التاريخ العسكري يكتبه المُنتصرون. أما التاريخ الاقتصادي فيكتبه إلى حدّ ما البنوك المركزية. وفي الحالتين كليهما، عليك أن تأخذ آراء المسؤولين الرسمية بدرجة كبيرة من الحذر. ولسوء الحظ، فإن من الصعوبة بمكان أن تتغلب الحقائق على المعتقدات المزيّفة. وتلعب تلك الآراء المزيّفة دوراً بارزاً في الأبحاث المتعلقة بالسياسات الاقتصادية.
حتى نضع يدنا على الأوضاع الراهنة فيما يتعلق بالآراء التي تُطرح بشأن مجلس الاحتياط الفيدرالي، لا يوجد مكان أفضل لذلك من البدء فيما ذكره رئيس البنك السابق آلان غرينسبان في كتابه “عصر الاضطراب”. ووفق ما جاء في الكتاب، فإن الاحتياطي الفيدرالي كان على صواب في كل ما فعله غرينسبان خلال فترة ولايته: آب (أغسطس) 1987 – كانون الثاني (ديسمبر) 2006.
دعونا نأخذ نظرة أكثر تعمقاً. هل كانت هنالك أية أخطاء أو أنماط سياسات غير سوية خلال فترة ولاية غرينسبان؟ إن أسهل طريقة للإجابة على هذا السؤال هو قياس توجه نسبة النمو في المبيعات النهائية الإسمية للمشترين الأميركيين (إجمالي الناتج المحلي – الصادرات + الواردات – التغيرات في المخزونات) ومن ثم التفحص في الانحرافات عن ذلك التوجه.
خلال ولاية غرينسبان، نمت المبيعات الإسمية النهائية بمعدل 5.4% سنوياً. هذا يعكس مجموع النمو الحقيقي للمبيعات بمعدل 3% مضافاً إليه التضخم بمعدل 2.4%.
الانحراف الأول من هذا التوجه بدأ بعد فترة وجيزة من تولي غرينسبان رئاسة مجلس الاحتياط الفيدرالي. فاستجابة لانهيار السوق المالي في تشرين أول (أكتوبر) 1987، فتح البنك مفاتيح مضخة ماله، وعلى امتداد السنة اللاحقة ارتفعت نسبة المبيعات النهائية بـ7.5% وهو معدل أعلى من المعتاد.
بعد أن ذهب البنك المركزي بعيداً جداً، تحوّل ليعود مرة أخرى في الاتجاه المعاكس. وكان من نتيجة التشديد الذي فرضه الاحتياطي الفيدرالي حدوث تراجع اقتصادي معتدل في عام 1991، وما بين عام 1992 وحتى 1997 كان النمو في القيمة الإسمية للمبيعات النهائية مستقراً. بيد أن الانهيارات المتلاحقة التي لحقت ببعض العملات الآسيوية، والروبل الروسي، وإدارة صندوق الأمان الطويل الأمد، وأخيراً ما أصاب الريال البرازيلي، أدى كل ذلك إلى قيام البنك بضخ كمّيات زائدة من السيولة، الأمر الذي أدى إلى انتعاش في أرقام المبيعات الإسمية النهائية.
وقد أعقب ذلك دورة أخرى من التشدد من قبل الاحتياطي الفيدرالي ترافق مع انفجار فقاعات الأسهم في عام 2000 وانخفاض في النشاط الاقتصادي.
وكان آخر قفزة كبيرة في نسبة المبيعات النهائية الإسمية نتيجة لقيام الاحتياطي الفيدرالي بضخ سيولة في الأسواق لمعالجة مخاوف الانكماش المزيَّف الذي وقع عام 2002. في ذلك الوقت، كانت الزيادة السنوية في جدول الأسعار بالنسبة للإنفاق الشخصي الأساسي الاستهلاكي ينحدر إلى ما هو أدنى إلى 1%، بحيث أعطى إشارة بوقوع انكماش اقتصادي.
