أين يكمن الخلل في فهم دور الشريعة والدستور في العالم الإسلامي؟

peshwazarabic11 نوفمبر، 20101

إن الخلط الشائع بين الشريعة والدستور يثيرُ تساؤلاتٍ شتى على أكثر من مستوى تتعلق عادةً بمدى قدرة الشريعة على استيعاب الطفرات الهائلة التي تنمو باستمرار في عالم اليوم، وما إذا كان بإمكان جملة القواعد التشريعية التي كانت وليدة ظروفها التاريخية الخاصة أن تنتظم هذا الفضاء العام الذي يُعيدُ مرارا وتَكرارا هيكلة الأوضاع وفق أسس ومبادئ لم يعد حتى في الإمكان التنبؤ بها، وما إذا كان سيتم التعامل مع هذه الإحداثيات، والحالة هذه، وفق مبدأ “محدثات الأمور” وأن كل محدثة بدعة …إلخ، أم سيتم تقبلها بمرونة من خلال تقنينها دستوريا؟!.
إن الحل الأمثل لهذا الإشكال يتمثل في إرساء قواعد الممارسة الدستورية والتي تأخذ في الاعتبار الشريعة بإطارها المقاصدي (أينما تكون المصلحة فثم شرع الله) بدلا من القول بأبديتها، كما هي محددة بشكلٍ نهائيٍ في سياق الخطاب السياسيّ الإسلاميّ. أي أننا بحاجة ماسة إلى دستور ليبرالي إسلامي عبر إعمال المزيد من القواعد/الاجتهادات الجديدة والتي تتواءم مع معطيات العصر، إن لم تتجاوزه نحو مستقبلٍ أشد انفتاحاً وأكثر رحابة.
خاصة وأنه يتم اختزال الشريعة عادة في جانبها الجنائي فقط والذي لا يتعدى 2% منها (بواقع 4 آيات من أصل 220 آية تحدد أصولها في القرآن الكريم)، مما يعني أن ثمة 98% منها لا يزال مهملا وغير مطروح بتاتا، الأمر الذي من شأنه الإجحاف بحق منظومة الحقوق المدنية والسياسية وترجيح كفة الواجبات على حسابها.
أضف إلى ذلك، أن التنصيص على الشريعة كمصدر رئيس للتشريع داخل الدستور يفضي إلى إحداث تناقضات صارخة في التطبيقات العملية. فعلى سبيل المثال، لو قدِّرَ لمصرية تمتهن الرقص أن تحتكم إلى قانون الأحوال المدنية في شكواها المتعلقة برفض رئيسها صرف مستحقاتها المالية لصدر الحكم لصالحها استنادا إلى كونها تمارس عملا مشروعا بحكم القانون. لكن في الوقت ذاته لو أنها مثلت أمام قاض تابع للأحوال الشخصية في شكواها المتعلقة بانتزاع أطفالها لصالح زوجها لجاء الحكم في غير صالحها استنادا إلى كونها تمارس عملا غير مشروع بحكم الشريعة الإسلامية. وهكذا يبدو العمل مشروعا وغير مشروع في آن معا لاختلاف وتعدد المرجعية ما بين الدستور والشريعة الإسلامية، تبعا لاختلاف وتعدد المرجعية القانونية في الدستور الواحد.
لكن لا يُفهم مما سبق ضرورة توحيد المرجعية: إما الشريعة أو الدستور! نظرا لأن ذلك لا يحل الإشكال حتى من الناحية النظرية. وآية ذلك، أنه رُغم التنصيص صراحة على كون الشريعة هي المصدر الوحيد للتشريع في بعض الدساتير العربية، لا تزال هذه الدساتير تعاني هي الأخرى من مشكلات كبرى تتعلق غالبا بحجم الحرية الفردية التي تتيحها مثل هذه المنظومة التشريعية.
وفي المقابل، لا تزال الدول الإسلامية التي لا ينص دستورها صراحة على هذا الأمر تواجه تحديات مماثلة، سواء فيما يتعلق بطلب الاحتكام إلى الشريعة من قبل الحركات الإسلامية، أو فيما يتعلق بالشق القانونيّ الخاص بالأحوال الشخصيّة.
أيضا ينشأ عن هذه الصيغة الحاليّة مشكلتين رئيستين: الأولى واضحة بذاتها، وهي أن النص بصيغته يميز بين المواطنين على أساس الدين بمجرد إشارته إلى دين دون آخر. الثانية: فقدان الانسجام الدستوري بين النص على دين معين وشريعة بذاتها للدولة وبقية نصوص الدساتير العربية والتي ينهض أغلبها على فكرة الدولة المدنية الدستورية الحديثة.
فعلى سبيل المثال، تنص المادة الخامسة المُعدّلة حديثا من الدستور المصري على منع نشأة الأحزاب وفق أسس دينية الأمر الذي يتعارض بداهة مع نص المادة الثانية المتعلقة بكون “الشريعة الإسلامية المصدر الرئيس للتشريع” والذي يقنن تماما إمكانية نشوء الأحزاب على أساس ديني.
كما يمكننا أيضا أن نرى هذا التعارض الصارخ بين المادتين إذا نظرنا لإمكانية مخالفة نص المادة الثانية أو منازعتها. فلو قام حزب سياسي على أساس يعارض نص هذه المادة ويدعو مثلا لفصل الدين عن الدولة لصار هذا الحزب مناهضا لمبادئ الدستور منطقيا.
ونخلص مما سبق إلى أن نتيجة مؤداها أن الشريعة، وفق التصور السائد عنها لدى حركات الإسلام السياسي، تظل قاصرة عن اللحاق بالعصر، فضلا عن التحكم فيه، كما أنها تظل قاصرة أيضا مقارنة بالدستور وآليات اشتغاله في العالم المعاصر، وهو ما تعجز الجماعات المنادية بتطبيق الشريعة عن قبوله أو حتى تفهمه.
والحل الرئيسيُ في اعتقادنا يكمُن في تعديل هذه المواد إلى: “الشريعة الإسلامية أحد مصادر التشريع إلى جانب الفقه الدستوري والمواثيق الدولية لحقوق الإنسان”، فنضمن بذلك أن ننتصرَ ابتداءً للاجتهادات المستنيرة التي تفسرُ الشريعة تفسيراً يتوافقُ مع أرقى ما أنتجه العصر من معاييرَ أساسيّة في المجالين السياسيّ والمدنيّ ولا ترى تعارضا يُذكر بين الإسلام وحقوق الإنسان أو بينه وبين أي من مبادئ الليبرالية والديمقراطية الغربية.
وختاما، إن ما ندعو إليه ليس الاصطفاف مع أو ضد الشريعة وتبادل الاتهامات بالرجعية والقصور تارة أو بالعمالة والعلمنة تارة أخرى، وإنما ندعو إلى فتح حوار مشترك حول وضعية الشريعة في العصر ككل وفي الدستور بصفة خاصة. انطلاقا من أحقية كل إنسان يُطلب منه الاحتكام إلى الشريعة أن يجد إجابة شافية عن تلك التساؤلات المعقدة التي تثيرها هذه الوضعية الملتبسة وعلى رأسها: هل يعد الدين مصدرا للقيم أم مصدرا للسلطة، وكيف يكون مصدرا للقانون دون أن يكون مصدرا للسلطة؟!
© معهد كيتو، منبر الحرية، 16 (ديسمبر) 2008.

