هل هناك سبيل للخروج من مأزق الديون الذي تعاني منها أثينا؟، كيف وقعت اليونان في الفخ المميت الذي هي فيه الآن؟ الجواب هو: عن طريق الاستحقاقات التي لا تمويل لها. بعبارة أخرى، حين تعد شخصاً ما بأمر ما، ولا تأتي بالتمويل اللازم لذلك، فإنك سرعان ما تجد نفسك عالقاً في أزمة مالية عامة أو أزمة ديون.
هذا هو الوضع الذي انتهى به المطاف بالنسبة لليونان، وفي شباط (فبراير) استدعت الحكومة اليونانية عدداً من المستشارين الأجانب (من بينهم الاقتصادي الحائز على جائزة نوبل جوزيف ستيجليتز)، وبدأت لعبة التقاذُف بكرة اللوم. وراح رئيس الوزراء باباندريو، الذي هو في الوقت نفسه رئيس الاشتراكية الدولية، يلقي اللوم على الجميع. في البداية اتَّهم المضاربين. ثم سارع إلى مهاجمة زملائه في الاتحاد الأوروبي. كما هاجم الألمان هجوماً شديداً، لأنهم وفقاً لباباندريو كانوا سبباً كبيراً في متاعب اليونان.
ومن المفارقة أنه بعد أن اعتبر اليونانيون أن الأجانب هم الملومين على جميع المتاعب التي تعاني منها بلادهم، استدعى اليونانيون أطباء أجانب. في هذه الحالة لم يكن الأطباء هم صندوق النقد الدولي فحسب، وإنما كذلك تم إشراك السياسيين والبيروقراطيين في الاتحاد الأوروبي. لكن ربما يتبين في نهاية المطاف أننا أمام حالة يقتل فيها الأطباء المريض.
لم يبدأ الأطباء بما كان يجدر بهم أن يبدأوا به، وإنما بدأوا ببرنامج تقشف على النمط المعهود من صندوق النقد الدولي. ووعدت الحكومة بتقليص الإنفاق العام. ورفعت الضرائب كذلك. وعلى خلاف جارتها بلغاريا، التي فعلت الشيء الصحيح تماماً حين رفضت زيادة ضريبة القيمة المضافة على المبيعات، فإن اليونان زادت من ضريبة المبيعات مرتين منذ الأزمة.
ماذا كان ينبغي على اليونان أن تفعل؟ كان ينبغي عليها أن تبدأ بفرقعة كبرى، بمعنى أن تقوم بعدد من الأمور في وقت واحد، على غرار ما فعلت نيوزيلندا. ففي عام 1984، تم انتخاب حكومة بزعامة حزب العمال بعد أن أدت حكومتا الحزب الوطني برئاسة روبرت مالدون Muldoon إلى إحداث فوضى شاملة في الاقتصاد. على مدى عقد كامل تقريباً أدخلت حكومتا مالدون نظاماً على النمط الاشتراكي في نيوزيلندا. ثم أدخل حزب العمال، في ظل وزير المالية روجر دوجلاس، إصلاحات هيكلية تركزت على التحرير والقدرة التنافسية. نتيجة لذلك مرت نيوزيلندا بثورة اقتصادية هائلة بعد انتخابات عام 1984، وينبغي على اليونان أن تتبنى نمطاً من الفرقعة الكبرى على غرار نيوزيلندا.
كان يجدر باليونان، كجزء من برنامجها في الفرقعة الكبرى، أن تعيد جدولة ديونها. لكن كان يجدر بها كذلك أن تطبق برنامجاً لضبط النفقات في المالية العامة على جانب العرض (أي زيادة عرض النقود المخصصة للاستثمار من خلال تخفيض الضرائب). وهذا يعني تقليص الإنفاق الحكومي، لكنه يعني كذلك تغيير النظام الضريبي.
تعاني اليونان في الوقت الحاضر من ضرائب مرهقة على الرواتب يدفعها أصحاب العمل (من شركات ومؤسسات)، وفي نهاية الأمر تدفعها القوة العاملة. كجزء من الفرقعة الكبرى، ينبغي على اليونان إلغاء مساهمة أصحاب العمل في ضرائب الرواتب، والتي تبلغ في الوقت الحاضر 28 بالمائة من الأجور (ويدفع الموظفون بصورة مباشرة نسبة أخرى مقدارها 16 بالمائة).
في الوقت نفسه، ينبغي على اليونان أن تجعل ضرائب القيمة المضافة منتظمة. في الوقت الحاضر توجد ثلاث معدلات ضريبية مختلفة على القيمة المضافة في اليونان. وهذا أمر طبيعي في أوروبا. أولاً، هناك الضريبة الاعتيادية على المبيعات، وضريبة أخرى أدنى بنسبة 50 بالمائة على فئات أخرى، وأخيراً ضريبة إضافية مخفضة بنسبة كبيرة للغاية. أقترحُ إلغاء الضريبة المخفضة، والأخرى المخفضة بصورة كبيرة للغاية، والإبقاء على ضريبة منتظمة واحدة فقط على القيمة المضافة وتكون أقل من النسبة الضريبية العليا الحالية، وهي 23 بالمائة.
