أود التحدث عن الأفكار الرئيسية في كتابي وعنوانه: مستقبل الحرية: الديموقراطية غير الليبرالية في الوطن والخارج، وأحاول تطبيقها على الولاية الواحدة والخمسين. ربما لم تدركوا بعد أن لدينا ولاية واحدة وخمسين، ولكنه حقاً لدينا، وهي تدعى العراق. وقد حصلنا عليها على أساس مبدأ العلاقات الدولية المتغطرسة الذي أسماه توماس فريدمان مبدأ حظيرة الفخار: “إن تكسرها، تشتريها”. الآن وقد امتلكناها، علينا أن نحسب كم ستكلفنا وكيف سنصلحها. وينطوي هذا على ضرورة أن نعرف جزءاً من العالم لم نكن نألفه من قبل ولم نتعرف عليه كما يجب. يعرّف آمبروز بيرس الحرب في كتابه الرائع:قاموس الشيطان، على أنها طريقة الله لتلقين الولايات المتحدة درساً في الجغرافيا. شرعنا الآن في أجندة طموحة جداً في العراق. ولكن جلب الديمقراطية للعراق أمر صعب. وأعتقد أنه سيكون صعباً بسبب شيء تجسده الفكرة الرئيسية فعلاً في كتابي -فما نريد جلبه إلى العراق ليس الديموقراطية فحسب، بل الديموقراطية الليبرالية. في العقود الثلاثة أو الأربعة الماضية كانت هناك حركة كبيرة صوب الديمقراطية في معظم أرجاء العالم، لكن العديد من الحكومات التي تشكلت في تلك العملية لا تبدو، ولا تشعر، ولا تفوح منها رائحة الديمقراطية.
لديكم، مثلاً، حكومة هوغو شافيز في فنزويلا التي كانت في الأساس حكومة دكتاتورية منتخبة. ولديكم حكومة في روسيا يديرها فلاديمير بوتين. قام بوتين، الذي تم انتخابه بحرية ونزاهة، بعزل نصف حكام الأقاليم وتعيين حكاماً أعلى مرتبة بدلاً منهم، وطرد ثلث أعضاء البرلمان الروسي (الدوما)، وأرعب الإعلام الروسي وهو الذي كان يوماً إعلاماً حراً ونابضاً بالحياة، وأرغمه على السكوت التام، وما زال يواصل حرباً على الشيشان قام بخلالها الجيش الروسي بقتل قرابة 100 ألف شيشاني معظمهم من المدنيين. أهذه حقاً ديمقراطية؟
الليبرالية إزاء الديمقراطية
يتألف النموذج الغربي للحكومة، الذي نعتز به، من عرفين مختلفين بعض الشيء، أصفهما في كتابي: العرف الليبرالي الدستوري، والعرف الديمقراطي. ويتمكرز العرف الديمقراطي على المشاركة العامة في الحكومة—أي على الانتخابات أساساً. وأفضل تعريف للديمقراطية هو أنها شكل من أشكال الحكومة يتم فيه اختيار نظام الحكم بانتخابات حرة ونزيهة.
من ناحية أخرى، فإن الليبرالية الدستورية لا تتمكرز على عملية اختيار الحكومات بل على أهداف الحكومة. والهدف في العرف الليبرالي الدستوري هو الحفاظ على الحرية الفردية، ذلك العرف الذي بدأ مع ماجنا كارتا (الميثاق الأعظم)، بل حتى قبل ذاك التاريخ، يكون منصبّاً على القيود المفروضة على السلطة الحكومية. ومن الناحية التاريخية، استوجب الأمر تطوير الحصون والمتاريس لحماية حقوق وحريات الأفراد من السلطة التعسفية—من قبل الدولة أو الكنيسة أو المجتمع.
كثيراُ ما نرجح أن هذين العرفين متشابهان نوعاًً ما، وكثيراً ما ينظر إليهما على أنهما شيء واحد، لأنهما قد اندمجا معاً في العالم الغربي. ولكنهما في الواقع مختلفان تماماً كما أنهما انبثقا في مفاصل تاريخية مختلفة تماماً.
