)، تجد مسوغاتها من خلال ثلاثة أسباب رئيسية:
أ. الأهمية الجيوستراتيجية للمنطقة.
ب. عدم استقرار المنطقة وانكشافها المتواصل إستراتيجيا وأمنياً.
ج. غياب أيٍّ من أنواع الحوار أو المبادرات الإقليمية الفاعلة في مجال الأمن البحري.
وعلى الرغم من أن التنفيذ الناجح والامتثال المنظم للتدابير الخاصة بتعزيز الأمن البحري ظل مُكلفاً لغالبية دول العالم، وذلك بسبب ضعف العامل الدولي المشترك الخاص بجمع وتقييم وتبادل المعلومات على نحو مبكر، ناهيك عن غياب مستويات التنسيق الضرورية المرتبطة بتزويد السفن العالمية بالمعلومات المتعلقة بالوضع الأمني، وذلك وفقاً لاتفاقية “سلامة الأرواح في البحار” (SOLAS) و”المدونة الدولية لأمن السفن والمرافئ” (ISPS)، فإن على دول المنطقة، لاسيما تلك المتضررة من تفاقم مشكلة القرصنة في الصومال، استغلال الظروف القائمة وحالة الهلع الإقليمي والدولي من خطر القرصنة وتهديدها المتفاقم لخطوط الملاحة البحرية الدولية قبالة السواحل الصومالية، ومن ثمّ العمل بشكل دءوب على تحفيز جميع دول الإقليم، ودفعها باتجاه إقامة نظام إقليمي شامل للتعاون البحري يبدأ بقضية القرصنة البحرية ولا يقف عندها بل يشمل مختلف القضايا والهواجس الأمنية المشتركة.
علاوة على ذلك، يمكن لمثل هذا النظام الأمني الإقليمي – لحظة تبلوره – تبني معايير حلف الناتو الخاصة بمراقبة قوات البحرية لخطوط الملاحة/ وتعاون البحرية وتوجيه حركة الملاحة حيث تتوافر المفاهيم والأساليب الإدارية الملائمة والتدريبات بالفعل. والمعروف أن هناك منظمتان دوليتان تعملان في مجال حماية حركة الملاحة البحرية وتعرفان باسم “مجموعات العمل البحرية” وهما الناتو ومنظمة المحيط الهادئ والهندي اللتان تحرصان على إطلاع أعضاء كل مجموعة على رؤية المجموعة الأخرى إزاء حماية حركة التجارة؛ وذلك من أجل بلورة مفاهيم إستراتيجية مشتركة من الناحية الإستراتيجية والعملياتية واختبار علاقات الاتصال بين الطرفين بشكل سنوي. ويمكن استخدام أي من أسلوب الناتو أو منظمة المحيط الهادئ كآلية إدارية لتطبيق هذه المعايير على أرض الواقع. بينما يمكن وضع إطار عمل ينظم التدريبات الخاصة بتولي المناصب القيادية بهدف اختبار المهارات الإدارية ووضع السيناريوهات المحتملة لتعاون البحرية وتوجيه حركة الملاحة في المنطقة.
وعلى أية حال، يظل تعبير دول الإقليم المنزعجة من هجمات القراصنة الصوماليين عن إيمانها بأهمية تأسيس نظام إقليمي شامل للتعاون البحري، وأنه سيمثل خطوة مهمة نحو تطوير إجراءات فعّالة لبناء الثقة بين دول المنطقة تعود بالنفع عليها جميعاً خصوصاً في أوقات الأزمات، يظل حاسماً في إضفاء المصداقية والجدية اللازمتين على هذه الدعوة أمام دول المنطقة الأخرى التي لا تزال مترددة في حسم موقفها إزاء التطورات الأمنية الأخيرة قبالة السواحل الصومالية. إن على دول المنطقة التفكير من اليوم وصاعداً، وانطلاقاً من أهمية التعاون في قضية تفاقم القرصنة البحرية في مياهها، بأن مثل هذا النظام سيُمثل أرضية صلبة لتعزيز الثقة المتبادلة وتعميق إدارك دول الإقليم كافة للهواجس والضرورات الأمنية المشتركة، مما قد يُمهِّد السبيل أيضاً لمزيد من التعاون في مجالي الدفاع والقضايا البحرية… ( الجزء الأول… يتبع).
© معهد كيتو، مشروع منبر الحرية، 20 تشرين الثاني (نوفمبر) 2008.

