لقد أثبتت حقائق التاريخ بأن الازدهار الحضاري لا يمكن أن يتم صدفة وإنما نتيجة ظروف معينة. إنه أشبه ما يكون بناتج تفاعل كيماوي يحتاج ظروف معينة و شروط خاصة لكي يتم. وقد عكف الكثير من الباحثين على دراسة هذه الظاهرة الحضارية في المجتمع البشري . وأهم ما يمكن الإشارة إليه بالإضافة للعامل الاقتصادي هو دور الحرية الاجتماعية و عدم الأدلجة في بناء الحضارة. تقدم سجلات التاريخ شواهد على ذلك فالمجتمع الإغريقي القديم لم يكن مقيد فكريا وأطروحاتهم الفلسفية خير دليل. والحضارة العربية الإسلامية الغابرة كانت كذلك. لقد كان العرب ما بين 700-1000 ميلادية أقرب للعلمانيين المعاصرين سواء كانوا في بغداد أو الأندلس أو القاهرة. و هذا هو سر النهضة العربية الإسلامية اليتيمة. اندثرت هذه الحضارة و حتى يومنا هذا بسبب الأغطيات الإيديولوجية الدينية التي لم تكن موجودة بشكلها الصارم أيام النهضة اليتيمة. التنوع الفكري و الديني و القومي في تلك الحقبة الزاهرة مماثل لما هو عليه الآن في المجتمعات المتطورة المعاصرة .
كانت ملامح العلمانية الأولى أساس نهضة العرب الوحيدة، و العلمانية ذاتها أساس نهضة الغرب الآن، لذا على المجتمعات العربية الإسلامية أن لا تتوقع أية نهضة بعيدا عن المجتمع العلماني. لم تتطور تركيا الحديثة إلا بعد اختيارها طريق العلمانية و لم تتطور ماليزيا إلا بسبب نظامها العلماني. لقد قادت العلمانية والحرية الغرب إلى التطور الحضاري و إلى سيطرته على الكثير من جوانب الحياة المعاصرة. الغرب ليس غبيا عندما يطمح لفتح مجتمعه ليكون متعدد الثقافات (Multi culture society). الغرب لا يريد أن يدمر مجتمعاته بالتعددية الفكرية و الدينية ، بل يدرك أن هذا التعدد و الاختلاف هو عنصر قوة لديمومة التحديث. التعدد الاجتماعي و الانفتاح على الآخر والحرية الفكرية هي السر وراء بناء الحضارة ، لذا تطمح هذه المجتمعات إلى بناء الفرد المعاصر الذي يستطيع تقبل الآخر فردا كان أو فكرا. المجتمعات المغلقة فكريا لا تستطيع تقبل الآخر و لا تستطيع تقبل ما لا يسود اجتماعيا، مثل هذه المجتمعات لا يمكنها الاندماج عالميا ولا يمكنها بناء حضارة، لذا فان سر البناء المعاصر هو الفرد الاجتماعي المعد إعدادا خاصا ليحيا زمنه الحالي و المعقد، و لكن كيف يُبنى الفرد المعاصر؟ إن علم الاجتماع يهتم بالشخص (Person ) وليس الفردIndividual وذلك أن الشخص هو الفرد الذي تفاعل اجتماعياً وأصبح كائناً اجتماعياً. وبذلك يكون التفاعل الاجتماعي مابين الأشخاص مجالاً أساسيا و مهما في علم الاجتماع. الشخص أو اللبنة الاجتماعية يمتلك حرية القيام بأفعاله ضمن الضوابط الاجتماعية، فهو يملك احتمالية كبيرة و واسعة لتحقيق الفعل. لكي يكون الفرد عضوا في المجتمع (شخصا) فإنه لابد وأن يخضع لعملية التأنيس (Socialization) و بذلك يكون قادر على التفاعل الاجتماعي ( Social interaction ) . إن التأنيس يعني أن عضو المجتمع قادر على التفاعل مع الأعضاء الآخرين ويستجيب اجتماعيا وليس للدوافع الذاتية فقط. عملية التأنيس تسير بشكل طبيعي للفرد من خلال نموه و تطوره اجتماعيا. حرية الإرادة ميزة مهمة يجب توفرها في اللبنة الاجتماعية و الحرية هنا هي المساحة المسموح للفرد العضو التحرك فيها اجتماعيا. إن مفهوم الحرية الاجتماعية مفهوم نسبي ومهما تقلصت هذه الحرية فإنها تبقى موجودة و لا يمكن إلغائها مطلقا (حتى مجتمع العبيد يتمتع أفراده بنسبة من الحرية المحدودة جدا) لكن حرية الإبداع لابد أن تكون من السعة بما يتجاوز حرية العبيد بكثير، وهذه الحرية هي ما يكفلها المجتمع لأبنائه. حرية الإرادة هذه هي ما تظهر من خلاله فردية اللبنات الاجتماعية، وهي ما تشكل الحركة المتغيرة دائما في المجتمع. على أية حال إن الدول المتطورة تهتم كثيرا ببناء أفرادها و يمكن بيان ملامح البناء فيما يلي:
