تأملات في "الفعل البشري" بعد مرور خمسين عاماً

peshwazarabic5 نوفمبر، 20100

إن جوهر فكر لودفيغ فون ميزس هو نظرية الفعل البشري أو الممارسة العملية، وهو العلم العام الذي يسعى إلى بلورته. ويضم هذا العلم العام—وملتصقاً به—الحوافز، أو علم التبادل (ميزس [1949] 1996: 1-3، ويعرف فيما بعد بحرف “م”). ونتيجة لذلك، فإن كل ما نسعى إلى دراسته في موضوع الاقتصاد بالنسبة لميزس ينبثق في نهاية الأمر من الخيار الفردي، ومفتاحه الاقتصاد الذاتاني أو المذهب الذاتي، الذي انبثق عن ثورة منجر، وجيفونز، وولراس، في عقد السبعينات من القرن التاسع عشر. وهكذا، فإن “الاختيار هو الذي يقرر جميع القرارات الإنسانية. وفي عملية اختياره تلك، فإن الإنسان يختار، ليس فقط الأشياء المادية المختلفة والخدمات. جميع القيم الإنسانية هي متاحة للاختيار. جميع الأهداف، وجميع الوسائل قائمة في اصطفاف واحد، وخاضعة لقرار يختار بموجبه شيئاً مُعيّناً ويطرح شيئاً آخر.” (م: 3). يضاف إلى ذلك “أن الفعل البشري هو بالضرورة، عقلانياً دائماً” (م: 19). بالنسبة لميزس، فإن ما تقدم هو حقيقة وليس نظرية خاضعة للتجربة لتقرير ما إذا كانت صحيحة أم خاطئة، ذلك بسبب أن الممارسة العملية هي محايدة فيما يتعلق بأية أحكام قِيَمِيّة بالنسبة للمعطيات المتوفرة عنها—إنها الهدف النهائي الذي يتم اختياره في الفعل الإنساني. وبالتالي، ليست هنالك أسس موضوعية للتأكيد بأنه يمكن لأية اختيارات ما بأن تكون لا عقلانية.
المعطيات الخارجية (سواء كانت حول الثمن أو الفائدة المرجُوَّة) لا تُشكل مشكلة من حيث المبدأ بالنسبة لميزس، لأنه رأى بوضوح، مثلما رأى كوز، بأنها تنطوي على ترسيم أو تحديد لحقوق الملكية—قضية مِلكٍ لا يملكه أي إنسان أو موارد متاحة لعامة الناس دون مقابل. القضية هي اعتبار أشخاص مسؤولين عن تحمل أثمان الفعل البشري الذي يتحمله الآخرون. ميزس يرى أن مبدأ استحقاقية المسؤولية هو مبدأ مقبول على نطاق واسع؛ وأية ثغرات مفترضة هي ناشئة عن “ثغرات متبقية في النظام” (م: 658). وأخيراً، وفي هذا العرض الموجز، هنالك الآراء القوية المعروفة لميزس ضد التدخل: “لا تكاد توجد أية حالات من التدخل الحكومي في السوق، والتي كما تُرى من وجهة نظر المواطنين المعنيين، لا يمكن إلا أن تُعدل بحيث تعتبر إما مصادر أو هدية. لا يوجد هنالك أي شيء يمكن اعتباره وسيلة عادلة ومنصفة، نتيجة ممارسة السلطة الهائلة للتدخل، التي توضع في أيدي الهيئات التشريعية أو التنفيذية” (م: 734). كما أننا نرى حتى مقدمات السعي للحصول على الإيجارات والخيار العام، في معرض تلخيصه للبحث حول الفساد، كنتيجة حتمية وصفها بأنها “نتيجة لازمة للتدخل” (م: 736). لذا، فإن نظرية الاختيار هي أوسع كثيراً من “الجانب الاقتصادي” للجهد الإنساني—إنها رئيسية لجميع الأفعال البشرية.
قرأت ميزس لأول مرة عندما كنت طالباً في السنة الأخيرة لمعهد كاليفورنيا للتكنولوجيا، متخرجاً في هندسة الكهرباء. كان ذلك أحد الأسباب العدة وراء انتقالي في آخر الأمر، إلى دراسة الاقتصاد. قراءة ميزس بعد خمسين عاماً، جعلتني أشعر بمدى أثر وصحة وحيوية كتاب الفعل البشري بالنسبة للوضع الاقتصادي في نهاية الألفية الثانية. لقد أثبت جدواه لأن كثيراً من عناصره الرئيسية—حقوق الملكية، أنظمة المسؤولية القانونية، فعالية الأسواق، عبثية التدخل، وأولوية الفرد—قد أصبحت عناصر مهمة في تحليل الاقتصاد الجزئي، سواء نظرياً أو كسياسات عامة. يضاف إلى ذلك أن تلك العناصر والمعطيات قد أصبحت مهمة بسبب ميزس وهايك وغيرهم من الأتباع (كوز، ألكيان، نورث، بيوكانن، توللوك، ستيجلر، وفيكري، من بين آخرين كثيرين)، وليس نتيجة للنظريات الاقتصادية السائدة. هنالك الكثير من آراء ميزس بحاجة إلى التحديث، بسب الأشياء التي نعتقد بأننا أصبحنا نعرفها الآن، والتي لم نكن نعرفها قبل 50 عاماً.
بيد أن رسالة ميزس الأساسية حول كيفية عمل الاقتصاد هي الآن صحيحة كما كانت صحيحة قبل 50 عاماً. إن الذي تغيّر بقفزات واسعة هي أساليب دراسة طبيعة اتخاذ القرار الإنساني. في هذا البحث الموجز، سوف أختار عدداً من العناصر في فكر ميزس للتدليل على ذلك التغيير. وسوف أضيف إلى ذلك البحث بعض التعليقات على فكر هايك، ذلك أن هذه السنة تصادف الذكرى المائة لمولده. لذا هنالك الكثير مما يمكن مشاركة النمساويين الاحتفال به.
حول الفعل البشري والتجارب المختبرية
أفكار ميزس حول الأساليب التجريبية تعكس النظرة المنهجية التي كانت سائدة في هذا الميدان قبل 50 عاماً—أي أن علم الاقتصاد هو بالضرورة علم غير تجريبي:
“هنالك عدد من علماء الطبيعة والفيزيائيين الذين ينحون باللائمة على الاقتصاد، بسبب أنه ليس علماً من علوم الطبيعة ولأنه لا يستخدم أساليب ووسائل المختبر… بيد أن الخبرة التي تُعزى إليها جميع نجاحات علوم الطبيعة هي خبرة التجربة التي يمكن فيها ملاحظة عناصر التغيير الفردية بمعزل عن غيرها… الخبرة التي يترتب على علوم الفعل الإنساني التعامل معها هي دوماً تجربة معطيات معقدة. لا يمكن إجراء تجارب مختبرية بالنسبة للفعل الإنساني. نحن لا نكون أبداً في موقع يمكّننا من ملاحظة التغيير الذي يطرأ بالنسبة لعنصر واحد فقط، مع بقاء جميع شروط الحدث دون تغيير” (م: 7-8، 31).
إن وجهة نظري حول سبب الاعتقاد بأن علم الاقتصاد ليس علماً قابلاً للخضوع للتجربة هو بكل بساطة لأن لا أحد حاول أو اهتمّ بذلك. رأي ميزس كان مقبولاً عالمياً في حينه، وهو ما يزال يشار إليه. وهكذا، فقد لُفت نظر تشارلز هولت، وهو عالم تجريبي بارز من قبل مستشاره، بأن “الاقتصاد التجريبي كان طريقاً مسدوداً في عقد الستينات، وأنه سوف يكون كذلك في عقد الثمانينات” (كيجل وروث 1995: 428، 2). ما هو غير واضح هو السؤال التالي: لماذا استمر ما اعتبر طريقاً مسدودة في عقد الستينات طريقاً مسدودة في عقد الثمانينات أيضاً؟ إنني أتطلع في الأشهر القليلة الباقية من عام 1999 إلى أن يكون عقد التسعينات طريقاً مسدودة كذلك.
