تحتفل برلين ومعها العالم بذكرى 9 تشرين الثاني/نوفمبر بالذكرى العشرين لسقوط جدار برلين ، قد نوافق جميعنا على التداعيات الاستراتيجية الجغرافية التي تلت سقوط جدار برلين: بدأت الإمبراطورية السوفياتية تختفي ومعها بدأت الدول الدائرة في فلكها، ومن بينها ألمانيا الشرقية، الخروج من السيطرة السوفياتية. وقد ساهم سقوط جدار برلين بدرجة كبيرة في سقوط النظام الشيوعي في الكتلة السوفياتية بكاملها. وقد شكل سقوط جدار برلين رمزاً دراماتيكياً للحرية التي استعيدت في تلك السنة العجائبية 1989، حينما أصبح الأمر الذي لم يكن من الممكن تصوره في الحياة السياسية في أوروبا الوسطى.
لقد سبق هذا الحدث عدة إرهاصات. فقد شارك الملايين من الناس في أوروبا الشرقية والوسطى في مظاهرات سلمية ضد أنظمة الحكم القائمة وبدت الشيوعية وكأنها تتلاشى.. و العملية بدأت بشكل واسع في آب/أغسطس 1980 عندما ألغى إضراب كبير في حوض إصلاح السفن في غدانسك شرعية ديكتاتورية الحزب الشيوعي، الذي كان يدعي أنه يمثل “ديكتاتورية الطبقة العاملة”. كان حدثاً استثنائياً. وشكّل ذلك أشد هزيمة معنوية للشيوعية.
بدأ تفكيك جدار برلين الحقيقي من هنا بالذات وفي ذلك الحين. وشكلت التسوية التي تم التوصل إليها في اجتماع الطاولة المستديرة البولندية والانتخابات شبه الحرة التي أعقبتها في حزيران/يونيو 1989 ضربات المطارق الثقيلة على النظم الشمولية.
تفكك الستار الحديدي قبل وقت طويل من تحطّم جدار برلين في تشرين الثاني/نوفمبر 1989. كان النظام الشيوعي في أوروبا الشرقية يعيش أيامه الأخيرة لسنوات عديدة. فقد خنقت أنظمة الحزب الواحد حقوق الإنسان والحريات السياسية وكانت عاجزة عن توفير الشيء الجوهري الرئيسي الذي يبرر الشيوعية: الأداء الاقتصادي. التفاوتات بين الشرق والغرب ازدادت وضوحاً خلال الثمانينيات من القرن العشرين، ولا سيما مع تكامل السوق الأوروبية الذي عزز ازدهار أوروبا الغربية في الحين الذي أظهر حلف وارسو الخاضع للسيطرة السوفياتية أنه لم يعد بديلاً موثوقاً لأوروبا الموحدة. لم يكن قد بقي لدى الشيوعية القوة اللازمة لمقاومة موتها. أثبتت الماركسية-اللينينية، المفلسة عقائدياً، وغير الكفؤة اقتصادياً، والبدائية سياسياً أنها تجربة أخرى وصلت إلى نهايتها. علاوة على ذلك، لم يعد لدى النظام السوفياتي الذي دعم حكومات وكيلة له عبر أوروبا الشرقية، الإيمان القوي أو الموارد للقمع القسري لتطلعات الشعوب “الشقيقة” نحو التعددية والاستقلال القومي.
وكانت ألمانيا الشرقية (جمهورية ألمانيا الديمقراطية) في كافة مظاهرها دولة شيوعية، ومع ذلك كانت دولة فريدة نوعاً ما. كانت تحكمها حكومة غير كفؤة يديرها حزب معروف بالفساد، والمراقبة البوليسية لكل شيء، وأزمة اقتصادية تزداد خطورة. لكن الأمر الشاذ كان وجود الدولة الألمانية الأخرى، الديمقراطية والغنية، ووجود الحاميات العسكرية السوفياتية على أراضي جمهورية ألمانيا الديمقراطية. كان يقال في السابق إن بروسيا لم تكن دولة لها جيش بل كانت جيشاً له دولة. لم تكن جمهورية ألمانيا الديمقراطية دولة توجد فيها حاميات سوفياتية بل كانت دولة للحاميات السوفياتية. كان ذلك السبب والضمانة لوجود جمهورية ألمانيا الديمقراطية بذاته.