خلق مواطن صالح للمعيشة في الظروف الاجتماعية المعاصرة بتغيراتها، أي خلق مواطن محلي معاصر. منذ مراحل التعليم الأولى يتعلم الطفل التعامل الاجتماعي وحدود حريته وطريقة التفكير والتعامل مع الآخرين وفهم الأديان الموجودة في مجتمعه وليس عقيدته الخاصة، لأن معظم المدارس ذات توجه تربوي عام. إن الإعداد هو إعداد تطبيقي و ليس نظري، و طريقة التعليم ليس طريقة الكتاتيب التي تعتمد الحفظ الأصم بل المناقشة و النقد. وحتى العلوم الطبيعية يدرسها الطالب الصغير من وجهة نظر دورها في مجتمعه مثل البيئة و الطاقة النظيفة و استهلاك الطاقة و هو بذلك يعرف فائدتها التطبيقية المباشرة. خلق مواطن يمكن أن ينتج و يعمل بالمواصفات التي يحتاجها مجتمعه، على المستوى المهني يسير الطالب في دراسته بالاتجاه الذي يختاره و الذي يمكن من خلاله أن يوفر له فرص أكبر في سوق العمل. سوق العمل يلعب دورا كبيرا في اختيارات الطالب و كذلك في توجيه المناهج الدراسية و البحوث، و سوق العمل مرتبط بمنظومة الحياة المعقدة وتلعب الصناعة و التكنولوجيا دورا كبيرا فيها. إبعاد المدارس عن خلق جيل مؤدلج قوميا كان أو دينيا أو سياسيا. هذه الاتجاهات تترك للعائلة و الفرد، وبذلك يكون الجيل المنتًج غير مشحون ضد الآخر و ذي مرونة فكرية عالية في تقبل التحديث الذي هو الهم الأساسي لديمومة المجتمع و تطوره، والولاء الوحيد هو للوطن و كسب المواطنة لا يحتاج أدلجةَ فكرية صارمة. و لما كانت الظروف المحلية و العالمية دائمة التغير و التطور اجتماعيا و تكنولوجيا فإن منظومات التعليم تعيش نشاطا فاعلا دءوبا في تطوير مناهجها و أساليبها التعليمية وبصورة مستمرة. من هذا يتضح الابتعاد عن أدلجة المجتمع و خلق أفراد ضيقي الأفق في مجتمعات ذات تنوعات عرقيه و دينيه مختلفة.
خلال القرن العشرين حصلت الدول العربية على استقلالها السياسي و طمحت في البناء. و كان البناء الأول هو بناء مؤسسات دولة وليس بناء مجتمع، لذا اتجهت الحكومات العربية إلى استنساخ ملامح المدينة الغربية المعاصرة. لاشك أن فجوة التخلف الحضاري هائلة أكثر من خمسة قرون لذا واجهت عملية البناء الاجتماعي التحديات التالية:
البناء الاجتماعي غير مؤهل لطفرة خارقة يتجاوز بها تراكمات كل تلك القرون، كما أن الإمكانيات المادية مهما كانت لا يمكنها أن تساعد في تجاوز هذه الفجوة القاتلة .إضافة لعدم توفر المتخصصين في هذا المجال، حتى الغرب لم يكن ليألف التعامل مع حالة كهذه.
خلال القرن الماضي و الوقت الحاضر كان التركيز وما يزال على ظواهر التحديث الضرورية مثل مراكز البحوث و الجامعات لتوفير الكوادر المهنية و كذلك المستشفيات و المعامل …إلخ. لقد حاولت الدول العربية و الإسلامية أن تكسب مدنها و مجتمعاتها ملامح المعاصرة ، و لكنها خلال هذا الهم الكبير تركت ورائها بنائين مهمين هما: البناء المعاصر للفرد ليكون شخصا اجتماعيا معاصر و ليس مجرد كادرا مهنيا.
