المقدمـة
منذ أربعين سنة الآن عرّف البروفيسور هايك بطريقة حاسمة الفهم الخاطىء الأساسي المتعلق باقتصاد الرفاه السائد. هذا الفهم الخاطئ، كما جادل هايك، كان مسؤولا عن الإخفاق في تقدير النقد لإمكانية التخطيط المركزي المستند إلى النظريات الاقتصادية العقلانية—وهو النقد الذي عبّر عنه بقوة ووضوح ميزس، والذي طوره أيضا هايك نفسه. وببساطة، وكما برهن البروفيسور لافوي (1985)، إن المضمون الحقيقي لدرس هايك وأهميته لم يتم استيعابهما من قبل اقتصاديي الرفاه الذين كتبوا حول جدال النظريات الاقتصادية الاشتراكية، بالرغم من أنه تم الإشارة إلى عمل هايك على نطاق واسع.
نحاول في هذا البحث أن نكرر عرض هايك ونطبق مفهومه فيما يتعلق بمشكلة المعرفة وتداعياتها بالنسبة إلى التخطيط الاقتصادي المركزي سواء كان شاملاً أو غير ذلك. وسنستشهد في الفقرات القادمة بصياغة هايك لمفهومه الخاص ونقدم بعض الملاحظات الخاصة به. في الأجزاء اللاحقة من هذا البحث سنبدأ من نقطة انطلاق مختلفة تماماً وبالتالي نصل إلى إعادة صياغة وتطبيق موقف هايك—بيان بعض الأبعاد الراديكالية نوعا ما لإعادة صياغتنا.
طبقاً لهايك (1945: 77-78):
يتم تحديد السمة الخاصة لمشكلة النظام الاقتصادي المستند إلى العقلانية بشكل دقيق من خلال حقيقة مفادها أن المعرفة المتعلقة بالظروف الواجب علينا استخدامها لا توجد أبدا في شكل متكامل أو مركز وإنما فقط كأجزاء متناثرة من المعرفة غير الكاملة والمتناقضة غالبا، والتي يمتلكها كل الأفراد على حدة. وبناءً على ذلك، فالمشكلة الاقتصادية للمجتمع لا تتمثل فقط في كيفية توزيع موارد معينة—إذا كان يقصد بـ”المعينة” أن تكون معطاة إلى فكر منفرد يقوم عمدا بحل المشكلة الناجمة عن هذه “المعطيات”—إنها مشكلة كيفية تأمين أفضل استخدام للموارد معروف لأي عضو في المجتمع، لغايات لا يعرف أهميتها النسبية إلا هؤلاء الأفراد. أو باختصار، إنها مشكلة الانتفاع من المعرفة التي لا تعطى لأي شخص بشكل كامل.
دعنا نسمي مشكلة المعرفة هذه (مشكلة المعرفة الخاصة بهايك). نلاحظ في هذه المرحلة الأولية من نقاشنا أن الموقف المحتمل بخصوص مشكلة المعرفة لهايك، وعلى الأقل للوهلة الأولى، أنها لا تجعل تفوق معيار الكفاءة الاجتماعي غير مقبول مباشرة. إنه من الصحيح، كما أوضح هايك، فإن طبيعة المعرفة التي تتميز بالانتشار تعني أن المشكلة الاقتصادية لا تكمن في توزيع “الموارد الموجودة”، حيث تعني “الموارد الموجودة” تلك الموارد الموجودة والمعروفة لفكر منفرد. في الواقع، فإن المعرفة بحد ذاتها هي مصدر شحيح. لذلك يمكن اعتبار مهمة المخطط المركزي في ظل مشكلة المعرفة الخاصة بهايك بأنها الاستخدام الأكثر كفاءة للمعرفة المتوفرة المنتشرة والموجودة في المجتمع في لحظة ما—مع تقييد إمكانية بلوغ هذا الاستخدام بالتكاليف المترتبة على الاتصال والبحث الضروري نظرا لانتشار المعلومات المتوفرة.
ولذلك قد يبدو أنه لا يوجد شيء يجعل مشكلة المعرفة الخاصة بهايك خارجة عن مجال التخطيط الاقتصادي. وكما يجادل البعض، فإن مشكلة المعرفة تقوم بتعقيد مهام التخطيط: إنها تقدم مصدرا جديدا ودقيقا ومعقدا (المعرفة)؛ وتثير الانتباه حول المميزات الخاصة لهذا المصدر (سمته المتشتتة)؛ وتستدعي الانتباه إلى نوع جديد من التكاليف المطلوبة للبحث والاتصال. ولكن كما قد يبدو، يمكن أن تندرج مشكلة المعرفة الخاصة بهايك تحت المشكلة العامة للاقتصاد المفهومة تقليديا بمصطلحات توزيع الموارد. إن الموضوع الأساسي لهذا البحث هو رفض هذا الفهم لنتائج مشكلة المعرفة الخاصة بهايك.[1]
سأناقش في هذا البحث أن مشكلة ضمان الاستخدام الأفضل للمعرفة المنتشرة لا يمكن في الواقع أن يترجم إلى قضية خاصة لمشكلة تأمين تخصيص أكثر فعالية لموارد المجتمع الأكثر شمولا. وسيلي ذلك أن التخطيط الاجتماعي، بميزاته الخاصة، غير قادر على توضيح مشكلة هايك—هذا التخطيط قادر فقط على أن يحبط ويعيق قوة السوق التلقائية القادرة على المشاركة في مشكلة المعرفة هذه. ومن المهم للتمكن من تطوير هذه المناقشات أن يتم تقديم “مشكلة معرفة” محددة لتبدو للوهلة الأولى أنها تختلف كلياً عن مشكلة المعرفة الخاصة بهايك.
الخطة الفردية ومشكلة المعرفة
في الحياة اليومية يستمر الإنسان بالتخطيط. وقد قام الاقتصاديون باستنباط أن الخطة الفردية تمثل البحث عن المزيد: فالمخطِّط مصمم على الوصول إلى الوضع الأمثل المحاط بالعوائق. هذا هو مفهوم القرار الاقتصادي الذي وضعه ليونيل روبنز بدقة متناهية في عام 1932، وتم تبنيه منذ ذلك الحين أساساً لنظرية الاقتصاد الجزئي. ونشير إلى أن هناك مشكلة حتمية محتملة للمعرفة التي تحيط بمفهوم الخطة الفردية.
