إسبانيا واحدة من أعظم قصص النجاح الديمقراطي والاقتصادي خلال العقود الثلاثة الأخيرة. ولكن هنالك الآن بعض الأسباب للخشية فيما يتعلق بمستقبلها. وفيما يلي لماذا:
كانت إسبانيا من أوائل الدول القومية، بعد أن أتمت إعادة فتح شبه جزيرة آيبيريا من المسلمين في عام 1492. كانت إسبانيا الإمبراطورية القوة الأوروبية الأولى خلال القرن السادس عشر وعلى امتداد جزء كبير من القرن السابع عشر. وقد شملت الإمبراطورية الإسبانية أمريكا الوسطى بكاملها، ومعظم أمريكا الجنوبية، والفلبين، وأجزاء من ألمانيا المعاصرة، وبلجيكا، ولوكسمبورغ، وهولندا، وغيرها.
بعد ذلك، ونتيجة لمحاصرتها من قبل أعدائها وبسبب سوء الحكم الداخلي، دخلت إسبانيا في مرحلة تقهقر طويلة الأمد، انتهت بخسارتها لمعظم ما تبقّى لها من مستعمرات، إبان الحرب الإسبانية-الأمريكية في عام 1891.
لقد خاض الإسبان حرباً أهلية بشعة ما بين 1936 إلى 1939، بين القوى اليسارية التي نالت تأييد الاتحاد السوفييتي والمكسيك من جهة، والوطنيين بقيادة الجنرال فرانسيسكو فرانكو بتأييد من الألمان والإيطاليين من جهة أخرى. أصبح الجنرال فرانكو دكتاتوراً، وحافظت إسبانيا على حيادها إبان الحرب العالمية الثانية. وبعد أن وضعت الحرب أوزارها، ظلت إسبانيا معزولة سياسياً واقتصادياً حتى عام 1955، عندما أصبحت حليفاً في الحرب الباردة للولايات المتحدة ولأوروبا الغربية.
وفي عقد الستينيات، انتعش الاقتصاد الإسباني، وأخذت إسبانيا تنمو بسرعة، بحيث أصبحت دولة صناعية حديثة. في العام 1975، توفي الجنرال فرانكو، وتولى الحكم الأمير خوان كارلوس، الذي أصبح ملكاً ورئيساً للدولة. وقد شرع منذ اللحظة الأولى في تحويل إسبانيا إلى مملكة ديمقراطية، وهو ما تم تحقيقه في العام 1978 بإقرار من الدستور الإسباني الجديد.
لقد نجحت إسبانيا في تحقيق تحول سلمي نحو ديمقراطية حديثة فاعلة، كانت فيها الحكومة المركزية تتأرجح قدماً وإلى الخلف بين قوى اليسار المعتدلة واليمين، نتيجة تفاهم ضمني بعدم إعادة معارك الاقتتال الماضية.
إسبانيا عضو في الاتحاد الأوروبي، وقد تبنت اليورو كعملة لها منذ مطلع العام 2002. الإسبان الآن أغنياء، على أساس دخل الفرد مقارنة بالمداخيل الأوروبية الأخرى. وقد تحوّل الإسبان على امتداد جيلين من كاثوليك محافظين يؤمون الكنائس إلى شعب من أكثر الشعوب ليبرالية على وجه الأرض في حياتهم الاجتماعية (“كاليفورنيا أوروبا”!). الاستطلاعات التي جرت مؤخراً أظهرت أن الإسبان هم من أكثر الشعوب سعادة في العالم. مجمل القول أن إسبانيا، على ما يبدو، تملك كل شيء في صالحها، ولكن هنالك مشاكل في الجنة!