بزوغ الحرية الغربية
أستهل كتابي بالرجوع إلى عام 324 بعد الميلاد لأن ذلك—في اعتقادي—هو تاريخ بدايات الحرية الغربية، كان قسطنطين حينذاك قد قرر أن يحوّل عاصمته من روما إلى بيزنطة. لقد كان قراراً في غاية الأهمية لأنه اصطحب معه كل بلاطه وحاشيته باستثناء شخص واحد وهو أسقف روما. وبفعله هذا بدأ قسطنطين عملية فصل الكنيسة عن الدولة. وللمفارقة أصبحت الكنيسة أول وأكبر محك أو رقيب على سلطة الدولة في العالم الغربي. وقد كانت بحق المرة الأولى في التاريخ الإنساني التي تستطيع فيها مؤسسة مستقلة عن السلطة الحكومية أن تدقق وتراقب عمل وسلطة الحكومة.
ثم تلتها سلسلة متعاقبة كاملة من المؤسسات والتقاليد المشابهة في العالم الغربي، وظهور الأرستقراطيات الإقطاعية التي راقبت وضبطت سلطة الحكومة أيضاً. ولم تكن ترمي في أغلب الأحيان هذه الرقابات إلى حماية حرية الفرد. كانت الماجنا كارتا، مثلاً، عبارة عن ميثاق خاص لحماية امتيازات البارونات. كانت وثيقة تقول للملك: “لا يمكنك التعدي على حقوق البارونات.” ولكنها، بهذا الفعل، حدّت من السلطة الملكية المطلقة. ثم تلاها أيضاً بروز الرأسمالية التي كانت على الأرجح المحك أو الرقيب الأشمل على سلطة الدولة لأنها أنتجت طبقة كاملة من الناس، وهي الطبقة البرجوازية، التي استقت قوتها من المجتمع وليس من الدولة. وقد أثمر ذلك عن مجتمع مدني مستقل، وهو اصطلاح يشير في أصوله إلى رجال أعمال القطاع الخاص. وفي الواقع كان القاضي النزيه (غير المنحاز)، وليس الاستفتاء العام، هو رمز الحكومة الغربية.
ولقد استغرق ذلك مئات السنين إلى أن وصلنا إلى الديمقراطية. ومن المهم جداً أن نتذكر أن بريطانيا عندما اعتُبرت المجتمع الحر الدستوري الأكثر ليبرالية في العالم عام 1800—بعد أن تغنى بمديحها مونتسكيو (الشاعر الفرنسي)—لم يصوت حينها سوى 2% من البريطانيين. وكي لا نعتبر أنفسنا مختلفين في هذا الخصوص، في انتخابات عام 1824، لم يصوت سوى 5% من الأمريكيين. ولكن أمريكا حرصت بقوة على أن يسود حكم القانون وعلى احترام وحماية حقوق المُلكية وحقوق أخرى. قاد عرف القانون إلى الديمقراطية ومن ثم تداخلت مع الديمقراطية لتفرز الديمقراطية الليبرالية.
الاستبدادية المنتخبة في أوروبا
انحرف هذان التقليدان حتى في التاريخ الغربي. يتبادر إلى أذهان الناس أحياناً أن أدولف هتلر جاء إلى السلطة في ألمانيا بانقلاب سري معين، ولكن هذا ليس صحيح على الإطلاق. إذ أنه جاء إلى سدة الحكم عقب الانتخابات الشهيرة والتي تم التلاعب فيها في تشرين الثاني عام 1933. ولكن كانت هناك ثلاثة انتخابات قبل ذاك فاز فيها الحزب النازي بأغلبية الأصوات. ظهرت النازية والفاشية والقومية الشعبية في أوروبا على أعقاب حركات شعبية حقيقية وغالباً عن طريق الانتخابات.
