لأول مرة تحل ذكرى نكبة 67 بعد بلوغي الستين عاما، ولم أكون متصورا بلوغها، واختبرت شعورا جديدا بأن العمر مجرد لحظات، وبدأ من حولي يستغرب لدرجة الاستنكار، وقد يفغر فاه دهشة، ويتمنى لي طول العمر!؟، وكأني بلغت الستين فجأة، وبدون مقدمات. ونسوا بياض شعري وأنا في الثلاثين، وكان يزداد بياضا كلما اقتربت من الستين! حتى لو فرضنا أننا تجاوزنا عمر الستين… فهل يعني هذا النجاة من الموت..؟ وهو الحقيقة المؤكدة للجميع. فالعمر مهما طال فهو قصير كما تقول الجملة الفلسفية. ولدت في نفس العام الذي ولدت فيه إسرائيل، واحتلت فلسطين، وأعلنت فيه مبادئ حقوق الإنسان، وفي أعماق ذاكرتي خيالات عن نفسي وهى تحمل صورة عبد الناصر في شرفة منزل أسرتي بالإسكندرية، كنت طفلا لا يعي حين سمعت عبد الناصر في الأزهر معلنا الحرب، وأخذت اهتف مع الآخرين حنحارب! وكبرت مع صوته وصورته وأخباره التي أسمعها من أبى العامل البسيط الذي لا يقرأ أو يكتب، ولكنه مدرك للأحداث حوله، وعلى كورنيش الإسكندرية كان يحملني فوق كتفه لرؤية وتحية عبد الناصر في موكبه بمناسبة 26 يوليه، واشعر بدموع أبى تنساب على يدي، وادمع معه تحية لهذا القائد. كنت أنتظر خطبة وأحفظها، وأسمع مقال هيكل من الإذاعة كل أسبوع ليس بقصد الفهم لصغر سني، ولكنه بحكم الحماس الوطني الذي سيطر على الجميع في تلك الأيام، كم نحتاج هذا الحماس الآن لنلتف جميعا حول الوطن؟ وأستغرب الآن من الذين يشككون في نوايا هيكل نحو بلده، وفي الذين يحاولون تقليده بدون أن يملكوا قدراته معتمدين على كهف النفاق الذي يعيشون فيه. وأبحث في أعماق ذاكرتي، فتحضرني صورة عبد الناصر وتيتو ونهرو في مؤتمر باندونج، وصورته وهو يفجر ويغير مجرى النيل استعدادا لبدء السد العالي وهو المشروع التنموي الوحيد الذي نجحت مصر في تحويله إلى معركة وطنية اجتمع عليها المصريين، وسمعت وقرأت ودرست وكبرت مع تأميم القناة وقوانين الإصلاح الزراعي، ومجانية التعليم وإنشاء القاعدة الصناعية في مصر التي نبيعها الآن. وعاصرت شعارات القومية العربية والكرامة، والوحدة العربية، والإمبريالية والاستعمار، والدول الرجعية والدول المتقدمة وما إلى ذلك من مصطلحات التي سادت تلك الفترة. وفي المرحلة الثانوية بدأت أدرك أن لنا جنودا في اليمن، وان جيشنا لا يقهر، وسوف نلقي إسرائيل في البحر، وأننا صنعنا من الإبرة إلى الصاروخ الخ تلك الأوهام التي سيطرت على الناس وقتها. وكان عام 64 هو نفس العام الذي مات فيه أبى وجدي وخالي، هو نفس العام الذي ماتت فيه معاني كثيرة في مصر انتهت بنكبة 67 التي قتلت الحلم المصري، كنت مراهقا في الثانوية العامة اسمع احمد سعيد في صوت العرب وهو يهلل بسقوط مئات الطائرات للعدو فأطير فرحا مع شباب الشارع. واكتشفت مع حالة الحرب بنت الجيران التي تبادلني الإشارات الضوئية الغرامية مستغلين إظلام الغارات، وكأن مراهقتي كانت انعكاس لمراهقة آلية اتخاذ القرارات في مصر، وبلغت ذروة المراهقة أثناء النكسة، وحصلت على الثانوية عام الانكسار، ودخلت الجامعة أثناء حرب الاستنزاف. وبكيت وبكينا جميعا في البيت والشارع والمدينة، في مصر كلها، بكينا غير مصدقين الهزيمة التي لم نبك عليها بقدر بكاءنا على قرار تنحي عبد الناصر، فالهزيمة لا تهمنا بقدر ما يهمنا عبد الناصر، لأنه في اعتقادنا سوف يكون قادر على تعويض الهزيمة، كنت لا أتصور مصر بدون عبد الناصر. ومنذ تلك الفترة بدأت أدرك، وأقرأ شائعات عن مرضه، وسفره للاتحاد السوفيتي إلى أن توفي رحمة الله عليه، وكان وقتها يودع الملوك والرؤساء العرب في القاهرة. وعندما تخرجت من الجامعة، جندت في الجيش لسنوات طوال انتظارا لحرب أكتوبر 1973 التي اشتركت فيها وخرجت بعدها احمل أمال الشباب، وأغلقت على نفسي، وأكملت دراساتي العليا، وعينت مدرسا جامعيا 1982 حين قتل السادات، ومنذ هذا الوقت وصاحبنا الستيني يخزن أفكاره ويدون ما يراه من أحوال الوطن، وشعر انه لا مكان له في هذا الوطن، ولم يسع للهجرة أو العمل خارج مصر، بل جاءت دعوة ترشحه للعمل أستاذا جامعيا في أكبر جامعات الخليج، وهناك من رأى الوطن بعين أخرى، رأى الوطن وهو يهان، ولا يستطيع أحد شيئا، وكانت إهانة الوطن في تلك الدولة وغيرها من دول البترول اكبر كثيرا من إهانة الاستعمار والاحتلال، لأن في الثانية أفرزت قضية التحرير التي أجمعت مصر كلها على تحقيقها ونجحت في ذلك، أما في الأولى فان الوطن أصيب في صميم بنيانه القيمي بمرض الإذلال وأصبح ينهج سلوكيات العبيد، وهنا يحتاج الوطن إلى سبارتاكوس لكي يثور العبيد على أنفسهم أولا، لذلك قررت وأنا هناك مجرد عبد من العبيد أن اخرج من قوقعتي أو جحر الخوف والقرف، وقررت أن أصرخ وأصرخ حتى يسمعني الوطن.