فعلى الرغم من أن مواطنيها هم من أقدم مواطني الدولة القومية، فإن كثيرين منهم يرتبطون بأقاليمهم أكثر من ارتباطهم بالدولة المركزية. يوجد في إسبانيا أربع لغات رسمية: القسطالية، والإسبانية، والكتالونية، والجليشية ولغة الباسك، بالإضافة إلى عدد من اللغات غير الرسمية. والعالم الخارجي كان على علم بأعمال الباسك الانفصاليين بسبب نشاطات منظمة إيتا.
إسبانيا، وعلى النقيض من معظم البلدان، قد أصبحت أكثر لامركزية بشكل متزايد خلال العقود الأخيرة الماضية، بحيث أخذت الحكومة المركزية في الانكماش نسبة إلى حكومات الأقاليم: حكومة مركزية صغيرة، بينما تتولى الحكومات الإقليمية والمحلية تسيير معظم النشاطات الحكومية. ربما يكون هذا الترتيب جميلاً، كما هو الحال في سويسرا خلال عدة قرون ماضية، شريطة أن يتواجد توافق وطني فيما يتعلق بكيفية المشاركة وتوزيع السلطة. بيد أن هذا التوافق ليس قائماً حتى الآن في إسبانيا.
الحكومة الاشتراكية الجديدة، بقيادة خوسيه لوي رودريجز ثاباتيرو، التي جاءت إلى السلطة بشكل غير متوقع بعد الحادث التفجير الإرهابي في مدريد في آذار من عام 2004، فتحت بغير ضرورة الجروح القديمة عن طريق اقتراح قانون يحمل اسم “قانون الذاكرة التاريخية”، والذي بموجبه تُعاد كتابة تاريخ حقبة الجنرال فرانكو ويتم شطب الاعتراف بالكثيرين ممن عانوا من الفريقين في الحرب الأهلية. إن العديد من الإسبان يرون في هذه المبادرة محاولة لإبطال العقد الضمني التاريخي الذي كان قائماً والذي ينص على عدم إعادة المعارك القديمة، كما أن من شأنه إشعال المزيد من الاصطفاف السياسي والتوترات.
حوالي 30 بالمئة من الإسبان يؤيدون تقليدياً الأحزاب اليمينية، و30 بالمئة آخرون يؤيدون الأحزاب ذات الميول اليسارية (وهي السلطة الحاكمة الآن). معظم الأصوات الباقية موزعة بين عدد من الأحزاب الإقليمية المختلفة، والذي يتيح لها أن تصبح حَكَماً بين القوى المتصارعة في الحكم. لقد استخدمت هذه الفئات هذه السلطة لإحداث مزيد من اللامركزية في الحكم كما عملت على تنمية سياسات أكثر انفصالية.
الاقتصاد الإسباني كان مزدهراً جداً خلال حكومة خوسيه ماريا أزنار في الأعوام 1996-2004، والتي أجرت إصلاحات هيكلية وانتهجت سياسات مالية حكيمة. ومع ذلك، فما زالت هنالك تدخلات حكومية أكثر مما يجب في الاقتصاد وبالأخص فيما يتعلق بسوق العمل (ترتيب إسبانيا هو 27 في مؤشر الحرية الاقتصادية العالمي). كما أن الاقتصاد الإسباني يواجه الخسارة في التنافسية الدولية وبالنسبة لانخفاض الإنتاجية، وهما مؤشران لا يبشران خيراً في المستقبل.
الأسئلة المطروحة أمام إسبانيا هي: هل ستعود إلى سياسات النمو العالية التي شهدتها في سنوات أزنار، وتزيد من الحريات الاقتصادية، أم تعود إلى تبني مزيد من التدخلات الحكومية القاتلة للنمو؟ وهل سوف تتجه نحو لامركزية بناءة مع تسامح نحو الأقاليم واللغات، كما فعلت ذلك سويسرا بنجاح، أم هل أن الصراعات حول سلطات الأقاليم واللغات سوف تشل البلد مثلما يحصل الآن في بلجيكا؟
© معهد كيتو، منبر الحرية، 12 شباط 2008.