هذا يذكرني بملاحظة بول سامويلسن بأن العلم يتقدم جنازة إثر جنازة. وفي الحقيقة، فقد صادف العام الماضي الذكرى الخمسين (وإن لم يُؤبه بها) لأول دراسة صدرت حول تجارب السوق في الاقتصاد (تشيمبرلن 1948). ما ظن تشيمبرلن أنه أظهره هو أن نظرية السوق التنافسية غير قابلة للتطبيق (على الرغم من أن التجارب التي أُجريت في صفوفه كان يُراد بها التمهيد لإثبات نظريته فيما يتعلق بالتنافس الاحتكاري، وأن تجاربه لم تظهر بأن الأسواق تفشل في تحقيق مكاسب كبيرة من التبادل التجاري).
إن نقدي وتعديلي لتجربة تشيمبرلن، بما في ذلك شمول مكاسب مالية، وتغيير في التركيز حول دور المؤسسات (أنظمة لسوق مُعَّين) هو أمر معترف به، ليس هنالك شيء عجيب أو غير عادي حول النتائج التي توصل إليها تشيمبرلن. الاقتصاد التجريبي يؤيد تأييداً قوياً ليس فقط نظرية ميزس بالنسبة لأسعار السوق، ولكن كذلك نظرية التوازن في ظروف غير متغيرة، وحتى في ظروف متغيرة تغيُّراً ديناميكياً. نظرية التوازن بمجموعها، كانت في نظر ميزس “معطيات خيالية” (م: 250-51). وكانت هذه هي الحقيقة، مثلما كانت كثير من أفكار ومساهمات ميزس. هكذا هي طبيعة النظريات، وقد وُضعَت جميعها دون أن يتوقع أحدٌ بأنها سوف تخضع للتجربة. ما فعلته تجارب السوق بالنسبة لي هي إحياء “هذا البناء النظري الخيالي.” وأمام عيّني رأيت الناس الذين لديهم المعلومات الخاصة، والذين لم يكونوا يملكون علماً مسبقاً بالنتائج التي كانوا يحققونها، يحققون أقصى درجات الربح من عمليات التبادل ونتائج التوازن المتأتي عن ذلك. يوجد الآن مئات عدة، بل آلاف من التجارب التي تدلل على قوة الأسواق—وبالأخص عندما تُجَّمَعُ وتُنظمُ في إطار مؤسسات المزاد المضاعف الواسع الانتشار في جميع الأسواق المالية وأسواق السلع؛ إنها تعطي نتائج قوية ليس فقط بالنسبة للعمليات التنافسية، بل كذلك في العروض البريدية والمناقصات ذات السعر الواحد في عمليات التصفيات السوقية (أنظر كيجل وروث 1995، ديفيس وهولت 1993، سميث 1991). هذه النتائج، والتي أعيد تكرارها من قبل العديد من الدارسين هي جليّةٌ بالنسبة للمواضيع المجمعة المطروحة: طلبة البكالوريوس الجامعيون، طلبة الدراسات العليا، تلامذة وأساتذة المدارس الثانوية، رجال الأعمال والمنظمات النسائية. ومن ثمَّ، في منتصف الثمانينات، أجرينا تجربة، مستخدمين في ذلك الموظفين الإداريين لوزارة الطاقة، أوضحت أن المشرفين الحكوميين على تطبيق الأنظمة، يستطيعون بسهولة طبيعية مماثلة خلق سوق.
إن ما نتعلمه من مثل تلك التجارب هو أن أية جماعة من الناس تستطيع الدخول إلى غرفة، وتكون مُحفزةً ببيئة اقتصادية خاصة ومحددة الأهداف، وتكون أنظمة المشاركة في المزاد المضاعف قد شُرحت لها لفظياً للمرة الأولى، تستطيع أن تخلق سوقاً يتحول عادة إلى توازن تنافسي، ويكون 100 في المائة منظماً تنظيماً جيداً؛ مثل تلك الجماعة تستطيع أن تحقق حداً أقصى من الربح نتيجة التبادل، في غضون مرتين أو ثلاث مرات من المشاركة في أية فترة تجارية. ومع ذلك فإن المعلومات تكون مبعثرة، بحيث لا يكون المشارك مُلماً أو مطَّلعاً على العرض والطلب، أو حتى استيعاب ما يعني ذلك. هذا يدلل بشكل مثير للانتباه ما أسماه آدم سميث (مؤلف كتاب ثروة الأمم) “بنزوع مُعيّن في الطبيعة البشرية، لنقل ومقايضة وتبادل سلعة ما لسلعة أخرى” (سميث، 1776، 1909: 19). كذلك، فإنه يدلل على ما أكّده ميزس “بأن كل إنسان يعمل من أجل نفسه؛ ولكن أفعال كل إنسان تهدف إلى تلبية حاجات الآخرين بمثل ما تهدف إلى تحقيق أهداف الإنسان الذاتية. كل إنسان في فعله يخدم مواطنيه الآخرين” (م: 257).
حول التطور والعقل البدائي

إن فهم ميزس للتطور يتلاقى جيداً مع التفسيرات المعاصرة، مثل سيكولوجية التطور (توبي وكوزميدس 1992):
“العقل البشري ليس صفحة بيضاء التي تكتب عليها الأحداث الخارجية تاريخها. إنها مزودة بمجموعة من الأدوات لاستيعاب وفهم الحقيقة. لقد اكتسب الإنسان تلك الأدوات أي، التركيب المنطقي لعقله، من خلال تطوره من الخلية الأميبية إلى الوضع الذي وصل إليه حالياً. بيد أن تلك الأدوات هي منطقياً جاءت سابقة لأية تجربة. لا توجد أية حقائق مستقاة من علم الأعراق البشرية “الإثنولوجيا”، أو من التاريخ تدحض التأكيد بأن التركيبة المنطقية للعقل هي واحدة في جميع الرجال، من كافة الأجناس، والأعمار والبلدان.” (م: 35، 38).
هذه في جوهرها هي النظرة الراهنة للسيكولوجية التطورية فيما يتعلق بنظرية التطور والنشوء، والعقل، وبشكل محدد اللغة الطبيعية. إن الادعاء بأننا نكتسب أدواتنا العقلية قبل مراحل التجربة هي موضحة توضيحاً جيداً في دراسة كيفية اكتسابنا للغة: “عندما يركز الباحثون على قاعدة نحوية (أمثال في اللغة الإنجليزية تتمثل في نظام العدّ الذي يضيف حرف [s] للاسم العادي للدلالة على الجمع؛ وإضافة [ed] لوصف صيغة الماضي في الفعل العادي)، وملاحظة كم هي المرات التي يستجيب الطفل لها، وكم هي المرات التي يتجاهلها، فإن النتائج تبدو باهرة: بأي قياس تختاره، فإن الأطفال في سن الثالثة يستجيبون لها في معظم الحالات (بينكر 1994: 271). التفسير هو أن العقل يجيء مزوداً سلفاً بحلقة دائرية جاهزة لاستيعاب ألفاظ أية لغة؛ وأن تشغيل تلك الحلقة يتطلب فقط التحدث إلى الآخرين لتحريك مفاتيح الحلقة. الاستثناءات (الأخطاء) للأطفال في سن الثالثة، يدفع في الواقع إلى تأكيد هذا المبدأ: “Two mans are at the door” أو “He builded the house” هما خطآن لا يستخدمان. فالأفعال غير العادية والأسماء يجب أن تحفظ عن ظهر قلب، وتودع بعملية من عمليات العقل تبدأ أولاً بإغلاق وتصريف الحساب المنعطف، ومن ثم تجفيف تلك الحالات غير العادية من الذاكرة. إن كثيراً من الحالات غير العادية لا تستخدم إلا نادراً من قبل الكبار، لذا فقد يستغرق وقتاً أطول لتحقيق عملية الإغلاق/والاستبدال، أما الأطفال في سن الثلاثة أعوام فإنهم دائماً يستخدمون الاصطلاحات الحسابية الصحيحة. هكذا تعمل أدوات اللغة المودعة في العقل عملها الطبيعي. إن استخدام الحساب المنعطف في العقل البشري هو وسيلة العقل في تقنين الذاكرة الصحيحة ومصادر المعلومات. إنك تحتاج فقط إلى أن تحفظ في ذاكرتك الجذور الرئيسية والفروع، ثم استنهاض الحسابات الأوتوماتيكية لتغذية الكلمات الأساسية بحيث يتسع معجم الكلمات في اللغة اتساعاً كبيراً. هكذا، فإن ما يعرفه في المتوسط خريج مدرسة ثانوية أمريكية هو (45000) كلمة—وهي ثلاثة أضعاف الكلمات التي استطاع شكسبير استخدامها في مجموع رواياته وأبياته (بينكر 1994: 150).
