لقد شهد عشرات الملايين من العرب سقوط رئيس العراق السابق صدام حسين في ربيع 2003، ووجدوا في سقوطه إنعكاساً لوضعهم الحالي، حيث يمثل التحول في العراق البداية لسقوط “الجدار العربي” – الحاجز غير المرئي للسلطوية والصرامة والذي يعزل المنطقة تماماً كما قام جدار برلين في أحد الأيام بتقسيم أوروبا إلى قسمين.
واعتماداً على حالة القلق التي تعيشها منطقة الشرق الأوسط، أصبح الوضع العربي الراهن في هذه الأيام صعب الاحتمال، ولكن، ماذا سوف يحل محله؟ يوجد هناك ثلاثة إمكانيات قاتمة: فوضى من النوع التي سمحت لأسامة بن لادن أن يقوي نفوذه في أفغانستان، أو حروباً أهلية كالتي نهبت كلاً من الجزائر والسودان، أو نظاماً جديداً كأسلوب صدام السلطوي.
ليس على العالم أن يفعل شيئاً من أجل إدراك تلك السيناريوهات سوى الانتظار ومراقبة الوضع الحالي الذي يزداد فساداً وغرقاً في فوضى عارمة. ولكن هناك بديلاً إيجابياً وهو عبارة عن طريق إصلاحي يؤدي إلى تأسيس نظام القانون، وحقوق الأفراد، ومجتمع مدني أكثر قوة، ودمقرطة في جميع أنحاء العالم العربي.
وبالرغم من العنف الذي يلحق بالعراق الآن، إلا أن إيجاد الطريق نحو ذلك البديل أمر محتمل. لقد كان العالم العربي مستقراً نسبياً خلال العقد أو العقدين الماضيين، فقد اختفت فعلياً عمليات الاغتيال والانقلابات والاضطرابات الاجتماعية التي سادت المنطقة ما بين 1945– 1990 اللهم وجود بعض الاستثناءات لما ذكر وهما الاجتياح العراقي للكويت والصراع الفلسطيني الإسرائيلي، إضافة إلى حرب لبنان الأهلية وحرب السودان والجزائر الأهلية.
ولم يحسّن الاستقرار النسبي بسبب طفرة النفط عام 1973 من الأمور شيئاً بل ولّد حكومات فاشلة، ونمو اقتصادي سلبي، وقيام جماعات إسلامية متطرفة، كما ولّد المزيد من القمع. وسبب هذا القصور حالة من اليأس وتوق إلى العنف، كما قال لي شاب عربي أثناء وصفه لوطنه: “إن البلاد لم تقم يوماً بالاستثمار من أجل الشباب، فلا يوجد لنا مكان، كما أنه ليس مرغوباً بنا، ولذلك فإن باستطاعتي حرق هذا المكان والانتقال دون ان ينتابني أي شعور بالندم.”
كيف يستطيع الشرق الأوسط إيقاف هذا اليأس والغضب الذي ينتاب فئات هامة من الشعب؟ لقد قام المسلمون بتجارب عديدة على معظم المذاهب السياسية الأكثر حداثة: الاشتراكية (الجزائر ومصر والعراق وليبيا وسوريا واليمن)، الشيوعية (جنوب اليمن)، الرأسمالية ممزوجة بالملكية (الخليج العربي والأردن والمغرب العربي)، كما أنها قامت ببعض التجارب على الأيديولوجيات المحلية –الناصرية والبعثية والخمينية، ولكن الأيديولوجية الوحيدة التي لم يتم تطبيقها في المنطقة هي الديمقراطية الليبرالية الرأسمالية.
وتعتبر الدول الملكية (والأميرية) من الكويت إلى البحرين وعمان والإمارات العربية المتحدة وقطر أفضل مَن يسعى إلى اتباع الطريق الليبرالي وذلك لطبيعة أمرائهم وملوكهم وأنظمتهم التي تعتمد على قاعدة سكانية صغيرة وتتفاعل مع المجتمع بروحية عصرية تقوم على التعايش بين التيارات والآراء المختلفة. لقد كانت نهضة دبي وانفتاح فطرة ديمقراطية للكويت وإصلاحات عمان والبحرين دليلاً على نمط التفكير الذي ساد العديد من دول مجلس التعاون.
وعلى العكس، فإن الإصلاح القابل للتطبيق في السعودية يواجه تحديات أكبر بكثير. فالانقسام السعودي على بيئة ما بعد الحادي عشر من سبتمبر وعلى السياسة الأمريكية الناتجة عن تلك الإحداث كان كبيراً في المملكة. كما وتقوم القوانين والصفة الدينية للبلاد –التي تعتبر أساساً لشرعية نظام الحكم– بالتقليل من المساحة العامة والحريات التي تتناقض والتفسير الوهابي للإسلام. لهذا تحولت قضايا المرأة إلى أحد المسائل الحساسة للغاية في المملكة.
من جهة أخرى ينتاب الكثير من السعوديين الخوف من أن تؤدي الضغوطات المحيطة بالإصلاح السياسي والديني إلى تعاظم في نفوذ ودور المتطرفين على حساب التوازنات السعودية التقليدية في ظل حكم آل سعود. ومن جهة أخرى، نجد أن ردة الفعل السعودية على الإرهاب الداخلي قد دفعت بالمتطرفين خطوات إلى الوراء. إن آفاق الإصلاح قائمة في المملكة ولكن شروطها وظروفها تتميز بالتعقيد والصعوبة والمخاطر بنفس الوقت.
