peshwazarabic16 نوفمبر، 20100

جاءت السلطة القومية في عدد من البلدان العربية بخطابها المختلف تماماً، في جوهره، عما كان ينبغي أن يكون عليه مستقبل الإنسان والتاريخ في هذه البلاد. وكانت بحاجة ماسّة إلى أن تستعير لسان الأمة والقضية القومية وتنصب نفسها وصية عليهما، ناطقة باسمها. ولم يكن لأحد أن يمتلك الجرأة على اختراق أو نقض هذا المطلب المركزي الذي أعلنته. أو ألا يتساوق مع هذه المركزية الأيديولوجية، أو المعيار الكلي الذي ساد لنصف قرن تقريباً. بل كان ثمة خضوع طوعي غالباً أو قسري له من جانب المؤسسات والأفراد. وقد استغلت تلك النظم القومية هذه القضية أحسن استغلال، وبررت بها جميع تحريفاتها السياسية. فلم يعد لأيّة قضية إنسانية أو ألم أو قهر من قيمة طالما أنه كان يستجيب للأغراض الأيديولوجية المباشرة لهذا الشعار، حتى أن خراب البصرة ودمار بغداد أو بيروت عدّ مقبولاً وأمر اعتيادياً متى ما كان مكرّساً له، ولم يكن يساوي شيئاً إزاءه.
إن ظهور هذا الشعار اقترن بصعود الأحزاب القومية التي أتت من أقبية التاريخ وأنفاقه ومن هوامشه الأيديولوجية في حقبة الخمسينات وما تلاها، عبر الانقلاب على مشروع الدولة الوطنية وابتلاعه. وراحت تمتطي دبابة العروبة لتحتل واجهة المسرح السياسي، مستعينة بأيديولوجية قومية شمولية، أثبت التاريخ إنها كانت في حقيقتها مضادة لمشروع الأمة الحداثي، ولتحققه على الأرض عوضاً عن أن يكون مجرد شعار ديماغوجي خالد مرفوع إلى السماء.
فرض خطاب السلطة القومية نظاماً معيارياً زائفاً وروّجت له، مفاده إن كل قضية إنسانية أو سياسية هي هامش بالنسبة للمركز الأوحد، الذي تقود إليه كل الدروب، ومن ثمّ ليس لها من معنى إلا لأنها تدور في فلكه. وسوى ذلك يعنى الانحراف عن المسار والخروج على دائرتها أو الانزياح عنها، أيّ التعين في العراء، في المساحة اللامتعينة للخطيئة الأيديولوجية، في المحيط الذي لا حدود له، لأن المتعين الوحيد هو هذا المركز، أو البؤرة المقدسة للقضايا القومية. وكل مسألة لاتكتسب أهميتها أو مبرر وجودها إلا بالقياس إليها. لكن هل كانت القضية الفلسطينية هي المركزية فعلاً بالنسبة للنظم التي أرادت لها أن تكون كذلك بالنسبة للعموم؟؟
السياسة المعلنة للأنظمة العربية كانت تتبع هذه  العقيدة أو الإستراتيجية. ذلك أن مطلب القضية المركزية يعني استحالة شرعية أي قضية أخرى سوى شرعية السلطة الممثلة لها أو الناطقة باسمها، وفي الواقع لم تك تستهدف من وراء ذلك سوى تأكيد مركزية سلطتها وإدامة استبدادها المعهود. فمركزية القضية المعلنة لديها لم تكن سوى تعبير مقلوب عن مركزيتها بالذات ورغبتها العميقة في مواصلة طَوَفان العالم والمجتمع في فلكها. وكلما أوغلت النظم القومية في كلامها عن مركزية القضية وتشدقت بها كان ذلك برهاناً وشاهداً على غياب الأصل ولامركزيته في وعيها، وعدّ دليل نفاق أيديولوجي ومراءاة سياسية.
إن تاريخ هذا الشعار الذي اعتبر المعيار المركزي للمشروع القومي العربي، هو تاريخ مركزية السلطة القومية واستبدادها الشامل والمحكم. وقد قام على المزاوجة والتماهي بين رغبة السلطة في البقاء والهيمنة من جانب والشرعية الأخلاقية والسياسية للمحنة الفلسطينية من جانب آخر، واستغلال الأخيرة لغاية استمرارها سلطة مطلقة لا تكترث بأية قضية إنسانية أو سياسية عادلة. وهنا يقبع التعارض بين الميتافيزيقا الأخلاقية للقضية السياسية وبين ذرائعية السلطة القومية وميكافيليتها، بين التمثيل السياسي لمشروع إنساني وسياسي وواقع ممارسة السلطة. ولهذا لايمكن وصف مطلب القضية المركزية إلا بأنه ضد عدالة القضية وروحها من حيث هي قضية إنسانية شاملة، وضد تحققها الواقعي والعادل.