تفترض فكرة الخطة مسبقا وجود كيان مُستهدَف—مثل منفعة أو ربح—يجب أن تتم زيادته للحد الأقصى. كما وتفترض وجود عوائق معروفة على الموارد. ووفقا لمصطلحات روبنز، فإنه يُفترض توفر كل من الغايات والوسائل. إنها المعرفة المفترضة من قبل المخطِّط لظروف التخطيط هذه التي تتيح للاقتصاديين فهم الخطة باعتبارها حل لمشكلة تحقيق الحد الأقصى المقيَّدة. يجب ملاحظة أن صلاحية الخطة تعتمد كليا على صلاحية الفرضية أن المخطِّط في الواقع يعرف الظروف المحيطة بقراراته المستقبلية بشكل دقيق. إذا لم يعرف المخطِّط ماذا يريد أن يحقق وما هي الموارد المتوفرة لديه أو ما مدى فعالية هذه الموارد بالنسبة للأهداف المبتغاة، فإن خططه لن تؤدي إلى أفضل النتائج مهما تمت صياغتها بشكل حذر.
يمكننا أن نعرِّف الآن مشكلة المعرفة المناسبة لكل خطة فردية: بسبب نقص في معلومات المخطِّط حول ظروفه الحقيقية يمكن أن تفشل خطته في تحقيق الهدف الأمثل. دعنا نسمي مشكلة المعرفة هذه بـ”مشكلة المعرفة الأساسية”. وهذا سوف يميزها عن ما أسميناه “مشكلة المعرفة الخاصة بهايك”. كما سيوضح ذلك ما نعنيه، حيث أن مشكلة المعرفة الخاصة بهايك يمكن أن تعتبر حالة خاصة لما أسميناه “مشكلة المعرفة الأساسية”.
بالتأكيد فإن ما أسميناه “مشكلة المعرفة الأساسية” تبدو للوهلة الأولى تتشابه بشكل طفيف مع “مشكلة المعرفة الخاصة بهايك”. فمشكلة المعرفة الخاصة بهايك تكمن في طبيعة المعلومات المتوفرة المنتشرة؛ وتكمن مشكلة المعرفة الأساسية في جهل الفرد بالظروف المتعلقة بحالته. علاوة على ذلك، سيُظهر المزيد من التمحيص لكل من مشكلة المعرفة الخاصة بهايك ومشكلة المعرفة الأساسية المعنى الهام الذي بسببه تُعتبر مشكلة هايك مشكلة أساسية. دعنا أولاً نوضح الفهم الخاطئ المحتمل المتعلق بمشكلة المعرفة الأساسية.
مشكلة المعرفة الأساسية واقتصاديات البحث
قد يبدو للوهلة الأولى أنه من الممكن الفرار تماما من مشكلة المعرفة الأساسية التي تحيط بكل خطة فردية عن طريق إضافة مراحل تخطيط جديدة. إذا كان هناك احتمال لإخفاق خطة ما بسبب عدم توفر أحد الموارد الضرورية، فإن هذا التهديد بالإخفاق لن يكون بالضرورة نهائيا؛ وقد يمكن تجنبه من خلال التخطيط التمهيدي الملائم للحصول على هذا المورد. وبدلاً من وضع خطة فردية موجهة إلى الإحراز الفوري للهدف النهائي، فإنه من الضروري أن نقدم أهدافا متوسطة نسعى إلى تحقيقها في سياق الخطط التمهيدية الإضافية. عندئذ، قد تتطلب مشكلة المعرفة الأساسية أيضا التخطيط التمهيدي الحكيم فحسب.
من هذا المنطلق، يبدو أن مشكلة المعرفة الأساسية تمثل النقص في الموارد المتاحة لمورد هام هو المعرفة. وقد يستدعي هذا النقص إجراء بحث مُنظَّم لاكتساب المعلومات المهمة. وقد يُعتقد أنه من الممكن الفرار من مشكلة المعرفة الأساسية على الأقل إلى نفس الدرجة التي يُمكن لأي مشكلة تنتج عن نقص في الموارد أن تجد مخرجاً منه. وللدرجة الجديرة بالاهتمام، قد تستطيع خطة بحث تمهيدية تغطية النقص في المعلومات الضرورية التخلص كليا من مشكلة المعرفة الأساسية. وللدرجة التي يُعتقد أن هذا البحث المكلف غير ذي قيمة، سيبدو أن مشكلة المعرفة الرئيسية تعبر فقط عن الصعوبات الشحيحة التي لا مفر منها والموجودة ضمن وضع المخطِّط. وبالنسبة لعالِم الاقتصاد، فإن مشكلة الشح التي لا مفر منها تعني أنه لا توجد أي مشكلة على الإطلاق بالمعنى المقصود.
وإذا كان من الممكن تجنب مشكلة المعرفة، فإنه سيتم (ومن المفترض أن يتم) الفرار منها؛ وعندما يكون من غير المجدي تجنبها، سيبدو أنه لا وجود لمشكلة المعرفة الأساسية على الإطلاق—حيث أننا قمنا بتعريف مشكلة المعرفة الأساسية على أنها الإخفاق في تحقيق الدرجة المثلى الممكن تحقيقها. إذا كان نقص المعرفة يجعل من غير الممكن تحقيق الدرجة الافتراضية المثلى، فإن ذلك لن يؤدي إلى إحداث مشكلة المعرفة الأساسية. وإذا كانت تكلفة اكتساب المعرفة مانعة، تكون عندها الدرجة الافتراضية المثلى، وإن كان يمكن تحقيقها، غير مثلى على الإطلاق.
لا يمكن لهذا الجدل أن يستديم. فمشكلة المعرفة الأساسية التي تحاصر بقوة كل خطة فردية بطبيعتها لا يمكن الفرار منها. ومن غير ريب، يمكن تصحيح العجز في المعرفة بواسطة البحث وأن المخطِّط المستقل سيأخذ بعين الاعتبار في تخطيطه التمهيدي ضرورة إجراء البحث أو عدمه. ولكن مشكلة المعرفة الأساسية—التي تشمل على إمكانية الإخفاق في إنجاز الأمثل الممكن تحقيقه—تبقى. في الواقع، إن إمكانية التخطيط التمهيدي لاكتساب المعرفة توسع فقط مجال مشكلة المعرفة الأساسية.
دعنا نأخذ بعين الاعتبار الفرد المشارك في خطة والذي يسعى لتحقيق هدف قيّم. دعنا نسمي هذه (الخطة أ). خلال وضع الخطوات المحددة اللازمة لمتابعة (الخطة أ)، يدرك الفرد بأنه يفتقد إلى أجزاء من المعلومات المطلوبة. وعليه، يُعِدّ خطة لتحقيق تلك الأهداف الأولية، ألا وهي أجزاء المعرفة المفقودة. دعنا نسمي خطة البحث هذه (الخطة ب). يمكن أن نعتبر أن (الخطة أ) قد توسعت (نتيجة الجهل) لتشمل التخطيط لإحراز الأهداف الأولية المطلوبة، وبذلك تكون (الخطة ب) مدمجة مع (الخطة أ) الموسعة. وقد نعرِّف الخطوات اللاحقة الواجب اتخاذها في سياق (الخطة أ) الموسعة—تلك الخطوات اللاحقة للحصول على المعلومات من (الخطة ب)—بـ(الخطة أ). ( تتألف (الخطة أ) من الخطوات التي من شأنها أن تشكل الخطة الأصلية (الخطة أ) التي تم تصورها لو كان المخطط لا يفتقد إلى المعلومات المطلوبة). ونلاحظ بأن مشكلة المعرفة الأساسية هي خطر محتمل لكل من (الخطة أ) و(الخطة ب). ومن المؤكد أن (الخطة أ) المشتملة على (الخطة ب) و(الخطة أ) عرضة لنفس نقاط الضعف لكل منهما.