أما في الأردن فيتطلب الإصلاح إعادة ترتيب للبنية الاجتماعية من خلال بناء مؤسسات دولة حديثة تنفتح على جميع مواطنيها. إن تفعيل آليات الديمقراطية ودور الجيل الجديد في الحكم الأردني منذ وفاة الملك حسين واضحة في التغيرات التي تشهدها المملكة ولكن هذه التغيرات تتطلب نظرة واضحة لتغيير بنى الأردن العشائرية والقبلية والحكومية التي سادت في العقود الماضية. إن إعطاء الأردنيين الفلسطينيين حرية أكبر في المساهمة سياسياً واقتصادياً ومهنياً بأساليب فعّالة، أساسي لمستقبل المملكة. ولكن من جهة أخرى على الأردنيين من أصول فلسطينية أن يتحملوا مسؤولياتهم تجاه الأردن وينطلقوا من القبول الواضح بالأردن كوطن لهم يتطلب بناؤه وازدهاره.
وتواجه الدول العلمانية في الشرق الأوسط مشاكل مختلفة، فقد تآكل دور مصر القيادي البارز الذي تبوأته في العالم العربي، وذلك بانتقال النفوذ إلى قطر والإمارات المتحدة والأردن وانتقاله المحتمل في الوقت الحالي إلى عراق ديمقراطي. وتستطيع مصر إستعادة القيادة العربية فقط من خلال قيادتها بشكل يحقق النهضة الثقافية، والليبرالية، والديمقراطية، والإصلاح التعليمي، والتنمية الاقتصادية.
إن تاريخ مصر يدعم هذا الدور، فقد سقطت الملكية عام 1952 من دون أعمال عنف، وعلى مدار 250 عاماً قامت مصر بإظهار قدرتها على انتاج اتجاهات سياسية راديكالية واصلاحية أيضاً، وبالتأكيد سوف يعني مصير عملية الإصلاح في مصر إما موت أو إعادة إحياء العالم العربي نوعاً ما.
إن الوضع في سوريا مشابه للوضع في مصر، إلا أنه يختلف عنه ببعض الأدوار. فقد ساعد سقوط صدام على إلقاء الضوء على بعض الأمور التي يفضل النظام بقائها في الظلام كالدور التي تقوم به سوريا في لبنان، ودعمها لحزب الله ولبعض المنظمات الفلسطينية، والتعدي على حقوق الإنسان.
ولكن إذا أراد الرئيس بشار الأسد أن لا تعاني بلاده من العزلة والتراجع الاقتصادي، عليه أن يباشر في تحرير بلاده سياسياً وثقافياً واقتصادياً، حيث أنه يستطيع أن يتخذ الكثير من الخطوات الجريئة رغم القيود التي ورثها. إن آفاق نجاح هذه العملية محفوفة بالمخاطر. فالدول التي لم تشهد تجارب ديمقراطية وقامت على حكم الحزب الواحد تواجه الكثير من المصاعب في عملية الانتقال نحو الحريات والديمقراطية. ولكن البيئة الجديدة الناتجة من الحادي عشر من سبتمبر تجعل الخيارات أمام سوريا محدودة. لهذا يمكن الاستنتاج بان الانتقال نحو الديمقراطية أصبح خياراً مفروضاً ولكن السؤال بأي شكل وما هي طبيعة النتائج أمام آفاق تداول السلطة وبناء الديمقراطية في سوريا؟
أما في إيران، فيتوق الإيرانيون إلى الإصلاح، وينعكس توقهم هذا في الانتصارين الساحقين اللذين حققهما الرئيس خاتمي في الانتخابات. ولكن تشير من جهة أخرى مقاومة المحافظين لأبسط التغييرات إلى إدراكهم بأن الإصلاح الجذري سوف يضع دورهم الحاكم على المحك. وبالرغم من ذلك، لم تكن عملية الإصلاح أقرب مما هي عليه الآن في إيران قط، وذلك بسبب مطالبة الشباب الذين يشكلون الأغلبية العظمى من الشعب الإيراني به. ولم يشهد أي بلد عربي حركات مطالبة بالتغيير الاجتماعي والثقافي أقوى من الحركات التي تكونت في إيران. إن إيران مقبلة على صراعات مفتوحة في خياراتها وستحدد نتيجة هذه الصراعات مستقبل إيران.
ويعتبر الإصلاح الأهلي في منطقة الشرق الأوسط هو فقط نصف المعركة، ويتمثل النصف الآخر في تحقيق السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين، ولن ينجح الإصلاح وسط النزاعات التي تشجّع التطرف والكراهية ولذلك يجب هدم جميع الجدران التي تقف عائقاً أمام دمج العرب مع العالم في ظل مجتمعات أكثر حداثة. لقد بدأ التغيير في منطقة الشرق الأوسط، أما حجم التغيير وطبيعة القلاقل التي ستصاحبه فهو ما لم تتضح صورته حتى الآن. لقد بدأ يسقط جدار برلين العربي على مراحل وسط حروب وتناقضات كثيرة.
© معهد كيتو، منبر الحرية، 3 كانون الثاني 2006.