لايحتاج المرء للإطلاع على التقارير الدولية أو الإقليمية حول موضوع التنمية البشرية في أغلب بلداننا العربية ليخرج بخلاصة تؤشر “التصحر” الذي تعاني منه الطاقات البشرية. وتتبلور هذه الظاهرة الخطيرة على نحو مؤلم في النزعة الإستهلاكية والميل إلى المنتجات المستوردة الجاهزة وفي العزوف عن الإبداع والعمل المثابر. كل هذا أدى إلى تدنّي روح المبادرة وغياب لذة العمل، إن لم نقل بهجة الكدح، التي تمنح الحياة طعماً ومعنى. بيد أن زحف التصحر البشري آخذ بالإمتداد بسرعة مذهلة، وهو في طريقه إلى ملامسة وإبتلاع أكثر المناطق الخضراء في النفس البشرية حيث تمتد كثبان الجهل والترهل والأمية المقنعة إلى أكثر قطاعات الحياة حيوية، كما سنلاحظ ذلك لاحقاً.
لا تتطلب عملية تشخيص هذه الظاهرة المقلقة التي تؤدي إلى هدر الموارد البشرية وتبديد الطاقات الشابة سوى القليل من القدرة على الملاحظة: ملاحظة الميل الواضح لدى الشبيبة والنشء إلى الخمول والكسل والبحث عن الوظائف (وليس المهن) التي تشكل واحدة من أخطر مظاهر التراجع الإقتصادي، وهي الوظائف الشكلية التي يراد منها الحصول على موارد وأجور دون تقديم شيئاً يذكر. هذه هي البطالة المقنّعة التي تعاني منها الدول الميسورة إقتصادياً التي تلتزم حكوماتها بصيانة حياة المواطن وضمان أمنه الإقتصادي من خلال خطط التشغيل، بأية طريقة وبأي ثمن. بيد أن الظاهرة المؤسفة تأخذ مدياتها الأوسع عبر عزوف الشبيبة عن الأعمال التي تكسب المهارات والخبرات. وإذا كانت الوفورات المالية قد أهلت عدداً من المجتمعات العربية إلى إستيراد كل شيء حرفياً، فإن الموضوع يأخذ مدياته الإستراتيجية والإقتصادية البعيدة عندما يستذكر حقيقة أن الموارد النفطية، مثلاً، إنما هي موارد ناضبة، وإن أهم الخطوات التي ينبغي للحكومات في المنطقة الإضطلاع بها تتمثل في إستثمار هذه الموارد للتأسيس لموارد أخرى تخدم قواعداً لإقتصاد صلب مضمون للمستقبل. هذا ما تعمل على تحقيقه العديد من الحكومات العربية، بيد أنها تعاني من صعوبة صد طوفان النزعة الإستهلاكية التي جردتنا حتى من أبسط الصناعات والحرف التي أتقنتها الأجيال السابقة لعصر النفط والبترودولار. بل أن الظاهرة راحت تتفاقم لتلقي بآثارها حتى على القطاعات الزراعية والرعوية، حيث يغادر الأبناء حرف آبائهم وأجدادهم كي “يسعدوا” ببيوقراطية الجلوس خلف منضدة في مكتب أنيق لإحدى دوائر الدولة أو شركات للقطاع الخاص. لقد أدت “حمى” البيوقراطية إلى مظاهر مؤسفة كالخجل من الأعمال اليدوية والعزوف عن الإنتاج الملموس المثابر، الأمر الذي أدى إلى ظواهر أكثر خطورة مما قد نتصور: منها إستيراد الأيادي العاملة من البلدان الفقيرة كي تخدمنا مقابل أجور ثقيلة مأخوذة من الموارد الطبيعية التي كان ينبغي أن تخصص لإستثمارات ذات جدوى مستقبلية.
عندما يدير المرء جهاز التلفاز على العديد من الفضائيات العربية، فإنه لا يمكن أن يفلت من ملاحظة تلك الأعداد المهولة من الشبان والشابات الذين يتشبثون بفنون الترفيه كالغناء والرقص والعروض الرخيصة التي لا تحتاج إلى مهارات أو إلى ثقافة مهما كانت. هذه “الجيوش” من المتطلعين للشهرة وللكسب السريع تعبر عن مأزق وتعقيدات نكوص التنمية البشرية في أغلب الأقطار العربية، حيث يعتمد هؤلاء على أشكالهم الخارجية أو على ما حفظوه من أغانٍ وحركات كي يتمكنوا من حصد الأموال بلا مؤهلات علمية أو حرفية تستحق الذكر. لاريب في أن هذه الظاهرة، كما هي عليه حال ظاهرة التشبث بالمنضدة البيروقراطية، تضع أصابع الإتهام على الأنظمة التربوية، المدرسية والجامعية الأولية، حيث أصبحت الدراسة في المدارس والكليات شيئاً من “الوجاهة” الإجتماعية، بغض النظر عن المهارات والمعارف المكتسبة. وتتجلى الحال على نحو أكثر مرارة لدى حملة الشهادات العليا الذين تكفي مقابلة واحدة مع بعضهم لإماطة اللثام عن أن ما يحملون من شهادات علمية لايزيد عن “ديكور” شخصي.
