تعنى الشرعية السياسية أساساً بكيفية وصول الحكام إلى السلطة ومدد بقائهم وعلاقتهم بالمعارضة، ومدى تقبل المجتمع لوسائل حكمهم ولممارساتهم وانجازاتهم. وبينما نجد في معظم دول العالم أن هذه الشرعية تستند إلى صناديق الاقتراع إلا أنها في الدول العربية ليست كذلك. وعبر التاريخ العربي الحديث نجد أن معظم القادة حكموا بصلاحيات مركزية كاملة، وفي حالات أخرى وقع انقلاب عسكري أو شبه مدني. في هذا الجزء من العالم قلما ونادراً ما يترك رئيس دولة موقعه ويعيش مرحلة ما بعد الرئاسة باحترام وتقدير، وقلما تكون للحاكم علاقة طبيعية مع المعارضة وقلما ينجح في التركيز على الانجاز. فهو الآخر يخشى من الانتقام في حالة خروجه من السلطة. هذا يجعل مأزق الشرعية العربية كبيراً، وهو في طريقه إلى التفتت والتأزم.
لننظر إلى مدد تولي الرؤساء للحكم. إن ولاية الرؤساء في دول العالم محددة بسنوات وبفترات وبانتخابات. فهي في العالم وكمتوسط عام بين 4 إلى 6 سنوات، وفي إفريقيا تصل إلى عشر سنوات أما في العالم العربي فمتوسط بقاء الحاكم في السلطة يتجاوز العشرين عاماً. هذا التناقض هو أحد اكبر مشكلات العالم العربي السياسية: التمسك بالسلطة والتخوف من انتقالها في ظل السعي لتهميش المجتمع ودوره وفئاته المختلفة.
إن الطريقة العربية في البقاء في السلطة لفترات طويلة تمت في السابق وتتم اليوم من خلال تفريغ المؤسسات وضرب المعارضة وإلغاء تنوع الآراء وتحويل البلاد إلى واحة أمنية بحيث يخضع كل شيء لحماية أمن النظام. لهذا تصاب المؤسسات الرسمية، بخاصة مع كبر السن لدى القادة، بالترهل كما حصل على سبيل المثال في زمن الحبيب بورقيبة الذي قاد بلاده تونس إلى الأمام قبل أن يصبح كبر السن عائقاً أمام تقدمها. إن حكم الفرد الذي سيطر على العالم العربي غير قادر على تأمين التقدم والتنمية، ونجد أن في معظم الحالات يقوم على إخماد الحريات. وقد قام العديد من حكام العرب بممارسة الأحكام العرفية كطريقة للحفاظ على السلطة وتهميش المعارضة وإيقاف الحراك السياسي.
لكن مجتمعاتنا العربية انتقلت خلال عقود عدة من جهل إلى علم، ومن انغلاق إلى انفتاح، من وسائل إعلام مغلقة إلى وسائل إعلام تبث عبر كل مكان. تغيرت المجتمعات العربية بينما الشرعية ومصادرها لم تتغير ولم تواكب تلك القفزات التي تقع وسط المجتمع وبين شبابه. إن تطورات العولمة والتكنولوجيا أدت إلى تحول الرقابة إلى أضحوكة بينما خلقت في أوساط الشباب في الجيل العربي الصاعد تململاً يزداد وضوحاً في ظل تراجع دور الدولة في تأمين ملايين الوظائف المطلوبة للأجيال الشابة أو حتى تقديم الخدمات النوعية في مجال التعليم والصحة ونوعية الحياة. العربي الحديث يكتشف أنه تائه بين دول تتحكم بها مصالح ضيقة وشعوب تشعر كل يوم بفقدان أسس الحياة الكريمة ومبادئ العدالة في المعاملة. تستمر حالة طحن الناس التي تعمّق الغضب والخوف في الوقت نفسه.
