المدينة العربية وقيم الصحراء

peshwazarabic10 نوفمبر، 20101

لا يمكن لمؤرخ الأفكار العربي/المسلم خاصة، أن يفلت من ملاحظة ظاهرة التصحر الحضري التي ألمت بالمراكز المدينية العربية منذ عصر فجر السلالات في بلاد مابين النهرين، ثم حاصرتها ومحقتها حتى العصر الحديث كي تقدم أغلب المدن العربية، مشرقية كانت أم مغربية، نفسها كقرى أو واحات متضخمة، فيزياوياً واجتماعيا.
لقد تواترت هذه الحال عبر الحقب التاريخية ومتغيراتها الكبرى نظراً لحقائق جوار المراكز المدينية في العالم العربي مع البوادي، أو على حافات الصحارى الكبرى القادرة على ابتلاع كل شيء عبر ربوعها الخالية، الأمر الذي يفسر طغيان “فيزياء البادية” الرملي المتصحر الجاف على هذه المدن، لاغياً المناطق والأنطقة الخضراء ودافناً بأتربته الصفراء الخانقة منابع المياه والرطوبة النادرة في الفيزياء المدينية الشرق أوسطية. إنها حال طوبوغرافية تستحق الملاحظة والرصد والدراسة على سبيل محاولة تفسير كنه سر هيمنة قيم البادية على أشباه الحواضر أو أنصاف المدن التي نفتخر بها أحياناً، تلك المراكز التي نستورد لها أعلى ناطحات السحاب، الجاهزة المسلفنة، كي تبدو شبيهة بمدن العالم الغربي العملاقة.
لقد حاولت الأقوام القديمة في بلاد الرافدين والشام والنيل التأسيس لحواضر تسودها قيم الحاضرة والتحضر أو قيم المجتمع المدني؛ وفعلاً نجحت بعض المحاولات حتى ظهرت في منطقتنا مراكز حضرية كوزموبوليتانية في العصور الغابرة، ومنها بابل وآشور والقدس (أورشليم حقبة ذاك) والإسكندرية وصور، من بين مدن عظيمة أخرى، منتفعة من مجاورة مصادر المياه غير المالحة على سبيل إقامة حواضر ومراكز إشعاع حضري وثقافي عظمى تنأى بنفسها عن الصحراء وسكانها على سبيل تقديم أنموذج مديني عملاق يستحق الدراسة وحتى المحاكاة.
وللمرء أن يلاحظ، في سياق كهذا، أن ظاهرة تصحر المدينة في هذا الإقليم قد تبلورت فيما بعد عبر عصر الفتوحات الإسلامية، إذ لاحظ الفاتحون الآتون من بطون البوادي لدحر جيوش الفرس على الفرات والروم على سهول ووديان بلاد الشام وحوالي دلتا النيل، لاحظوا أن عليهم أن يؤسسوا “معسكرات” (وليس مدن) يستقر فيها الفاتحون وعوائلهم على نحو عشوائي، بطريقة تجعلهم على حافات الصحارى حتى يمكن من هذه المراكز أو المعسكرات ممارسة عمليات الكر والفر أمام جيوش الإمبراطوريات القديمة. وهكذا ظهرت أولى المدن العربية على سواحل الفرات والنيل: متصحرة مقفرة، تحت اسم “الأمصار”: الكوفة ثم البصرة، والفسطاط ثم القيروان. حول هذه النوى (جمع نواة) أخذت المدن العربية الجديدة تتضخم وتتوسع. وفي الوقت الذي انتخب فيه الإمام علي بن أبي طالب (كرم الله وجهه) الكوفة عاصمة لدولة الخلافة الفتية، كانت تلك المدينة/المعسكر مقسمة على نحو أحياء أو مناطق بأسماء القبائل العربية التي قطنته،ا وكونت أو شكلت القوات الفاتحة التي جاءت إلى العراق وانتقت موقع الكوفة معسكراً ثم مدينة لها. وتنطبق ذات الحال على بقية الأمصار الرئيسية بين الكوفة والقيروان.