ربما يسأل المسؤولون في الوزارات ودوائر التخطيط المختصة في العديد من الحكومات في المنطقة: إذاً، إلى أين تذهب الأموال الأسطورية المخصصة لخطط التنمية البشرية في حقول التعليم العالي والمدارس المهنية ؟ لا ريب بأن على هؤلاء السادة المحترمين أن يضعوا أيديهم على الخلل، بدليل أننا نستورد كل شيء: من الخادمات والمربيات الأجنبيات اللائي نضع أطفالنا “أمانة” بين أيديهن، إلى المهندسين والبناة الماهرين الذين يقيمون لنا الجسور ويشقون لنا الشوارع كي نتسلى بقيادة سياراتنا المستوردة عبرها! ولكن مالذي تفعله المدارس والكليات التي تُفتح بالعشرات في أغلب البلدان العربية ؟ إنه سؤال مضنٍ يستوجب المراجعة والتحقيق بعد إجراء حسابات مالية وزمنية بسيطة حول تاريخ التعليم والتعليم العالي في البلدان العربية: هذا التاريخ الذي صار طويلاً منذ أن تحقق الإستقلال السياسي لأغلب الدول العربية كان يكفي ضمانة لأن نوفر جميع الحرف والمهارات بداخل بلداننا دون الحاجة لإستيرادها أو للإستعانة بها من الغير. بيد أن المؤسف هو أننا نرسل مرضانا إلى لندن أو نيويورك لإجراء العمليات الجراحية، بالرغم من أن كليات الطب في بلداننا لها تراث طويل من العمل وأجيال من المتخرجين، وبالرغم من أن حكوماتنا لم تبخل بإبتعاث الآلاف من الأطباء للتخصص في الجامعات الغربية. هذا كله تم إنجازه ولكن مريضنا لا يثق بالجراح المحلي لأنه يفضل أن تجري عمليته في إحدى مستشفيات لندن، والأدهى هو أن الذي يجري هذه العملية هناك يمكن أن يكون جراحاً هندياً أو عربياً مهاجراً ! هذه مفارقة تستحق الملاحظة لأنها تجسد البون الكبير بين جدوى إستثماراتنا على الصعيد التعليمي والجامعي التخصصي وبين جدوى إستثمارات الدول الأدنى مستوى معيشي: الفرق يتلخص في أن جيوبنا ممتلئة بالمال، بينما تعتمد جيوبهم على العمل والمثابرة والإبداع كي يصيبها شيئاً منه.
ويجسد الوضع الإقتصادي في العراق، على سبيل المثال، هذا النكوص المؤلم: فبعد عقود من “الضوضاء” حول بناء قاعدة صناعية رصينة ومشاريع مهولة للتصنيع العسكري والمدني (أدت إلى الحروب الدموية المعروفة) نجد أنفسنا اليوم نستورد كل شيء حرفياً: من علب الكبريت والملابس البسيطة والمشروبات الغازية إلى الأجهزة الكهربائية والمكائن الصناعية. إذاً، أين ذهبت الأموال الأسطورية التي أُقتُطعت من رغيف المواطن فخصصت لخطط “التنمية الإنفجارية” عبر أكثر من خمسة عقود كلفتنا الكثير الكثير من الرفاه والتقدم. لدينا الآن عشرات الجامعات ومئات الكليات، بينما كنا نتحدث عن الصواريخ البعيدة المدى وعن تصنيع الدبابات والمدافع والسيارات وعن إطلاق أول قمر صناعي عراقي، أما الآن فنحن نستورد حتى الإبرة والمسمار. هذا النموذج ينبغي أن يُستحضر كي يلاحظ المسؤولون والمواطنون في جميع دول المنطقة كيف يمكن لخطط التنمية أن تغدو “حبراً على ورق” لأنها تفتقر إلى الجدية وإلى الرقابة الدقيقة والتقييس العملي.
لا ريب في أن الدول المتقدمة صناعياً تعمل على تكريس هذا التيار الإستهلاكي اللامجدي الذي راح يستهلك الإنسان قبل الإقتصاد في العديد من دول المنطقة: فالغرب لا يمانع من قبول المئات من طلبة البعثات والعشرات من المتدربين من بلداننا في دورات أكاديمية أو مهنية، ولكنه يدرك جيداً أن هذه الكوادر والأموال المخصصة لها ستذهب هدراً في ظل تعاظم النزعة الإستهلاكية وتراجع المبادرة العلمية والحضارية. لهذا السبب تبقى الدورة العالمية المبتناة على إستيراد الدول الصناعية الغنية مواردنا الطبيعية، لإعادتها إلينا، بأضعاف مضاعفة من أسعارها، كمنتجات صناعية، منها منتجات بسيطة كنا نضطلع بصناعتها حتى سنوات قليلة خلت. إن دورة التراجع المستديم (وليس التنمية المستدامة) التي تعاني منها العديد من الإقتصاديات العربية بحاجة إلى وقفة جادة تتجاوز البيانات الرقمية المقدمة للقيادات السياسية لإستدرار الإطراء والمكافأة، وقفة تقيس جدوى جميع المخصصات المالية الموجهة إلى التنمية البشرية من أجل تجنب الوقوع في “دائرة سحر” التخلف الدوري المتعاظم التي تبقينا حبيسي فتح الإعتمادات والإستيرادات حتى آخر برميل نفط تبتطنه أرضنا.
© منبر الحرية، 11 أغسطس/آب 2009