بيد أن البعض يرفضون هذا التفسير للغة، معربين عن الرأي بأن قدراتنا اللغوية ليست تأقلماً مع، وإنما هي وسيلة جرى تطويرها لأغراض أخرى، وأعيدت صياغتها لتحقيق أهداف جديدة (جولد وفربا 1981). ولكن تبدو لي مثل هذه الآراء تحويلة تباعدية. يمكن أن يكون التأقلم معقداً، ووضع اليد على وحدة قياس، يبدو لعالم البيولوجيا (الأحياء) بأنها تشبهه، قد تم تطويره لخدمة أهداف أخرى، هو سبيل واحد فقط، من بين سبل كثيرة، يمكن للأقلمة التطورية أن تنتهجه. رجل حكيم فقط، هو الذي يستطيع أن يقول لنا لأي سبب تم تطوير آلية بيولوجية معينة في الأصل. لا يتوجب عليك الاعتقاد بأن اللغة قد تطورت بسبب أن الإنسان الأول نطق بكلمة زادت من لياقته، وأن هذه الكلمة الجينية انتشرت بعد ذلك بين السكان. ميزس لا يدعي معرفة كيف خلق التطور قدرة الإنسان العقلية. ولكن بالنسبة له، فإن من الطبيعي النظر إلى العقل كنتيجة للتطور والنشوء، بمثل الاعتقاد بأن عملية التطور قد أدت إلى خلق الأيدي والأرجل.
جولد وليوينتين (1979) قد اتهما الكثيرين من علماء التطور البيولوجيين بإضفاء مصداقية مبالغ فيها للانتقاء النوعي. وسوف يجد أحفاد مدرسة ميزس الفكرية طرافة في تقييم بينكر (1994: 359) لدراسة جولد وليوينتين المتنفذة والتي تقول: “إن أحد أهدافهم هو النيل من نظريات السلوك البشري، والتي في تصورهم تنطوي على ميول سياسية يمينية. إن جولد الذي ينتمي إلى جامعة هارفارد، هو طبعاً مثل بارز على ادعاء مأفون بالقيل والقال، بأن الماركسيين الوحيدين الذين ظلوا في العالم يُعلمون في الجامعات البريطانية والأمريكية. الذي يبدو أن اليساريين الذين يروِّجون لاكتمال البشر من خلال الهيمنة، المجتمعية (الحكومة)، يخشون تداعيات إعطاء وزن كبير للطبيعة، في الوقت الذي يخشى فيه اليمينيون (على الأقل تلك الفئة التي تؤمن بمحدودية دور الحكومة) من تداعيات الدولة على مطواعية العنصر البشري. هذه هي طبيعة النقاش بين الطبيعة مقابل التنشئة والذي ينطوي على انحيازات سياسية كامنة. ميزس يصطف على جانب الطبيعة في قوله بأن للعقل أدوات تُشكلُ جزءً من التجربة. بيد أن العقل اكتسب تلك الأدوات لأنها كانت طيِّعة وقابلة للأقلمة، ولأنها ازدهرت في بيئات لم تغلق في وجهها قدرة التعبير عن نفسها. هكذا، فإن وجهة نظر معاصرة مهمة هي التوأمة بين الطبيعة والثقافة—الثقافة تؤثر على ذلك الذي يبقى ويزدهر، والطبيعة تؤثر على ما هو بشكل أو بآخر، قابل للتغيير.
الفعل الواعي والفعل اللاشعوري

هنا في هذا المجال، نجد أنه تم تجاوز ميزس، نتيجة التطورات الأخيرة في علوم النفس، ذلك أنه يقول “إن الفعل الواعي أو المتعمد هو على نقيض حاد مع السلوك اللاشعوري، أي الانعكاسات والاستجابات اللاشعورية لخلايا الجسم والأعصاب” (م: 10). إنه يريد أن يدعي بأن الفعل الإنساني هو فعل متعمد وواع. ولكن ذلك ليس شرطاً ضرورياً لنظرياته. فالأسواق هناك تفعل فعلها بغض النظر عما إذا كان وراء الفعل الإنساني خيار ذاتي متعمد أم لا.
إنه يقلل لدرجة هائلة من عمل العقل اللاواعي. معظم الذي نعرفه لا نذكر بأننا قد تعلمناه، مثلما أن عملية التعلم ليست متوفرة لتجاربنا الواعية—أي للعقل. الطفل الذي ينمو بشكل طبيعي يكون قد أتقن تركيب الجمل في أشكالها الصحيحة، عندما يبلغ السنة الرابعة من عمره، ودون أن يكون قد تعلم ذلك. وكما لاحظ بينكر “الأطفال يستحقون معظم الثناء لاكتسابهم اللغوي. وفي الحقيقة، فإننا نستطيع أن نبيّن بأنهم يعرفون أشياء لا يمكن أن يكونوا قد تعلموها” (بينكر 1994: 40). وحتى قرارات حول قضايا مهمة نواجهها تعالج من قبل العقل دون طاقاته الواعية. يبدو ذلك واضحاً عندما تكون منغمساً في اتخاذ قرار، أو محاولة حل مشكلة، أو الذهاب للسرير حيث تصحو وقد أحرزت تقدماً مهماً، أو حتى توصلت إلى حل. وكما أوضح عالم النفس ميشيل جازانيجا ببيان واضح كما هو دأبه:
“ما أن يحين الوقت الذي نعتقد فيه أننا نعرف شيئاً (أي أنه جزء من خبرتنا الواعية) يكون العقل قد أتم فعل ما يتوجب عمله. إنها أخبار قديمة بالنسبة للعقل، ولكنها جديدة بالنسبة لنا (العقل الواعي). الأنظمة المشيّدةُ في العقل تفعل فعلها أوتوماتيكياً، وإلى حد كبير، خارج إدراكنا الواعي. العقل ينهي العمل قبل نصف ثانية من وصول المعلومات التي يتعامل معها إلى عقلنا الواعي… نحن (أي عقولنا) خاليو الذهن حول كيفية عمل ذلك والتأثير عليه. نحن لا نخطط أو نبلور تلك الأعمال. إننا ببساطة نراقب النتيجة. ويبدأ العقل بالتغطية على ذلك (أي الفعل الذي تم من مناحي العقل) بخلق الانطباع الخاطئ بأن الأحداث التي نمر بتجربتها هي أحداث في زمن حقيقي—وليس قبل فعلنا الواعي بتقرير ما يتوجب عمله” (جازانيجا 1998: 63-64).
