في الحرب ضد الإرهاب، تعتبر الولايات المتحدة جنوب شرق آسيا كـ”جبهة ثانية”، مع تركيز الاهتمام على الجماعات الإسلامية الراديكالية، التي يقال إنها تعمل مع القاعدة. هذا الوصف يُغاير تقاليد المنطقة في التسامح، وتوجهها التقدمي الثابت، فيما يتعلق بأهمية حكم القانون والمحافظة على حقوق الإنسان. ومع أن مرتكبي ومزودي العنف يستحقون العقاب السريع، فإن التوجهات الراديكالية في العقد القادم لا يمكن وقفها إلا بالتأكيد على التقاليد السلمية والديمقراطية في المنطقة، بدلاً من إعطاء الحكومات صكاً مفتوحاً للدوس على حقوق الإنسان، والحريات المدنية، باسم الأمن الوطني.
في محاولات رسم صورة عن تأثير الإسلام في حكومات جنوب شرق آسيا، فإن صنّاع السياسة وكذلك الأكاديميين ينحون إلى النظرة إلى الإسلام نظرة ثنائية مزدوجة: إنه إما معتدل أو متطرف، ليبرالي أو محافظ، داعية إصلاح أو تقليدي. هذا بطبيعة الحال هو عودة إلى التشويه الذي مارسه المستشرقون في الماضي والذي اتسم بنزعته إلى إطلاق أحكام كاسحة عامة. نستعيد إلى الذاكرة، على سبيل المثال، كتاب كليفورد جيرتز، ديانة جاوة (كلينكو: فري برس، 1960)، حيث ينظر إلى مجتمع جاوة بشكل أساسي، بالنسبة لتوجهاته الدينية بأنه ذو قطبين—ما بين سانتري وأبانجان، الأول ممثلاً للأقلية الدينية الزاهدة بقيادة كييه، والتي تعيش في مجتمعات تعاونية، والثاني، ويشمل غالبية سكان جاوة، الذين يصفهم بأنهم مسلمون بالاسم، من حيث أنهم مرتبطون جداً بالأشكال الفنية والممارسات في عصر ما قبل الإسلام، وإلى حد كبير ليسوا مهتمين بواجباتهم الدينية. هذه المجتمعات التعاونية “البيزانترن”، مثلها مثل المدارس في أجزاء أخرى من جنوب شرق آسيا، وكذلك في الباكستان، ينظر إليها الآن بأنها الوعاء الساخن الذي يُولِّد الإسلاميين المتشددين. نتيجة مثل هذا التصور هي وضع منظمات قائمة على المبادئ الإسلامية في قفص الاتهام، ونعتها بالراديكالية، مع توجه بالتحول إلى كيانات إرهابية، أو التعاون مع المنظمات الإرهابية، وهي، دون شك، ظاهرة لعقلية منحازة وجامدة في عدائها للإسلام، والتي تحول دون التمييز بين الإسلام السياسي العام، وبين أطرافه المتطرفة.
هذه النظرة المبسطة، يشارك فيها لسوء الحظ رجال دولة متنوّرون في المنطقة. إن استجابتهم للراديكالية تمثلت في وصفات سياسية تستند إلى القوة النارية، والقوة الاقتصادية، وتوجه علوي تجاه المجتمعات الإسلامية. مثل هذه السياسة، بكل تأكيد، لا يمكن الاستمرار فيها على المدى الطويل، كما لا يمكن اعتبارها مستندة إلى الحكمة وبُعد النظر. إنها تفشل في الاعتراف بأن بلداناً غالبيتها إسلامية مثل ماليزيا وإندونيسيا، استطاعت في الماضي وقف انتشار الحركات الشيوعية بفعالية، مثل حزب الملايو الشيوعي وحزب بارتاي كوميونس إندونيسيا (الحزب الشيوعي الإندونيسي).