إننا لا نحاول أن نجلب إلى العراق المشاركة الشعبية—عملية اختيار الحكومة—فحسب، بل نحاول أن نجلب تقليداً طويلاً متكاملاً من الأعراف الدستورية والليبرالية الغربية. يستطيع أي فرد كان أن يجري انتخابات، ولكن من الصعب جداً أن يخلق حكم القانون، وأسس حقوق المُلكية، وسلطة حكومية استجابية وشفافة ونظيفة. سيكون هذا صعباً لأن العراق يواجه في طريقه عقبتين أو ثلاثاً.
لعنة النفط
أولاً مشكلة النفط. أسميها مشكلة مع أن الكثيرين في الحكومة الأمريكية يعتبرونها حلاً. قبيل الحرب كنا نقرأ تصريحاً بعد الآخر لمسؤولي الحكومة وهم يمجّدون فضائل النفط—موضحين كيف أن النفط يعني تنمية الاقتصاد العراقي، ويدفع تكلفة جهود إعادة الإعمار، وكيف أنه سيضع البلد على طريق سلس نحو الحداثة.
هناك مشكلة واحدة فقط في هذه النظرية. من بين جميع البلدان النفطية في العالم، تعد النرويج دولة الاقتصاد الرأسمالي العامل الوحيد، ذات نظام حكم لبيرالي ديمقراطي. وكانت النرويج قد حصلت على ديمقراطيتها قبل اكتشاف النفط بوقت طويل. وفي كتابي، وصفت الدول ذات الحصول السهل على واردات النفط “بدول صندوق الائتمان.” مثل هذه الدول لا تتكبد عناء تحديث مجتمعاتها، وتحديث قوانينها، وبناء اقتصاد السوق. فباستثناء النفط، تساوي الصادرات التجارية لكل العالم العربي الذي يبلغ عدد سكانه 290 مليون نسمة، صادرات فنلندا التجارية بسكانها الأحد عشر مليوناً. والسبب يكمن في أن المنطقة يمكنها الحصول بسهولة على دخل لا يتطلب كداً أو جهداً.
أمة مقسمة
هذه المشكلة ليست اقتصادية فحسب، بل إنها سياسية أيضاً، لأن الحكومة عندما لا تحتاج إلى أن تجبي الضرائب من شعبها، فإنها لا تحتاج أن تعطيه شيئاً بالمقابل. أما نحن فقد تعلمنا ذلك بالطريق الأصعب. لقد اندلعت الثورة الأمريكية لأن الأمريكيين شعروا بأنهم يدفعون الضرائب من دون أن يكون لهم تمثيل يذكر في البرلمان البريطاني. أما العائلة المالكة السعودية فقد عقدت صفقة مختلفة مع شعبها. فهي تقول: “لن نفرض عليكم الضرائب ولن نمثلكم.” وهذا الأمر، بمعنى ما، عكس شعار الثورة الأمريكية القائل: “لا ضرائب، لا تمثيل.” ويؤثر هذا الاختلال الوظيفي السياسي على جميع المجتمعات الغنية بالنفط.
والمشكلة الجسيمة الأخرى هي أن العراق ممزق بالاختلافات. فشعبه شيعة وسنة وأكراد وتركمان، وفئات أخرى. ولأجل معرفة ما الذي يمكن أن ينجم عن هذه الاختلافات، إرجعوا إلى تاريخ أوروبا وأنظروا كم كان من السهل على أصحاب الخطب الدهماء أن يحشدوا الناس على أساس المناشدات الوطنية الفجة. قبل عشر سنوات فقط، شاهدنا وضعاً مشابهاً في يوغوسلافيا السابقة، البلد حكمه قادة دكتاتوريون شموليون لعقود من الزمن. تقوّض نظام الحكم السابق وإنهار، ومن الفراغ راح الجميع يندفعون صوب الانتقال السريع للديمقراطية. غير أنه كان على القادة السياسيين الصرب والكروات أن يقوموا بحملات للحصول على الأصوات. لم تكن مناشداتهم الشعبية جداً، والمؤثرة جداً متعلقة بالإصلاح التعليمي أو السياسة الضريبية، بل كانت مناشدات فجة للعِرق، أو الدين، أو الطائفة، أو المجموعة الإثنية. خرجت دائرة القومية الصربية والقومية الكرواتية عن نطاق السيطرة. فكانت النتيجة تصفية عرقية، وبالتالي الشروع في الإبادة الجماعية.