وفي الحقيقة، فإن أحد الألغاز المحيّرة في علم النفس هي: لماذا يخدع الدماغ العقل إلى الاعتقاد بأنه يسيطر على النشاطات العقلية. ولكن، لا شيء مما تقدم ينال من تأثير نظرية ميزس. الأسواق هي إحدى وسائل العقل الاجتماعية لتوسيع قدرتها على معالجة المعلومات من عقول غيرها، والمساهمة في خلق الثروة، بما يتجاوز كل ما يستطيع العقل البشري أن يفهمه. وكما أن معظم ما يفعله الدماغ هو غير متاح للعقل، كذلك هنالك إخفاق واسع بين الناس في فهم الأسواق كأنظمة تنظم نفسها بنفسها، وتنسقها أسعار تهدف إلى تحقيق مكاسب مشتركة من عمليات التبادل، ودون توجيه من أحد. إن تفاعلات الاقتصاد هي بعيدة عن إدراك المتعاملين فيه، بما في ذلك رجال الأعمال، كبعد إدراك المتعامل نفسه عن فعل عقله. إن عمليات الاقتصاد ليست نتاج، ولا يمكن أن تكون نتاج العقل الواعي، والذي يتوجب عليه الاعتراف بمحدوديته وأن يواجه، وفق ما كتب هايك “تداعيات الحقيقة المذهلة، والتي كشف عنها علم الاقتصاد وعلم البيولوجيا، بأن النظام الذي يعمل دون تخطيط مسبق، يفوق بمراحل كبيرة الخطط التي يضعها الإنسان عمداً” (هايك 1988: 8).
حول شبكة العقل المتخصصة بمعرفة كلفة الفرصة وتشابك علاقة العقل والعواطف
نظرية تبرز بإصرار ومتابعة في كتابات ميزس، هي أن الاختيار يقوم على التفكير، وتحليل الأفضليات المقارنة والأحكام المتصلة بما هو أكثر وما هو أقل: “الفعل هو محاولة استبدال وضع أفضل من وضع أقل منه… الثمن يساوي القيمة المعطاة لوضع ما، والتي يتوجب التخلي عنها لتحقيق الهدف المنشود” (م: 97). “الرجل وحده يملك الملكة على تحويل الحوافز الحسيّة إلى ملاحظة وتجربة [ويستطيع أن يرتبهما] ضمن نظام متكامل. الفعل يسبقه التفكير” (م: 177).
أود أن ألفت النظر إلى حقيقة أن توجهاً في أبحاث تتصل بالحيوان والإنسان تقود إلى السنّة ذاتها، قد نشرت بعنوان الفعل البشري، وقد أثبتت الأساس لمقارنات قيمية مقنعة، تتعلق بكيفية عمل الدماغ الحيواني. قدم زيمان (1949) تقريراً يعرض فيه نتائج تجارب على فئران دُرِّبت على السعي لتحقيق هدف تحفزها إليه المكافأة المقدمة. ومن ثمَّ انتقلت التجربة إلى إعطاء مكافأة أقل، وقد كانت استجابة الفئران الركض ببطء أكثر نتيجة المكافأة الأقل. فريق ثان من الفئران بدأ بمكافأة صغيرة، ثم انتقل إلى مكافأة أعلى. وعلى الفور ركضت تلك الفئران بوتيرة أسرع مما لو كانت المكافأة الأعلى وحدها هي التي طبقت. كانت تلك التجربة المبكرة متوافقة مع الفرضية التي مفادها أن الحافز يعتمد على المكافأة النسبية—كلفة الفرصة—وليس على مقياس كُلِّي من القيمة ينتجها الدماغ. بيد أن ذلك التفسير لم يُقدَّر بما يستحق في ذلك الوقت. ومنذ ذلك الحين، أظهر القياس المباشر لنشاط نبضات الدماغ أهمية المقارنة القيمية النسبية في فهم كيفية عمل أدمغة المخلوقات. هكذا، فإن أدمغة كل من القردة والفئران تستجيب لمقارنات متفاوتة من المكافآت. فالدراسات العصبية الفيزيولوجية لكل من القردة والفئران تدل على أن النيورونات الجزئية في الأقسام المكونة من طبقات ست في مقدمة ذلك الجزء من الدماغ (فوق العينين)، تقوم بتمحيص الأحداث المحفّزة، وتميزُ بين الشهية وبين الحوافز الموضوعية الطاردة، وأنها تكون نشطة خلال فترات توقع النتائج (شولتز وترمبليه 1999: 704).
لقد أصبح ثابتاً الآن بأن نشاط النيورون الأمامي المحرك في القدرة يُمكِّنها من التمييز بين المكافآت النسبية ذات العلاقة المباشرة بالتفضيل النسبي للحيوانات، بين مجموعة من المكافئات مثل الزبيب والتفاح والحبوب (مرتّبةٌ وفق التفضيل النسبي). وهكذا، فإن نشاط النيورونات هو أكبر بالنسبة للزبيب منه إلى التفاح عندما يكون الخيار بين الزبيب والتفاح، وكذلك بين التفاح والحبوب. بيد أن النشاط المحفّز من التفاح هو أكبر كثيراً بالمقارنة مع الحبوب منه بالمقارنة مع الزبيب. هذا يتعارض مع ما يتوقع المرء لو كانت المكافئات الثلاث مسجلة على قياس ثابت من المواصفات الفيزيولوجية، بدلاً من القياس النسبي (شولتز وترمبليه 1999: 706، الشكل 4).
وحيث أن التقنيات التي تستخدم في الحيوانات نزّاعة إلى التوغل في الأنسجة أكثر مما هو مُستحب بالنسبة للبشر، ما هو المغزى بالنسبة للإنسان لتلك الأبحاث حول عمل الدماغ الحيواني؟ الجواب هو أن الأبحاث قد دلَّت على أن القشرة الأمامية المتحركة في الدماغ البشري تعمل عملاً متطابقاً مع ما تفعله تلك القشرة في الحيوانات. وقد تبين ذلك من خلال دراسة البشر والقردة اللذين أصيبت قشرتهما الأمامية بالعطب: كلا الجنسين أبديا تعبيرات متغيرة بالنسبة للمكافئات والخيارات المفضلة، كما أظهرا العطب الذي أصاب قدرتهما على اتخاذ القرارات، والحوافز والسلوك العاطفي، وجميعها تؤدي إلى اختلالات مهمة في سلوكها الاجتماعي. وكما لاحظ داماسيو في تلخيص نتائج تلك الدراسات: “على الرغم من الفروقات النيوروبيولوجية بين القردة والشمبنزي، وبين الإنسان والشمبنزي، هنالك جوهر مشترك للعطب الذي ينتج عن إصابة الأعضاء الأمامية في الدماغ: فقد نتج عن ذلك تدهور شخصي واجتماعي شديد في سلوكيهما” (داماسيو 1994: 75).
