نوح الهرموزي20 أغسطس، 20121
من حقائق التاريخ أن كل تحرر وانعتاق سياسي يسبقه ويعقبه ويسير بحذائه تحرر فكري وتنوير عقلي صنوان لا يفترقان. حقيقة تكاد تكون مغيبة في إعلام الثورات في ظل هيمنة لخطاب "التحرر السياسي" على باقي الأنواع مع استحضار مقاربة انتقائية في التعاطي مع موضوع الحرية.....

كل الأمم عرضت تاريخها للنقد ونزعت القداسة عن تراثها إلا بني يعرب. كل الأمم تتطلع إلى مستقبل يقطع مع مساوئ ماضيها إلا بني يعرب، يرون مستقبلهم في عودة الماضي. كل الأمم تعشق الفنون والثقافة وتحترم المرأة إلا بني يعرب، يؤسسون ثقافة القبور وغسل الموتى وتغليف المرأة. كل الشعوب تلد أجيالا جديدة، إلا نحن نلد آباءنا وأجدادنا،ولذلك فشعوب العالم تتطور ونحن نتخلف

عبد الله القصيمي

إن كثرة الحديث عن “الربيع العربي” بمناسبة أو بدونها سيفضي إلى ابتذاله، مثلما حصل لجملة من الشعارات والمفردات التي عرفها العرب – الخاصة بفترات وحقب سالفة – كعصر النهضة، الزمن الناصري وحقبة القومية… فكل فكرة ترفعُ كشعار دون تطبيق عملي تفقد مصداقيتها. نقول هذا رغم أهمية الحراك العربي، لكن نخشى ما نخشاه من أن يتحول إلى شعار فضفاض “يقول كل شيء عن لا شيء أو لا شيء عن كل شيء” على حد تعبير السوسيولوجي الفرنسي بيير بورديو.

جولة سريعة على امتداد الوطن العربي من المحيط إلى الخليج بدءا بالمغرب الكبير، تُنبِئك بأن لفحات نسيم هذا الربيع قد هبت على المغرب في عز أيام هذا الفصل. بينما بقيت جارته الجزائر في دكة الاحتياط العربي للتغيير. أما ثلاثي تونس وليبيا ومصر، فما يزال يصارع الزمن لتجاوز المرحلة الانتقالية ومخاضها العسير، والتأسيس لشرعية جديدة تقطع مع ماضي الأنظمة البائدة. في حين يظل السودان منشغلا بالحرب مع – ابنه غير البار- جنوب السودان الذي كان حتى الأمس القريب جزء منه، في إعادة لسيناريو اليمن مع فارق في الأسباب طيلة عقود.

أما في المشرق العربي، فلا شيء يوحي بأن الربيع العربي قد مر من هناك، فالصراع على أشده ما بين الرياض والدوحة لملء فراغ القاهرة المنشغلة بأزماتها الداخلية. أما اليمن فقد بدأ يستعيد بعض الاستقرار الهش. هدوء واستقرار لم يعرفا إلى سوريا سبيلا جراء جنون وحماقات الأسد. بينما بقي العراق ولبنان ساحات لتصريف معارك خارجية وصراعات بالنيابة عن لاعبين كبار في المنطقة.

إن ضبابية الأفق التي تكتنف المشهد العربي أفرزت زمرة من المتغيرات، لم ينفصل بعضها عن الآخر بالقدر الذي يسمح بالتقاط صورة أوضح من تلك التي تبدو للعيان.

لا شك أن قليلا من التدقيق يقود إلى الإمساك بخيوط تساعد على فهم جزء غير يسير من السيناريو الدائر على خشبة المسرح العربي. خيوط يشكل الإعلام قطب الرحى فيها، خاصة بعد انتصاره التاريخي في مباراته أمام الفكر. نتيجة جعلت الفكر يتوارى أمام تقدم الإعلام في التعاطي مع هذه الأحداث، فمن العبث الادعاء بأن حركة الفكر تواكب سرعة وثيرة المستجدات في العالم العربي. إذ يهب المرء الوقت الكثير لموضوع واحد من الفكر، حتى يتمكن من إنتاج أفكار راسخة تنأى به عن استخلاص استنتاجات سطحية.