حتى ولو نجحت (الخطة ب) في الحصول على المعلومات المطلوبة المثلى الممكن العثور عليها بالضبط (وكانت تستحق التكاليف المخصصة لهذا البحث)، فإن (الخطة أ) ستكون عرضة للمخاطر المتعلقة بمشكلة المعرفة الأساسية. وبالرغم من أن صانع القرار، وهو ينشد صياغة (الخطة أ)، أدرك أنه ينقصه بعض المعلومات المحددة، ولذلك شرع في وضع (الخطة ب) التمهيدية، قد يكون في الحقيقة يفتقر الى معلومات اكثر مما يعتقد. (الهام في الموضوع أن مثل هذه المعلومات التي لم تُحدد قد تكون على شكل شركة، ولكن من الخطأ أن نؤمن أو نعتقد بصلاحية المعلومات الخاطئة كليا). أضف إلى ذلك أن المخطِّط الفرد قد يكون مخطأ في اعتقاده بأن المعلومات الناقصة هي معلومات ضرورية لتطبيق (الخطة أ) . كما يمكن أن يكون مخطأ في اعتقاده بأنه يفتقد إلى تلك المعلومات، وفي الواقع، قد تكون هذه المعلومات في قبضته الآن.
على سبيل المثال، قد يعتقد المخطِّط بأن (الخطة أ)، وفي سياق اتصاله مع الشخص (س)، تتطلب معلومات متعلقة برقم هاتف (س)، وهي المعلومات التي يعتقد أنه يفتقدها، وعليه يقوم بتنفيذ (الخطة ب) للبحث عن رقم هاتف (س). ولكن الحقيقة يمكن أن تكون مختلفة جدا، وأن (س) هو الشخص الخطأ، أو قد تكون الحقيقة أن (س) هو الآن جالس مع المخطِّط، ولذلك لا حاجة لرقم هاتفه للخطة (أ). أو قد يكون المخطِّط لا يفتقد رقم هاتف (س) على الإطلاق، ويمكن أن يكون رقم الهاتف مكتوباً في قائمة معينة موجودة لديه قرب جهاز الهاتف الذي يستعمله. مع وجود احتمالات الخطأ المحض ضمن (الخطة أ) و/أو (الخطة ب)، حيث يكون المخطِّط غير مدرك بحجم جهله، فإن (الخطة أ) التي تحتوي على (الخطة أ) و(الخطة ب) قد تكون بعيدة عن الأمثل، وإن كانت (الخطة ب) ناجحة من حيث تحقيق أهدافها. إضافة إلى ذلك، يمكن أن تغفل (الخطة ب) طرقا متاحة وأكثر فعالية لتحقيق أهدافها (فعلى سبيل المثال هناك طرق للبحث ذات تكلفة أقل لم يكن الباحث مدركا لها).
خلاصة القول، فإن احتمال التخطيط للبحث عن المعلومات الناقصة لا يُنهي مشكلة المعرفة. أولاً: يمكن أن يتم البحث بدون المعرفة بأن هناك أساليب متوفرة ذات فعالية أكبر. ثانياً: المعلومات التي يتم البحث عنها قد لا تبرر تكاليف البحث لأن الحقيقة التي يجهلها المخطِّط هي أن المعلومات غير مهمة للوصول إلى أهداف المخطِّط النهائية. وثالثاً: بغض النظر عن المعلومات التي يدرك المخطِّط أنه يفتقدها والتي سيحاول البحث عنها، فإنه قد يفتقد إلى معلومات هو غير مدرك لها ولا يأخذها بعين الاعتبار للقيام بالبحث عنها.
التخطيط المركزي ومشكلة المعرفة
نحن الآن نقدر مفهوم هايك لمشكلة المعرفة المتشتتة التي تُظهر مهمة التخطيط المركزي على أنها مرتبطة بعمق وتعقيد مع مشكلة المعرفة الأساسية. دعنا نضع أنفسنا في مكان المخطِّط المركزي الذي يبحث جديا وبفكر أحادي عن الطريقة المحتملة الأكثر كفاءة لتخصيص الموارد.
وكمخطِّط مركزي، فالمهمة هي صياغة خطة للمجتمع بأسلوب مشابه لذلك الذي يتبعه الفرد في التخطيط لسياق أعماله. نحن نعد خططنا الاجتماعية وفقا لبعض الأهداف الاجتماعية المحددة وفي ضوء تصور معين لمجموعات الموارد الاجتماعية المتاحة.[2] إن هذا الإطار مناسب للتخطيط المركزي لكل من التخطيط الاجتماعي الشامل والتخطيط المركزي المصمم خصيصا لتكميل أو تعديل النشاط الاقتصادي اللامركزي بدلا من إحلاله كليا. هذا التشابه بين الخطة الاجتماعية والخطة الفردية يدفعنا لأن ندرك علاقة مشكلة المعرفة الأساسية بالخطة الاجتماعية بنفس الطريقة التي وجدنا أنها خطر حتمي لا مفر منه بالنسبة للخطة الفردية. ومفهوم هايك يجعلنا ندرك بأن الخطة المركزية قد تكون معرضة للمخاطر (التي تنتج عن مشكلة المعرفة الأساسية) والتي يمكن أن يتم التهرب منها بواسطة التخطيط اللامركزي.
ومن البديهي استنتاج أن الخطة المركزية معرضة بشكل حتمي لمخاطر مشكلة المعرفة الأساسية بناء على مفهوم مشكلة المعرفة الأساسية نفسها. ونظرا لأن المخطِّط المستقل قد لا يكون مدركاً لظروفه الحقيقية وكذلك قد يكون غير مدرك بجهله، قد تفشل أفضل خططه المصاغة بشكل جيد في الحصول على الأمثل. وقد يكون القائمون على التخطيط المركزي أيضا غير مدركين بجهلهم فيما يتعلق بالظروف الحقيقية المناسبة للتخطيط الاجتماعي. ويعمِّق فهمنا للنتائج الخاصة بالمعرفة المتشتتة تقديرنا لجدية وخطورة مشكلة المعرفة الأساسية، ويكشف النقاب عن كيفية إمكانية تخطي مخاطر هذه المشكلة تماما في ظل غياب وجود الخطة المركزية.