خلال ولاية غرينسبان، تبدو الحقائق واضحة: كان رد فعل مجلس الاحتياط الفيدرالي للأزمات الحقيقية أو المُفترضة رداً مبالغاً فيه وخلق ثلاث فقاعات للطلب في فترة ما بعد الأزمات. وقد تبع تلك الفقاعات تشديد في السياسة النقدية والذي كان ضرورياً للقضاء عليها.
إن الانكماش الحالي في الاقتصاد الأمريكي يحمل جميع علامات “الدورة الاقتصادية النمساوية”. في مثل هذا النمط من الدورات، فإن انتعاشاً في توفر السيولة يؤدي إلى ارتفاع في مستوى الأسعار ويؤدي في النهاية في زرع بذور دمارها—أي إلى حدوث انكماش اقتصادي.
الدورة الاقتصادية الأميركية والأوروبية التي جرت في أواخر 1920 وأوائل الثلاثينيات كانت نموذجاً للدورات النمساوية التقليدية. والازدهار الياباني، ثم الانهيار الذي وقع في أواخر الثمانينيات، كان أيضاً تجسيداً لشكل من أشكال الدورة النمساوية.
بموجب الدورة النمساوية، تلعب البنوك دوراً مفصلياً سواءً في الصعود أو في الهبوط. فعندما تتكشف دورة الهبوط، تبدأ أسعار الموجودات بالانكماش. ونتيجة لذلك، فإن رؤوس أموال البنوك تصبح مهددة وتجهد البنوك لإعادة بنائها.
يكون الاقتصاد مكشوفاً لما يسميه علماء الاقتصاد في المدرسة النمساوية بالانكماش الثانوي حيث تستدعي البنوك القروض وتُصبح متشددة في إعطاء تسهيلات مالية أخرى. أما العائلات فتُنتج صيغتها الخاصة بها حيث تُسيّل الموجودات الأكثر تعرضاً للخطر (مثل سندات الصناديق المشتركة) وتُحول موجوداتها إلى نقد وإلى سندات حكومية، وبالنسبة للاقتصاد بشكل عام، تُعاني الاستثمارات ويعاني الاستهلاك سواءً بسواء.
عندما يقع هذا السيناريو، فإن صفقة الإنقاذ التي يعمد الاحتياطي الفيدرالي إلى اتخاذها تصبح موضع شكّ ذلك لأن البنوك تُصبح أكثر تشدداً في إعطاء التسهيلات وتعمد إلى إعادة بناء أرصدتها وتستخدم السيولة المتوافرة لديها لشراء السندات الحكومية. وباختصار، فإن آلية خلق السيولة تتعثّر وتصبح غير قابلة للتنفيذ.
فإذا كان هنالك إمكانية بأن تفشل السياسة النقدية في إنقاذ الاقتصاد الأميركي المُنكمش، ماذا إذاً عن سياسة الدولة المالية؟ لقد وقّع الرئيس بوش على صفقة إنعاش للاقتصاد بقيمة 170 بليون دولار في 13 شباط (فبراير) الماضي. معظم ذلك المبلغ كان على شكل خصم ضريبي—شيكات من الحكومة. الفكرة وراء ذلك هي أن الناس سوف يتراكضون لإنفاق هذه الثروة التي نزلت عليهم وأن الاستهلاك سوف يشهد نشاطاً.
هنالك مشكلة فيما يتعلق بهذا النمط من السياسة المالية الكينزية. فالناس يُقيّمون استهلاكهم بالنسبة للمتغيرات في توقعاتهم البعيدة المدى أو مداخيلهم (الثابتة)، ولا يعطون سوى أقل اهتمام للتغيرات المرحلية.
ونتيجة لذلك، فإن الخصم الضريبي لمرة واحدة (مثل تلك التي حصلت في عام 1975) لا يؤدي إلى مزيد من الاستهلاك، ذلك لأنه لا يغير من مداخيل الناس الثابتة.
وحيث يغرق الاقتصاد الأمريكي، تُستخدم الوسائل النقدية والمالية لرفعه وانتشاله. ولكن هنالك أسباب قوية للشكّ في فعالية تلك العمليات الإنقاذية.
© معهد كيتو، منبر الحرية، 27 آب 2008.