يود الناس أن يعتقدوا بأن اتخاذ القرارات الصائبة هي نتيجة لاستخدام العقل، وأن أية مؤثرات قد تولدها العواطف هي مناقضة للقرارات الصائبة. إنَّ ما لم يُقدّره ميزس وغيره الذين يعتمدون أيضاً على أولوية العقل في نظرية الاختيار هو الدور الإيجابي الذي تلعبه العواطف في الفعل الإنساني. وعلى سبيل المثال، فقد قام بيكارا وآخرون (1997) بدراسة سلوك المرضى الذين يعانون من إصابات في الحيِّز الأمامي للدماغ في عملية اتخاذ القرار، مقارنة مع الأشخاص الطبيعيين.[1] لقد دلت تلك الدراسات على أن الأشخاص الطبيعيين، عندما علموا بالبيئة الاختبارية، قد دخلوا في مرحلة انتقالية حرجة، غيّروا فيها من أنماط اتخاذهم للقرارات. بيد أنه وقبل التحول الذي وقع في اتخاذ القرار، أظهرت التجارب التي أُجريت على القشرة الجلدية الناقلة للحواس استجابة عاطفية، بينما فقط بعد تغيير القرار، استطاعوا أن يبلوروا شفوياً السبب الذي أدّى إلى إجراء التغيير. وبالتالي، فإن الدماغ العاطفي ينتقل إلى الفعل قبل تغيير القرار، بينما العقل، في شكل تبرير عقلاني، يعمل بعد اتخاذ القرار. الذين أُصيب دماغهم بالعطب فشلوا في إبداء استجابة عاطفية، وفشلوا في تغيير صنع القرار، ويقدمون تبريرات لفظية لأدائهم الضعيف. ومما يلفت النظر أن هنالك مشكلة عامة فيمن أصاب العطب دماغهم ألا وهي، فقدان وظائفهم، أو الإفلاس، ويجدون صعوبة في اتخاذ قرارات على المدى البعيد (بيكارا وآخرون 1997). أعتقد بأن هنالك إشارات لا شعورية، تصدر عن ذلك الجزء العاطفي من العقل (يسمى في بعض الأحيان بـ”Limbic System”)، وهو الذي يوجه أو يؤثر على تشكيل استراتيجية المعرفة، وأن هذه الاستدارة تتأثر بما يحل بمقدمة الدماغ من انشقاقات ونتوءات. ونتيجة لذلك، فإن العواطف، وبعيداً عن أن تكون ضارة باتخاذ القرار الصائب، قد تكون أساسية له، بينما التحليل العقلي الواعي يكون الأخير في معرفة ما جرى.
حول المجتمع الإنساني والتعاون
وفق نظريات ميزس، فإن جميع العلاقات الاجتماعية تنشأ من تقسيم العمل، والذي أصبح ممكناً نتيجة اقتصاد السوق:
“داخل نظام التعاون الاجتماعي، يمكن أن تنشأ بين أعضاء المجتمع مشاعر التعاطف والصداقة، والشعور المشترك بالانتماء. هذه المشاعر هي مصدر أكثر تجارب الإنسان علواً ومسرّة. إنها أغلى مُزيّنات الحياة.. بيد أنها ليست الأداة التي جلبت العلاقات الاجتماعية. إنها ثمرة التعاون الاجتماعي، وإنها تنمو فقط ضمن أُطره… الحقائق الأساسية التي جلبت التعاون والمجتمع والحضارة، وحوَّلت الحيوان البشري إلى كائن إنساني، هي الحقائق التي أظهرت بأن العمل الذي يتم في إطار تقسيم العمل، هو أكثر إنتاجية من العمل المنعزل، وأن عقل الإنسان قادر على إدراك هذه الحقيقة” (م: 144).
أود أن أسلط ضوءً مختلفاً على هذه القضايا، دون أن أنفي، أو أُقلّلَ من جوهر رسالة ميزس. إن صيغتي، القائمة على أسس من علم الآثار، والأعراق والدراسات التجاربية، تعطي منظوراً مختلفاً حول الجذور السيكولوجية الاجتماعية للتبادل، وحقوق الملكية والمال. وحيث أنني قد سبق وبحثت هذا الموضوع بإسهاب في موقع آخر، فإنني سوف أستخدم هذه المناسبة لتحديثها وإعادة صياغتها في إطار تكريم مساهمات ميزس الخالدة (سميث 1998).
ربما في الترتيب الثاني بعد اللغة، كظاهرة إنسانية عامة، يقوم الناس دائماً، وإلى درجة كبيرة لا شعورياً، في الإقدام على التبادل مع الأصدقاء والمشاركين وحتى الغرباء، إذا لم يكن الإطار لذلك التعاون عدائياً. إنك تدعو المعارف إلى العشاء، يتلو ذلك دعوتهم لك، إنك تعطي تذكرة المسرح إلى صديقة عندما تكون خارج المدينة، وبعد ذلك، فإنها تعطيك تذاكر لحضور حفلات موسيقية، تكون هي غير قادرة على حضورها. الأصدقاء يتبادلون العطايا، ويقرضون الممتلكات، ويقدمون الخدمات لبعضهم بعضاً بشكل أوتوماتيكي، دون إجراء حسابات تفصيلية دقيقة. ومن هنا تجيء العبارة الشائعة “أنا مدين لك بواحدة.” مجتمعات الصيد، التي تمت دراستها على امتداد المائة عام الماضية، مليئة بأنظمة تبادلات اجتماعية، ذات نتائج وتداعيات اقتصادية بعيدة المدى. ومع أن بعضها كان يتعامل بشكل من أشكال السلع المالية، فإن الكثيرين منها لم يكونوا يفعلون ذلك، بل يعتمدون كلياً على التبادل الاجتماعي من خلال التعامل بالمثل، لاكتساب الربح من خلال التبادل، في عالم خالٍ من المال أو الحفظ في التبريد.
إن أشكال المؤسسات تختلف اختلافات كبيرة، بيد أن عملها هو الشيء ذاته. هنالك تقسيم عال في العمل على امتداد الأجيال وبين الجنسين: النساء والأطفال وكبار السن، في العادة، يجمعون ويوضبون الناتج الزراعي؛ بينما الرجال والأولاد ما بعد سن الثامنة عشرة يصيدون؛ كبار السن يعطون النصائح حول الصيد ويصنعون الآلات؛ الجدات يساعدن في توليد الأطفال وتنشئتهم، كجزء من تأقلم إنساني بيولوجي—انقطاع الطمث—أي سن اليأس، الذي يؤدي إلى حياة عائلية وخدماتية للمجتمع، في فترة ما بعد الإنجاب.
هذه “الغريزة” لتبادل المنافع قد ظهرت بقوة، وعلى نطاق غير متوقع، في تجارب واسعة معملية (فير، جاكتر وكيركستايجر 1996؛ مكايب، راسينتي وسميث 1996). وكما ذكر أعلاه، فإن أبحاث السوق التجاربية تؤيد بقوة وجهة نظر سميث-هايك-ميزس حول التعاون من خلال مؤسسات السوق، والتي من خلالها تسخّرُ حقوق الملكية المصلحة الذاتية لخلق الثروة. بيد أن النصف أو أكثر من الناس الذين يُعظمون مكاسبهم من التبادل، وإن كان عن غير وعي، وبتعاملات غير محدودة من قبل أنظمة السوق، يختارون أيضاً التنازل عن المصلحة الذاتية لتحقيق نتائج تعاونية بدلاً منها، من خلال الثقة والائتمان، في مبادلات بسيطة ضمن لعبة معلومات تامة.
وعلى سبيل المثال، وفي أحد لعب الثقة، فإن اللاعبين الاثني عشر يصلون على المختبر “لكسب المال في تجربة الاقتصاد.” فعندما يصل الأفراد يدفع لهم مبلغ خمس دولارات لوصولهم في الوقت المحدد، كما يُخصص لهم كمبيوتر في غرفة تحتوي على أربعين جهازاً تفصل بينها حواجز تقسيم. وبعد أن يصل جميع المشتركين، وكل واحد منهم يضم إلى شريك باختيار عشوائي وسرّي، ومن ثم يعطى وبشكل عشوائي أيضاً مركز المحرك الأول أو الثاني. اللعبة تلعب مرة واحدة. المحرك الأول يستطيع أن يختار تقسيم مبلغ 20 دولاراً بالتساوي، 10 دولارات لنفسه و10 دولارات للاعب رقم 2. وخلافاً لذلك، يستطيع أن ُيمرر للاعب رقم 2، مما يضاعف الكعكة الأصلية إلى 40 دولاراً. اختياران أمام اللاعب رقم 2: أخذ الـ40 دولاراً، تاركاً لا شيء للاعب رقم 1، أو أن يأخذ 25 دولاراً، تاركاً 15 دولاراً للاعب رقم 1. ومهما يكن الاختيار، ففي النهاية كل واحد من المشتركين يدفع له بشكل انفرادي خاص ويغادر التجربة. تستغرق مدة التجربة حوالي 15 دقيقة. لا يعرف أحدهم مع مَنْ مِنَ المشاركين تم ازدواجه. اللعبة اليتيمة، والازدواج السرّي، فيهما يعترف بالبروتوكول على أنه يحدد الشروط الأكثر نجاعة للحركات غير المتعاونة التي يقوم بها كل لاعب. نظرية اللعبة تفترض بأنه، في غياب لعبة مكرّرة، أو أي تاريخ أو مستقبل للتفاعل بين اللاعبين، فإن كل واحد منهم سوف يختار استراتيجية الهيمنة، وكل واحد منهم سوف يفترض بأن الآخر سوف يختار الشيء ذاته. ونتيجة لذلك، فإن توازن اللعبة يتطلب أن يأخذ اللاعب الأول 10 دولارات، تاركاً 10 دولارات للاعب الثاني. وخلافاً لذلك، فإذا لم يلعب المحرك الأول يختار المحرك الثاني أخذ مبلغ الـ40 دولاراً كلها.