وعليه فإن البحث عن منهج (أو مناهج) يمكن أن يعتمده الباحث بغية تحليل الأوضاع الجارية بالعالم العربي، يجعله يصطدم بحقيقة الهوة بين هذه الأحداث وإمكانيات العلم – حاليا – في الفهم والاستيعاب. هوة شاسعة أذكت حدة المنافسة بين الطرفين. فسمحت ببروز وسيطرة الإعلام في مقابل ضمور وتواري أهل الفكر.

سيطرة بقدر ما ساعدت على تقريب الأحداث والوقائع إلى الأفهام، بقدر ما ساهمت في تشكيل وعي جمعي لدى النخبة والعوام يوجه دفة الحراك بشكل متحيز – في بعض الأحيان – بطرح مقاربات جزئية وأحادية تصل في بعض الحالات درجة الاقصاء بعيدا عن المهنية والحياد والموضوعية.

من حقائق التاريخ أن كل تحرر وانعتاق سياسي يسبقه ويعقبه ويسير بحذائه تحرر فكري وتنوير عقلي صنوان لا يفترقان. حقيقة تكاد تكون مغيبة في إعلام الثورات في ظل هيمنة لخطاب “التحرر السياسي” على باقي الأنواع مع استحضار مقاربة انتقائية في التعاطي مع موضوع الحرية.

إن الحدث عظيم لكنه لم يمنح على الرغم من كبر حجمه أي وعود بالخلاص – على الأقل حتى الآن- لمجتمعات لم تقرر الخلاص بعد، ما دامت قانعة بالنظر إلى وجه العملة (الحرية السياسية) دون الظهر(باقي الحريات).

لا بد أن يستتبع التغيير على المستوى السياسي نظيرا له على الصعيد الفكري من خلال إعادة النظر في مخلفات ورواسب عصور من الانحطاط والجمود الفكري، والانقلاب على وعاظ السلاطين ممن كانوا حتى الأمس القريب حماة الأنظمة السابقة وحملة عروشهم. فالإنسان عندما يعيش في حالة من التراجع الحضاري يلجأ إلى الدين والتاريخ، فالتاريخ محصن بالماضوية في حين أن الدين محصن بالقداسة. وفي ظل عدم وجود اتجاه نقدي حقيقي لقراءة النص الديني والتاريخي في العالم العربي من أجل غربلته في عملية “استيعاب وتجاوز” ـ على حد تعبير المفكر محمد أبو القاسم حاج حمد ـ، تمكن من إرساء دعائم دولة قائمة على أساس المواطنة يحكمها القانون والمؤسسات، يبقى منطق الحاكم والرعية القائم على الطاعة العمياء ذي جذوره التراثية المتأصلة. ما يعد أنصار “التحرر السياسي” جراء هذا الحراك بمد جديد من الاستبداد ربما تحت مسميات جديدة.

لقد صار الربيع العربي ـ كما يبدو ـ غاية في حد ذاته، بدل أن يكون مجرد فصل من سنة تنتظر العرب أن يتموا فصولها خاصة الصيف؛ الذي يستوجب إرخاء الحراك المجتمعي بظلاله على باقي مناحي الحياة. نقول هذا ونحن نعلم أن نشوة الثورة حالة استثنائية، بل هي لحظة إنسانية نادرة يتصرف فيها الناس بشجاعة ويندفعون إلى الموت دفاعا عن أغلى ما يملكون: الحرية والكرامة. ذاك أنها، أي الثورة، آخر ما يستطيع شعب من الشعوب القيام به، والتطلع إليه في مجتمع لم يبق لأحد من أبنائه ما يكفي من الهوامش والمساحات ليكون إنسانا حقيقيا. لكن ما نعيشه من أحداث وأمَارات يجعلنا نقدم الشك على اليقين في انتظار أن تطمئن قلوبنا مرددين شعار … آمنا بالثورة.

