يمثل الإعلان العالي لحقوق الإنسان، بوصفه أحد المصادر الرئيسية التي تنهض عليها النظرية العامة لحقوق الإنسان في عالمنا المعاصر، الخطوة الأولى المهمة التي خطاها المجتمع الدولي على طريق ترسيخ الاهتمام بحقوق الإنسان والحقوق الأساسية اللصيقة بالشخصية الإنسانية، والذي مهد إلى سن قواعد واتفاقيات جيدة ولاحقة تجاوزت خلو الإعلان العالمي من بعض الحقوق. وعلى هذا النحو، يمثل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وجملة الاتفاقيات اللاحقة ذات الصلة، تجاوز اغتراب الروح الإنسانية عن ذاتها، وتحطيم العوائق التي تحول دون تحقيق ماهيتها. وهكذا، غدا الإعلان قنطرة ومعبرا إلى مرحلة إنسانية أعلى أو بالأحرى نهايتها، على صعيد تحقيقه الفكرة الإنسانية الشاملة. فالثلاثون مادة التي تشكل لحمة الإعلان وسداه تعلن بوضوح عن وصول الروح الإنسانية إلى ذاتها، أي أنها تعرفت على نفسها ووصلت إلى مرحلة الوعي الذاتي بلغة هيجل، فغدت هي الذات الساعية وهي الموضوع الذي تسعى إليه في آن واحد.
بعبارة أخرى، يلبي الإعلان الحاجات والمطالب الأساسية الواجب توافرها للإنسان بوصفه إنسانا بغض النظر عن لونه أو عرقه أو دينه، وذلك بغية صيانة كرامته الآدمية ووجوده الإنساني. وعليه، لا غرو أن تؤلف حقوق الإنسان مجالا خصبا وساحة مشتركة تتفاعل فيه كل العلوم الاجتماعية والفلسفية، وغدت أحد المداخل المهمة لتحقيق الغايات المرجوة من أي مشروع أو خطة للتنمية الشاملة على وجه العموم. ومن هنا، فهذه الحقوق قُرّرت من أجل الفرد أو الإنسان، ويكاد يكون هو الأصل المستهدف من وراء كل تطور ايجابي يرجى تحقيقه أو الوصول إليه بالنسبة إلى أي مجتمع، فتقدم الأخير مرهون بمدى تمثُل هذه الحقوق ودفع التشكيلات المؤسساتية والمجتمعية صوبها. وليس بخاف حقيقة أن الإنسان ، هو الوسيلة أو المدخل لبلوغ مثل هذا التطور، باعتباره حرا ومتمتعا بكافة حقوقه، هو القادر على بناء مجتمع قوي.
كما أن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، فتح المجال واسعا أمام الاهتمام بحقوق الإنسان سواء على الصعيد الوطني أو الدولي. فضلا عن انتشار الكثير من الأفكار والقيم الديمقراطية. ومع الإعلان أصبح المجتمع الدولي يدرك تزايد المخاطر التي يمكن أن يتعرض لها الإنسان. وعلى الصعيد العملي، تجسد الاهتمام بحقوق الإنسان بإدخالها في المبنى الدستوري والقانوني والمؤسساتي للدول، وفرض وجوب احترامها والعمل على تعزيزها. فبدأ المشرعون يولون هذه الحقوق عناية خاصة وتضمينها في الدساتير الوطنية. وعلى الصعيد الدولي، فالمراقب للنسق الدولي يلحظ مدى الاهتمام بمسألة حقوق الإنسان وحرياته الأساسية، فقد غدت بعد الحرب العالمية الثانية وعقب استصدار الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، أحد موضوعات العلاقات الدولية، وشرطا في التعاملات عبر الدولية، فأصبحت الدول تشترط في تعاملاتها ومساعداتها ضرورة أن يكون سجل الدول إيجابيا في ما يتعلق باحترام هذه الحقوق. كما ولا يخفى على أحد الدور الذي تضطلع به بعض الهيئات والمنظمات الدولية بمراقبة الدول فيما يتعلق باحترامها لهذه الحقوق وتعزيزها.
وهكذا، فقبل الإعلان العالمي، لم يلتفت المجتمع الدولي إلى مسألة حقوق الإنسان، فكانت الروح الإنسانية مغتربة عن ذاتها، ومع الإعلان العالمي توصلت الإنسانية إلى مجموعة من القواعد القانونية التي تكفل حماية حقوق الإنسان والحريات الأساسية، ومن هنا وصلت الروح الإنسانية إلى ذاتها، أي أن الإعلان العالمي بات السمة الأساسية لحماية حقوق الإنسان التي تتمثل في أنها تتوجه إلى حماية الأفراد كافة بوصفهم كائنات إنسانية، فالمبادئ العامة التي يتضمنها الإعلان تشدد على وحدة الأسرة الإنسانية، وعلى وجوب احترام الكرامة الإنسانية، وأهمية أن يتمتع كل إنسان بحقوقه وحرياته الأساسية، فهي كاشفة عما استقرت من مبادئ إنسانية مجردة تمثل القيم الدينية والفكر السياسي والفلسفي ومبادئ الثورات الإنسانية الكبرى. فمع الإعلان العالمي بزغ عصرٌ جديد يسعى حثيثا إلى خلق فلسفة إنسانية جديدة تتجاوز الخصوصيات المجتمعية لتغدو نسقا عالميا.