وخلافاً لذلك، لنفترض بأن اللاعب رقم 1 هو شخص سياسته في التفاعل الاجتماعي مع الآخرين هي كثيراً ما تكون قائمة على تبادل وُدِّي. ضمن هذا الإطار فإن ترك اللعبة للاعب رقم 2 يراد به إعطاء عرض للتعاون. اللاعب رقم 1 يغامر بخسارة فرصة إضاعة 10 دولارات، من أجل فرصة يربح فيها 5 دولارات. يمكن تفسير ذلك بأنه إشارة للاعب رقم 2 مفادها: “إنني لا أنوي التخلي عن الكسب المؤكد للدولارات العشر، لأنني أتوقع منك أن تترك لي (صفراً). إنني أعرض عليك مردوداً يساوي 250%، بحيث أستطيع الحصول على 150% كعائد على التبادل. إنني أثق فيك بأن تكون موثوقاً.” فإذا كان للاعب رقم 2 توجهٌ مماثل، فإننا نكون قد حققنا تجارة تُدرُّ عائداً على التبادل، يستلم اللاعب 1 فيه 15 دولاراً واللاعب 2 يستلم 25 دولاراً.
الجدول رقم 1 يعطي نتائج لعيِّنة من 24 زوجاً من طلاب البكالوريوس، وعيِّنة لـ28 زوجاً لطلاب الدراسات العليا (البيانات من مكايب وسميث 1999). الدرس المستفاد هو أن نصف عينة طلبة الجامعات، بما في ذلك طلبة الدراسات العليا على امتداد الولايات المتحدة وأوروبا، المؤهلين بتدريبات اقتصادية وبنظرية اللعبة، يثقون، بينما 64 إلى 75 في المائة ممن تم الازدواج معهم، هم جديرون بالثقة. لماذا مثل هذه النسبة العالية من أولئك اللاعبين المجهولين المتفاعلين يتخلون عن الفعل الأناني غير المتعاون، كما تنبأت بذلك النظرية الاقتصادية ونظرية اللعبة؟ نعتقد بأن الجواب بسيط: معظم الناس في المجتمعات المستقرة نسبياً تجد أنها سياسة ناجحة تؤتي أُكلها على المدى البعيد، سياسة التعاون والتجاوب مع الآخرين. هذا الموقف المعتاد قوي إلى درجة أنه ظل فعالاً حتى في حالات التفاعل المجهولة، في لعبة تجريبية تتم مرةً واحدة؛ معظم من تم الازدواج معهم يفهمون الرسالة، ويبادلونها تعاوناً بتعاون لمصلحة الفريقين المتبادلة. إن بياناتنا تُظهرُ بأن اللاعبين رقم 1 الذين يتعاونون، مغامرين بالخسارة، هم في أغلب الحالات يكسبون مالاً أوفر من أولئك الذين لا يتعاونون.

أود أن أقترح بأن هذا الشكل من السلوك قد ميَّز سلوك أسلافنا ربما على امتداد المليوني سنة الماضية. وفي الحقيقة، فإنني أتفق مع ميزس بأنه من خلال التبادل، تُمكِّننا من الوصول إلى ما وصلنا إليه اليوم، ما عدا القول بأن التبادل، على امتداد معظم تاريخنا، قد جرى في نطاق التبادل بين العائلة والعشيرة والقبلية. هذا هو الذي وضع الأساس لأقدم مراحل التخصص، وقبل زمن طويل من قيام السوق. ونتيجة لذلك، عندما اخترع أحدهم “المقايضة”، وفيما بعد، ما أصبح يعرف بالنقد، فقد كان للإنسان خبرة شاسعة في ميدان التبادل. ما فعله النقد كان تحرير العقل من الحسابات القائمة على حسن النوايا—الحاجة إلى التدقيق بين الحين والحين، حول ما إذا كانت الحسابات الجارية مع صديق دقيقة أو غير متوازنة إلى حد كبير. هذا العنصر الجديد هو الذي جعل التجارة طويلة الأمد ممكنة، والتي بلغت ذروتها اليوم في الأسواق العالمية، والدخول في عصر التجارة الإلكترونية (نورث 1991).
النموذج الذي ذكرناه أعلاه حول الفرد—أن يسلك سلوكاً غير متعاون في الأسواق العامة غير الشخصية، وتعظيم الربح من التجارة، ولكن التعاون في التبادل الشخصي وتعظيم الكسب من التبادل—يمكّن الإنسان من فهم السبب الذي يدفع الناس إلى الرغبة في التدخل بالأسواق “لتحسين الأوضاع.” إن خبرتهم في التبادل الشخصي الاجتماعي، هو أن عمل الخير (عن طريق أن يثق وأن يكون موثوقاً)، يؤدي إلى نتائج جيدة (مكاسب واضحة من التبادل الاجتماعي). أما في المبادلات العامة غير الشخصية من خلال الأسواق، فإن المكاسب من التبادل ليست جزءً من خبرتهم. وكما لاحظ آدم سميث ([1776] 1909: 19): “تقسيم العمل هذا، ليس في الأصل نتيجة لأية حكمة إنسانية، تتنبأ وتتوجه نحو تلك الثروة الغريزية، والذي يوصل لها.” التبادل غير الشخصي من خلال السوق يعطي الانطباع بأنه لعبة ليس فيها رابح أو خاسر، وهو انطباع لا يُقللُ بأي شكل من الأشكال من قدرة الأسواق على إنجاز الأهداف التي بلورها آدم سميث وميزس. البرامج التدخلية في نظري ناتجة عن أن الناس يطبقون بشكل غير صحيح تجاربهم وخبراتهم من التبادل الشخصي الاجتماعي على الأسواق العامة، والتوصل إلى قناعة بأنه يمكن التدخل وتحسين أوضاع السوق. الناس يستخدمون حدسهم وليس عقلهم (كما كان يظن ميزس) في نظرتهم إلى الأسواق، وهم بذلك يرتكبون خطأً.
الخاتمة
معْلَمان اثنان فريدان يختص بهما العنصر البشري، وهما في الغالب أساسيان لقيام التخصص (نظام التعاون الموسع) كظاهرة إنسانية عامة، مكّنتْ أسلافنا من “السيطرة على الأسماك في البحار، والطير في الفضاء، والمواشي، وعلى جميع الأرض، وعلى كل دابة” (سفر التكوين 1: 26). هذان المعلمان أو العنصران هما: (1) استخدام لغة طبيعية مؤهلة و(2) التبادل أو “القدرة على التنقل ومقايضة وتبادل شيء بشيء آخر” (سميث، 1776، 1909: 19). من الصعب التصور بأن هذين العنصرين قد تطورا على انفراد. إنهما بكل تأكيد جزءٌ من شبكة تطور ثقافي–بيولوجي مشترك على امتداد أكثر من مليوني سنة. إن غريزة التبادل تفسر بقاء أنظمة التجارة في الصين، والاتحاد السوفييتي السابق، وغيرهما، تحت أنظمة الدولة ومحاولات القمع الاجتماعي.
