لأول مرة منذ 37 سنة، لم أُعلِّمْ خلال فصل الخريف الماضي. لا، إنني لم أتقاعد. لقد مُنحتُ إجازة تقديراً لخدمتي لدورتين اثنتين كرئيس للدائرة في جامعة جورج ميسن. الإجازة مُستحقة بعد الرئاسة—وهي وظيفة شبيهة برعاية القطط.
خلال فصول الخريف، فإنني، كمُخطَّط مُتَّبعْ، أُدرِّسُ تلامذة السنة الأولى لدرجة الدكتوراة في موضوع الاقتصاد الجزئي. ومدفوعاً من محبتي للتعليم، فقد قررت أن لا أترك العمل كلياً، بل إعطاء بضع محاضرات حول مبادئ الاقتصاد الأساسية للقرّاء. ولنسمي هذه المجموعة من المحاضرات “علم الاقتصاد للمواطن”.
أول درس في النظرية الاقتصادية هي أننا نعيش في عالم شُحِّ الموارد. الشح هو الحالة التي تتجاوز فيها متطلبات الإنسان الوسائل لتوفيرها لمن يرغب فيها. الرغبات والمتطلبات للإنسان يُفترضُ أن لا تكون محدودة، أو على الأقل، فإنها في كثير من الأحيان، لا تكشف النقاب عن محدوديتها. الناس دائماً يرغبون في الحصول على المزيد من أي شيء، سواء كانت سيارات أكثر، أو أكلاً، أو حُباً أو سعادة، أو سِلماً أو عناية صحية، أو هواءً أنقى، أو عطاءً خيرياً أكبر. إن قدراتنا ومواردنا لتلبية جميع رغبات الإنسان هي محدودة بالفعل. هنالك فقط كميات محدودة من الأرض والحديد والعمال وسنوات العمر.
القلة (الندرة) تسبب عدة مشاكل اقتصادية: ماذا يجب أن يُنتَج، ومن الذي سيحصل على ما يُنتَج، وكيف السبيل للإنتاج، ومتى يجب أن يُنتَج؟ على سبيل المثال، كثير من الأمريكيين، والأجانب أيضاً، يحبون أن يكون لهم منزل للسكن أو للإجازات، على امتداد الألف ميل من سواحل كاليفورنيا وأوريغون وواشنطن. وترغب شركات النقل البحري في استخدام جزءٍ من هذا الساحل كموانئ، ووزارة الدفاع الأمريكية تود استخدامها كمنشآت عسكرية. بكل بساطة، لا يوجد على الساحل ما يكفي لتلبية الرغبات والاستخدامات المنافسة. هذا يعني أنه يوجد نزاع حول ملكية الشواطئ واستخداماتها. لو كانت رغبات الإنسان محدودة، ولو كانت الموارد اللازمة لتلبيتها غير محدودة، لما كانت هنالك مشكلة اقتصادية، ولما نشأ نزاع.
وكلما كان هنالك نزاع، وَجَبَ إيجاد الوسائل اللازمة لحله. هنالك عدة طرائق لحل النزاع. أولاً، هنالك آلية السوق. وفي المثل الذي أوردته حول استخدامات الأراضي، فإن من يدفع السعر الأعلى هو الذي سوف يملك الأرض، ويقرر كيفية استخداماتها. ثم هنالك مراسيم الحكومة، التي تفرض من له الحق في استخدام الأرض، ولأي هدف. العطايا قد تكون الوسيلة، والتي يقرر بموجبها المالك عشوائياً لمن يعطي أرضه. وأخيراً، العنف، وهو وسيلة لحل مسألة من له حق استغلال السواحل—دعوا الناس يتسلحون ويقتتلون لتقرير ذلك.