إن إدراك حقيقة تشتت المعرفة—وخاصة فيما يتعلق بمعرفة الظروف الخاصة بالوقت والمكان (هايك، 1945: 80)—يوضح فورا فهمنا لمشكلة المعرفة الأساسية التي تهدد الأشخاص المعنيين بالتخطيط المركزي. فبالنسبة للمخطِّط المركزي، تُستمد مشكلة المعرفة الأساسية من الاحتمال بأن ما يعتقده المخطِّط بالنسبة لظروفه يمكن أن يختلف عما كان يمكن أن يعرفه لو كان أكثر يقظة أو إدراكا للبيئة الحقيقية (بدون الإنفاق الإضافي للموارد). ويعتبر الاحتمال نفسه وثيق الصلة بالنسبة للمخطِّط المركزي، ولكنه يزداد بسبب المأزق الخاص الذي يواجهه المخطِّط المركزي. إن ما يعتقده المخطِّط المركزي عن الظروف ذات العلاقة يجب أن يشابه ما يعتقده عن توفر أجزاء المعرفة المتشتتة التي يمكن حشدها، بطريقة ما ومقابل تكلفة، لصياغة وتطبيق الخطة الاجتماعية. وهناك فرصة ضئيلة لأن يعرف المخطِّط المركزي أين يجد أو يبحث عن جميع عناصر المعرفة المتشتتة المعروفة في النظام الاقتصادي. وإضافة إلى ذلك، فإنه يبدو أن هناك فرصة ضئيلة لأن يكون المخطِّط المركزي مدركا تماما لطبيعة مدى الفجوات المحددة في معرفته بهذا الخصوص. ويمكن أن يدرك بشكل عام أنه جاهل لبعض الأمور، ولكن هذا لا يُعطيه أي تلميح للمكان الذي يجب أن يبحث فيه. وفي النهاية، لا يستطيع المخطِّط استغلال كافة المعلومات المتوفرة لديه. وبشكل واضح، فإن انتشار المعلومات يعتبر مسؤولا عن بعد جديد في تطبيق مشكلة المعرفة الأساسية.
لقد ذكرنا سابقاً بأن مشكلة المعرفة الخاصة بهايك، وبالرغم من كونها شيئا جديدا، يمكن أن تندرج ضمن المشكلة الاقتصادية العامة، التي تُفهم تقليديا وفقا للإنجاز الفعال في تخصيص الموارد المتوفرة (وبشمول المعلومات المتاحة كمورد هام متوفر). ويمكن الآن أن نرى كيف أنه من غير المناسب اعتبار أنه بإمكان المخططين المركزيين أن يتفقوا مع مشكلة المعرفة الخاصة بهايك من حيث التخطيط التقليدي لتحقيق النمط الأمثل المحاط بالصعوبات بالنسبة لتخصيص الموارد. إن الجهل غير المعروف، وهو صُلب مشكلة المعرفة الناجمة عن تشتت المعلومات، يتحدى إمكانية المطابقة الصارمة لخطة التخصيص (معيار بروكرستيان). وكما أن المخطِّط الفردي غير قادر على التشبث بشكل متعمد مع مشكلة المعرفة الأساسية المحيطة بعمليات صنع القرار، كذلك الأمر بالنسبة للمخطِّط المركزي: فهو غير قادر على تنفيذ تقنيات للتخطيط ليتفق بشكل متعمد مع مشكلة المعرفة الخاصة بهايك.
الأمر الذي يجعل نقد مشكلة المعرفة الخاصة بهايك للتخطيط المركزي مدمرا هو أنه في حالة نظام إدارة السوق القائم على التخطيط اللامركزي، تُبدَّد مشكلة المعرفة غير الواضحة التي يواجهها المخططون المركزيون من خلال إجراءات الاكتشاف التنافسية لأصحاب المبادرة.
إجراءات الاكتشاف التنافسية لأصحاب المبادرة
هناك فهم خاطئ متكرر لمشكلة هايك الخاصة بصنع القرار اللامركزي. وفي حالات كثيرة، تُعرض هذه الحالة على أنها تجادل بأن اقتصاد السوق اللامركزي ينجو من مشكلة المعرفة المتشتتة لأن الأسعار تنقل المعلومات إلى صناع القرار المعنيين بشكل دقيق (بحيث يستبدل ذلك الحاجة لديهم لمعرفة المعلومات المفصلة المتشتتة خلال النظام). يجب التأكيد على أنه، وبالرغم من وجود هذا السياق من الاستنتاج بشكل واضح في أعمال هايك، إلا أنه لم يستوفه حقه فيما يتعلق بالمعاني الكاملة المتضمنة في ذلك العمل.
إن المجادلة بأن أسعار السوق تعطي وتنقل المعلومات، متغلبة بذلك على مشكلة المعرفة المتشتتة، توضح مسألة الأسواق التي تعتمد على الفرضية المشكوك فيها والتي تنص على أن الأسواق تكون دائما متوازنة أو قريبة من التوازن. ويمكن أن ندّعي أنه عند ذلك التوازن فقط يتم توجيه المشارك في السوق تلقائيا، وبالاسترشاد بأسعار السوق، باتجاه تلك الأعمال التي ستتنسّق بمرونة مع أعمال جميع مشاركي السوق الآخرين.
إضافة إلى ذلك، فإن وضع فرضية أن الأسواق قريبة من التوازن هو (وبمعزل عن الأسباب الأخرى لعدم الشعور بالارتياح المتعلق بواقعية هذه الفرضية) بمثابة الاستجداء من مشكلة هايك للمعرفة المتشتتة بدلا من التغلب عليها. في خضم ما تم ذكره سابقاً، وكما تقدم ظاهرة المعلومات المتشتتة التحدي للمخططين المركزيين، فإنها تقدم إلى الأسواق تحديا مماثلا ألا وهو الوصول إلى منظومات أسعار السوق التي ستخلق توازنا بين العرض والطلب.
لا يتسنى لأحد حل مشكلة المعرفة المتشتتة عن طريق افتراض الأسعار التي ستولد القرارات المرغوبة بلطف. إن المعرفة المتشتتة هي السبب الحقيقي بأن أسعار السوق الموجودة غير قادرة على خلق توازن بين العرض والطلب في الأسواق وضمان عدم هدر الموارد. الحقيقة أن السوق يمتلك أسلحة لمكافحة مشكلة المعرفة المتشتتة (وإن لم يكن قهرها تماما)، وهذه الأسلحة متضمنة في طريقة عمل نظام التسعير، وليست موجودة في النظام الافتراضي لأسعار التوازن. إن أهمية الأسعار فيما يتعلق ﺒمشكلة المعرفة الخاصة بهايك لا تقع ضمن نطاق دقة المعلومات التي ينقلها توازن الأسعار فيما يتعلق بأعمال الآخرين الذين حصلوا على معلومات مشابهة. بل تتمثل أهميتها في قدرة الأسعار غير المتوازنة على تقديم فرص للربح الصافي يمكنها أن تجذب انتباه أصحاب المبادرة المتيقظين الذين يسعون إلى تحقيق الأرباح. ويعبر إخفاق المشاركين في السوق عن نفسه في تنسيق نشاطاتهم بسبب المعرفة المتشتتة من خلال منظمونات الأسعار التي تنبه أصحاب المبادرة كيفية تحقيق أرباح صافية.