بناء الفرد و نوعيته هو الذي سيعزز و يديم البناء الحضاري الأعلى مثل الجامعات و مراكز البحوث و المؤسسات التكنولوجية و الثقافية.
وليس مجرد تعليم القراءة و الكتابة كافيا لمحو الأمية. إن تعليم القراءة و الكتابة قد يساهم في زيادة الأمية الحضارية. مهارات القراءة والكتابة تساعد على دوام التواصل مع ما هو مكتوب و هنا قد يكون نوع المكتوب مشكلة أكبر من عدم القراءة و الكتابة! ، لذا فإن مفهوم الأمية في المجتمعات العربية لاشك مختلف عن مفهوم الأمية في المجتمعات الغربية، على ذلك يكون البناء التربوي المدروس للمناهج الدراسية و التوعية الثقافية مهم جدا بالإضافة لمهارتي القراءة و الكتابة. إذ لابد من تغيير الثقافة الاجتماعية البالية و المتخلفة. عليه نجد أن البناء العربي يجب أن يكون باتجاهين، الأول بناء الإنسان و الثاني بناء المؤسسات العلمية المتقدمة، و لكن للأسف اهتمت الدول العربية و ما تزال بالبناء الفوقي أو المؤسساتي دون أن تهتم ببناء الإنسان، و القرى هي المصدر الكبير و الأساسي لهذا الإنسان و لكن الدولة العربية تركته للتربية الاجتماعية السائدة و الغير مناسبة لزمنه الحالي. هذا التناقض في بناء الفرد ما بين المؤسسة التعليمية المكتفية بالمعارف العامة (التي تعتمد المعاصرة) و التربية الاجتماعية البعيدة أساسا عن المعاصرة هو ما يخلق الكثير من الإشكالات الاجتماعية و السياسية. المجتمع العربي يعاني ليس من أمية الأبجدية فقط و لكن من أمية حضارية نتيجة الانقطاع الحضاري المستمر، و الذي مازال يلعب دورا كبيرا في القرى والأزقة العربية بشكل ظاهر و في المدن بصور متفاوتة. التعامل اليومي مع منظومات معاصرة مثل السيارة، الكهرباء، نظام المرور في الشارع، جهاز الدولة، منظومات التعليم و البحوث، الأنظمة السياسية الأحزاب، البرلمانات، أجهزة الإعلام، المجتمع المتنوع الأعراق ، … الخ من الأنظمة المعاصرة يتطلب دراية و أسلوب تعامل خاص ودور خاص، و لكن لم يتم تنشئة الأجيال العربية الحديثة عليه. نعم قد تكون هناك مدرسة تحاول أن تقدم شيئا، و لكن عموم المجتمعات العربية بعيدة عن التحديث حتى داخل المدن. ينشأ الفرد العربي نشأة عشوائية و حسب الموروث الاجتماعي و الديني دون أن يكون له إعداد خاص ليعيش القرن الحادي و العشرين. لهذا السبب و للأسف نجد أن معظم محاولات التحديث العربية مجرد تحديث سطحي لم يصل للقعر و لم تنجز المجتمعات العربية خلال تعاملها بكل المنظومات المعاصرة المذكورة أعلاه أو التي لم تذكر أية كفاءة. إن أي جامعة عربية حديثة وذات أحدث المعدات لن تستطيع أن تعمل بنفس كفاءة جامعة غربية بسبب نوعية الفرد العامل على إدارتها و الطالب الذي يدرس بها، لذا سيبقى التحديث مجرد مظاهر مهزوزة سهلة التراجع و تبقى جهود التحديث بعيدة طالما بقي الفرد البسيط بعيدا عن التوجيه و التربية الحديثة، و هذا لا يتم إلا من خلال تقليص الفرق الحضاري بين المدينة و القرية أو الزقاق و تغيير مناهج التربية و التعليم للأطفال.
© منبر الحرية،11 ماي /أيار 2010
2 comments
Rashid Al
24 سبتمبر، 2011 at 12:35 ص
It is an excellent analysis for what the current Arabic society is suffering from. I agree with the writer that the main issues that the person is left alone without a clear direction.
Dr Amer Ameen
29 يوليو، 2012 at 5:11 م
I congratulate the writer on such an impressive article> I agree with the opinion of the social development systems in the less developed contries leavng the person undeveloped which repesent the biggest mistake in such societies.i