استنتج الحلفاء الغربيون بسرعة انه ما لم تكن ألمانيا ودول أخرى في أوروبا ديمقراطية ومزدهرة فإن القوة السوفياتية قد تتوسع عبر باقي القارة. ساهمت المساعدات التي قدمتها الولايات المتحدة في ظل خطة مارشال، والتي بلغت كلفتها أكثر من 13 بليون دولار، في تأمين هذا الازدهار. لكن الاتحاد السوفياتي ودول أوروبا الشرقية الدائرة في فلكه رفضت المساعدات المقدمة بموجب خطة مارشال. وفي المقابل، بدأ الجيش الأحمر الموجود في منطقة الاحتلال السوفياتي بتفكيك المصانع والمنشآت الصناعية الألمانية الأخرى ونقلها إلى روسيا للتعويض عن الأضرار الهائلة التي ألحقها الجيش الألماني بالاتحاد السوفياتي.
لقد بقيت برلين الرمز والبؤرة الأكثر خطورة خلال الحرب الباردة، واستخدمت ككوة لهروب الألمان الشرقيين الذين أرادوا تغيير حياتهم من واحدة كانوا يعيشون تحت سيطرة ديكتاتورية تعاني من الضعف الاقتصادي إلى أخرى ينعمون فيها بالحرية وإمكانية الحركة في ألمانيا الغربية، التي كانت تتمتع آنذاك “بمعجزة اقتصادية” وباقتصاد سوق يتسم بالمسؤولية الاجتماعية.
في حزيران/يونيو 1989، فتحت الحدود فعلياً بين المجر والنمسا، و يعنى هذا أنه أصبح بإمكان الألمان الشرقيين، الذين كانوا يستطيعون بسهولة السفر إلى دولة المجر الشيوعية والصديقة، من الوصول إلى ألمانيا الغربية عبر النمسا بدون الحاجة إلى القفز فوق جدار برلين. لجأ ألمان شرقيون آخرون إلى سفارات ألمانيا الغربية في براغ وبودابست مصممين على البقاء في أرض السفارة إلى أن يتم تأمين وسائل دخولهم إلى ألمانيا الغربية. كان الألمان الشرقيون، يعرضون أنفسهم للخطر الواضح، ويسيرون في المظاهرات، إما في الخارج أو حتى بدرجة أكثر أثراً في شوارع وطنهم. في 9 تشرين الثاني/نوفمبر، أصبح فتح جدار برلين إلى أول انتصار سلمي وناجح في النهاية للثورة الألمانية و انتصاراً للحرية والديمقراطية.
شكل سقوط جدار برلين فاتحة لحركة التحرير القومي لدول أوروبا الوسطى والشرقية من السيطرة السوفياتية. وفي حين ان الشيوعية لم تعد سوى كابوس يتلاشى تأثيره في هذه الدول. ولكن كان لهدم جدار برلين وانتهاء الشيوعية أكثر من وجه واحد. تماماً كما ان المجزرة في ساحة السلام السماوي في بكين شكلت تأثيراً معادلاً مناقضا للانتخابات البولندية في حزيران/يونيو 1989 التي ألحقت الهزيمة بالشيوعيين، فإن الثورات المخملية في أوروبا الوسطى، كان لها ما يوازيها من أعمال موازية مظلمة ظهرت عبر الأحداث الدموية في رومانيا والحرب الطويلة في يوغوسلافيا السابقة. تلطخ القماش المخملي بالدم ولا تزال رائحة هذا الدم فوّاحة في أوروبا. فمسيرة الحرية في العالم هي مسيرة مضنية وقاسية.
سوف ينهمك المؤرخون طويلاً في مناظرات حول كافة الأمور التي ساهمت في هذا التحرير وكيف حدث، ولكن كان من الواضح أن سلسلة من العمليات المتسلسلة غير المتوقعة هي التي أحدثت هذا التحرر. كانت أحداث برلين رمزاً وواقعاً حقيقياً لانتصار المثل العليا : مثل التوق البشري الى فضاء الحرية والتحرر ورفضه للشمولية وكافة ما يعوق حرية الانسان وابداعاته.
ومن هنا كان الامل كبيرا أن تمتد العدوى الديمقراطية الى الشرق الأوسط، وهو الأمر الذي لم يحدث بعد…
© منبر الحرية، 8 نوفمبر/تشرين الأول2009