هناك معرفة قليلة للطرق المحددة لفرص الربح التي تجذب انتباه أصحاب المبادرة. ولكن، مما لا شك فيه أن لهذه الفرص قوة مغناطيسية جاذبة. إن القول بأن إمكانيات الربح الصافي تجذب الانتباه لا يعني أن إدراك هذه الإمكانيات مضمون بعملية البحث المتأني والمكلف من جانب أصحاب المبادرة. بل يجب إدراك أن إغراء الربح الصافي هو الذي يجعل صاحب القرار يتجاوز حدود إطار الخطة الموضوعة، وينجو من مشكلة المعرفة المتشتتة التي تحيط بصُنع القرار الفردي. إن يقظة أصحاب المبادرة موجودة دائماً لتحل محل تخطيطهم الضيق ضمن إطار الفعل الإنساني الأوسع. وفي نفس الوقت الذي يقوم به الإنسان بعملية احتساب التخصيص الأمثل للموارد المتوفرة آخذا بالاعتبار النتائج المتنافسة، يكون متحفزا لأي شيء قد يوحي بأن الموارد المتاحة مختلفة عن تلك التي تم افتراضها، أو ربما يجب وضع مجموعة أخرى من الأهداف والسعي لتحقيقها.
ويتم الاستجابة إلى إشارات الربح الصافي الناتج عن الأخطاء التي تنشأ عن المعرفة المتشتتة المتوفرة في المجتمع عبر العنصر الربحي في أعمال الإنسان. هذه هي الخميرة التي تخمر عملية الاكتشاف التنافسية لأصحاب المبادرة والتي تُكشف النقاب للمشاركين عن المعلومات ذات العلاقة المنتشرة في السوق. وعليه، فإن هذه العملية التنافسية لأصحاب المبادرة هي التي تتماسك مع مشكلة المعرفة الأساسية التي تواجه سلطات التخطيط المركزي. وللمدى الذي يمكن أن يحل التخطيط المركزي محل عملية الاكتشاف لأصحاب المبادرة، سواء على صعيد التخطيط الشامل للمجتمع أو على صعيد تدخلات الدولة التدريجية في نظام السوق الحر، يقوم المخططون بخنق قدرة السوق على تجاوز مشكلة المعرفة الأساسية معرضين أنفسهم إلى المشكلة ذاتها. إن مصدر المشكلة هو المعرفة المتشتتة الخاصة بهايك: لا توجد أدوات للتخطيط المركزي يمكنه من خلالها أن يتدخل في مشكلة المعرفة المتشتتة، كما إن طبيعته المركزية تعني أن عملية اكتشاف السوق تواجه صعوبات كثيرة، هذا إن لم تتوقف تماماً.
الأسواق والشركات والتخطيط المركزي
منذ بحث رونالد كوز (1937) حول نظرية الشركات، تم إدراك أن كل شركة في اقتصاد السوق هي عبارة عن جزيرة لـ”التخطيط المركزي” المحلي في بحر من قوى السوق التنافسية الهائجة. ففي داخل الشركة، نلاحظ تنسيق النشاطات بواسطة التوجيه المركزي وليس من قبل تنافس السوق عبر آلية الأسعار. يوضح نقاشنا في هذا البحث القوى التي تتحكم في موقع الحدود التي تفصل عالم “التخطيط المركزي” عن نظام الأسعار التنافسية.
لاحظنا أن استبدال اكتشاف السوق (يقظة أصحاب المبادرة لفرص الربح) بالتخطيط المركزي يولد نطاق نفوذ جديد لمشكلة المعرفة الأساسية الناشئة عن تشتت المعرفة. وعليه، وفي إطار نظام السوق الحر، يتم شراء أية ميزة مستمدة من التخطيط المركزي (على سبيل المثال، تجنب الازدواجية التي “تهدر” الموارد والموجودة غالبا في حالات التنافس في السوق) بثمن مشكلة معرفة مُعززة. يمكن أن نتوقع توسعا تلقائيا للشركات إلى الدرجة التي تتوازن فيها المميزات الإضافية للتخطيط المركزي مع الصعوبات المتزايدة للمعرفة التي تنشأ من المعلومات المتشتتة. فعلى نطاق ضيق، يمكن أن تكون هذه الصعوبات الأخيرة غير مهمة بالدرجة الكافية للتعامل معها للاستفادة من التنظيم المنسق بشكل واضح. وقد تعني المعرفة المتشتتة على منطقة جغرافية أو مؤسساتية صغيرة وجود مشكلة المعرفة الخاصة بهايك، والتي لا تشبه المشكلة المتعلقة بمؤسسات كبيرة ومعقدة، والتي يمكن حلها من خلال البحث المتأني. ومع ذلك، وبعد نقطة معينة، فإن صعوبات المعرفة يمكن أن تقلل من أرباح الشركات الكبيرة جداً. إن التنافس بين الشركات ذات الأحجام والمجالات المختلفة سيؤدي إلى كشف النقاب عن الحد الأقصى للتخطيط المركزي.
من جانب آخر، إذا تم فرض التخطيط المركزي على نظام السوق الحر، سواء كان ذلك لاعتبارات شاملة أم لا، فإن هذا التخطيط سيشتمل في الغالب على مشكلة المعرفة إلى حد لا يمكن تبريره بواسطة أي مميزات يمكن أن تمنحها الأنظمة المستندة على المركزية. إن التخطيط المركزي الذي تنفذه الحكومة يُبعد أسلحة السوق العفوية الدقيقة لمصارعة مشكلة المعرفة. وهذا التخطيط المركزي، استنادا إلى طبيعته الذاتية وكذلك طبيعة مشكلة المعرفة، غير قادر على أن يقدم أي أسلحة بديلة.
الخـاتمة
يجب أن نتذكر أنه نظرا لطبيعة مشكلة المعرفة، لا يمكن معرفة مداها وخطورتها سلفاً. إن جزءا من المأساة المتعلقة بمقترحات السياسة الصناعية والتخطيط الاقتصادي هو أن المدافعين عنهما جاهلون تماما بمشكلة المعرفة—المشكلة الناجمة عن عدم إدراك الشخص بجهله.
“التخطيط الاقتصادي ومشكلة المعرفة”: تعليق
ليونيد هورويتز[3]
ملاحظاتي موجهة إلى القضايا التي أثارها تحليل البروفيسور كيرزنر، وليس إلى الاقتراحات المختلفة المطروحة حالياً حول سياسة صناعية قومية، إلا أنني آمل أن تكون لها علاقة كخلفية لتحليل تلك الاقتراحات. كذلك، وما دام أنني أعتزم الإعراب عن مخالفتي لبعض من النقاط التي أثارها البروفيسور كيرزنر، دعوني أؤكد بأنني أتعاطف كلياً مع نقطته الأساسية، ألا وهي: تشتت المعلومات بين وحدات اتخاذ القرار الاقتصادية والتي يطلق عليها “مشكلة المعرفة المتعلقة بهايك”، والقضية الناتجة عنها والتي تتمثل في نقل المعلومات بين مختلف الوحدات.