فعندما كان الإنسان معزولا عن أخيه الإنسان ومنكفئا على ذاته، كانت المجتمعات البشرية منفصلة ومتمايزة ومنعزلة بعضها عن بعض. وفي مرحلة تالية، أخذ الصراع بين الجماعات والتطاحن بين النظم الاجتماعية والاقتصادية المختلفة في المجتمع البشري، فكان الإنسان ذئبا لأخيه الإنسان، وفي حالة حرب دائما، الكل ضد الكل (حالة الطبيعة عند هوبز)، فبدأت النظم الشمولية والسلطوية في تدجين الإنسان وصهره في بوتقة النظام فأسقطت الإنسان من حسابها تماما. وفي مرحلة ثالثة (إذا رأينا تاريخ الأفكار بمنظور هيجلي) وبعد حربين عالميتين طاحنتين، وقبلهما الكثير من الحروب والمعارك، بزغ الإعلان العالمي كمركب تم فيه المصالحة بين الإنسان المعزول والإنسان المتماهي بالنظام الشمولي، ليعبر عن الفهم الشامل للإنسان، وعن بدء روح عصر جديد، وفلسفة إنسانية جديدة، تعبر عن ماهية الإنسان وحاجاته الأساسية.
وهكذا، فعلى صعيد الفكر الخالص، حققت البشرية ما تتطلع إليه، من عدالة وكرامة وحرية ومساواة وقيم مدنية، وشرعت في إدخالها في مبناها الدستوري والقانوني والهيئات الدولية ذات الصلة، وتم تجاوز الوقائع المعطاة أو الوجود المباشر والصعود نحو مرحلة إنسانية أعلى، أي إلى نسقٍ إنساني عالمي يتجاوز الخصوصيات الثقافية والمحلية، فوصلت الإنسانية، على صعيد الفكر الخالص، إلى نهايتها. ولكن على صعيد الممارسة الخالصة، لم تتمثل هذه القيم الإنسانية الراقية في مبنى سياسات الدول الكبرى فغدت حقوق الإنسان عتلة سياسية محضة يراد بها زعزعة حكومات وإزالة أخرى، وتقسيم بعض الدول وتجزئتها، كل ذلك تحت أيديولوجية التدخل الإنساني أو التدخل لأغراض إنسانية، الأمر الذي قاد إلى صراعات وحروب طائفية ودينية وعرقية مدمرة. كما لا تزال الدول الشرق أوسطية، رغم تمثل حقوق الإنسان في مبناها الدستوري والقانوني، بيد أنه لم تتمثلها على صعيد علاقة هياكلها السياسية بالأفراد والمجتمع. ومن هنا فالوجود المباشر (الواقع) لا يعبر عن ماهية الروح الإنسانية، وبالتالي لا بد من تغيير الواقع غير المعقول إلى أن يصبح متمشيا مع العقل أو الفكر الإنساني الخالص المتمثل في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. فهل يمكن أن تعبر الإنسانية المشتركة، على صعيد الممارسة، عن ماهيتها فيطابق وجودها روحها الخالصة فتدفع عنها اغترابها؟ أي هل يمكن تمثُل المبادئ العامة التي يتضمنها الإعلان العالمي في الممارسة العملية للدول الكبرى وبخاصة سياستها تجاه عالم الجنوب ؟ وهل يمكن لعالم الجنوب وبخاصة الدول الشرق أوسطية أن تتمثل هذا المبادئ في سلوكها تجاه المجتمع والأفراد؟ آنذاك يمكن القول بتطابق الوجود الإنساني مع الفكر الإنساني الخالص أو فكرته الشاملة، وهكذا تغدو الإنسانية تعبيرا عن إمكاناتها الشاملة، وعن ماهيتها وطبيعتها، وتجاوز انفصال النظرية عن البراكسيس(الممارسة)، وتحقيق الاعتراف المتبادل بين القوي والضعيف، الغني والفقير، الدول الكبرى والدول الصغرى، عالم الشمال وعالم الجنوب. وهذا يتطلب سعيا يأخذ صفة الكلية، فقدرة المجتمعات على التميز والإبداع والتحضر ليس في مجال مجتمعها المحلي فحسب، بل إن الأهم في بزوغ نجم حضارة جديدة، أن تشرّع الدول والجماعات الإنسانية التي تصبوا إلى تحقيق مكانة مرموقة، في خلق مبادئ إنسانية عامة تتجاوز إطارها المحلي وخصوصيتها الثقافية لتغدو نسقا يساهم في الروح الإنسانية العالمية ووحدة هذه الأخيرة، فبقدر مساهمتها في ذلك بقدر ما تصبح حضارة عالمية، في عالم أصبح كالقرية الصغيرة لا مجال لتقوقع على الذات. وهذا درس ينبغي أن تستوعبه الدول الإسلامية وبخاصة الحركات الإسلامية- السياسية المعاصرة التي لا تزال أطروحتها شديدة الضيق والعنصرية، رغم أنها تسم نفسها بالشمولية والعالمية، وهي أخفقت في الداخل فكيف لها أن تنجح على الصعيد العالمي؟! وقبل كل ذلك علينا أن ندرك تماما أن الإنسان موجودٌ من أجل الآخر وليس ضده.
© منبر الحرية،10 دجنبر/كانون الأول 2010
يمثل الإعلان العالي لحقوق الإنسان، بوصفه أحد المصادر الرئيسية التي تنهض عليها النظرية العامة لحقوق الإنسان في عالمنا المعاصر، الخطوة الأولى المهمة التي خطاها المجتمع الدولي على طريق ترسيخ الاهتمام بحقوق الإنسان والحقوق الأساسية اللصيقة بالشخصية الإنسانية، والذي مهد إلى سن قواعد واتفاقيات جيدة ولاحقة تجاوزت خلو الإعلان العالمي من بعض الحقوق.