ميزس وهايك بلورا وأثريا إثراءً عظيماً المبادئ التي جاء بها آدم سميث، في مرحلة حرجة في هذا القرن (القرن العشرين)، عندما كان يُنظر إلى تفكيرهما بأنه عفا عليه الدهر، وغير عملي، ومثالي. لقد تحدثا عن الحرية عندما لم يكن لها تأييد شعبي؛ تحدثا بحكمة وعقل ثاقب. ولكنهما تحدثا من منطلقات مستقلة، وفي بعض الحالات متعارضة. بالنسبة لميزس “التفكير العقلي هو الأداة التي حققت كل شيء إنساني محدد” (م: 91). ولكن في رأي هايك، فإن قمة الغرور هي “الفكرة القائلة بأن القدرة على امتلاك المواهب تتأتى عن العقل. إنها على النقيض من ذلك: ذلك أن تفكيرنا العقلي هو نتيجة عملية التطور الانتقائي، بقدر ما هو تطور أخلاقياتنا”، ولكنها تنبع من تطور مستقل: “لا يجب لأحد أن يظن بأن قدرتنا العقلية هي في المستوى الأعلى، وأن القوانين الأخلاقية الوحيدة النافذة هي تلك التي يسندها العقل” (هايك 1988: 21). “ولفهم حضارتنا، على المرء أن يقدر بأن النظام الموسع للتعاون قد نتج، ليس بفعل الإرادة الإنسانية أو توجهاتها، ولكن عفوياً: لقد نشأ نتيجة اتباع عدد من الممارسات التقليدية، في معظمها أخلاقية، وبدون قصد متعمد. وكثير منها مكروهة، كما أنهم في العادة لا يستوعبون مغزاها، كما لا يستطيعون إثبات صلاحيتها؛ ولكن رغم ذلك، فقد انتشرت بسرعة بفعل التطور الانتقائي—الزيادة المقارنة في حجم السكان والثروة—لتلك الجماعات التي تبعتها” (هايك 1988: 6).
ومع أن هايك في رأيي، هو المفكر الاقتصادي الأبرز في القرن العشرين، والذي رأى ما يتوجب أن يكون عليه النظام الموسع، فقد كان ميزس التقني المُختار، ولم يكن أحد يفوقه في بلورة أولوية الفرد، والحاجة إلى تحديد وتنمية الحقوق الفردية. الاقتصاد التجريبي، الذي أنشئ في السنوات الخمسين منذ الفعل البشري كان منصفاً لأهل النمسا، في تمكيننا من إظهار أن النظام العفوي، الذي يعمل من خلال مؤسسات الملكية الفردية، يظهر المعالم المرغوبة التي ادّعى النمساويون مزايا وجودها. هذه القوة في الإظهار والإثبات هي بالنسبة لي أشد إقناعاً بكثير من اللجوء إلى العقل، وبالأخص من قبل ميزس. العقل، كما تعلمون هو يُدعى أيضاً على أنه في جانب تدخل الدولة، وأن مثل هذا الشكل من العقل له القدرة على التأثير في عقول الناس، بسبب محاكاته السطحية لتجاربهم، على الرغم من أن النظم التي أقيمت حوله قد انهارت، وتراهم يبدون اليأس والإحباط مدَّعين بأن كل شيء سوف يصبح على ما يرام، لولا الجشع البشري.
طرائق الفعل البشري
لورنس إتش. وايت[3]

لقد أعطانا فيرنون سميث، مجموعة مشوِّقة من الآراء حول كتاب ميزس، الفعل البشري، ففي حقل الطرائق والأساليب، يمكن اعتبار الفعل البشري على أنه بيان يؤكد الاستنتاجية الافتراضية من القاعدة العامة المسبقة إلى الخاصة، بينما يمكن اعتبار سميث على أنه ملتزم بالمذهب التجريبي (من الطراز الاختباري). وعندما يؤخذ ذلك بعين الاعتبار، فإن سميث يبدي انفتاحاً حميداً غير متوقع نحو الكتاب.
الحيادية الأخلاقية والعقلانية في علم الاقتصاد
أوضح ميزس (1966: 19) كما نقل عنه سميث، أنه قال: “الفعل البشري هو بالضرورة عقلانياً دائماً.” ويعلمنا سميث بأن ميزس يعتبر ذلك صحيحاً “لأن التطبيق العملي محايد فيما يتعلق بأية أحكام تقييمية تتعلق بالبيانات—ألا وهي الأهداف النهائية التي يتم اختيارها في الفعل البشري. لذا، فليس هنالك أساس موضوعي للتأكيد بأن اختيارات أي إنسان يمكن أن تكون لا عقلانية.” أعتقد أن استخدام سميث لكلمة (لأن) السببية، ليست في مكانها. ومع أن الفترة التي ينقل عنها سميث تبحث بالفعل ضرورة العقلانية في الفعل البشري، جنباً إلى جنب مع الحيادية الأخلاقية في التطبيق العملي، فإن الأخيرة ليست السبب وراء الأولى. يجب أن لا نخلط بين أمرين اثنين مختلفين: (1) معنى عبارة العقلانية في الاقتصاد، و(2) الحيادية الأخلاقية في التحليلات الاقتصادية.
الحيادية الأخلاقية تعني أن الاقتصاد مهتم باستكشاف نتائج نشاطات السوق والسياسة الاقتصادية، وليس في الحكم على سوءاتهما أو حسناتهما. أن تكون عقلانياً بالنسبة لميزس (1966: 20) هو الانغماس في نشاط متعمد، أي المحاولة المتعمدة لتحقيق هدف ما. كما إن الـ”فعل” يعني عملاً متعمداً (ميزس 1966: 11). السلوك الوحيد غير المتعمد (الذي لا هدف وراءه) هو السلوك الانعكاسي اللاإرادي، لذا، وكتحصيل حاصل، فإن جميع “الأفعال البشرية” هي عقلانية، حتى ولو تقبّل المرء أو رفض الحيادية الأخلاقية في التحليلات الاقتصادية (ويضيف ميزس قائلاً: “عبارة فعل عقلاني هي، تبعاً لذلك، حشو كلامي، ويجب أن ترفض على هذا الأساس.”) يمكن للمرء أن يقبل بعبارة ميزس، ومع ذلك يرفض العبارة المبنية على أساس الاعتقاد بأن للاقتصاد مهمة أخلاقية في الحكم على القرارات، بأنها جيدة أو سيئة. المسألتان تبدوان متداخلتين فقط عندما تُستعمل العبارتان بشكل مختلف، وبالأخص عندما يصف مراقب قرار إنسان ما بأنه “غير عقلاني”، وهو يعني بذلك أنه قرار “سيء”، أو أنه مخالف “لأهداف” المراقب. ميزس يبحث الحيادية الأخلاقية من أجل تحذيرنا ضد مثل ذلك الاستخدام، وليس من أجل توضيح كون الفعل البشري بالضرورة عقلاني.
علم الاقتصاد ليس علماً طبيعياً
يشرع سميث مبكراً في تقديم انتقادات إيجابية: “هنالك الكثير في كتابات ميزس، في حاجة إلى التحديث، بسبب أشياء نظن أننا نعرفها الآن، والتي لم نكن نعرفها قبل 50 سنة،” وبالأخص “بالنسبة لطبيعة اتخاذ القرار البشري.” إن معلوماتنا الجديدة حول عملية اتخاذ القرار تستخلص من (1) تجارب سميث الخاصة بشأن الحوافز والأسواق لدى العنصر البشري، (2) الأنثروبولوجيا (علم الإنسان)، والإثنوجرافيا (علم نشوء الأعراق)، والسيكولوجية التطورية، و(3) الأبحاث في علم الأعصاب—على سبيل المثال، على أدمغة القردة، والأدمغة البشرية المعطوبة.
