كلما واجهت المنطقة العربية مشكلة سياسية مع الغرب تتكرر الدعوة لاستخدام النفط كسلاح استراتيجي. ربما نجاح هذه الآلية – كأحد أدوات إدارة العلاقات الدولية مع العالم الغربى- في عام 1973 هى السبب وراء تلك الدعوات المتكررة. لكن تطورات سوق الطاقة العالمي في العقود الثلاثة الماضية أكدت أن اللجوء لهذا البديل لم يعد ممكنا، وأن البديل الآن لدى الدول المنتجة هو “وطنية الطاقة”.
ولنبدأ أولا بالحديث عما يطلق عليه الأزمة النفطية الأولى، والتي ارتبطت بالتوقف المفاجئ في إمدادات النفط من الشرق الأوسط، وذلك بعد اجتماع وزراء البترول العرب في 17 أكتوبر 1973 لتتفق على تخفيض الإنتاج الكلى للبترول العربى بنسبة 5% مع زيادة التخفيض بالنسبة ذاتها كل شهر وذلك حتى تنسحب إسرائيل إلى ما قبل خطوط يونيو 67، كما قررت ست دول بترولية رفع سعرها بنسبة 70%، وقررت بعض الدول العربية حظر تصدير البترول كلية إلى أي دولة يثبت تأييدها لإسرائيل بما فيها الولايات المتحدة الأمريكية.
ورغم أن تلك الأزمة لم تكن المرة الأولى التي يستخدم فيها النفط كسلاح إستراتيجي- فتاريخ القرن العشرين ملئ بالاستخدام السياسى للنفط في إدارة العلاقات الدولية- إلا أن أزمة 73 كانت الأكثر تأثيرا، ليس لكونها جاءت بالأساس من دول ليست غربية أو مهيمنة في النظام الدولي، أو حتى لكونها استمرت لتسعة أشهر، أو حتى لدورها في رفع أسعار النفط من 3 دولار للبرميل (1973) إلى 10-12 دولار للبرميل(1974) أو حتى لدورها في إجبار الدول المستوردة للنفط العربى على دعم القضية الفلسطينية. لكن الأهم هو إصرار -ونجاح-الدول الغربية وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية على إلغاء أي إمكانية لاستخدام النفط كسلاح استراتيجي في المستقبل من خلال عدة إستراتيجيات أهمها خلق تواجد لها في الدول الرئيسية المنتجة للنفط وخاصة الخليج.
فالوضع الحالي يؤكد أن الدول المنتجة والمصدرة الكبرى لا تسعى للضغط السياسى على الدول الغربية باستخدام النفط كسلاح استراتيجي ولكن بدلا من ذلك لجأت لإستراتيجية مختلفة وهى إحكام سيطرة الدولة على قطاع الطاقة، فيما أصبح يُعرف بوطنية الطاقة Energy Nationalism، والمفارقة المهمة هى أن وطنية الطاقة ليست قاصرة على الدول المنتجة فحسب، بل لجأت إليها الدول المستهلكة أيضا وإن اختلفت الآليات.
إلى جانب الدول المنتجة ترجمت وطنية الطاقة في إحكام الدول المنتجة الكبرى لسيطرتها على قطاع الطاقة كجزء من أمنها القومى وأحد مصادر قوتها داخليا وخارجيا، فـ 80% من مصادر الطاقة حاليا تحت سيطرة الحكومات.
فروسيا كثاني أكبر مصدر للنفط في العالم بعد المملكة العربية السعودية، ارتكزت إستراتيجيتها لأمن الطاقة على سيطرة الدولة والشركات الحكومية على مصادر الطاقة والسيطرة على خطوط الأنابيب الممتدة عبر أراضيها وأراضى جيرانها.
ووفقا للإستراتيجية الروسية يقتصر دور الشركات الدولية على توفير التكنولوجيا ورأس المال بما يساعد الدولة على تعظيم مكاسبها من احتياطاتها من النفط والغاز الطبيعى، بحيث يصبح القرار بيد الدولة بشأن كيف يتم تطوير الاحتياطات ولمن يتم بيع الإنتاج. ويتضح هذا الأمر بالنظر إلى القرار الروسى في أوائل عام 2006 بوقف ضخ الغاز الطبيعى عن أوكرانيا.