لا يجب أن يحدث هذا بالضبط في العراق، ولكن العراق يمتلك حقاً ثقافة سياسية ما زالت فتية وغضة جداً، إذ لم تكن السياسة أو الأحزاب السياسية مسموحاً بها من قبل. فأخذ الناس يتحركون ويتعبأون على أساس الراديكالية الشيعية، أو الأصولية الإسلامية، أو القومية الكردية. وربما يواجه الليبراليون العلمانيون صعوبة بالغة في حشد الجماهير وفي المناشدة لأجل الأصوات.
تاريخ من القمع
أما المشكلة الأخيرة فهي أن العراق بلد شرق أوسطي. وأعني بهذا أنه، كسائر بلدان الشرق الأوسط، اتبع نمطاً معيناً في العقود الثلاثة أو الأربعة الماضية. كان نظام حكم علماني ذا توجهات غربية تحول فيما بعد إلى نظام استبداد. فرجال الشرق الأوسط من الصداميين والناصريين والأسديين يرتدون جميعاً البذلات، وجميعهم محدثون على الطراز الغربي. وعندما تنظر إليهم شعوبهم لا ترى سوى الطغيان والقمع.
كان هؤلاء الحكام يزجون في السجن أي فرد يلمح، ولو بإشارة، بمعارضةٍ سياسيةٍ أو يحاول تأسيس حزب سياسي—أو حتى نادي روتاري. قال لي صديق مصري مؤخراً: “لو جلس أربعة أشخاص في مقهى في مصر وتحدثوا عن السياسة، لَزُجوا جميعاً في السجن.” المكان الوحيد الذي لم يمنعه أحد في الشرق الأوسط هو الجامع. لذا فإن كل الاستياء والتطرف يعد وينظم في الجامع، وأصبح الدين لغة المعارضة السياسية في الشرق الأوسط. لم يسمح صدام حسين بوجود الأحزاب، ليبرالية كانت أم محافظة، ديمقراطية أم جمهورية. ولكن مثل كل قائد في الشرق الأوسط، لم يتجرأ على إغلاق الجوامع، ولم يخذل شيوخ القبائل. وهكذا، عندما انهار نظام الحكم، بقيت المساجد والقبائل قائمة فاعلة.
الحرية قبل الديمقراطية
إذا ما نظرتَ إلى الحالات الناجحة لدى البلدان غير الغربية التي قامت بتحولات نحو الديمقراطية الليبرالية الأصيلة، تجد أن جميعها تقريباً متمركزة في شرق آسيا أو مستعمرات سابقة للامبراطورية البريطانية. وإن جميعها اتبع نمطاً متبايناً عن النمط الغربي—أي حكم القانون والرأسمالية أولاً، ومن ثم الانتخابات والديمقراطية. ومن الأمور التابعة، في الحال المثالي، هو أن تُعدَّ مؤسسات الحرية في المكان المناسب قبل إرساء دعائم الديمقراطية. إذا أجريت الانتخابات أملاً بأن الدستورية ستبزغ فيما بعد، فإن ذلك قد لا يتحقق.
في إفريقيا، قام اثنان وأربعون بلداً من أصل ثمانية وأربعين بإجراء الانتخابات، وانتجوا حكومات كانت في الأغلب غير ليبرالية تماماً. ولكن في بلدان مثل كوريا الجنوبية، وتايوان، وماليزيا، وتايلاند، حيث أقاموا حكم القانون، وطبقة تجارية وأخرى وسطى مستقلة، ومن ثم الديموقراطية، تحقق لدينا شيئاً بالغ الأهمية. الديمقراطية هي العمل الشاق والجاد. إنها تستحق كثيراً أن نسعى إلى نشرها، ولكنها تحتاج إلى عملية من إشاعة روح التحضر والتحرر أكبر مما يتصور الناس.
© معهد كيتو، مصباح الحرية، 2 كانون الثاني 2006.