حول سقوط الروبية والجنرال سوهارتو

peshwazarabic10 نوفمبر، 20100

بتاريـخ 14 آب 1997، وبعد وقت قصير من انهيار العملة التايلندية (البات) يوم 2 تموز، قامت اندونيسيا بتعويم عملتها (الروبية). هذا القرار دفع سـتانلي فيشر، نائب المدير التنفيذي لصندوق النقد الدولي إلى الإعلان الصريح بقوله بان: “إدارة صندوق النقد الدولي ترحب بالقرار الذي تم اتخاذه في وقته المناسب من قبل السلطات الاندونيسية وإن تعويم الروبية، المقترن بوجود أساسيات قوية في اندونيسيا والمدعوم من قبل سياسات مالية ونقدية تتسم بالحذر، سوف يسمح للاقتصاد الاندونيسي بالاستمرار في أدائه الاقتصادي المثير للإعجاب في السنوات العديدة الأخيرة.”
وخلافا لتوقعات صندوق النقد الدولي، فان الروبية الاندونيسية لم يتم تعويمها فوق بحر من السكون، بل إنها هبطت هبوطا سريعا ومفاجئا من 2.700 روبية للدولار الأمريكي الواحد في زمن التعويم إلى مستويات منخفضة قاربت 16.000 روبية للدولار الأمريكي في العام 1998. وهكذا، فقد لحقت اندونيسيا بركب الاضطرابات العاصفة للازمة الآسيوية الهائلة.
وبحلول أواخر شهر كانون الثاني 1998، أدرك الرئيس سوهارتو بان الدواء الذي وصفه صندوق النقد الدولي لم يحقق النجاح، ولهذا فقد قام بالبحث عن رأي ثاني. وفي شهر شباط من نفس العام تم استدعائي كي أقدم ذلك الرأي الثاني وان ابدأ العمل في سبيل الخير كمستشار خاص للرئيس سوهارتو. ومع انه لم يكن لدي أية آراء حول حكومة الرئيس سوهارتو فقد كان لدي فعلا أفكارا محددة حول المسألة المطروحة للبحث. وبعد المناقشات المفتوحة الاعتيادية في المنزل الخاص بالرئيس سوهارتو، قمت بالاقتراح، كترياق واقي، بان يتم عمل مجلس نقد تقليدي تكون الروبية بموجب هذا المجلس قابلة بالتحويل بالكامل إلى الدولار الأمريكي وفق سعر صرف ثابت. وفي ذلك اليوم الذي وصلت به هذه الأنباء إلى الشارع ارتفعت الروبية ارتفاعا شديدا بنسبة وصلت إلى 28 بالمائة مقابل الدولار الأمريكي. وقد عملت هذه التطورات على إغاظة حكومة الولايات المتحدة الأمريكية وصندوق النقد الدولي.
وتلا ذلك شن هجمات قاسية على فكرة مجلس النقد وعلى “المستشار الخاص”. وتم إبلاغ الجنرال سوهارتو بعبارات لا غموض فيها، من قبل كل من رئيس الولايات المتحدة الأمريكية بيل كلينتون، ورئيس صندوق النقد الدولي مايكل كامدوسو، بان عليه إما أن يقوم بصرف النظر عن فكرة مجلس النقد أو أن يفقد مبلغا مقداره 43 مليار دولار أمريكي ستكون كمساعدة خارجية. كما انه كان أيضا على دراية بان أيامه كرئيس لاندونيسيا سوف تكون معدودة إذا لم يتم استقرار الروبية.
كذلك، قام أخصائيو علم الاقتصاد أيضا بالانضمام إلى محاكاة ذلك. فقد تم بالفعل تقديم نصف الحقيقة مع اللاحقيقة التي يمكن أن يتم تخليهما ضد فكرة مجلس النقد. وبحسب رأيي الشخصي، فان هذه الإشاعات الكاذبة المضللة للجمهور التي تكررت مرارا قد تم إعطاؤها أهمية زائدة بوجود دعم كامل خاص بمجلس النقد الاندونيسي (والذي تلقى تغطية إعلامية ضئيلة جدا) من قبل أربعة علماء اقتصاد حائزين على جائزة نوبل في علم الاقتصاد هم: جاري بيكر وميلتون فريدمان وميرتون ميلر وروبيرت موندل.