 * باحث مغربي.

منبر الحرية، 19 غشت/اب2012

نوح الهرموزي

الدكتور نوح الهرموزي: أستاذ الاقتصاد في جامعة ابن طفيل في القنيطرة بالمغرب.


One comment

  • عبد الرحيم

    22 أغسطس، 2012 at 7:49 ص

    موضوع جيد ومقالة مهمة، فقط لدي بعض الملاحظات وهي في صدد الاختلاف الفكري ولا علاقة لها بالموضوع والشكل، وإنما مجرد اختلاف في وجهة النظر:
    1- لقد تبنيت مقولة الكاتب ” القصيمي” وهو يتكلم عن بني يعرب ويلصق بهم جميع المصائب، في الوقت الذي تتحدث فيها عن ضرورة القطع مع سلبيات الماضي، فالمصائب لا تتعلق بالعرب وحدهم أو بالتركمان وحدهم أو بالأكراد وحدهم أو بالفرس وحدهم أو بالأمازيع وحدهم أو بالأفارقة وحدهم، وإنما تتعلق بؤلاء كلهم، والمحاكمة يجب أن تكون للجميع وليس فقط لعرقية محددة، ونقصد بالجميع الانسان الموجود فوق رقعة جغرافية تعاني من التخلف في جميع المستويات.
    2- تحدثم عن الربيع العربي في الوقت الذي تتكلمون فيه عن نبد الاقصاء، فنسبتم ما قام به الناس في مجموعة من الدول إلى العرب، بينما الصواب أن الأمر اشترك فيه الجميع، رعب وأكراد وأمازيغ ووو. إنه ربيع انسان أو ربيع ثوري ولا يعترف بالعرقية التي هي سلاح الأنظمة التوارثية .
    3- المصاحبة الفكرية للربيع الثوري غير منعدمة، ولكن يمكن القول أنه لولا التطور الفكري الذي حدث ماكانت للثورات أن تقوم، لاننسى ما أحدثته التكنولوجيا من قدرة على القمارنة بين حال الدول الديمقراطية والدول الاستبدادية ، ولاننسى التأثيرات الفكرية التي أحدثها مجموعة من المفكرين السياسين في مصر وتونس وسوريا، ولا ننسى تضحيات الأجيال التي أوصلتنا إلى اللحظة من قبيل حركة كفاية المصرية ومناضلوها أمثال المسيري وقنديل وغيرهم، ولا ننسى ما أحدثته مجموعة من المراجعات الاسلامية التي أحدثها مجموعة من المفركين الاسلاميين والتي أدت غلى تجاوز السكوت غن البطش وتحريم الخروج عن الحاكم لأول مرة مند 1400 سنة وأكثر.
    4- لقد كتبتم ” تُنبِئك بأن لفحات نسيم هذا الربيع قد هبت على المغرب في عز أيام هذا الفصل” بينما كتبت “أما ثلاثي تونس وليبيا ومصر، فما يزال يصارع الزمن لتجاوز المرحلة الانتقالية ومخاضها العسير” وهو تناقض ما بعده تناقض، فأصبح المغرب البذي يعمه الاستبداد وتتحكم فيه الدكتاتورية وتنتشر فيه طقوس الاستعباد هو البلد الذي استنشق نسيم الربيع بينما الدول التي أنجزت توراتها وحسمت مع الطغاة أضحت في نظركم مجرد دول تصارع من أجل تجاوز المرحلة الانتقالية. أريد أن أقل لك سيدي إن الذي أصاب المغرب هو بالفعل – وكما كتبت- لفحات باللام وليس نفحات بالنون، وهي لفحات سامة وصلت إلى فؤاد الانسان المغربي ولكنها في نفس الوقات هي لفحات مهمة لكي ينهض من سباته وينجز ما انجز جيرانه.
    أشكرك مرة أخرى على هذه الفرصة التي أتاحتها مقالتك.

    Reply

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.
جميع الحقول المشار إليها بعلامة * إلزامية

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

تواصل معنا

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018