في هذا المنعطف، قد يقول البعض، من منطلق إيماني أخلاقي: “العنف ليس الوسيلة لحل النزاع بأي شكل من الأشكال!”، وقد يكون ذلك مقبولاً. بيد أن القرار حول من له حق استعمال معظم سطح الأرض كان قد تقرر من خلال العنف (الحروب). حقي في الدخل الذي أكسبه يتقرر جزئياً من خلال التهديد بالعنف، وأعني بذلك حكومتنا، التي، ومن خلال القوانين الضرائبية، تقرر بأن المزارعين، والقطاعات الاقتصادية، والفقراء، لهم حقوق في دخلي. وفي الحقيقة، فإن العنف هو من الفعالية في حل النزاعات، بحيث أن معظم الحكومات ترغب في الاستئثار باستخدامه حصراً.
ما هي أفضل الطرق لحل النزاعات الناشئة عن مسألة ماذا يجب أن يُنتج، كيف ومتى ينتج، ومن هو الذي سيحصل عليه؟ هل هي آلية السوق، القوانين الحكومية، العطايا، أم العنف؟
الجواب هو أن النظرية الاقتصادية لا تستطيع الإجابة على مسألة تقييمية. المسائل التقييمية هي التي تتعامل مع ما هو أفضل وما هو أسوأ. لا توجد نظرية تستطيع الإجابة على مسائل تتعلق بما هو أفضل وما هو أسوأ. حاول أن تسأل أستاذ الفيزياء: ما هي الحالة الأفضل أو الأسوأ: الغاز المجمد، الغاز السائل أو حالة البلازما؟ إنه، على الأغلب، سوف ينظر إليك وكأنك معتوه؛ إنه سؤال سخيف لا معنى له. ومن ناحية أخرى، إذا سألت أستاذ الفيزياء ما هي أرخص وسيلة لدقِّ مسمار في لوحة، فإنه ربما يجيب بأنه الحالة الصلبة. إنها الحالة ذاتها بالنسبة للنظرية الاقتصادية. ونعني بذلك، أنه لو سألت معظم الاقتصاديين أية وسيلة لحل الخلافات ينتج عنها الخير والرخاء الأعظم، فإنهم، على الغالب سوف يجيبون بأن تلك الوسيلة هي آلية السوق.
جوهر الموضوع هو أن النظرية الاقتصادية موضوعية وغير تقييمية، ولا تستطيع أن تعطي أحكاماً تقييمية. النظرية الاقتصادية تعالج ما كان، وما هو الآن، وماذا سوف يصبح، وعلى النقيض من ذلك، فإن المسائل المتعلقة بالسياسة الاقتصادية هي تقييمية وغير موضوعية، وتعطي إجابات تقييمية—أسئلة مثل: هل يتوجب أن نحارب البطالة أم التضخم؟ هل يجب أن ننفق أموالاً أكثر على التعليم؟ وهل يجب أن تكون ضريبة الأرباح 15 أو 20%؟
قال أحدهم يوماً أنه لو جمعنا جميع علماء الاقتصاد في العالم وصففناهم جنباً إلى جنب، فإنهم لن يستطيعوا أبداً التوصل إلى نتيجة موحدة. علماء الاقتصاد هم مثل سائر الناس، وبالتالي فإن لهم آراء وقيم. وبذا، فإن معظم الخلافات بين رجال الاقتصاد تنبثق من الأحكام التقييمية. وخلافاً لذلك، هنالك اتفاق واسع حول جوهر النظرية.
الحقائق والمستويات
من المهم الفصل بين الأحكام غير التقييمية والأحكام التقييمية، لذا دعوني أتوسع. خذوا القول الآتي “إن أبعاد هذه الغرفة هي 30×40 قدماً”. هذا قول موضوعي. لماذا؟ لأنه لو كان هنالك أي اختلاف، فهناك حقائق تجريبية ومقاييس متفق عليها بشكل عام يمكن اللجوء إليهما لحل الخلاف، ونعني بذلك إخراج مسطرة قياس. قارن ذلك القول بالقول التالي: “كان يجب أن تكون مقاييس الغرفة 20×80 قدماً”. ولنقل أن شخصاً آخر اختلف وقال إن المقاييس يجب أن تكون 50×50 قدماً. ليست هنالك حقائق أو مقاييس متفق عليها لحل مثل هذا الخلاف. كذلك الحال، فلا توجد حقائق أو مقاييس يمكن اللجوء إليها لحل الخلاف حول ما إذا كان يتوجب أن تكون ضريبة الأرباح 15 إلى 20%، أو أن من الأفضل مكافحة التضخم أو البطالة.