كثير من الأبحاث التي قمت بها منذ خمسينات القرن الماضي كانت مركّزة حول قضايا اقتصاديات الرفاه، من منظور معلوماتي. إن نظريات هايك (وقد حضرت صفوفه في جامعة لندن للاقتصاد خلال العام الأكاديمي 1938-1939) قد لعبت دوراً رئيسياً في التأثير على تفكيري وقد اعترفت بذلك التأثير. بيد أن آرائي تأثرت أيضاً من قبل أسكار لانج (جامعة شيكاغو 1940-1942) وكذلك لودفيغ فون ميزس، والذي شاركت في ندواته في جنيف خلال الفترة 1938-1949.
والآن، توجد أبحاث كثيرة في هذا الميدان. إن دراسة متأنية لهذه الأبحاث سوف ترينا، في اعتقادي، بأن الفقرات الافتتاحية في بحث البروفيسور كيرزنر (والقائلة بأن درس هايك لم يُستوعَب قط من قبل علماء اقتصاد الرفاه) لا ينطبق على علماء الرفاه في مجموعهم في زمننا الحالي، بغض النظر عما إذا كان ذلك ينطبق أو لا ينطبق على الأبحاث السابقة في هذا الميدان.
دعوني أوضح ها هنا بأنني لا أعتزم أن أجادل حول مزايا أو مساوىء ما يمكن أن يشار إليه بـ”التخطيط المركزي” أو”السياسة الصناعية”. وبدلاً من ذلك، فإن هدفي من ذلك هو إدخال بعض من الشك فيما يتعلق بالحجج المبسطة التي تستخدم في بعض الأحيان في هذا الحقل. أود القول بأن الورقة التي أمامنا—وعلى الرغم من كثير من رؤاها الثمينة—لا تقدم أساساً كافياً لتكوين حكم حول المزايا المعزوة إلى “السوق الحرة”، أو “التخطيط المركزي”، أوغيرهما من أشكال التدخل الحكومي في العملية الاقتصادية. (هذا هو حكم على غرار الأحكام القضائية الاسكتلندية: ليس “مذنباً”، وليس “غير مذنب”، ولكن: “غير مثبت على أنه مذنب”)! الحالة هي كذلك لأسباب عدة، بما في ذلك غموض التعابير المستخدمة، والافتراضات الكامنة التي تصور “البيئة الاقتصادية الكلاسيكية” (والتي ستحدد أدناه)، ومسألة الحوافز، والأحكام القيمية التي تتجاوز معيار الكفاءة.
إن تعابير مثل “التخطيط المركزي” و”السوق الحرة” لهما تفسيرات كثيرة. وعند تحليل مزايا ونقاط ضعف عملية السوق، من الأمور المهمة التمييز بين الأسواق الحرة التامة، وبين الأسواق الاحتكارية أو مجموعة من قلة من الاحتكارات، وغيرهما من الأسواق غير الحرة بالمعنى التام للتعبير. وعلى سبيل المثال، ففي صناعة تتميز بتناقص التكاليف تدريجيا، لن يستطيع البقاء في السوق سوى قلة من الشركات، على الرغم من حرية الدخول للسوق. مثل هذا السوق يمكن تسميته بـ”الحرة”، ولكنه يُميِّلُ احتكار القلة وليس سوق منافسة حقيقية.
إن نظرية اقتصاد الرفاه المعروفة تؤكد نظرية باريتو بالنسبة للكفاءة الأمثل لتوازن قائم في سوق تنافسية كاملة. ولكن، ليست هنالك أسس نظرية للجزم بأن أسواق الاحتكار أو أسواق احتكار القلة تؤدي إلى تخصيص كفءٍ للموارد المتاحة. وفي الحقيقة، فإن التحليل الأولي يظهر بأن أسعار الاحتكار الموحدة أو الأسعار الموحدة في إطار احتكار القلة هما، بشكل عام، أسعار غير كفؤة بمعايير باريتو.[4] يضاف إلى ذلك أنه في ظل ظروف تتسم بالمردود المتزايد، فإن توازناً تنافسياً تاماً، هو بشكل عام مستحيل التحقيق، ذلك لأن تعظيم الربح في ظل سقف محدد للأسعار سوف يستدعي إنتاجاً يتراوح بين الصفر أو إنتاجاً غير محدود. لذا، فإن من الصعب رؤية كيفية تبرير كفاءة السوق الحرة بوجود مردود متعاظم، سواءً تم تفسير المصطلح الأخير بالمنافسة الكاملة، أو، مجرد حرية الدخول.
إن الصعوبات المصاحبة للمردود المتعاظم تشكل فقط حالة خاصة من بين مشكلة أكبر وأهم، إذ إن نظرية ضمان الكفاءة الأمثل لتوازن قائم في سوق تنافسية تفترض غياب العوامل الخارجية، وتستبعد كذلك السلع العامة.[5]
يضاف إلى ذلك، كما رأينا أعلاه، فإن هنالك ظروفاً (مثل المردودات المتزايدة) حيث لا يمكن لأية مجموعة من الأسعار أن تحقق توازناً بين العرض والطلب؛ يستدل من ذلك بأن تنافساً متوازناً تاماً هو أمر مستحيل المنال. وهكذا، ومن أجل ضمان إمكانية وجود أسعار متوازنة—وتعرف من الناحية التقنية الفنية بوجود توازن تنافسي كامل—وكذلك التوازن التنافسي الكامل والأمثل، فإن النظريات ذات العلاقة تقدم مجموعة من الفرضيات، مستبعدةً عوامل مثل الآثار الخارجية، والسلع العامة، والمردودات المتزايدة، وتلك الأصناف من السلع العامة غير القابلة للقسمة، وغير ذلك. وعندما تستوفى جميع هذه المعطيات (مع استبعاد العوامل المقلقة)، فإننا نتحدث عن اقتصاد كلاسيكي أو مناخ كلاسيكي. لذا، فإن النظريات التي تضمن تحقيق التوازن التنافسي الأمثل تفترض وجود بيئة كلاسيكية.
من الناحية العملية، مع ذلك، فإن المرء كثيراً ما يواجه بيئات غير كلاسيكية. التلوث هو مثال على عامل خارجي سلبي مهم، بينما المعلومات المستقاة من الاختراعات الجديدة أو السرور الذي ينشأ من المؤلَّفات الموسيقية تدلل على عوامل خارجية إيجابية أو سلع عامة. الدفاع الوطني هو مثال آخر على سلعة عامة بالغة الأهمية. الجسور والسدود تجسد عدم القابلية للقسمة، وهنالك أمثلة عديدة على اقتصاديات الحجم—والمعروفة بالمردود المتصاعد (للحجم). إنني لا أعرف أي أساس للادعاء بأنه، في مثل هذه الحالات، فإن عمليات السوق الحرة (بغض النظر عن كيفية وصفها) توفر تخصيصاً مثالياً للموارد.
