لقد أصبحت إيران في المرحلة الأخيرة نقطة التركيز الأساسية بالنسبة للسياسة الأمريكية في الشرق الأوسط. فوضع إيران و على الأخص منذ منتصف العقد يلخص كل المسائل، فقد ارتفع نفوذها الإقليمي وأصبح لها مواقع على جبهة الصراع العربي الإسرائيلي، كما أن برنامجها النووي يكاد أن يتحول من حلم إلى حقيقة. من جهة أخرى تعتبر إسرائيل إيران العدو الأول والأخطر عليها وذلك بسبب تطور نفوذها الإقليمي و طبيعة نظامها المتصادم مع السياسة الإسرائيلية والأمريكية، لكن أكثر ما يقلق إسرائيل هو البرنامج النووي الإيراني، فهذا البرنامج بالنسبة لإسرائيل يغير موازين القوى في منطقة الشرق الأوسط. إن التوجهات النووية الإيرانية ستؤدي لمسألتين: الأولى كسر احتكار إسرائيل للسلاح النووي في الشرق الأوسط( والتي تمتلك بحدود ٢٠٠ رأس نووي) والثانية تحقيق توازن وردع بين إسرائيل من جهة وإيران من جهة أخرى.
وتشير المعلومات التي تترد في الأوساط المقربة من الإدارة الأمريكية في العاصمة الأمريكية أن إيران توصلت عام ٢٠٠٨ لصنع قنبلة نووية، لكنها تمهلت ولم تقم بعبور النقطة الحمراء تفاديا لازمة كبرى. أي أن إيران لم تقم بوضع اللمسات الأخيرة على منتوجها الذري، وذلك لأنها لم تكن مهيأة لفتح معركة دولية كبرى حول قدراتها النووية. وتشير ذات الأوساط المقربة إلى أن قيام إيران بعدم اجتياز النقطة الحمراء خفف من الاحتقان عام ٢٠٠٨ مؤقتا، وعلى الأخص في الساحة الإسرائيلية التي تعتبر النووي الإيراني خطر وجودي بالنسبة لها. وتفسر هذه الأوساط التباطؤ الإيراني على انه تحضير لمفاجأة العالم بقدرات اكبر من مجرد قنبلة واحدة، فإيران لن تذهب للعلنية بوضعها النووي إلا إذا امتلكت أساس لا رجعة عنه وترسانة جاهزة متكاملة، وهناك رؤية أخرى في الوسط الأمريكي ترى أن إيران تسعى لتحقيق كل أنواع التقدم والانجاز التكنولوجي نحو امتلاك قدرات نووية (النموذج الياباني) دون القيام بالتصنيع النهائي.
وليس غريبا أن إيران ذات الطابع الشيعي الجعفري وابنة الثورة الإسلامية قد سعت نحو القوة النووية، ففي التاريخ الإسلامي واجه الشيعة الكثير من الاضطهاد كما مثلوا على الدوام القوة الأساسية للمعارضة، وقد أدى هذا إلى نشوء حالة من غياب الأمان في المشاعر الشيعية الدينية والعقدية تعبر عن نفسها في طريقة استذكار مجازر التاريخ وحالات الاضطهاد. وبنفس المنطق ليس غريبا أن تسعى إسرائيل فور انتهاء حرب ١٩٤٨ لامتلاك القوة النووية انطلاقا من تجربة مرتبطة بحالة الخوف والاضطهاد التي عاشها اليهود عبر التاريخ وعلى الأخص في أوروبا. إن السعي النووي في الحالة الإيرانية ينم عن مشاعر خوف وقلق لها بعدها التاريخي كما ينم عن شعور إيراني مرتبط بموقع إيران ودورها وحضارتها، أما السعي النووي الإسرائيلي فهو الآخر ينم عن مشاعر خوف عميقة مرتبطة بتاريخ اليهود في أوروبا، لكنه ينم عن سعي إسرائيل لتبوأ موقع محدد في ميزان الشرق الأوسط والميزان العالمي يقوم على عقيدة القوة، لهذا ليس غريبا أن تكون أول دولة نووية في الإقليم هي إسرائيل وثاني دولة نووية في الإقليم هي إيران. إن هذه المقارنة تؤكد بأنه على العالم أن يتعامل مع النووي الإسرائيلي كما يتعامل مع النووي الإيراني. يجب أن تكون المعاملة متساوية بين إسرائيل وإيران من حيث الرفض أو القبول. هناك تناقض في السياسة الأمريكية يضر بمصداقيتها ويساهم في زعزعة الإيمان بعدالة القانون الدولي المراد الحفاظ عليه. هذا بالطبع يساهم في إفشال السياسة الأمريكية التي تركز على إيران وتتفادى التركيز على إسرائيل.