الأهمية في معرفة ما إذا كان بياناً يعتبر موضوعياً أو تقييمياً هو أنه في الحالة الأولى هنالك حقائق لفض الخلاف، ولكن لا توجد مثل هذه الحقائق في الثانية، إنها مسألة رأي ليس إلا، ورأي إنسانٍ هو جيد مثل رأي إنسان آخر. وكإشارة لمعرفة ما إذا كان البيان تقييمياً هي لدى استخدام كلمات فيه مثل: “يجب” و”يتوجب”.
في مطلع كل فصل من فصول التعليم، فإنني أقول لتلامذتي بأن موضوع النظرية الاقتصادية سوف يعالج النظرية الاقتصادية الموضوعية وغير التقييمية. كما أنني أقول لهم بأنهم إذا سمعوني أتحدث عن بيان تقييمي دون أن أكون قد بدأت بالملاحظة بـ”أنه في رأيي”، فيجب عليهم في تلك الحالة أن يرفعوا أيديهم وأن يقولوا “بروفيسور وليامز: نحن لم نقرر أخذ هذا الدرس لكي تعبئ عقولنا بآرائك الشخصية وأن تُسمي تلك الآراء نظرية اقتصادية. مثل ذلك هو [تزييف أكاديمي]”. كما أنني أبلغهم بأنه في اللحظة التي يسمعونني أقول “في رأيي”، فإن عليهم التوقف عن كتابة الملاحظات لأن آرائي ليست ذات علاقة بموضوع الفصل ألا وهو—النظرية الاقتصادية.
وإنني أختم هذا الجزء من المحاضرة بإبلاغ تلامذتي بأنني لا أعني أن أطلب منهم تطهير مفردات لغتهم من الكلمات التقييمية الذاتية. مثل تلك الآراء أدوات مفيدة لخداع الآخرين، ولكن في عمل ذلك يجب أن لا يخدع الإنسان نفسه. تقول لوالدك بأنك في حاجة قصوى لاقتناء تلفون متنقل وأنه يجب أن يبتاعه لك. لا يوجد هنالك أي إثبات بأنك تحتاج بالفعل إلى تلفون متنقل. ذلك أن جورج واشنطن استطاع أن يقود أمتنا لهزيمة بريطانيا، أقوى قوة على الأرض في ذلك الزمان، دون أن يملك تلفوناً متنقلاً.
أنا شخصياً أعتقد بأن الاقتصاد موضوع مثير وذو قيمة. علم الاقتصاد، أكثر من أي شيء آخر، هو أسلوب في التفكير. الناس الذين وجدوا موضوع علم الاقتصاد في دراستهم الجامعية حلماً مزعجاً هم ببساطة لم يكن لهم أستاذ اقتصاد جيد. لقد أصبحت بروفيسوراً جيداً نتيجة وجود أساتذة مثابرين خلال دراستي المتقدمة في جامعة كاليفورنيا، لوس أنجيلس. البروفسور آرمن ألكيان، وهو أستاذ اقتصاد متميز، كان يعطينا وقتاً صعباً في الصف. ولكن، في يوم من الأيام، كنا في حديث ودّي خلال اجتماعات دائرتنا الأسبوعية بين الطلبة والأساتذة، عندما قال لي: “وليامز، المقياس الصحيح لمعرفة ما إذا كان تلميذ قد استوعب موضوعه هو قدرته على شرحه لشخص آخر لا يعرف أي شيء عن الموضوع”.
هذا هو التحدي الذي أُحب: جعل درس الاقتصاد محبباً ومفهوماً.
البحث القادم في سلسلة “علم الاقتصاد للمواطن” سوف يكون أكثر إثارة. وسوف أتحدث عن أنواع السلوك التي يمكن تسميتها بالسلوك الاقتصادي.
هذا المقال بالتنسيق مع مجلة فريمان (أيار 2005).
© معهد كيتو، منبر الحرية، 14 كانون الأول 2006.