هل فعلا ينتمي بن رشد إلى حضارتنا؟

عزيز مشواط11 نوفمبر، 20101

“حاجتنا أكيدة إلى عقلانية بن رشد” و”عقلانية بن رشد مفقودة” و” أضعنا فكر بن رشد، فتخلفنا” مقولات لا يكف المثقفون والمفكرون العرب عن ترديدها بمناسبة أو بدونها. ولم يخرج لقاء ثقافي نظمته إحدى المنظمات الثقافية بالدار البيضاء المغربية حول فكر بن رشد عن المشهد نفسه، إذ بعد ترديد المقولات الجاهزة السالفة، انخرطت أصوات عديدة أخرى فيما يشبه جلد الذات التي فرطت في “عقلانية ما أحوجنا إليها اليوم”، قبل أن ينخرط الجميع في الإشادة بهذا الفيلسوف العظيم الذي ظلمه التطرف، فضاع بين دهاليز السياسة والمكر، قبل أن تتلقفه الأرض الأخرى فيزهر عقلانية غربية، أفرزت علما وحضارة و تنويرا .
من فرح أنطوان إلى عاطف العراقي مرورا بعبد الرحمن بدوي وزكي نجيب محمود وصولا إلى محمد عابد الجابري وغيرهم، يجري التأكيد على حاجتنا اليوم إلى روح العقل التي تختزنها فلسفة بن رشد. ورغم اختلاف المنطلقات والمرجعيات بين كل هؤلاء المفكرين، نكاد نجزم أنهم يشتركون، حين الحديث عن بن رشد، في ذلك الحنين المأساوي نحو “ماضينا المشرق” الذي تجسده عقلانيته الفذة. وهنا نتساءل هل فعلا بن رشد منتوج عربي مسلم، أم أن انتماءه لهذه الحضارة مجرد انتماء بيولوجي فيما انتماؤه الحقيقي إلى الحضارة التي تبنته وعانقت أفكاره؟ ثم لماذا لم تستطع كل هاته الدعوات المرتفعة من كل حدب وصوب المشيدة  بعقلانية بن رشد،  في استنبات عقلانية عربية يكون جذرها الأصيل بن رشد، الذي انتمى في تاريخ ما إلى هذه التربة؟
في العالم الإسلامي تعرض بن رشد للتكفير وحوكم وأحرقت مؤلفاته ونفي، بينما ترجمت أوروبا مؤلفاته ودارت معارك فلسفية حول آرائه، وانقسم الفلاسفة في أوروبا إلى فريقين: فريق مؤيد، وفريق معارض، وفي النهاية انتصر الفريق المؤيد لعقلانية بن رشد وسار في الطريق العقلاني لتأسيس التنوير.
إن هذا التمايز بين العالم الغربي والعالم الإسلامي في تبنى عقلانية بن رشد وترجتمها، سينتج نموذجين ثقافيين بمسارين مختلفين. الآخر الغربي منتج عصر النهضة وعصر التنوير اللذين يمثلان الأساس الثقافي الذي أفضى إلى بزوغ الثورة الصناعية في القرن التاسع عشر والتي بدورها أفرزت الثورة العلمية والتكنولوجية في القرن العشرين، والعالم العربي الإسلامي الذي نفى بن رشد ويستمر في رفض المشاركة في المسيرة التي مثلت النهضة والتنوير منتوجهما.
لا شك أن هذه ملاحظة على قدر كبير من الأهمية، خاصة وأن  أعداء العقلانية الذين يرفضون مبدأ نسبية الحقيقة وتعددها،  فيما يختص بالاجتهادات البشرية في فهم النص الديني، والمتشبثون بحرفية النص الديني يستمرون في الوقت الحاضر في إدارة دفة
الأمور في اتجاه مزيد من التردي.
هناك نقطة أخرى لا تقل أهمية ينبهنا إليها التاريخ. لقد اتهم بن رشد بالزندقة والكفر وحاكمه الخليفة الموحدي علنا في جامع قرطبة، ولعنه الحاضرون، وأخرج مهانا وجمعت كتبه وأحرقت ووضعت قراءتها تحت طائلة العقاب الصارم. وبعد وفاته دفن في مراكش. وبعد أشهر ثلاثة نقل رفاته إلى مقبرة أجداده بقرطبة.
