عن قيم التقدم: رابعاً، غرس قيمة التعددية

peshwazarabic16 نوفمبر، 20100

إذا كانت “الديمقراطية” هي أعظم إنجازاتِ الجنسِ البشري منذ بدايةِ مسيرةِ تمدنه وحتى هذه اللحظة فإن “التعددية” هي أحدُ منابع الديمقراطية . فلما كان الإنسانُ قد أصبح على يقينٍ من أن “التعددية” في المذاهب والآراءِ ووجهاتِ النظرِ والذوقِ هي من أهم معالم “الإنسانية” فقد كان من الطبيعي أن تقوم النظم السياسية على أساسِ إحتواءِ وإحترامِ التوجهات المختلفة مع عدم السماح لأيٍّ منها (ولو كان يحظى بأغلبيةٍ قويةٍ أو حتى مطلقةٍ) من إستئصال حق الآخرين في الإختلافِ ورؤيةِ الأمورِ بشكلٍ مختلفٍ والإعتقاد في برامج وأفكار ونظم ونظرياتٍ أخرى.
بل إن الإنسانيةَ تحولت مع تطورِ مسيرةِ تمدنها من “التسليم بأن التعددية من معالمِ الإنسانيةِ الأساسيةِ” إلى “الإعتقادِ بأن التعدديةَ من مصادر ثراءِ الإنسانيةِ” .. وأن التعددية هي من أهم منابعِ الإبداعِ والإبتكارِ والتجديدِ والتجويدِ .
ورغم ذلك الإيمان بالتعددية على سطح الحياةِ المعاصرةِ فإن الغوص تحت جلدِ معظمِ البشرِ في هذا العصر يثبتُ أننا لا نزال في مرحلةٍ بدائيةٍ للغاية من تمثل قيمةِ الإيمانِ بمعنى ومزايا التعددية – وينطبق ذلك على أكثر المجتمعات تقدماً (وفي طليعتها المجتمع الأمريكي) كما ينطبق على كثير من الدول الأقل تقدماً بما في ذلك دول العالم الثالث . فلا يزال هناك زخمٌ من نقص الفهمِ وسوءِ الظنِ المتبادلِ بين الحضاراتِ المختلفةِ يجعل فوائدَ وعوائدَ التعددية أقل بكثيرٍ من أن يمكن أن يكون كما يؤدي كل ذلك في غيرِ كثيرٍ من الأحيان إلى محاولةِ البعضِ “تنميط العالم” وهو هدف مستحيل من جهةٍ ويعارض التعددية من جهةٍ أخرى ويبذر بذور الصراعِ والصدامِ الذين يمكن للإنسانية أن تعيش وتنمو وتزدهر بشكلٍ أفضل بدونهما .
ومن الأدلةِ الواضحةِ على التراثِ المهولِ من سوءِ الفهمِ وسوءِ الظنِ والأفكارِ المشوهةِ بشكلٍ متبادلٍ بين الحضاراتِ فكرة الحضارةِ الغربيةِ على معظم الحضارات الشرقية والتي تقوم في بعضِ الأحيانِ على تصوراتٍ وهميةٍ لا أساس لها من الصحةِ وكذلك فهم أبناء الحضارات القديمة للحضارة الغربية وهو فهم مشوب بتشوهات هائلة ويركز على المثالب ويتجاهل المناقب رغم تمتع معظم البشر في العالم بالعديد من إنجازات الحضارة الغربية .
وإذا كان البعضُ اليوم في الغربِ بوجهٍ عامٍ وفي الولاياتِ المتحدةِ الأمريكيةِ بوجهٍ خاصٍ يميلُ إلى أن العلاقة بين الحضارات ستكون في المستقبل صراعاً وصداماً ولا سيما العلاقة بين الحضارة الغربية والإسلام ، فإن أدبيات هذا الإتجاه تدلُ على فقرٍ معرفيٍّ مذهلٍ : فكتاب (صدام الحضارات) لصموئيل هنتنجتون وغيره من الكتابات المماثلة لإشخاصٍ مثل بول كنيدي وفوكا ياما هي خلطة من الكتابات الصحفية/ السياسية أكثر من كونها كتابات رصينة تقوم على معرفةٍ واسعةٍ بالحضاراتِ ودون أن تتوفر لدى أصحابها الرؤية التي تسمح لهم بان يروا آلية صنع سيناريو الحوار وعدم الإقتصار على سيناريو الصدام – ولا يعني ذلك أن سيناريو الصدام مستبعدٌ وإنما يعني أن سيناريو الحوار ممكنٌ إذا كانت الرؤيةُ في هذا الإتجاه وبُذلت الجهود الفكرية والثقافية لتدعيمه .
إن عالمَ اليومِ الذي يرفع شعارات مثل (الديمقراطية) و(حقوق الإنسان) و(الحريات العامة) و(التعددية) ينبغي أن يدرك أن نبلَ هذه القيم لا ينفي أن تعاملَ الإنسانِ معها على أرض الواقع لا يزال في مرحلةٍ أُولى وهو ما يجعل الممارسات العملية تتسمُ أحياناً بنقيض تلك القيم وينطبق ذلك بوضوحٍ على قيمة التعددية إذ ترفعُ الحضارة الغربية لواءَ قيمةِ التعدديةِ بيدٍ ويرفع بعضُ أبناءِها لواءَ تنميطِ العالمِ بيدٍ أخرى ، وهي حالة إرتباك تعكسُ كون البشرية في مرحلةٍ أولى من مراحل نمو بعض هذه القيم .
فالتعدديةُ إذا كانت تعني (والأرجح أنها بالفعل كذلك) أن تعددَ المشارب والمذاهب والثقافات والأذواق والآراء وأساليب الحياة هي معلمٌ أساسيٌّ من معالمِ الحياةِ البشريةِ على الأرض بل ومن مصادر ثراء هذه الحياة فإن النتيجة يجب أن تكون (الخلاف في ظل الوحدة) والخلاف هنا ينطبق على ما ذكرته من مشارب ومذاهب وتوجهات أما الوحدة فتعني (الإنسانية) .. كما أن ذلك لا يمكن إلاِّ وأن يعني توسيع ثقافة إحترام الغيرية (Otherness) على أن يحدث ذلك بين كل الأطراف وبشكلٍ متكافئ في وقتٍ واحدٍ – وإحترام الغيرية يتناقض بداهةً مع أي محاولة لتنميط العالم . وجديرٌ بالتنويه هنا أن تنميط العالم ليس توجهاً عاماً للحضارة الغربية إذ لا تشارك فيه أوروبا الغربية وإنما هو توجه أمريكي في المقام الأول وليس له من مرجعٍ إلاِّ الفقر الأمريكي المذهل ثقافياً …. يتبع
© منبر الحرية، 3 أبريل 2009

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.
جميع الحقول المشار إليها بعلامة * إلزامية

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

تواصل معنا

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018