peshwazarabic11 نوفمبر، 20100

لا يخفى على مُتابعي وضع المنطقة العربية وحال نظامها الإقليمي أن سياسة المحاور التي تُلقي اليوم بظلالها الثقيلة على المشهد السياسي العربي، لا تخرج عن ما هو مألوف ومعتاد في سيرورة هذا النظام، الذي اقترن ظهوره تاريخياً مع ظهور الجامعة العربية، وزوال الاستعمار وتحرر الدول العربية تباعاً من قبضته العسكرية العاتية، وتوجهها إلى بناء ذاتها كدول حديثة ومقتدرة على مواجهة التحديات على اختلافها، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً..الخ.
وقد عرف النظام الإقليمي منذ لحظة نشؤه هذا النوع من الانقسام والتكتل في محاور عبّرت عن نفسها من خلال انقسام العرب، خلال خمسينيات وستينيات القرن الماضي، بين قوى “تقدمية” وأخرى “محافِظة”. وكانت السمة الأبرز لهذا الاستقطاب – كما هو الحال اليوم – تكمن في دخول هذه الدول أو تلك ضمن دائرة الاستقطاب الأيديولوجي الذي ميّز النظام الدولي بين أميركا والغرب والاتحاد السوفيتي والمنظومة الاشتراكية الدائرة في فلكه، وهو استقطابٌ أفرز حرباً عالمية باردةً طويلة استمرت نحو نصف قرن من الزمان.
إن سياسة المحاور اليوم لا تختلف كثيراً عن سابقاتها بل هي امتداد طبيعي لها، وهي تجلٍّ جوهري ومتواصل للصراع العربي – العربي حول أجندة تبدو في الظاهر عربية خالصة، لكنها في واقع الأمر لم (ولن) تخدم سوى إستراتيجيات القوى الإقليمية والدولية وتوجهاتها بشكل أساسي. والمدهش في الأمر أن توصيف الانقسام العربي الراهن كما هو الحال مع الانقسامات السابقة، وفرز العرب بين قوى “اعتدال” في مقابل قوى “ممانعة” أو “متطرفة”، قد أتى من خارج المنطقة باعتباره فرزاً بين أصدقاء أميركا – القوة الأولى في العالم – وبقية دول الغرب وبين خصومها، وكما في الماضي فقد ساهمت إسرائيل في بلورة هذا التوصيف و/أو التصنيف، والنفخ فيه وترويجه بقوة على الصعيد العالمي. وبالفعل فقد تمكّن الأميركيون والإسرائيليون من تشييد سياسة محاور وتحالفات إقليمية ترتبط بأجندتهم الجيوستراتيجية أولاً وأخيراً.
ولعل حرب غزة الأخيرة قد عكست ذلك النجاح بوضوح. فعلى سبيل المثال، أشارت وزيرة الخارجية الإسرائيلية تسيبي ليفني، في تصريح لها إبّّان الحرب، إلى أن الصراع الدائر في منطقة الشرق الأوسط “ليس صراعاً بين العرب وإسرائيل، بل هو صراع بين قوى الاعتدال وقوى التطرف” فيها. وبالطبع، فإن إسرائيل تقف إلى جانب قوى “الاعتدال” العربية، كما أن أميركا ودول الغرب تشدّ على أيدي هذه الدول كذلك.
والحال أن هذه المحاجّة الإسرائيلية، المدعومة أميركياً وأوروبياً، قد لقيت أصداءً واسعة النطاق، ضمنية حيناً وسافرة في أحيان أخرى، تؤيد مضمونها وتؤكد عليه. وهكذا أصبح الفرز حاصلاً، وأضحت سياسة المحاور الطابع الغالب على سياسات المنطقة. ففي معسكر “الممانعة”، وبتأييد مطلق من إيران الإسلامية، تقف كلٌّ من سورية وزوائد الدول الشاهرة للسلاح (حزب الله والحركات الفلسطينية المقاتلة). ولهذه القوى جميعاً مواقف واضحة من السياسة الأميركية في المنطقة، وهي ترفض عملية السلام في شكلها الحالي بين إسرائيل والفلسطينيين، وتؤيد إستراتيجية المقاومة المسلحة لـ “تحرير الأرض من الاحتلال”. أما معسكر “الاعتدال” العربي فيقف على قمة هرمه دول كمصر والسعودية والأردن وتونس، وتنطوي سياساتها على “تفهّمٍ” للتوجهات الأميركية في المنطقة وإن كانت لا تتفق معها تماماً.
وما بين كلا المعسكرين تتذبذب سياسات ومواقف لدول أخرى كقطر والإمارات والسودان والمغرب والجزائر واليمن وغيرها، وهي مواقف ليست وليدة قناعة سياسية محددة تؤيد رؤية هذا المحور أو ذاك، بل هي انعكاس مباشر لحاجاتٍ ذاتية وبرجماتية تفرضها أجندة السياسة المحلية وهاجس الشرعية المُستدام، وتعزيز المكانة في ظل التنافس الإقليمي، ومتطلبات الدبلوماسية العامة.