لماذا إذن كل هذه الضجة الكبرى حول مجلس نقد خاص باندونيسيا؟ على الفور، استوعب عالم الاقتصاد ميرتون ميلر اللعبة الكبرى، حيث كتب، عندما كنت أنا والسيدة هانكي نقيم في فندق شانغريلا في جاكرتا، قائلا بان معارضة إدارة كلينتون لمجلس النقد “لم تكن لأنها سوف لن تحقق النجاح، بل لأنها سوف تحقق هذا النجاح، وإنهم، إذا تحقق ذلك النجاح سوف يقومون بالالتصاق والتعلق بسوهارتو.” وهناك الكثير من هذه المناقشات نفسها قد تم التصريح بها من قبل رئيس الوزراء الاسترالي الأسبق بول كيتينغ حيث قال: “لقد قامت وزارة الخزانة الأمريكية بشكل مدبر تماما باستخدام الانهيار الاقتصادي كذريعة للتسبب في طرد الرئيس سوهارتو.” وقد تدخل وزير الخارجية الأمريكي الأسبق لورنس ايغلبيرغر ليشخص تشخيصا مماثلا لتلك المسألة حيث قال: “لقد كنا أذكياء نوعا ما بحيث أننا قمنا بدعم صندوق النقد الدولي عندما كان يقوم بقلب نظام حكم [سوهارتو]، أما الطريقة التي كان علينا أن نسلكها إن كانت حكيمة أم لا فهذا شأن آخر. فانا لا أقول بان السيد سوهارتو يجب أن يبقى في الحكم، لكنني أود أن أتمنى لو انه قد ترك الحكم وفق شروط تختلف عن ذلك السبب الذي تسبب صندوق النقد الدولي بطرده خارج الحكم.” وحتى مايكل كامدوسو لم يكن بمقدوره أن يجد أي خطأ أو تقصير في هذه التقييمات. فقد صرح علنا، بمناسبة حصوله على التقاعد، بقوله متفاخرا: “لقد قمنا نحن بخلق الظروف التي أجبرت الرئيس سوهارتو على ترك منصبه.”
ولكي يتم خلع الرئيس سوهارتو، كان من الضروري أن يكون هناك خدعتان. الخدعة الأولى عملت على إدخال تلفيق لموقف عام عدائي مفتوح من قبل صندوق النقد الدولي تجاه مجالس النقد. وهذه الخدعة كانت مطلوبة لكي يتم إقناع سوهارتو بأنه يتصرف بشكل راديكالي متطرف وانه، في حال استمراره على هذا النحو، سوف يكون الثمن باهظا. وقد تطلب عداء صندوق النقد الدولي أن يتم إجراء استدارة كاملة في الاتجاه وسريعة كما يلي: قبل اقل من سنة واحدة على الضجة الاندونيسية، قامت بلغاريا (حيث كنت اعمل لديها مستشارا للرئيس ستويانوف) بتركيب مجلس نقد بتاريخ 1 تموز 1997 بموافقة حارة وحماسية من قبل صندوق النقد الدولي. وفي البوسنة والهرسك (حيث قمت بنصح حكومة هذه الدولة حول تنفيذ مجلس النقد) تمت متابعة هذا الالتماس وفق تفويض “اتفاقية دايتون للسلام” وبدعم من صندوق النقد الدولي بتاريخ 11 آب 1997.
وبعد أن غادر سوهارتو بوقت قصير، انكشفت خدعة مجلس نقد صندوق النقد الدولي بحيث أصبحت شفافة. وفي 28 آب 1998، أعلن مايكل كامدوسو بان صندوق النقد الدولي يود أن يعطي روسيا ضوءا اخضرا لو أنها ستختار أن تتبنى مجلس النقد. وقد أعقب ذلك اجتماع لم يتم التعريف به إلا قليلا عقد بتاريخ 16 كانون الثاني 1999 في مكتب مايكل كامدوسو لدى مقر صندوق النقد الدولي في واشنطن العاصمة. وقد ضمت المجموعة التي حضرت ذلك الاجتماع كبار شخصيات صندوق النقد الدولي ووزير مالية البرازيل بيدرو مالان ومدير السياسة النقدية لبنكها المركزي فرانسيسكو لوبيز. وقد كان ذلك الاجتماع هو الذي قام به مايكل كامدوسو بتقديم اقتراحه بان تقوم البرازيل بتبني مجلس النقد!
الخدعة الثانية عملت على إدخال قصة انتشرت على نطاق واسع وهي أنني قمت بالاقتراح بان يتم تحديد أسعار صرف الروبية وفق مستويات مغالى فيها بحيث يتمكن الرئيس سوهارتو وأصدقاؤه الحميمون من سلب ونهب احتياطيات البنك المركزي. لقد كان هذا السيناريو التصوري المتمثل “بـأن يتم أخذ الأموال والهروب بها” بمثابة مسمار الدولاب الذي عمل على تسهيل حركة حملة إدارة كلينتون ضد سوهارتو ولقد كان من المقصود أن يتم “التأكيد” على أن نوايا سوهارتو مراوغة، وبان يتم حشد دعم سياسي دولي ضد فكرة مجلس النقد وبغرض أن يتم طرد سوهارتو.
أما قصة أسعار الصرف المغالى فيها فقد تمت إحاطتها بهالة مقدسة من قبل صحيفة الوول ستريت جورنال بتاريخ 10 شباط 1998. فقد نقلت هذه الصحيفة قائلة بان بيتر غونثا [رجل الأعمال الثري والمقرب من ابن سوهارتو آنذاك] قام باستدعائي إلى جاكرتا وأنني قمت بتجهيز ورقة عمل خاصة بالحكومة أوصي بها بان يتم ضبط سعر صرف الروبية مقابل الدولار الأمريكي بسعر 5.500. ولقد كان هذا الأمر جديدا بالنسبة لي بما أنني لم أقم بمقابلة بيتر غونثا ولم أتعرف عليه، كما أنني لم أقم بكتابة أية تقارير حول اندونيسيا أو تقديم أي اقتراح خاص بسعر صرف الروبية.
