خلال السنوات العشرين الأخيرة ، أتيح لي أن التقي بعشرات من رؤوساء الدول والحكومات. وكان ذلك بالنسبة لي بمثابة عرض شيق لأساليب مختلفة بشكلٍ مذهل. فبينما كان رئيس جمهورية “بقلاوة-ستان” يدعونا إلى عاصمة دولته ثم يبقينا أربع أو خمس أيام في إنتظار موعد اللقاء (رغم أننا كنا نمثل مؤسسة تستثمر مليارات الدولارات الهامة للغاية لإقتصاد “بقلاوة-ستان”) فإن إسلوب رئيس “مهازلستان” كان مختلفاً للغاية. كان موعد اللقاء يتحدد بمجرد وصولنا لتراب مهازلستان. ولكن الطريقة التي كان يُعامل بها رئيس مهازلستان من مساعديه (وإن علت مكاناتهم) كانت تجعل زملائي الأوروبيين يبذلون أقصى جهد لعدم الضحك. فقد كانت اللغة الجسدية ( Body Language ) لمساعدي الرئيس المهازلستاني تشبه حركات ممثلين عرب كبار مثل نجيب الريحاني وفؤاد المهندس وعادل إمام وهو يمثلون دور “المنبهر” و”الخائف” والمبجل”!! وكان منظر وزراء مهازلستان وهم يجلسون أمام رئيسهم وقد وضعوا أقل بكثير من نصف مقعدهم (العجز أو الأرداف في اللغة العربية) على المقعد وتركوا الجزء الأكبر معلقاً في الهواء .. فكانت تثير شهية زملائي (وبالذات “الألمان” الذين يبحثون عن منطقية كل شئ) لمعرفة “لماذا يفعل أحد مثل هذا؟!” ولماذا يرضى هذا أحد؟.
أَما في “يعقوبستان” وهي دولة يحيط بها أعداء من كل جانب يمطرونها بالكلام الكبير وتمطرهم (هي) كل عشر سنوات بضربة تكسّر العظام. في “يعقوبستان” فإن اللقاءات مع رئيس الدولة ورئيس الوزراء والوزراء كانت مثل اللقاءات مع الأصدقاء في نادي رياضي: بدون تلك الأجواء البقلاوستانية أو المهازلستانية.
أَما في “مجازر-ستان” فقد كان الضحك (أو بالأحرى “الرغبة في الضحك”) تختلط بالخوف (من عاقبة أي تصرف غير مقبول). ففي “مجازرستان” تُقطع آذان البشر .. وتُقطع ألسنتهم إذا مست “الكبير وآله” بكلمة سوء ولو واحدة! في “مجازرستان” كان يُقال لنا: صافحوا إن صافح! .. وإجلسوا إن جلس!. وبعد سنوات عدنا فرأينا عاقبة إلغاء أفضل ما في البشر: “عقول حرة”.
وفي مملكة “تراب-ستان” كان مستوى إدراك أحد المسئولين يحرك في داخلي شيطان الشعر .. وذات مرة تحركت شفتاي فظن الكبير الذي كنا في ديوانه أنني أكلمه ، بينما كنت أنا أحاول البحث عن بحر مناسب لكلمات كان شيطان الشعر يرددها في أذني ، وقد كتبتها بعد اللقاء في قصيدة غير منشورة بعنوان “شماغ .. شماغ .. شماغ .. لكن بدون دماغ!”.
وكانت لقاءات رؤوساء الدول في أوروبا وآسيا (للأسف) لا تتضمن أموراً هزلية تروح على النفس كالتي كنا نجربها في الشرق الأوسط وفي أفريقيا حيث تركنا السيد/ عمر أفندي (اسم رمزي) ذات يوم لأكثر من ساعتين في إنتظاره في الطابق السفلي من مقر إقامته .. ثم (أخيراً) نزل لنا وهو يرتدي “البيجاما” ومعه سيدة فرنسية .. في رسالة واضحة فحواها إذا كانت فرنسا قد احتلتنا عقوداً من الزمن ، فهاأنذا قد صفيت الحساب ورددت الصاع صاعين!.
حاولت بعد الإجتماع أن أشرح لزملائي الأوربيين (وكان بينهم فرنسي) “مغزى اللقطة” التي شاهدوها .. ففشلت. فمن الصعب على عقل فرنسي أن يفهم أن وجود إمرأة فرنسية في غرفة نوم الرئيس عمر أفندي هي إهانة لفرنسا وإنتقام من احتلالها لبلد أفريقي؟! .. ما العلاقة؟ .. أين السببية؟ .. لا يهم. منذ متى كنا نعوّل على السببية؟
وكانت قمة دهشتنا في بلدين عربيين كانا يفاجئانني (ومن معي) بدرجة من الإحترام والإلتزام والبساطة كانت ولا تزال غير متوفرة إلاِّ في هاتين البقعتين: “مطر-ستان” و”شرق-ستان”. في هاتين الدولتين الملكيتين كان كل شئ يسير كما لو كنا في 10 داوننج ستريت أو القصر الملكي الياباني او البيت الأبيض في واشنطن: المواعيد محددة سلفاً .. الكبار لا يتأخرون .. الكبار بسطاء وهاشون ومرحبون ومتواضعون إلى درجة لا يمكن تصوّرها في “الشرخ الأوسط الكبير”.
في “مطرستان”: الحاكم (الذي هو في أمان داخلي مع نفسه) وزوجته (التي هي تجسيد لقامة كبرت دون أن تدير رأسها خمر علو المقام) .. في “مطرستان” يستمع الحاكم لكل ذي خبرة وعقل .. ويتعامل مع زائريه بمودة وتواضع مذهلين .. وفي “شرقستان” يقول الملك لزائره العربي (من مهازلستان مثلاً): “أوافقك تماماً في وجهة نظرك يا سيدي” .. فيكاد يغشى على الزائر المهازلستاني لأن رئيس دولته سوف يعتبر أن الجلوس على كل المقعد في حضرته من علامات الجنون!.
في “شرقستان” استقبلتني شقيقة الملك ، وكنت لم أرى أية صورة لها. قابلتني عند باب المصعد وسارت معي لغرفة الضيوف – سألتها: “هل الأميرة شمعة مشغولة؟” .. فقالت لي: “أنا شمعة”!!
أما في “مطرستان” فقد كنت على مائدة الملك وأصرت قرينته على إعداد طبقين من الحلوى لضيفين من ضيفها! قلت في داخلي: آه لو رآك مهازلستاني”!.
هل هذا الحديث الطويل “عبث ليس إلاِّ؟” قطعاً “لا”. فإن رسالتي التي بين السطور (العاتبة) أكثر جدية من معلقات “لبيد” .. و”الأعشى”!.
© منبر الحرية، 14 أغسطس/آب 2009