من السهل الموافقة على القول بأن أي بيان صدر قبل 50 عاماً مضى بشأن العلوم الطبيعية هو في الغالب في حاجة إلى تحديث. إنني أتفق مع سميث بأن ميزس كان على خطأ، أو على الأقل، إنه كان جامحاً عندما كتب يقول (ميزس 1966: 31): “لا يمكن إجراء أية تجارب مختبرية بشأن الفعل البشري.” إنصافاً إلى ميزس، مع ذلك، فقد جاءت تلك العبارة في وسط فقرة حول قضية شرح التجربة التاريخية. كان ميزس ببساطة يوضح بأن التاريخ الاقتصادي لا يجري في محيط مختبر، لذا يجب استخدام أساليب أخرى، غير التجارب المختبرية المنضبطة، للوصول إلى نتائج سببية تفسر الفعل البشري. فالبيانات التاريخية ليست بيانات مختبرية.
انتقادات سميث تشير إلى قضية أهم وأوسع بالنسبة لأي إنسان يأخذ على محمل الجد نظريات ميزس (الاستنتاجية المسبقة من القاعدة العامة إلى الخاصة، والتي تبدأ من منطلق المنطق التام في الاختيار). هل نظريات ميزس حول الوسائل المناسبة للاقتصاد في حاجة إلى تحديث؟ إنني أعتقد بأنها ليست في حاجة لذلك. أعتقد أن ميزس على حق في إصراره على أن المعطيات الجوهرية في النظريات الاقتصادية متأصلة في وسائل منفصلة عن تلك المتواجدة في العلوم الطبيعية. فالنظرية التطبيقية مستقلة عن العلوم الطبيعية، والاقتصاد التجريبي من وجهة النظر هذه يعتبر من العلوم الطبيعية. هذا لا يعني بأن الاقتصاد التجريبي لا ينتمي إلى دائرة الاقتصاد، أو أنه غير معني بكيفية عملنا نحن الاقتصاديون الذين لا ينتمون إلى المدرسة التجريبية. هنالك متسع كبير لكلا الجانبين: التطبيقي النظري المسبق، والعلم الطبيعي في دراسة السلوك البشري في الأسواق.
إن موقفي يتلخص في الآتي: الاقتصاد التجريبي وغيره من العلوم الطبيعية ليسا في وضع يتيح لهما تكذيب المعطيات الاستنباطية للنظرية الاقتصادية. تلك المعطيات تعتمد على نظرتنا “الداخلية” حول الناس كعملاء في السوق، بينما العلوم الطبيعية تعطينا أفقاً خارجياً حول الناس. تستطيع التجارب أن تُبين أفعال النظرية الاقتصادية. وبتعبير سميث، إنها تستطيع أن تعيد إلى الحياة معطياتها المتصوَّرة. وأهم من كل ذلك، أنها تستطيع مساعدتنا في تسوية قضايا مهمة لا يستطيع الاستنباط المسبق أن يحُلَّها. إن مجموعة من مثل تلك الأسئلة التجريبية ليست خالية من المضمون (كما أن ميزس لم يكن يعتقد ذلك). ومن الناحية الأخرى، فإن مجموعة من الأسئلة الاستنباطية المفيدة ليست كذلك خالية من المضمون. إنها تشمل، ليس فقط نظرية الاستهلاك، ولكن بعض نظريات المال أيضاً، وعلى سبيل المثال قانون جريشام.
إكتشاف ظاهرة المبادرات الاقتصادية
يقول سميث إن علم الأعصاب الراهن يدحض وجهة نظر ميزس القائلة بأن هنالك تغاير حاد بين السلوك المتعمد والسلوك اللاشعوري أو الانعكاسي غير المتعمد. لا يساورني شك بأن هنالك—من وجهة نظر علم الأعصاب—استمرارية وليس تناقضاً حاداً. ولكنني أجد نفسي على خلاف مع سميث في قوله بأن “الإرادة المتعمدة ليست شرطاً ضرورياً في نظام ميزس.” فالأسواق موجودة هناك، تفعل فعلها سواء كانت دوافع الفعل الإنساني تنطوي على اختيار إرادي أم لا. أقوال سميث قد تنطبق على نظام ولراس النظري، والذي أعتقد أن باريتو قال فيه: “إن الفرد قد يختفي، بشرط أن يترك لنا وراءه صورة فوتوغرافية عن أذواقه.” ولكنها لا تنطبق على نظام ميزس النظري. فمفهوم ميزس للكيفية التي يتم بموجبها عمل السوق بالفعل هي عملية اكتشاف المبادءة والمبادرة، وليس فقط الاستجابة التلقائية للمحفزات. أن يكون النظام الاجتماعي الناجم عن ذلك غير متعمد لا يعني بأن القرارات الفردية التي ينطوي عليها ليست بالضرورة متعمدّة.
ملاحظات:
[1] إن مهمة الأشخاص موضوع الدراسة هي تكديس كمية النقد من خلال طرح أي جزء أو كل مجموعات أوراق اللعب الأربع. الاوراق في المجموعات (أ) و(ب) يعطون 100$، بينما في (ج) و(د) 50$. لكن في الحالة الأولى يبدو أن هنالك ورقة مناسبية تنطوي على خسارة كبيرة غير قابلة للتنبؤ. إن الجزاء يستمر بغير نمط، بينما لا يعرف الأشخاص موضوع الدراسة متى ستنتهي المهمة. جميع الاشخاص موضوع الدراسة موصولون بإلكترودات كهربائية في الجلد من أجل قياس الاستجابة الجلفانية الجلدية. إن رد الفعل العاطفي للأحداث يسبب مزيداً من الافراز للعرق، وهذا يسجل على شكل إيصالية أعلى للجلد، كما هو مقاس بقيمة أعلى على الجلفانوميتر. إن أول نتيجة مثيرة للاهتمام للتجربة هي أن هناك إستجابة عاطفية تمت ملاحظتها في قراءات الاستجابة الجلفانية الجلدية للأشخاص الطبيعيين موضوع الدراسة قبل قرارهم للتحول من مجموعة (أ) و(ب) إلى (ج) و(د). فقط في ذلك الوقت، لاحقاً للتغيير في اتخاذهم للقرار، تمكن الأشخاص موضوع الدراسة من الإفصاح عن سبب تحولهم. الملاحظة الثانية الهامة هي أن المرضى الذين يعانون من أذى في الفص الأمامي لم يتحولوا إلى المجموعتين (ج) و(د)، وإن هذا لم يصاحبه تغييرا في القراءات، وأنهم مالوا إلى إعطاء ذرائع شفوية لتبرير أدائهم الضعيف، وبعضهم أشار إلى أن المجموعتين (أ) و(ب) قد يتحسنا.
[2] عدد الأزواج الذين حازوا على هذه النتيجة شريطة الوصول إلى المرحلة الثانية من اللعبة (اللاعب 1 يستنكف). ولذا، بالنسبة لطلبة البكالوريوس، 12 من 24 لاعب رقم 1 تحركوا إلى الأسفل، ومنهم 9 لاعبين تحركوا إلى اليمين و3 تحركوا إلى الاسفل.
[3] بروفيسور الاقتصاد في كلية تيري لإدارة الأعمال، جامعة جورجيا.

© معهد كيتو، منبر الحرية، 25 حزيران 2006.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.
جميع الحقول المشار إليها بعلامة * إلزامية

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

تواصل معنا

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018