وصاحبنا الستيني واحد من الذين أطلق عليهم السادات الأفندية، واحد من القلة المنحرفة والتي لها أغراض خاصة، وتثير القلاقل والفتنة، وتثير الناس، وتطلق الإشاعات، ويتكلمون بغوغائية، واحد من الذين يضخمون الأمور كما تقول الحكومة وتصف به دائما الذين لا يؤيدونها، إنني واحد من الأغلبية الصامتة التي إذا تكلمت سوف تقول نفس الكلام الذي أقوله ويمكن أكثر، أحيانا يصفون من يتكلم مثلي بأني عميل، يميني، ومفتوح ومقفول وأحيانا شيوعي ورأسمالي وشمولي وليبرالي في نفس الوقت حسب مزاج الحكومة – يعنى هي الديمقراطية -، وفي اغلب الحالات تصفني الحكومة بأني يساري علماني كافر اشتراكي مشاغب مهووس بل مهروش مجنون، وأحيانا إرهابي علماني متطرف، من أعداء النجاح، حاقد ناقم جاهل ينعق مثل البوم، له أهداف خاصة، وفي القلة النادرة توصف الحكومة من يقول نفس الكلام تهذيبا بأنه مثقف يبيع كلام أو مريض نفسيا، ومن الذين لا يعرفون الحقائق والمصالح العليا للوطن والحكومة نعذرهم لأننا كلنا مواطنين !
هل عرفتني الآن؟، أنا مواطن مهزوم، مهموم بالوطن مشغول به، اهمس مخاوفي بصوت عالي محبط ويأس ومتشائم من مستقبل الوطن، وجدت نفسي إما اكتب واخرج من الجحر الأكاديمي، أو أصاب بالضغط الذي أصبت به فعلا وأصبح يهدد حياتي، واكتشفت أن معظم المواطنين مثلي، أصيبوا بالضغط. كنت اعتقد أنني انفخ في الهواء واكرر كلام الآخرين، وفوجئت أن هناك من يقرأ لي وهناك من يشجعني على التعبير عنهم، ويقرأ أفكاري ويشجعني عليها، وكانت فرحتي وأنا أستاذ الجامعة ولي طلبتي ومحاضراتي لا توصف لأن هناك من ينتظر أفكاري كل شهر في الدوريات المطبوعة، وقررت أن يسمع صرختي الجميع، فأنا اصرخ، وهذا ليس عيبا لأني لا املك شيئا آخر إلا أن أصرخ بهموم الوطن بل يجب أن نصرخ جميعا حتى يسمعنا الحكام إذا سمعوا، فالمثقفين وظيفتهم تشجيع وتنظيم هذا الصراخ، فلا حل أمامنا إلا الصراخ. والصراخ بصوت واحد جميعا قد يسقط قوى الظلام والفساد والإفساد، بل يجب أن نصرخ، لأن الكلام العاقل الهادئ الرزين لا يصلح في حالتنا، فالهدوء والعقل في عرض هموم الوطن ترف ما بعده ترف، لأننا على وشك الموت والخروج من التاريخ، على وشك التنازل الكامل عن الكبرياء الوطني بعد أن ضاع معظمه في الخليج. يجب أن نصرخ حتى يعرف حكامنا ذلك وبعدها نستعمل الهدوء والعقل كما يقولون. قد أكون مجنونا فالمجانين في الوطن فاضت بهم الشوارع والمستشفيات، أنا كل ذلك، و إذا قرأت كلامي ستجده نفس كلامك الذي تقوله في سرك ومع أصدقائك، ومتأكد انك سوف تصفني بأني وطني مهموم مثلك بالوطن.
© منبر الحرية،06 تموز/يوليو 2010