على سبيل المثال، الرأي السائد الذي يعزو فشل الثورة الشيوعية في ماليزيا حصراً إلى سياسات القوى الاستعمارية البريطانية في “كسبها لعقول وقلوب” الناس، هو رأي خاطئ، من حيث أنه يتجاهل دور العلماء المسلمين ومنظماتهم في مقاومة الحرب السيكولوجية للشيوعيين. كما أنه يتجاهل التاريخ الطويل للاعتدال الذي يجسد الإسلام في جنوب شرق آسيا، والذي مَكَّن المجتمعات من مقاومة الهجمات الفكرية العقائدية التي حدثت في العقود الأولى من القرن الماضي في الشرق الأوسط. السياسات الصائبة للتعامل مع المسلمين لا يمكن أن تُرسم بدون فهم عميق لهذه التجربة التاريخية الفريدة، ومثل هذا الفهم لا يمكن أن يتأتى من النظرات النمطية والكليشهات للإسلام، كما لا يمكن أن يتأتى من النظر إلى الإسلام السياسي بأنه كتلة كبيرة خطرة. التوجه يجب أن يستند إلى التزام مستدام للبناء على طابع الاعتدال الغالب الذي يتسم به، والمساعدة بكل الوسائل الممكنة للحفاظ على هذا التراث، في الوقت الذي تتم فيه مكافحة العناصر الأكثر راديكالية.
لسوء الحظ، الحكومات في المنطقة قد تخلّت عن استراتيجية أكثر اعتدالاً من حيث التسامح والتعايش، في الوقت الذي انتهجت فيه سياسات نمو اقتصادي. بيد أنها اعتنقت بدلاً من ذلك ديانة جديدة تحت شعار محاربة الإرهاب. وفي فعل ذلك، فإنها تمشي على قشر بيض بالتحالف مع الولايات المتحدة، التي تتسم سياستها الخارجية بذلك التصميم “الولسوني” الذي قادها إلى غزو العراق بمفردها. لذا، فليس من المستغرب أن تعامل الوصفات الصادرة من أمريكا بالشك، وبالأخص من قبل المجتمعات الإسلامية والتي ترى أنماطاً من القوانين الصارمة التي تكتنفها السرية، والتي أصبحت الآن تطفو على السطح، من قبل متآمر معها غير متوقع.
لا شك بأن هذا يجسّد ارتفاع المشاعر المعادية لأمريكا. بيد أن انتشار الراديكالية الإسلامية في جنوب شرق آسيا يجب أن يفهم في الإطار الأوسع لتاريخ المنطقة، وليس فقط من منظار 11 أيلول. وبينما تؤخذ بعين الاعتبار الأسباب الخارجية، مثل التعاطف مع معاناة الفلسطينيين، أو الاحتلال الظالم للعراق كمبررات لجو العداء، فإن بالإمكان دون طول عناء، وبعد الفصل بين الرومانطيقية والحقائق الثابتة، إدراك أن القضايا الملحة هي ذات جذور محلية، وأكثر تنويعاً بكثير من اليافطة العامة التي تنسبها إلى القاعدة.
وفي النظر إلى المستقبل، هنالك تحديات عديدة يتوجب معالجتها على امتداد جنوب شرق آسيا. ففي جنوب تايلندا، حيث تزداد الراديكالية بين المسلمين، والتي تتصدر العناوين للأسباب الخطأ، يتوجب على القوى ذات الفعالية أن تعالج الأسباب الجوهرية والتي تعود إلى عدة قرون من المطالبة بالحكم الذاتي. مرة أخرى، فإن سياسة قائمة على أساس جهود منتظمة لمحو لغة المجتمع الأم، وبغض النظر عن أنها تستند إلى تمييز عرقي، فإنها محكومة بالفشل. لحسن الحظ، فإن التصريحات التي أطلقتها مؤخراً سلطات تايلندا، والتي أعربت فيها عن استعدادها للتفاوض مع الانفصاليين، هي تطور إيجابي يفسح الأمل بإمكانية التوصل إلى حل عادل للقضية.
وبينما نحن نعرف بأن سلسلة الانفجارات الإرهابية التي وقعت في مانيللا مؤخراً كانت أقرب إلى نمط انفجارات بالي، فيجب أن لا تنسى السلطات بأن انتفاضة المورو في جنوب الفيليبين قد مضى على اندلاعها أكثر من عشرين عاماً، وأنها نشأت من عوامل سياسية، واجتماعية–اقتصادية، ليس لها علاقة بموجة الإرهاب الراهنة. إن لها كل العلاقة بتهميش المسلمين الفقراء، بحيث أنه إذا استمرت تلك المظالم دون معالجة، فإن الجماعات الراديكالية لا بد وأن تنمو.