ومهما بدت الضغوط في هذه المرحلة على إيران فمن الواضح أن إيران تتمسك بقدراتها النووية ولا يبدو في المدى المنظور أنها تطرح الأمر للمساومة وان كان بإمكانها التأجيل والمرواغة لتحقيق مكاسب إستراتيجية. إن التوصل لعقد اتفاق استراتيجي أمريكي إيراني لم ينضج بعد فالشروط الأمريكية تتصادم مع الشروط الإيرانية خاصة وان جزء من المطالب الأمريكية اتجاه إيران هي الأخرى حتى الآن مطالب إسرائيلية مرتبطة بإيقاف النووي وفصل التحالف الإيراني مع حماس وحزب الله والقوى العراقية. هذا بالنسبة لإيران تجفيف لقدراتها ونقاط قوتها بينما لا تتخلى إسرائيل والولايات المتحدة في الجهة المقابلة عن نقاط قوتهم. إن إيران تسعى لانتزاع اعتراف أمريكي واضح بالمصالح الإيرانية في إطار الشرق الأوسط ومنطقة والخليج وتسعى لنزع الاعتراف بالمصالح التجارية والاقتصادية والسياسية لإيران، ولكنها تسعى لوضع القوة الإسرائيلية في إطارها من خلال انتزاع عنصر التفوق الاستراتيجي الذي تتميز به. فإيران متصادمة مع إسرائيل عقديا، وسياسيا، وامنيا، وما حرب ٢٠٠٦ بين حزب الله وإسرائيل إلا دليل على عمق هذا التصادم الذي تعود جذوره إلى التعاون الوثيق بين نظام الشاه السابق وإسرائيل. وتتضمن السياسة الإيرانية بنفس الوقت تحقيق التزام أمريكي بعدم السعي لتغير النظام. بل على الأغلب أن سياسة عدم تغير النظام أصبحت أمرا مفرغا منه مع إدارة الرئيس أوباما.
وقد تجد إيران في حالة ازدياد الضغوط عليها أن المدخل لإيقاف الضغوط الدولية والتخلص من العقوبات الدولية التي فرضت عليها مؤخرا هو أن تعلن عن قدراتها النووية وتقوم بتفجير نووي. فوفق التجربة الباكستانية: بمجرد الإعلان عن تفجير نووي تغيرت المعادلة وسقطت الضغوط العالمية على باكستان دفعة واحدة. إن إيقاف القدرات النووية الإيرانية أصبح متأخرا، ستكون إيران الدولة النووية القادمة في العالم، وسيجعلها هذا الوضع قادرة على المقايضة والقبول بدرجة من الرقابة الدولية في ظل تحقيق مكاسب جديدة في منطقة الشرق الأوسط.
وبالرغم من تراجع آفاق الضربة العسكرية الأمريكية إلا أن آفاق المغامرة الإسرائيلية في ضرب إيران لم تختفي. إن معظم التقديرات تشير إلى أن إيران تجاوزت الحد الذي تستطيع من خلاله إسرائيل إيقاف برنامج إيران النووي بواسطة ضربة عسكرية. إن إسرائيل قد تقبل على مغامرات كبيرة بهدف توريط الولايات المتحدة المتورطة بالأساس في كل من أفغانستان والعراق. بنفس الوقت إن الضغوط الإسرائيلية وتحركات اللوبي تهدف لمحاصرة الرئيس أوباما وفرض خيارات قاسية عليه تتطلب مزيدا من العقوبات والضغوط على إيران. والصراع الإيراني الأمريكي هو في الأساس في جانب منه صراع إسرائيلي إيراني.