وفي ظل هذا التنافر يبدو النظام الإقليمي العربي في حالة فوضى شاملة، ربما أكثر من أي وقت مضى، لاسيما وأن العرب قد انقسموا في نظرتهم لما اعتبروه زمناً طويلاً “قضيتهم المركزية” أي قضية فلسطين، والموقف من إسرائيل التي ما تزال تحتل أراضٍ عربية وتهدد الكيانية العربية في الصميم بامتلاكها ترسانة عسكرية هائلة تتضمن المئات من القنابل النووية.
والثابت أن هذا التنافر، وتلك الفوضى، قد تعززا خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة، وانعكسا سياسياً على الوضع العربي برمته وعلى نحو سلبي تماماً تمظهر في شكل حلولٍ توفيقية قابلة للنكوص تارةً، وتارةً في صورة تسوياتٍ غير سويّة وغير مُرضية، كما تبدت تارة أخرى في صورة نكسات اقتصادية ونزاعات سياسية ما انفكت تتفاقم، واهتراء فكرة التضامن لصالح فكرة الصراع على الاستفراد بمقود القاطرة العربية. والأخطر من ذلك كله، تبلور توجّه يقضي بـ “رفع اليدين” عن التدخل بشكل إيجابي وبنّاء في قضايا عربية عدة مُلِحّة وجوهرية، وترك الساحة للاعبين آخرين من ذوي التطلعات والطموحات الغابرة، العابرة للحدود، للعب دور جيوبوليتيكي محوري في المنطقة، ويفعلوا فيها ما يشاءون.
وبالتأكيد، فإن هذا لن يكون إلا على حساب الدول العربية ذاتها، مهما حاولت المقاومة أو حتى إبداء عدم اهتمامها بما يحدث. كما أن هذا التشظِّي القائم على مستوى سياسات الدول انعكس – بصورة أو بأخرى- على مواقف شعوب المنطقة والنخب المثقفة، والعلاقات الطائفية السائدة، وتعمّقت على إثره المشاعر القومية الشوفينية الضيقة، التي لم تكن موجودة في الماضي بهذه الحِدّة، في صفوف قطاعات غير قليلة من الجماهير العربية.
لكن كيف سيخرج العرب من هذا النفق؟ يظل هذا هو سؤال الساعة، والإجابة عليه ليست جاهزة للأسف، وتشوب المحاولات الكثيرة التي تحاول صوغها تضاربات وتناقضات صارخة في التحليل وتشوش كبير في الرؤية، لكن الخطوة الأولى والأكثر أهمية حالياً – كما تبدو لي- تكمن في لمّ شعث التنافر الحالي بشأن قضية العرب المركزية وتجاوز النظرة الخلافية حولها، ولعل التوافق على صوغ مقاربة عربية موحدة ومنسجمة إزاء القضية الفلسطينية العتيدة قد يُسهم بقوة في التخفيف من حالة الاحتقان الراهن، لاسيما وأن هناك إقرار عربي، رسمي وشعبي على حدٍّ سواء، بأهمية وضرورة إعادة الأمور إلى نصابها في هذا الموضوع تحديداً.
صحيح أن هذا الحل يبدو جزئياً وربما مُبسّطاً، لكنه يُمهِّد بالفعل للخروج من عنق زجاجة سياسة المحاور التي تأخذ وهجها من دبلوماسية “الكيد والكيد الآخر”، والارتماء في حضن القوى الإقليمية والدولية المتوثبة والتي لا همّ لها – وهذا ليس إثماً أو عيباً – سوى الحفاظ على مصالحها الوطنية وتلبية طموحاتها القومية، بغض النظر عن موقف العرب، اتفقوا أم اختلفوا.
وفي المرحلة التالية، سيكون من المهم – بالنسبة لصُنّاع القرار العرب – أن يعملوا على مراجعة وتقويم سياساتهم الراهنة، وعلى رأسها سياسة المحاور الإقليمية، والنظر – من ثمّ – إلى قيمٍ كالتشدد والاعتدال ليس بوصفها قيماً سياسية جديرة بالاحتفاء والتبنّي، بل باعتبارها قيماً وأحكاماً أخلاقية حديّة وتكاد تكون أيديولوجية، وعندها ستتضح لهم مثالبها الجمّة، وأنها لا تقدم حلولاً بل تقولب الحالة العربية أكثر وتزيدها تأزماً واستعصاءً. ناهيك عن أنها تكشف الدول العربية جميعها، سواء أكانت “معتدلة” أو”ممانعة”، أمام مخاطر وتحديات متعاظمة لا قِبَل لها بمواجهتها أو التكيّف معها دون دفع أثمان باهظة لا تُطاق!
© منبر الحرية، 18 أبريل 2009

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

تواصل معنا

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018