لقد تجاوزت إندونيسيا “النظام الجديد”، ودخلت في عصر الإصلاح، بعد أن خلصت من الخراب الذي أنزلته الدكتاتورية العسكرية. مَن نحن لكي نذكرهم بشرور حكومة قائمة على الاستبداد، والإكراه والقمع؟ وعلى النقيض من ذلك، يجب أن نتعلم دروساً من النتائج المُرَّة التي عانينا منها نتيجة مثل تلك الحقبة الطويلة من السلطة المطلقة غير المقيّدة، والتي شهدت أيضاً انفجار العنف والقتل والدماء بين الطوائف الإثنية.
وفي هذا المجال، فإن الدعوات العرقية التي يطلقها بعض القادة هي تذكير مخيف للسياسة المدمرة التي تتولد عن الحكم المطلق. عندما توضع السياسات الحكومية على أسس شوفينية، مصحوبة بممارسات قائمة على الانحياز، فإن عدم الرضا هو النتيجة الحتمية. يجب أن تعالج هذه القضية في الجوهر، في الوقت الذي يتاح فيه للمجتمع المدني بأن يزدهر. يجب أن توسَّع المجالات الديمقراطية، لا أن تتقلص مساحاتها.
في ماليزيا، فإن الدعوة التي تطلقها الجماعات المنشقة هي التحرك فيما هو أبعد من إطار السياسة الاقتصادية الجديدة الذي مضى عليه أكثر من عقد، والتقدم نحو وضع مخطط لتضييق الهوة الاقتصادية القائمة على أسس إثنية. هذا التصور الجديد هو على نقيض كبير من تصريحات ونصائح لي كوان يو الأخيرة لجارات سنغافورة، والتي يدعو فيها إلى عدم تهميش المواطنين الصينيين. إن أقواله تجسد الجيل القديم من القادة، الذين كانت عقولهم حبيسة الأطر السياسية المستندة إلى العرق، والتي تمنع انسجاماً اجتماعياً أعظم وتنمية أوسع. ماذا عن معاناة غالبية أهل ماليزيا، والهنود، وما يُقَدَّر بحوالي 40 مليون معدم في أندونيسيا، أو حتى معاناة الأقلية الماليزية في سنغافورة؟
لا يمكن أن ننفي بأن الإرهاب المستورد قد أوقد النار الراديكالية، وأدى إلى أعمال مشينة في المنطقة. إن ذلك كان بشكل واضح انحرافاً يقتصر على جيوب صغيرة. ولكن، سوف يكون قصر نظر إذا كانت السياسات التي سوف تطبق في جنوب شرق آسيا جواباً على تلك المخاطر والتهديدات، سياسات اليد الثقيلة، والتي تمليها إلى حد كبير متطلبات تعزيز علاقات مع دولة عظمى. فعن طريق طرح الأسئلة الصحيحة، والتوصل إلى نتائج صحيحة، يبدو جلياً أنه يتوجب العمل بجدية لمعالجة الأسباب، لتفادي المخاطرة بإشعال نيران الفتنة. إن أملي هو أننا في آسيا نستطيع في العقد القادم أن نكتشف الثقة والإرادة للاعتراف بحقوق الناس، وأن نعارض أولئك الذين يودون سلب تلك الحقوق والحريات. وفي الوقت الذي تمضي فيه المنطقة نحو الديمقراطية، فإنها يجب أن تتمسك بالتعددية الثقافية، وأن تعمل على تأييد سياسات النمو الاقتصادي، وسياسات السوق، التي تضمن تنمية مستدامة. إن مستقبلا مزدهرا هو جزء لا يتجزأ من التزام حازم بمبادئ التوزيع العادل، وحكم القانون، والاحترام العميق لحقوق الإنسان.
بالتنسيق مع دورية اقتصاد الشرق الأقصى (فار إيسترن إيكونوميك ريفيو)، تشرين الثاني 2006.
© معهد كيتو، مصباح الحرية، 21 تشرين الثاني 2006.