الأمر ذاته يتضح في دول مثل فنزويلا من خلال سيطرة الدولة على قطاع الطاقة من خلال شركة النفط الفنزويلية المملوكة للدولة، وكذلك المملكة العربية السعودية.
على الجانب الآخر، فإن الدول المستوردة ورغم اعتراضها على فكرة وطنية الطاقة التي تُطالب بها الدول المصدرة خشية أن تؤدى إلى صراعات في المستقبل فقد لجأت هى الأخرى إلى تبنى وطنية الطاقة وإن كان بشكل مختلف من خلال التركيز على بدائل محلية تجعلها بمعزل عن التهديد بتوقف الإمدادات. وبرز هذا الأمر بشكل واضح عند النظر إلى السياسة الأمريكية الخاصة بالوقود الحيوي كبديل لمصادر الطاقة التقليدية.
وفي هذا السياق ترى الولايات المتحدة الأمريكية أن الاعتماد على البدائل البيولوجية للطاقة يُشكّل مشروعها الاستراتيجي القومي القادم. هذا الاقتراب روج له المحافظون الجدد من خلال الترويج لفكرة مفاداها أن تقليل الاعتماد على النفط من شأنه تقليل سعر النفط ومن تم تقل تدفقات أموال النفط لدول الشرق الأوسط. ووفقا لوجهة النظر تلك فإن عائدات النفط المنخفضة سوف تجبر الحكومات لأن تصبح أكثر ديمقراطية. ومن تم فإن تقليل الاعتماد على النفط من شأنه حل مشكلة الأنظمة السلطوية وهو ما دفعهم لتطوير بدائل الطاقة.
فالولايات المتحدة الأمريكية تشهد صراعا بين تيارين فكريين فيما يتعلق بالاقتراب الأفضل للتعامل مع أمن الطاقة. الواقعيون يعتقدون أن النفط سيظل هو الأساس وأن كافة البدائل الأخرى تعتمد بالأساس على النفط وأن كل بديل يأتى ومعه مشاكله وقيوده وأنه رغم وجود بدائل عدة للنفط إلا أنها لن تحقق التوازن المطلوب في سوق الطاقة. ومن ثم فإن من مصلحة الولايات المتحدة الأمريكية ضمان تحقيق الاستقرار في سوق النفط العالمى وتنويع مصادر النفط. على الجانب الآخر، فإن المحافظين الجدد يدافعون عن الطاقة البديلة انطلاقا من أن الاعتماد على النفط في مجالات الحياة المختلفة يأخذ كثيرا من المال والوقت والإرادة السياسية وأن العالم يدخل عصراً جديداً للطاقة يتطلب استجابة مختلفة تختلف عن العصور السابقة.
وبذلك يتضح أن وطنية الطاقة على جانبي الدول المستهلكة والمنتجة كان لها تأثيراتها الضارة على أمن الطاقة العالمي، فإحكام سيطرة الحكومات على قطاع الطاقة من شأنه تهديد قطاع الطاقة على المستوى العالمي، خاصة في ظل سيطرة حكومات فاشلة. كما أن تجربة التفكير في بدائل أخرى كالايثانول كان لها تأثيراتها الضارة، فرغم ما يتمتع به هذا الأخير من مزايا إلا أن خبرة التطبيق في الولايات المتحدة الأمريكية كانت سلبية حيث أدت الزيادة في إنتاج الايثانول بها إلى ارتفاع أسعار الذرة بنسبة 20% خلال عام 2007. إذ أن إنتاج 13 لتر فقط من الايثانول يحتاج إلى 230 كيلو جرام من الذرة. بحيث أوشك العالم على أن يواجه أزمة غذاء كارثية.
وبذلك فإنه لا مجال لضمان تحقيق أمن الطاقة العالمى دون التخلى ولو بشكل محدود عن فكرة “وطنية الطاقة” ليس من قبل الدول المنتجة فحسب ولكن من جانب الدول المستوردة للطاقة أيضا وبما يضمن إيجاد حوار على المستوى العالمى وبما يضمن تحقيق أمن الطاقة.
© منبر الحرية، 28 نوفمبر/تشرين الثاني2009