المهم في هذا السياق التاريخي هو أن هذه المدن الناشئة بقيت ضحية لفيزياء البادية الداهم الذي كان يغزوها من آن لآخر على نحو عواصف رملية خانقة أو موجات بدوية، أو أحياناً على نحو جراد صحراوي جائع لا يبقي ولا يذر. أما بقاء أو تواصل عنصر البادية داخل هذه المراكز الحضرية، فقد عبّر عن نفسه في خطط هذه المدن المقسمة حسب أسماء العشائر والقبائل: فهذا حي تميم، وذاك حي بنو أسد، أو جشعم أو طي، وهكذا.
لم تحاول أمصار العرب المسلمين القادمين من بطون البوادي نزع جلدها الصحراوي على سبيل محاكاة حواضر الرافدين والشام ومصر المتطورة القديمة، بل هي تمسكت بهذا الجلد ونأت بنفسها عما ظهر لسكانها وكأنه “ترف” أو نعومة أهل الكفر والشرك من بقايا الثقافات والتقاليد الدينية القديمة التي هزمها العرب على أرض العراق وبلاد الشام. لذا راحت المراكز المدنية العربية الجديدة تمد جسور الصلة والتواصل مع الصحراء وليس مع بساتين وحدائق الوديان الخصيبة الغنّاء، الأمر الذي قاد إلى سيادة قيم البادية في هذه المدن أو أشباه المدن، بديلاً عن قيم التمدن والاستقرار: وهكذا راح سكان هذه المدن يعرفون بانتساباتهم القبلية وألقابهم العشائرية، ليس فقط بحدود التعريف والهوية، وإنما كذلك بحدود السلوك وأنماطه الفردية والجماعية، حيث هيمنت وحتى الآن قيم البداوة على مدن وسط وجنوب العراق، مثلاً، بديلاً عن قيم المدينة الثقافية المتحضرة، الأمر الذي يفسر دوافع وإرهاصات التمسك بالممارسات البدوية العتيقة كالثأر والانتقام ونصرة أقرباء الدم (العصبية القبلية)، من بين سواها من الممارسات والقيم التي نهى الإسلام عن بعضها، ولكنها بقيت متواصلة تتحرك وتسري تحت “رادار الرقيب المسلم” القادم من المدينة.
قد تكون هذه مداخلة مهمة الآن بقدر تعلق الأمر بما نلاحظه من تشبث الإنسان المديني في المشرق العربي خاصة بقيم الصحراء وبأصولها البدوية التي قد تتناهى إلى “جاهلية” من النوع المخيف الذي يراد تجنبه والحذر منه اليوم.
ربما كانت هذه المداخلة مهمة كذلك من ناحية ضرورات ملاحظة أولي الأمر في الحكومات العربية عملية وأهمية التخطيط الحضري: مصادر المياه، الأنطقة والمساحات الخضراء التي تمنح الإنسان المديني ما يحتاج إليه من صفاء ورواق المدينة، تلك السجايا القابلة للترجمة على نحو علوم وفنون وإبداع، ومدارس وجامعات. كم من مخططينا الحضريين اليوم وضع نصب عينيه أو في أولوياته وجود مكتبة عامة، للنشء وللكبار؟ وكم من هؤلاء فكر بمدارس للموسيقى والباليه في خططه لمدننا القديمة والجديدة؟ هل نتذكر بناء مسارح ودور سينما كافية للأنشطة الاجتماعية في مجتمعات تقيم أعلى الجدران الفاصلة بين الجنسين.
هذه قضايا تستحق الملاحظة وأنشطة تبادل الرأي ما دامت مدننا تستجيب للتصحر والصحرنة، فيزيائياً واجتماعيا على نحو متواصل مخيف.
© منبر الحرية ، 7 ماي /أيار2010

One comment

  • محمد فيصل

    23 مارس، 2012 at 2:03 م

    راااااائع

    Reply

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.
جميع الحقول المشار إليها بعلامة * إلزامية

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

تواصل معنا

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018