لقد أتلفت القضية الفلسطينية بكثرة الحديث عن مركزيتها، حتى غدت قضية الهامش بالفعل بالنسبة لسياسات النظم القومية. التي كانت تغفل، وهي تتخفى وراءها، الكثيرَ من المطالب العادلة والملحة كقضايا التنمية الوطنية والحرّيات العامة وغيرها، وتمارس كل أشكال القمع والقهر بحق شعوبها، حتى غدا يسيراً على أي نظام عربي مستبد أن يرتّق كل جرائمه السياسية وممارساته الوحشية بخِرق شعارات القضية المركزية.
واقع الحال إن الحضور المباشر للقضية الفلسطينية في خطاب السلطة القومية لم يكتسب بالفعل مكانة مركزية إلا على مستوى التصوّر أو التمثيل الأيديولوجي المجرد والزائف، الذي هو أبعد مايكون عن التعبير الحقيقي لواقع القضية وآفاقها العقلانية والتاريخية. لأن المطلوب بالنسبة لتلك النُظم لم يكن حلّ المعضلة حلّاً واقعياً وعادلاً، وإنما تكريس احتكارها لشرعيتِها السياسية والإنسانية. وهكذا بدا أن مطلب مركزية القضية الفلسطينية كان نفياً للقضية من موقعها الحقيقي تحت وطأة مركزية السلطة القومية وإدعائها احتكار الشرعية الأيديولوجية، إقصاء لها من حيزها الفعلي واستبعاد لدورها، وبالمقابل استعادة لدور الاستبداد والتعامل معها كقناع أيديولوجي للشرعية القومية للسلطة.
كانت النظم العربية القومية تؤكد أولوية شكل العلاقة مع القضية الفلسطينية لترسخ، بالمقابل، العلاقة مع ذاتها، وتحتكرها لمصلحتها الذاتية. فهي حين كانت تعلن مركزية القضية الفلسطينية، لم يكن الهدف من وراء ذلك سوى إثبات المكانة الخاصة والحيوية لها وتكريس مركزية سلطتها بالذات من خلال هذا الادعاء. ومن ثم تعيد إنتاج مركزية شرعيتها القومية والسياسية وحتى الأخلاقية، إزاء إعادة إنتاج هامشية الآخر وقضاياه. إن جميع المسائل والقضايا الحيوية الأخرى بدت تافهة وسخيفة، رجعية وخاطئة، من وجهة نظرها، فقط لأن ثمة نظام قومي تقدمي وشرعي واحد، لايفتقر للضرورة التاريخية والعقلانية هو نظامها بالذات، وهو الوحيد المرشح والمؤهل لتحقيق التطابق بين المستقبل العربي ووحدته. هكذا كان الحال مع عدد من النظم القومية المتسلطة ولايزال.
إذن ثمة تفاوت هائل بين ماكانت تعلنه تلك النظم وتروّج له وبين اعتقادها الخاص على صعيد مركزية القضية الفلسطينية في مجالات السياسة والإعلام والممارسة عموماً، حيث يعاد تكريس ذلك المعيار لمصلحة بقاءها وإدامة سلطتها. من هنا فإن إعادة  اكتشاف حقيقة هذه القضية ومكانتها، من وجهة نظر مغايرة لكل ما ألفناه من خطابات جاهزة للحكومات العربية ومؤسساتها الأيديولوجية، يعدّ شرطاً سياسياً لاستقلال الخطاب الوطني الفلسطيني ومفاهيمه من جانب أول، ويعني من جانب ثان الإفلات من شرك الادعاءات الأيديولوجية للأنظمة القومية التي كانت تجيّر شرعية القضية لحسابها الخاص، ويترتب على ذلك تحرير جميع المسائل والقضايا الحيوية كالتنمية والحرّيات العامة وغيرها من قبضة التسويف والمماطلة والتأجيل، وتضع تلك الأنظمة عارية دون كساء أيديولوجي بمواجهة أسئلة شعوبها وقضاياها الملحة.
© منبر الحرية، 20 أبريل 2009

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.
جميع الحقول المشار إليها بعلامة * إلزامية

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

تواصل معنا

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018