إن مصادر الشرعية العربية الأسرية والعائلية وأيضاً الأيديولوجية بدأت تجف ينابيعها مقابل الحاجة إلى مصادر جديدة أساسها الانتخابات وصناديق الاقتراع والعلاقة الجديدة بين الشعب والسلطة. إن الكثير من الحراك الأولي والغضب والعنف والتوتر في الحياة السياسية العربية يرتبط اليوم بالبحث عن مصادر جديدة للشرعية وللسياسة وللحكم وللإنجاز والتقدم. الواقع الراهن ربما يصمد في العشر سنوات المقبلة، لكنه سيكون صموداً قلقاً وممهداً لانتقالات أكبر.
إن حالة الانهيار التي تشهدها بعض الدول العربية وحالة التآكل في دول عربية كثيرة هي أحد تعابير الأزمة التي تمر بها الأمة الواسعة، كما أن انتشار الإرهاب بما فيه إرهاب الجهاديين هو الآخر تعبير عن مأزق الدولة العربية، وذلك لأن التطرف انعكاس لانسداد الأفق وليس شراً معزولاً عن واقع سياسي اقتصادي واجتماعي ثقافي، كما أن مطالب المثقفين والقوى الليبرالية العربية بحياة سياسية تقوم على الشراكة والشرعية الانتخابية هي محاولة لإنقاذ الدولة من نفسها والاجتهاد في إيجاد مخرج من المأزق الراهن. إن التحركات التي تشهدها مصر مع تحرك البرادعي أو الحراك السياسي وبخاصة الثقافي في دول عربية أخرى تمثل أحد مصادر التأثير والتغيير. كما أن وسائل الإعلام الجديدة والمفتوحة في العالم العربي والمنطقة أكانت في قطر أم دبي أم في بيروت ومصر أصبحت جميعها مصدر حراك وتغير.
إن تأقلم السياسات الحكومية العربية مع مرحلة التغير تتم من خلال محاولات لتجميل الصورة ولإعطاء الانطباع بالإصلاح من دون الدخول في لبه. القيادات السياسية العربية تعتقد أن بعضاً من التعديل وبعضاً من الانتخابات الموجهة قد يفي بالمطلوب. هذه الطريقة التي تقوم على الانحناء للحراك بصورة مؤقتة ستعمق من مأزق الشرعية لأنها ترفع الآمال من دون أن تحقق أي خطوات جدية. إن الأخطر اليوم على النظام السياسي العربي هو الارتفاع الكبير في الآمال والذي تقابله خيبات أمل متتالية.
العالم العربي في طريقه لعدم تقبل الديكتاتورية لأنها تعطل طاقات المجتمع الأوسع وتحرم الناس من المشاركة والدول من الإصلاح الجاد. إن تجربة العرب في ظل غياب المشاركة لم تؤدّ إلا إلى التراجع والانزواء. بل إن الصورة العامة للعالم العربي هي صورة لعالم يبحث عن الهوية، والتكافل والفرص (الحركات الإسلامية) كما يبحث عن الحقوق السياسية والإنسانية (التوجهات الليبرالية).
السياسة في البلاد العربية وقعت وما زالت بين قطبين كل منهما أصعب من الآخر. الأول هو الفوضى العارمة حيث لم يعتد العربي على سلطة فوق سلطته في القبيلة وخارج أعين الدولة. أما القطب الثاني فهو الديكتاتورية وسلطة الدولة المركزية التي لا تنافسها سلطة ولا يتحداها رأي. بين العالمين تشكلت معظم الأنظمة العربية في النصف الثاني من القرن العشرين استنادا إلى سلطة مركزية قوية. لكن هذا النمط من وسائل الحكم بدأ يفقد شرعيته وبدأ ينتهي دوره التاريخي، ولهذا نحن في أزمة سياسية كبرى. إننا في بداية مخاض من أجل الانتقال إلى شيء آخر لطريق ثالث أساسه تحويل المساءلة والمحاسبة والمؤسسات إلى مشروع وطني يتشارك فيه الجميع.
© منبر الحرية،11 دجنبر/كانون الأول 2010
تعنى الشرعية السياسية أساساً بكيفية وصول الحكام إلى السلطة ومدد بقائهم وعلاقتهم بالمعارضة، ومدى تقبل المجتمع لوسائل حكمهم ولممارساتهم وانجازاتهم. وبينما نجد في معظم دول العالم أن هذه الشرعية تستند إلى صناديق الاقتراع إلا أنها في الدول العربية ليست كذلك.