وفي نفس الوقت يصعب الحفاظ على حالة من الاتفاق بين الدول الكبرى في التعامل مع إيران. فقرار العقوبات الجديد رقم ١٩٢٩الذي اقره مجلس الأمن في الشهر الماضي بموافقة الصين وروسيا استهدف أن لا تقوم الولايات المتحدة من جانبها وبصورة أحادية بفرض عقوبات على إيران. لكن قيام الكونغرس الأمريكي بعد ذلك بتمرير قوانين أحادية الجانب تفرض العقوبات على إيران جعل الصين بالتحديد تشعر أنها خدعت في مجلس الأمن. فقد وقع تفاهم بين الصين والولايات المتحدة يمنع الولايات المتحدة من فرض عقوبات من جانبها بصورة مباشرة على إيران لقاء موافقة الصين على العقوبات في مجلس الأمن. بمعنى آخر هناك شقوق في التحالف الدولي الراهن وحدود لاستمرار هذا التحالف خاصة مع الصين وهذا ما تعرفه إيران جيدا. ويعزز هذا وجود مصالح صينية كبرى مع إيران في مجال الطاقة وفي مجالات أخرى. كما أن انسحاب بعض الشركات العالمية والأوروبية من إيران بسبب العقوبات قد يساهم في جعل الصين تحقق مكاسب تجارية في إيران مما يمهد لصعود دور الصين كدولة كبرى في منطقة الخليج من الباب الإيراني أولا ثم من الباب العراقي مستقبلا.
إن العقوبات التي فرضت قبل أسابيع من خلال قرار في مجلس الأمن ستصيب الشعب الإيراني ولن تصيب النظام، وسوف تساهم في ضرب المعارضة الإيرانية وتقوية النظام وبالأخص الجناح اليميني فيه. هذا ما فعلته العقوبات في العراق وهذا ما قد تفعله في إيران في حال استمرارها. لكن الواضح أيضا أن إيران لن تقبل بعقوبات طويلة، وأنها ستسعى لاستخدام قدراتها في التأثير المضاد، لنتذكر جيدا أن إيران تمتلك المقدرة على التأثير على المعادلات من خلال كل من العراق وأفغانستان ومن خلال حاجة الولايات المتحدة لتأمين انسحابات وتهدئة، كما أنها تمتلك نسبة من المفاجآت في الملف النووي، ولدى إيران المقدرة على تحريك جبهة الصراع العربي الإسرائيلي كما لديها، فيما لو تعرضت لاعتداء، قدرات لتحريك عجلة العنف والفوضى في مناطق مختلفة من العالم الإسلامي. لهذا تمثل إيران قوة إقليمية تمتلك تاريخا وعمقا حضاريا كما ولديها قدرات رمزية ودينية وثقافية وحضارية وسياسية بإمكانها توظيفها في اللحظة المناسبة. إن السياسة الأمريكية بتناقضاتها المختلفة ساهمت عبر تغير النظام العراقي وإسقاط نظام طالبان في أفغانستان وعبر وضع كل ضغوطها السلبية بعد الحادي عشر من سبتمبر ٢٠٠١ في مواجهة كل من المملكة العربية السعودية ومصر في تقوية إيران والإسهام في صعود نفوذها.
تحاول الولايات المتحدة الآن تحجيم إيران بعد أن وجدت أن سياساتها أدت إلى ما أدت إليه. هذا هو الطريق الخطأ للسياسة الأمريكية الذي سيؤدي لفوضى جديدة وتعميق للإرهاب، بل إن الطريق الصائب هو ذلك الذي يتعامل جديا مع الصراع العربي الإسرائيلي بصفته الأساس الذي يساهم في تفجير حروب وكوارث المستقبل. أليس امتداد إيران لجنوب لبنان ولسوريا ولغزة وربما غدا للضفة الغربية مرتبط بوجود صراع عربي إسرائيلي واستيطان إسرائيلي وتهديد يومي للقدس وحصار دائم على غزة؟ المشكلة الأساسية في القدس قبل أن تكون في طهران وواشنطن.
المصدر: الحياة
* أستاذ العلوم السياسية في جامعة الكويت
© منبر الحرية،19 غشت/آب 2010