إذا فعلت اليونان هذين الأمرين، سينتهي بها المطاف إلى توليد دخل يفوق ما تقوم بتوليده في الوقت الحاضر. وحتى لو استند ذلك على تحليل عادي ساكن، فإن من شأن ذلك وضع اليونان على نحو يسبق لعبة الإيرادات.
لكن الأمر المهم أكثر من ذلك هو أن هذا من شأنه كذلك تحقيق تخفيض لا يستهان به في تكاليف العمل في الاقتصاد بين عشية وضحاها. تبلغ مساهمة أصحاب العمل في الضمان الاجتماعي حوالي 7.8 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي. إذا ألغينا مساهمة أصحاب العمل فإن هذا سيؤدي إلى تخفيض مقداره 22 بالمائة في مبالغ الأجور الإجمالية في اليونان كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي. من شأن ذلك أن يجعل الاقتصاد اليوناني أكثر تنافسية دون اللجوء إلى تخفيض العملة، الذي يزعم بعض المعلقين أنه أمر ضروري. من الواضح أن هذه التغيرات من شأنها كذلك تقليص الاستهلاك، وزيادة المدخرات، وتقليص مستوى الديون في اليونان.
اسمحوا لي أن أتقدم بتعليق حول تخفيض العملة. هناك بعض الناس الذين يشعرون بالقلق الشديد دون أن يفعلوا أي شيء ويقولون: “المشكلة مع اليونان هي أنها وضعت نفسها في إطار قيود اليورو، وليس بوسعها الآن تخفيض الدراخما. بالتالي فإن اليونان في مأزق. وليس هناك ما تستطيع عمله.”
لكن هناك أمر يستطيع اليونانيون القيام به. بإمكانهم تقليص إجمالي تكلفة العمالة بنسبة 22 بالمائة، بمجرد إلغاء مساهمة أصحاب العمل في ضرائب الرواتب. حتى نرى مقدار تخفيض العملة اللازم لتوليد صدمة تنافسية موجبة بهذا المقدار، لنفترض أن 50 بالمائة من التخفيض سيتم تمريره خلال الاقتصاد على شكل ارتفاع في معدل التضخم، وهو افتراض معقول بالنسبة لاقتصاد صغير ومفتوح مثل الاقتصاد اليوناني.
في هذه الحالة لا بد أن يكون مستوى تخفيض العملة في اليونان هو 44 بالمائة، حتى يكون معادلاً، من حيث القدرة التنافسية، للصدمة الموجبة التي يمكن أن تصاحب إلغاء مساهمة أصحاب العمل في ضرائب الرواتب.
بالتالي حين يتم إلغاء مساهمة أصحاب العمل في ضرائب الرواتب، تستطيع اليونان تعزيز قدرتها التنافسية. وسيكون هذا التعزيز مساوياً تقريباً لتخفيض العملة بنسبة 44 بالمائة. فضلاً عن ذلك، فإن جانب العرض الذي يتم توليده من خلال القدرة التنافسية لن يقترن بالأوضاع التي يمكن أن يستثيرها تخفيض العملة، وهي التضخم وحالات الإفلاس على نطاق واسع في القطاع الخاص.
من الواضح أنه لا اليونان ولا شركائها الدوليين يفكرون في عملية طوعية لإعادة هيكلة الديون، ناهيك عن إحداث فرقعة كبرى على جانب العرض، وهذا يجعل من المرجح أن تظل اليونان عالقة في الفخ. لا تدع أحدا يقول لك إنه ليس بمقدور اليونان أن تفعل أي شيء. لم يفُت الأوان بعد على تغيير المسار. بالإضافة إلى ذلك فإن بإمكان عدد من البلدان الأخرى التي تواجه الآن أزمة محتملة في الديون أن تحاول بالمثل اتخاذ منهج مماثل، وذلك بإعادة هيكلة الديون وتخفيض الضرائب على العمالة في سبيل تحسين القدرة التنافسية وحفْز عملية خلق الوظائف، وفي الوقت نفسه رفْع بعض ضرائب الاستهلاك للمحافظة على استمرار الدخل. أي أن هناك مخرج من المأزق اليوناني.
هذا المقال مقتبس عن ملاحظات ألقاها هانكي في منتدى السياسة لمعهد كيتو، بعنوان: “الأزمة الاقتصادية في أوروبا ومستقبل اليورو”، بتاريخ 11 أيار (مايو) 2010 في واشنطن العاصمة.
التعبير الأصلي باللغة الإنجليزية هو death spiral، وهو مصطلح مالي متخصص، يعني القرض الذي يعطيه المستثمرون إلى شركة معينة مقابل سندات قابلة للتحويل إلى أسهم بسعر محدد سلفاً (يكون في العادة أدنى من سعر السوق). من الممكن نتيجة لذلك أن يخسر المساهمون الأصليون سيطرتهم على الشركة، لأن أسهمها في العادة تهبط بصورة عجيبة بعد حصولها على قرض من هذا القبيل. ويستطيع المستثمرون أصحاب القرض بيع أسهم الشركة على المكشوف (في سبيل الضغط ودفع سعر السهم إلى الأدنى).
© منبر الحرية،29 تموز/يوليو 2010