One comment

  • عمر العوني

    21 مارس، 2012 at 7:06 م

    حسما للمسألة نقول انه يوجد رأيان الأول يرى أنه لا بد ان يقع التنصيص صلب الدستور على ان تكون الشريعة مصدرا اساس و وحيدا للدستور فيما يرى راي آخر أن لا ضرورة لذلك و يجدر الإكتفاء بالشريعة الإسلامية كمبادئ عامة و أفكار سامية تنظم علاقة الفرد بربه و في الواقع كل راي لا يكشف عن حقيقة موقفه الذي يبقى متخفيا
    وراء الكلمات و المفاهيم ضرورة ان الشريعة إذا اعتبرناها قرآنا و سنة وهي تنزيل الله و شرعه في الارض و التمسك بهما جنة من الضلال كما اوصانا الرسول صلى الله عليه و سلم فما حاجة المسلمين إذن لكتابة دستور بشري وضعي فدعاة الراي المدافع عن اعتبار الشريعة مصدرا أساسيا للتشريع حقيقة موقفهم تندفع نحو اعتبار أن العلوية للشريعة الإسلامية التي لا تحتاج لرخصة بشرية حتى تطبق في الواقع حتى و إن كانت هذه الرخصة تسمى دستورا أما الراي الثاني الذي لا يرغب في التنصيص على ان الشريعة مصدرا اساسيا للتشريع فحقيقة موقفها أنها ترى للشريعة قراءات مختلفة و أنها ستضع فوق الشعب صاحب السيادة سيدا أخر هم رجال الدين فيما يقول المغالون ان الشريعة قد تجاوزنها الأحداث و لا إمكانية اليوم للتطبيق ……….. هذا هو إذن جوهر المسالة

    Reply

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.
جميع الحقول المشار إليها بعلامة * إلزامية

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

تواصل معنا

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018