لقد اتضح من عدد من الدراسات (ماونت وريتر 1974؛ أوسانا 1978؛ هورويتز 1977) بأنه في البيئات الكلاسيكية، فإن آلية التسعير التنافسية المثالية تستخدم حداً أدنى من المساحة لنقل رسالتها؛ أي أنها تستخدم الحد الأدنى من المتغيرات لنقل المعلومات بين الوحدات الاقتصادية. وهذا يؤكد نظرية هايك فيما يتعلق بالكفاءة الإعلامية لآلية الأسواق. ولكن، فقد تبين بالأمثلة (هورويتز 1977؛ كالساميليا 1977) بأنه في غياب التحدب لسلسلة احتمال الإنتاج،[6] فقد يكون مستحيلاً إيجاد أية آلية لامركزية ذات كفاءة عند استخدام مساحة ذات أبعاد محدودة لنقل رسالتها.
وبالإضافة إلى الصعوبات في تحقيق الكفاءة في البيئات غير الكلاسيكية، علينا أن نلاحظ بأن الكفاءة هي واحدة فقط من بين المعايير الممكنة، والتي تبنى على أساسها الأحكام التقييمية حول النظم الاقتصادية. بعض الناس قد يكونون مستعدين للتضحية بالكفاءة في سبيل المساواة؛ فبالنسبة لهم، فإن حقيقة أن عملية السوق تحقق الكفاءة، قد تكون غير كافية—حتى لو افترضنا وجود بيئة أو مناخ كلاسيكي. بطبيعة الحال، فإن هذا التوجه لا يحتاج بالضرورة إلى التخلي عن عملية السوق، بل ربما تعزيز ذلك بوسائل مثل الضرائب والدعم المالي. وهكذا، يمكن وضع دور للحكومة على أسس تقييمية، حتى لو تم الاعتراف بأن التدخل الحكومي سوف يؤدي إلى تخفيض كفاءة النظام الاقتصادي.
كما إنني أرى مشكلة في ترويج حجج البروفيسور كيرزنر حول النظرية أعلاه، فيما يتعلق بالتوازن التنافسي الأمثل. إن الورقة أمامنا جازمة في تجنب الاعتماد على الأسواق التي تكون بالفعل في حالة توازن. ولكن في الافتراضات الكلاسيكية، فقط يكون التوازن التنافسي هو الذي يضمن الوضع الأمثل. لذا، فإن أفضل ما يمكن قوله بالنسبة لحالات فقدان التوازن أنها قد تتجه نحو التوازن. وفي الحقيقة، فإن دراسة اشتركت في كتابتها مع أرو وبلوك عام 1959، حددتْ مجموعة من الحالات، حيث كان مثل هذا التوجه نحو التوازن قائماً. ولكن أبحاثاً لاحقة (على سبيل المثال بحث سكارف 1960) قد كشفت النقاب عن أن هذا التوجه ليس موجوداً دائماً، حتى في حالات السوق التنافسية المثالية. وفي جميع الأحوال، فإن من الصعب رؤية كيف يمكن في غياب قوى الاستقرار الادعاء نظرياً بأن الأسواق تؤدي إلى الكفاءة.[7]
إن التأكيد الأساسي في دراسة كيرزنر هو حول ما يسميه المؤلف “مشكلة المعرفة الأساسية.” وإلى الحد الذي يتجاوز فيه هذا القول تشتت المعرفة وفق هايك، فإن “قضية المعرفة الأساسية” هذه تبدو، ببساطة، من منطلق أن معظم القرارات—سواءً من قبل المخططين أو الشركات أو الأفراد—لا بد أن تتم دون توافر معلومات كاملة ودقيقة. لا يوجد أي خلاف حول هذه النقطة. ولكن بعض المناقشات على ما يبدو توحي بأن مثل هذا الوضع من عدم اليقين يجعل اتخاذ أي سلوك عقلاني مستحيلاً منطقياً.
إنني لا أستطيع الاتفاق على ما تقدم. هنالك بالفعل نظريات متطورة حول السلوك العقلاني في حالات عدم اليقين، بما في ذلك نظرية البحث. إن نظرية القرار الإحصائية هي فقط واحدة من فروع هذا العلم. ولكن حتى إذا قبلنا بالصعوبات العملية لسلوكيات البحث الأمثل، فإن المرء يجد نفسه منساقاً إلى إطار ما يسمى بـ”العقلانية المقيدة” (سايمون 1972؛ رادنر 1975).
إنني، بطبيعة الحال، أوافق على أن الناس كثيراً ما يتصرفون من منطلق قناعات ليست صحيحة في الواقع. وفي أفضل الحالات، يكون أملنا أن يكون التصرف عقلانياً في ضوء التنبؤ بالمستقبل وليس من قبيل استرجاع الماضي. ولكن هذه المصاعب تواجه كل إنسان وليس القائمين على التخطيط وحدهم. صحيح أنه إذا كانت معلومات المخطِّط أو قناعاته مستندة إلى نقل غير كامل، فإن ذلك سوف يشكل مصدراً إضافياً للخطأ. ولكن تلك، مرة أخرى، هي مشكلة هايك!
وكما ذكر أعلاه، فإن آلية السوق تخفِّض بالفعل مساحة الرسالة المطلوبة، بيد أن ادعاءاتها قائمة على افتراض وجود بيئة كلاسيكية. ففي مناخات غير كلاسيكية، وحيث هنالك قيم مهمة غير قيمة الكفاءة في الأداء، فإن بالإمكان تقديم حجة بعدم كفاية عمليات السوق، وربما في صالح دور حكومي. ولكن لا يجوز أن يعتبر ذلك مرادفاً للتخطيط الحكومي. وفي الحقيقة، فإن هذا الدور يمكن أن يقتصر على تقدمة وتنفيذ ما يمكن تسميته بـ”قوانين اللعبة”. وبالأخص، قد يشمل ذلك خلق حقوق ملكية من خلال حقوق نشر أو براءة ملكية أو اختراع. إن خلق مثل هذه الحقوق يشكل تدخلاً حكومياً في عملية السوق الحر، ولكن لا يشكل ما أسميه بـ”التخطيط المركزي”. والصيغة الأخيرة ربما يجب أن تُخصَّص لنمط من التدخل الذي يمكن تسميته بـ”الاستهداف الجزئي”، والتي تكون السياسة الصناعية أو مراقبة الأسعار أو التقنين أمثلة عليها، والتي تتخذ الحكومات من خلالها قرارات تتصل بالإنتاج، والانفاق، وأسعار سلع معينة أو مجموعة من السلع.
