إن سير العملية السياسية بهذا الشكل المهادن والبطيء، لا يتناسب مع ما يمر به العراق من تحديات جمة من جهة وحاجات ورغبات وأماني الشعب العراقي من جهة أخرى.
فالبلاد ما تزال معطلة، فالوضع الاقتصادي المتسم بالكساد والركود يحتاج إلى آلية فعالة كي تجري الدماء في عروقه مجدداً من اجل أن تنهض البلاد من جديد، ومن الغريب أنه في لجة تداخل هذين المنطقتين وأشكال الصراعات الطافية على السطح، فإن الخطابات السياسية وتصريحات البعض مازالت في غفوة غافية فما مشروع سياسي أو موقف معين إلا ونجد أشكالا من التباري السياسي والتصريحات العنترية، ويا ليت لو هناك مثل هذه الهمة في مجال العمل وتقديم الخدمات للشعب العراقي المبتلى والمنكود.
إن المسؤولين مدعوون إلى اختيار مفردات دقيقة للتعبير، وإلا فإن التهريج يزيد من عمق الفوضى ويغلي البركان ويزيد الأمور اهتياجاً. إن الفهم السطحي للأمور والمفاهيم واختزال زمنها التاريخي ومحتواها الاجتماعي الغني واقتصار كل ذلك على التصريح أمر يدل على أن تلك التصريحات إنما تخرج من مشاعر عاطفية تهدف إلى تثوير الجموع لا إلى حكمة وفلسفة نابعتين من الحياة وتجاربها وربما المشروع الأمريكي الأخير الخاص بتقسيم العراق إلى ثلاث فدراليات نموذجاً لذلك. من المحزن أن يفكر الآخرون بالنيابة عنك كي يحلو لك مشكلاتك.
ودعنا من الحديث عن الاستعمار ودائرته فقد ولى عهد الاستعمار في عالم يشهد النهضة في شتى أرجاء المعمورة، بفضل الثورة الفكرية والمعلوماتية المنتشرة والمتيسرة ما عدا هذه المنطقة التي تأبى الاستفاقة من نومها والاطلاع على العالم من حولها. وهذا الاضطراب الفكري والرئوي يعكس استبطان المراكمات السابقة على أكثر من صعيد، ورسوخها في أذهان العامة أمر طبيعي نظراً لإشاعة التعمية والتجهيل لكن إشاعتها في أذهان بعض النخب أمر تعيس، ويشير إلى عودة قهقرية إلى الوراء باتجاهات شمولية ارتبط بها تاريخ حافل بالمآسي على صعيد العراق والعالم, وحيث أن الدول الشمولية ومفاهيمها ظلت على الدوام ملطخة بدماء غالبية عظمى من الأبرياء الذين حملوا حباً حقيقياً للعراق وضميراً نقياً لخدمته. وأن اختزال التاريخ الاجتماعي والسياسي لعدد من المفاهيم التي ظهرت واستقرت من التاريخ بناءً على ماضي حافل بالصراعات والمآسي على شكل مفردات وكلمات لهو أمر يبعث على الحزن والسخرية معاً.
إن مثل تلك المقولات تبطن في داخلها هاجس كبير من معاناة البشر على أرجاء المعمورة، وهي تتطلب الدرس والجدية لأن قراءة التاريخ بوعي تعزز التجربة الإنسانية وتمدها بأبعاد تاريخية ومصيرية. ويبدو في الأفق أن عدد النخب العراقية ما تزال أسيرة الأفكار البالية عن الدولة الشمولية وعن فضائلها المفترضة والتي تداعت وانقرضت كلية عن مسرح الأحداث العالمية بعد مجازر ومآسٍ وخراب كبير جلبه هذا النظام على العالم من حولنا.
الدولة الشمولية في العراق عبارة عن تاريخ من المآسي و الآلام، وبحار من الدماء المسكوبة بتواريخ محفورة في الذاكرة العراقية الموشومة بتجارب مريرة تقشعر لها الأبدان، ذلك أن الدولة الشمولية في العراق هي مطية القمع والمصادرة واغتيال أشكال التآلف الاجتماعي واغتيال الفكر والحوار وكل مظاهر التمدن والحضارة. إن التخلف السياسي والاقتصادي والاجتماعي في العراق ووصوله إلى هذه الدرجة التي هي في أواخر إحصائيات الفكر والمرض والجوع على مستوى العالم إنما تكمن خلف الدولة المركزية بلا منازع فهي قد أتاحت لفئات صغيرة ومعزولة من الوصول إلى سدة السلطة ببرامج، ومن ثم الإجهاز على مكوناته وفئاته وبشتى أنواع التفكيك المبتكر والمستورد، وبدلاً من تحقيق البرامج والشعارات صار إلهاء الفئات بالصراعات أحد أساليب تمديد عمر السلطة. إن الدولة الشمولية تمتلك تاريخاً حافلاً بالخزي وجرت على البلاد الويلات والدمار وآن الأوان للمراجعة والاعتبارات.
© منبر الحرية، 16 يناير/كانون الثاني 2010