الوقوف على مشهد طرد جثة بن رشد إلى “الضفة الأخرى” يحمل أكثر من دلالة.  إنه مأساة حقيقية، إذ لم يكن مجرد جنازة معزولة لفيلسوف عاش مضايقات فكرية ومعاناة كبيرة، بل كانت الجنازة لموكب الفلسفة العقلانية المهزومة في ديارها والمطرودة إلى الضفة الشمالية. رمزية المشهد المأساوي تتمثل في طرد جثمان الفلسفة العقلانية العربية وتوجهها غربا إلى البر الأوروبي حيث سيوارى التراب، قبل أن يزهر بعد أن تلقفته الجامعات الغربية نقدا وتمحيصا وشرحا.
كل المؤشرات إذن تفيد أن بن رشد يشكل أرقى ما وصلته الحضارة العربية الإسلامية”، لكن انتماءه الحقيقي يظل محل ريب. إنه ينتمي بيولوجيا إلى هذا العالم العربي الإسلامي، في حين يعود انتماؤه الثقافي إلى الغرب الذي ترعرعت فيه عقلانيته بعد أن تم طرده حقيقة ورمزا من سياقنا الثقافي والحضاري.ولكن إذا وافقنا على هذه التشخيص، ألا يطرح هذا إشكال حلقة جلد الذات المفرغة التي لا فكاك منها؟
الاعتراف في بعض الحالات يشكل نصف العلاج. أما الواقع فيعلمنا أن الموت الذي أصاب العقلانية العربية وحرية الفكر والنظر العقلي لا تزال تبعاته تشد أعناقنا لحد الآن وترخي بظلالها على اللحظة الراهنة، إذ تستمر آثارها ونتائجها السلبية في الفكر والسياسة والاجتماع.
مأزق العقلانية في العالم العربي الإسلامي ناتج في جزء كبير منه عن هذا الطرد الذي تعرض له “أرقى ما وصلته الحضارة العربية الإسلامية،” مما أفرز في الوقت الراهن تفاوتا شديدا بين نخبة مثقفة تحاول استعادة العقلانية المطرودة، ومجتمعات أكثر من نصفها أمي، ناهيك عن بؤس الناس وفقرها الشديد وتفشي الجهل، مما يسهل اختراقها وانجرافها مع توجهات قيم التطرف التي دفعت إلى طرد بن رشد .
هذه الازدواجية في المجتمعات العربية، تؤشر على وجود أزمة معنى مستفحلة. أزمة استفحلت في السنين الأخيرة ووصلت ذروتها مع تحول أحلام النهضة إلى انحطاط وتطرف ولاعقلانية تكاد تطيح بكل شئ، إذ تصطدم الدعوات إلى العقلانية بكثير من الأوهام العربية المسنودة بالأصوليات الحاضرة.
إن الرسالة الأساسية الكامنة وراء تذكر محنة عقلانية بن رشد يجب أن ترتكز على سبل استعادته من غربته القسرية، وسبل إعادة توطين فكره، ليس كما أنتجه إبان حياته فقط، بل كما طورته الإنسانية، بعيدا عن  قيود الفكر المتطرف الذي لم يكتف فقط بالتضييق على عقلانيته المتنورة، ولكن طرد حتى جثته في اتجاه الغرب، وحكم عليه بالمنفى فانحدر الوضع إلى استنبات تيارات متطرفة تستمر في إدارة العجلة إلى الخلف.
© منبر الحرية، 19 سبتمبر/أيلول 2009

One comment

  • معين السوسي

    1 يناير، 2012 at 12:44 م

    الانسان عدو ما يجهل…
    لعلني أجد تساوي كل انسان في القدرات والعقل اذا هو أطلق العنان لنفسه
    رأس النبع النوراني هو عين الصفاء فلنعد اليه
    الانسان قلب و روح وعقل، فاذا كان صادقا ورضي الله عنه فإنه لا شك سيرزق العلم والمعرفة .
    الحقيقة الواضحة ستظهر يوما ما.
    الوجود اتصال مستمر لا ينتهي، فمتى انتهت الفواصل داخلنا وتحررنا أبصرنا نور الوجود.
    وحدك فقط

    Reply

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.
جميع الحقول المشار إليها بعلامة * إلزامية

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

تواصل معنا

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018