وعلى الفور، حاولت أن أقوم بتصحيح هذا التلفيق والفبركة وكانت العملية صعبة وبطيئة وفي النهاية كانت غير مقنعة. وبالرغم من أن صحيفة الوول ستريت جورنال قامت يوم 14 شباط (من نفس السنة) وعلى مضض بنشر تصحيح نصف مطبوخ أو نصف ناضج إلا أن الضرر كان قد وقع فعلا.
لقد تم تكرار النسخة الأصلية للتلفيق والفبركة التي صدرت بالفعل عن صحيفة الوول ستريت جورنال (أو بعض المتغيرات من هذه الفبركة) في كل مجلة وصحيفة كبرى في شتى أنحاء العالم واستمر صداها في الترديد لغاية هذه الأيام حتى فيما يسمى بالكتب والمنشورات العلمية. فعلى سبيل المثال، أكد “لي كيوان يي” في مذكراته في العام 2000، بعنوان: من العالم الثالث إلى العالم الأول، قصة سنغافورة: 1965-2000، بأن: “بامبانغ—ابن الرئيس سوهارتو—قام في أوائل شباط 1998 بإحضار ستيف هانكي وهو بروفيسور أمريكي في علم الاقتصاد من جامعة جونز هوبكنز كي يقابل الرئيس سوهارتو ليبلغه بان الرد البسيط على القيمة المنخفضة لصرف الروبية هو أن يتم إنشاء مجلس النقد.” هذا القدر الضئيل من المعلومات المضللة كان بمثابة دهشة مفاجئة لي بما أنني لم يكن لدي أي اتصال مع بامبانغ سوهارتو مطلقا. لكن السياسيين لم يكونوا هم فقط الذين أخفقوا في “تقصي الحقائق” بالنسبة لتأكيداتهم. ففي كتاب لثيودور فريند عام 2003: المصائر الاندونيسية، تمت كتابة اسمي بشكل خاطئ وتم بعد ذلك المضي قدما بقوله بأنني “قمت بتقديم مشورة إلى عائلة [سوهارتو] لكي تقوم بتثبيت سعر الصرف بـ5.000.”
إن عملية ضبط هذا السجل ليكون بشكل موثوق قد تعقدت من قبل أولئك الذين ينسجون ويغزلون لدى صندوق النقد الدولي، وهم في حقيقة الأمر منشغلون كانشغال النحل الصغير في إعادة كتابة تاريخ السجل النقدي الماضي للتغطية على أخطاء صندوق النقد الدولي، وتمثل اندونيسيا اكبر الأخطاء الفادحة التي تم ارتكابها. وللوصول إلى هذه النتيجة، قام صندوق النقد الدولي في العام 2001 بإصدار ورقة عمل مكونة من 139 صفحة تحت عنوان: “اندونيسيا: تحليل مفصل لازمة مصرفية: سنتان من العيش تحت الخطر 1997–1999.” وقام المؤلفون بإدخال نسخة معدلة باسم “تصحيح سياسي” في مسلسل مجلس النقد لتؤكد، من بين أشياء أخرى، على أنني قمت بتقديم مشورة إلى الرئيس سوهارتو كي يتم تثبيت سعر صرف الروبية مقابل الدولار بـ5.000. وقد أخفقت هذه الرواية الكاذبة على المستوى العلمي التي تضمنت 115 حاشية في توثيق ذلك التأكيد أو الجزم نظرا لأنه، بكل بساطة، ليس بالمستطاع أن يتم القيام به. وهذا الإصدار الرسمي الذي صدر عن صندوق النقد الدولي الخاص بهذه الأحداث قد تجنب بشكل ملحوظ أن يشير إلى أية مراجع لأعمال لي أو لمقابلات قمت بها والتي تستند إلى خبرتي وتجربتي في اندونيسيا.
ولا يعتبر هذا المسلسل وتلاعباته أمرا فريدا من نوعه في عالم السياسة. فقد يكون، بالرغم من كل ذلك، من المفيد، بعد أن يتم الكشف عن الزمن وعن الأحداث، أن يتم تقويم الحقائق عندئذ وفي الوقت الحالي. هناك بلدان أخرى كالصين مثلا تمر حاليا ببعض أهواء العلاجات المماثلة. لهذا دعونا نأمل بأنه لن يكون عليهم ولن يكون علينا جميعا أن نقوم بدفع الثمن في وقت لاحق عن مثل تلك الأخطاء الفادحة.
© معهد كيتو، منبر الحرية، 26 شباط 2007.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.
جميع الحقول المشار إليها بعلامة * إلزامية

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

تواصل معنا

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018