أفادت دراسة تحليلية لانتماءات منفذي الهجمات على أهداف مختلفة في مجموعة من الدول الأوروبية والآسيوية أن المنفذين يتوفرون على الخصائص التالية: كلهم يتجاوزون الحدود الوطنية، ولا يعيشون في البلد الذي ولدوا فيه، بل لهم في بعض الأحيان جنسيات مختلفة، وكلهم قاموا بدراسات حديثة في الغالب من مستوى عال، وينتمون في معظمهم إلى مستوى اجتماعي متوسط، وعاشوا مرحلة الشباب على النمط الغربي، وكلهم قطعوا الصلة مع عائلتهم، قبل أن يتحولوا إلى قنابل بشرية تصرخ ” الدين..الدين…يا عباد الله” ! هل يتعلق الأمر بمجرد عمليات تخدير شديدة المفعول تعرضوا لها، أم أن الأزمة أعمق من ذلك، وترتبط بطبيعة الثقافة الرائجة في مجتمعات الانتحاريين؟
يتأرجح الانتحاريون بين ثقافتين مزدوجتين، ثقافة المجتمعات الغربية التي يعيشون فيها، حيث الحرية حق مقدس، وثقافتهم الأصلية حيث انعدام الحرية والديمقراطية، وانتشار البؤس. ينشأ عن هاته الازدواجية فراغ قاتل يستغله محترفو صناعة الموت لـ”زراعة” العنف والتطرف الناتج عن ضيق الأفق، إذ الانتحاريين، سواء عاشوا في مجتمعاتهم الأصلية أو الغربية، يرتبطون ارتباطا وثيقا بسلوكيات تعتبر فيها الطاعة هي القاعدة وما عداها استثناء.
نقصد بصناعة الطاعة، تلك الوسائل والأدوات المستعملة التي تسحق الفرد وتحوله إلى مجرد تابع، تحدد الجماعة مصيره على الرغم منه. إن ملاحظة بسيطة لثقافة المجتمعات العربية والإسلامية تجعلنا نستنتج اشتراكها في “صناعة الطاعة”، لأنها، تاريخيا على الأقل، لم تعرف المطلب الديمقراطي، ولم تتحول الحرية على امتداد تاريخنا الطويل إلى قيمة سامية، وبقيت حتى الآن عند مستوى الشعارات السياسية والخطب الرنانة. وكلما ارتفعت أصوات المنادين بها، إلا وتعرضت للتهميش والإقصاء، بل للإبادة بالعنف والقوة.
رغم اختلاف وسائل صناعة هاته الطاعة والحفاظ عليها، فإن استغلال الدين لتحقيق هذا الهدف يبقى واضحا. أما مصير الحركات التي تريد الخروج عن الطاعة، فغالبا ما انتهى إلى التنكيل والقتل وإحراق كتب الداعين إليها وتهجيرهم. لم تستطع كل محاولات الفلاسفة والمفكرين، عبر التاريخ زعزعة “نسق الطاعة”، حيث تواجههم دائما اتهامات جاهزة، أقلها الزندقة وإفساد عقول الناس.
ما تعرض له بن رشد في الماضي من تنكيل، وما يتعرض له نصر حامد أبو زيد، وسعد الدين إبراهيم من مضايقات في الوقت الراهن، شاهد على مصير دعاة التنوير في مجتمعات الطاعة. ويشترك في هذا المتطرفون الإسلاميون، كما بعض الأنظمة الأصولية، في قمع كل محاولة تحررية. أما الهدف المشترك وغير المعلن، فهو تكريس مفاهيم الطاعة العمياء في صفوف الأتباع بطرق ثقافية مختلفة وملتوية.
يقول عالم الاجتماع العراقي علي الوردي في كتابه «وعّاظ السلاطين» : «كان كل سلطان جائر يجد دائماً من يدعو له بالتوفيق في جوره». في الوقت الراهن تستمر ممارسات “الوعاظ”، لكن هاته المرة باستخدام تقنيات أشد تأثيرا، حيث تصطف آلات إعلامية ضخمة وإمكانيات تربوية هائلة، ومؤسسات ثقافية بتمويلات خيالية من أجل هدف واحد : تكريس مجتمعات الطاعة، وتخدير الفرد بقتل روحه الإبداعية وتحويله إلى آلة صماء، تستجيب لنداء العاطفة الديني.
إن نسق الطاعة هذا يجعل من استقطاب الانتحاريين عملية بسيطة. وهكذا حينما يهتف “بن لادن” إلى الأمام، لا يتردد العشرات من المغفلين في الاستجابة الفورية، رغم أنهم بفعلتهم هاته، يرجعون بمجتمعاتهم مئات السنين إلى الوراء. إنهم مادة خام “قابلة للاشتعال” في كل وقت وحين، تقودهم فكرة لا تتوقف المواقع الالكترونية والفضائيات والكتب الرخيصة عن ترويجها. إنها ضرورة العودة إلى المنبع الصافي للحضارة العربية الإسلامية للإجابة عن كل أسئلة الحاضر.
تقوم صناعة الموت في مجتمعات الطاعة على تمجيد الماضي، والتضحية بالنفس من أجل استعادته. وهكذا كلما عرض حادث جديد أو قضية مستحدثة، يعود الإسلاميون المتطرفون إلى النص الديني (القرآن أو السنة) للإجابة عنه، بل إن كل أسئلة الحاضر تجد لها في الماضي السحيق جوابا مثاليا. إنهم يستعيرون كلمات الماضي لوصف أحداث الحاضر. وهكذا يصبح تفجير برجي التجارة العالمية “غزوة” وقتل الأبرياء في “مومباي” عمليات جهادية في “دار الكفار”. إنه سفر إلى الماضي بحثا عن أجوبة حاضر مأزوم.
يعود السبب الرئيسي لفشل المجتمعات العربية الإسلامية في تكسير سلوكيات الطاعة، إلى ذلك الإسلام كما تفهمه هاته الحركات، إسلام يقفل باب الاجتهاد، وينطلق من قراءة متزمتة وحرفية للرسالة القرآنية تعتمد على عنصرين:إغلاق باب الاجتهاد ومعاداة الغرب. وهكذا، يرجع المتطرفون كل شئ إلى القرآن وإلى الرسول وإلى الشريعة، كما تمت قراءتها في العصور الأولى للإسلام. وعلى هذا الأساس يتم رفض كل مظاهر الحداثة، فتصبح النقابة بدعة، والحزب ضرب من أعمال الشيطان، والديمقراطية مؤامرة غربية وجب محاربتها.
إن صناعة الموت وإنتاج الانتحاريين نتاج لنسق الطاعة والولاء الأعمى للماضي السحيق. من هنا، وجاهة طرح مشاريع تربوية وإعلامية وتثقيفية تجعل من الديمقراطية والحرية ثقافة يومية وليس مجرد شعارات للاستهلاك. إن الديمقراطية والحرية مطلبين متلازمين، مهمتهما الأساس تشجيع الحوار بين الثقافات المختلفة، لإعطاء أهمية أكبر للاعتراف بالآخر، وتكريس ثقافة تنطلق بالأساس من ” أومن بالاختلاف، إذن أنا موجود”
© منبر الحرية، 18 فبراير 2009