ومع ذلك، فإن من المهم التمييز بين التخطيط المركزي الشمولي (الذي تجري محاولته في الاتحاد السوفييتي) من ناحية، وعناصر من تخطيط تلحق باقتصاديات السوق الحرة (كما نراه عادة في البلدان الغربية) من ناحية أخرى. هكذا، يجب أن نعترف بأن ما بين الاقتصاد الحر والاقتصاد المركزي الشمولي (الاستهداف الجزئي) مساحة من الاحتمالات الممكنة، بعضها يشمل استهدافاً جزئياً، وبعضها الآخر تدخلاً حكومياً بقوانين اللعبة (وبدون عنصر التخطيط أو الاستهداف الجزئي).
شخصياً، فإنني أتفق في الرأي مع البروفيسور كيرزنر بأن دولة كبيرة حديثة هي فوق الحجم الأمثل حتى تكون وحدة قابلة للاستهداف الجزئي. أسباب قناعتي—بالإضافة إلى حقل المعرفة الذي أشار إليه البروفيسور كيرزنر—لها علاقة بإحباط الحوافز الشخصية نحو الإبداع أو الكفاءة،[8] بسبب نمط تخطيط جزئي، كما هو الحال في الاتحاد السوفييتي أو الصين. ولكن ذلك لا يعني بأن النظام الحر يشكل حلاً عالمياً شاملاً.
وبالأخص، ما زال يتوجب تقديم الدليل (كما هو الادعاء في الصفحة 417) بأن “التنافس بين الشركات من أحكام ومجالات مختلفة تتجه نحو إظهار الحد الأمثل لمثل ذلك (التنظيم المركزي).”
ففي مناخ كلاسيكي ربما يكون ذلك صحيحاً، ولكن من حق المرء أن يتساءل، على سبيل المثال، عما إذا كان التوجه نحو الاندماج الذي يجري حالياً في الولايات المتحدة من شأنه منطقياً أن يدفع الاقتصاد إلى مزيد من الاقتراب من الأداء الأمثل. إذا كانت النتيجة هي الاحتكار، فإن عدم الكفاءة سوف تتبع.
دعوني أقدم اعتراضاً آخر حول الكلمة الختامية في دراسة كيرزنر، والقائلة بأن دعاة السياسة الصناعية أو التخطيط المركزي، إنما ينطلقون بالضرورة من انعدام الإدراك بمشكلة المعرفة (دعاتها المخلصون غير الواعين كلياً لمشكلة المعرفة). في رأيي، فإن انعدام تقدير أهمية الحوافز يشكل مسألة أكثر خطورة. (الصين هي مثل على اقتصاد يدار مركزياً، وقد اعترفَتْ بأهمية الحوافز وبمنافع الإدارة اللامركزية). إن بعض الدعاة يرون السياسة الصناعية كحل يأتي في المرتبة الثانية، بالنظر للعيوب القائمة في الأسواق المحلية والدولية، وعلى الرغم من الصعوبات الناشئة عن مشكلة المعرفة. يستطيع المرء أن يختلف مع الرأي القائل بأن هذه قضية تأتي في المرتبة الثانية، ولكن دون أن يُتهم دعاتها بعدم الوعي بمثالبها.
إن قضية الدور المناسب للأسواق وللتدخل الحكومي هي قضية معقدة، ومن وجهة نظري، فإن الحل لا يكمن في أيّ من الطرفين المتعارضين. التحليل الموضوعي، والذي تُعتبر دراسة البروفيسور كيرزنر مساهمة مهمة لها، يُظهر المزايا والنواقص للحلول القائمة على طرفي نقيض؛ إنه يشير إلى نقاط القوة في اقتصاد السوق، مثلما يشير إلى تلك النواقص التي تبرر البحث عن وسائل مؤسسية إضافية تشمل تدخل القطاع العام. والأرجح بأن الأجوبة لن تسر الأيديولوجيين في كلا النقيضين.
ملاحظات
[1] لقد عمّق هايك (1979: 190) فهمنا لمشكلة المعرفة المتشتتة والتي تذهب إلى حد أبعد من “الاستفادة من المعلومات المتعلقة بالحقائق الراسخة التي يمتلكها الأفراد.” هو الآن يؤكد على مشكلة استخدام القدرات التي يمتلكها الأفراد لاكتشاف المعلومات الراسخة. وهذا يقود هايك إلى توضيح أنه لأن الشخص “سيكتشف ما يعرفه أو يمكنه أن يكتشف ذلك فقط عندما يواجه مشكلة حيث سيساعده ذلك،” فإنه قد لا يكون قادرا أبدا “على أن ينقل كل المعلومات التي يحصل عليها.” لقد قام البروفيسور لافوي أيضا من خلال عمل له لم يتم نشره، وبناء على أفكار من أعمال مايكل بولاني، بالتأكيد على الصلة المتعلقة بالحقيقة الضمنية للمشكلة الاجتماعية للانتفاع بالمعرفة المتشتتة. إن البحث الحالي يتوصل إلى استنتاجات مماثلة ولكن من بداية مختلفة إلى حد ما.
[2] نتجنب هنا شرح أي من الصعوبات المعروفة المحيطة بـِ: (أ) مفهوم التسلسل الهرمي للأهداف الاجتماعية المشابه بتصنيف الأهداف الفردية؛ و(ب) المفاهيم ذات العلاقة بالكفاءة الاجتماعية والاختيار الاجتماعي.
[3] أستاذ روجنتس للاقتصاد في جامعة مينيسوتا.
[4] نظرية كوز، كما أفهمها، فقط تقوم باستكشاف أبعاد طرح فرضية مفادها أن العناصر الاقتصادية التي تمتلك المعلومات وتعمل في السوق دون قيود اقتصادية ستصل إلى تخصيص باريتو الامثل. بيد أن الأسعار الموحدة في ظل الاحتكار أو احتكار القلة لا تلبي هذه الفرضية.
[5] حسب التعريف المعتاد، السلع العامة هي ذلك الصنف من السلع أو الخدمات التي تتواجد باستعمالها من قبل الشخص (أ) لا يتعارض مع احتمال استعمالها من قبل الشخص (ب) (ويمكن للحكومة أو القطاع الخاص تزويد هذا الصنف من السلع).
[6] العوائد المتزايدة هي حالة خاصة لعدم انحداب سلسلة احتمال الإنتاج.
[7] إني أؤكد كلمة “نظريا” لأنه لا البروفيسور كيرزنر ولا أنا نحاول معالجة البيّنات التجريبية فيما يتعلق بالاداء الحقيقي للأنظمة الاقتصادية المختلفة.
[8] البروفيسور كيرزنر يعترف بدور الحوافز في البحث عن المعرفة. وإني اشير ها هنا إلى حوافز السلوك الكفؤ على ضوء المعرفة المتوفرة.
مجلة كيتو، المجلد 4، رقم 2 (خريف 1984).
© معهد كيتو، منبر الحرية 12 تشرين الثاني 2006.