التناقض الظرفي و ألاحتلال الزمني

peshwazarabic18 نوفمبر، 20100

المجتمع البشري كأي كيان فيزيائي يمكن أن يخضع للدراسة و التحليل العلميين. وقد سبق و أن قدم باحثون خلال القرن العشرين الكثير من المحاولات لدراسة المجتمع على أسس فيزيائية. لقد سبق لي و أن تناولت الموضوع من خلال مشابهة (simulation) المجتمع بالبلازما  Plasma (الغاز الموئين) إضافة لاستخدام مفهوم ترابط الزمان و المكان الذي طرحته النظرية النسبية الخاصة كبعد رابع.
المكان هو مجال الحركة المدركة مباشرة. و الأفراد و المجتمعات والأفكار و التقاليد تتنقل كما تتنقل المادة. و ما دعوات تصدير الثورات و نقل التكنولوجيا و الاحتلالات العسكرية إلا بعض من أنواع هذه الانتقالات المكانية. تجاوز المكان هو محاولة للانتشار و التوسع أنها محاولة للديمومة المكانية. إن أبعاد المكان الثلاثة تمنح حرية للحركة بأي اتجاه ضمن الفراغ الثلاثي الأبعاد.
وقد يصاحب هذا الانتقال تناقض ظرفي مكاني. كتصدير مدافيء إلى المناطق الحارة أو الاستمرار في ممارسة العادات الملائمة للموقع القديم في الموقع الجديد. إن خصوصية المكان القديم تنتقل هي الأخرى إلى المكان الجديد و عدم القدرة على استيعاب المكان الجديد هو ما يخلق تناقضا ظرفيا مكانيا.
نتيجة للتطور التكنولوجي أصبح المكان اصغر بسبب سهولة الانتقال و سرعته وأصبح تأثير الحدث ينتقل بسرعة على مستوى الأفراد و المجتمعات. و لم تعد الشعوب مستقلة بعضها عن بعض كما كانت في الماضي. لذا فان ظاهرة التناقض ألظرفي المكاني أصبحت ظاهرة منتشرة في الشرق و الغرب. و ليس أدل على ذلك من حالة تلبس احد الغربيين بممارسة الجنس على الساحل في دولة الإمارات العربية و مقاضاته. انه مارس حرية يكفلها الغرب له (المكان الأول) و لكنه مارساها في دولة أخرى تعتبر هذا التصرف ممنوع قانونا (المكان الثاني). أو كما في مقاضاة عائلة مسلمة زوجوا ابنتهم من شخص اختاروه أهلها لها في انكلترا (المكان الثاني) و هذا يعد تصرفا غير قانونيا في انكلترا و لكنهم من الباكستان وهذا التصرف مقبول و مرحب به في هذه الدولة الإسلامية (المكان الأول). إن احتكاك المجتمعات المختلفة زاد من ظاهرة التناقض هذه. وما الانتقال المكاني إلا سببها الأساس. و من ظواهر الانتقالات المكانية الخطرة التي عانت منها المجتمعات ظاهرة الاستعمار و الاحتلال. من خلال هذه الانتقالات تتم السيطرة على مجتمع في موقع مكاني أخر و خلال هذه العملية تحدث الكثير من التغيرات الاجتماعية الخطرة. مثال ذلك خضوع المجتمعات العربية للسيطرة العثمانية و بغطاء ديني و لمدة خمسة قرون تقريبا أدى إلى الكثير من التغيرات الاجتماعية و الفكرية و قاد إلى انحطاط اجتماعي ثقافي خطر مازالت أثاره المدمرة فعالة لحد ألان.
إن الانتقال المكاني حالة مألوفة و طبيعية لكون المكان عبارة عن امتداد يمكن الحركة خلاله و بثلاثة أبعاد. الانتقالات المكانية تتم خلال فترة زمنية لا تشكل تغيرات الأحداث فيها شيئا يذكر. الزمن هنا لا يشكل قيمة انتقالية كما يشكل تغير المكان. و الامتداد لا يدرك إلا من خلال إشغاله أو احتلاله وعلى ذلك يعرف المكان من خلال وجود المادة فيه. أما الزمن الامتداد الآخر فيدرك من خلال التغير و الحركة.
و لكن هذا الامتداد الزمني هو ببعد واحد فقط فهل يمكن احتلاله و السكون فيه مثل احتلال المكان و السكون فيه و البقاء و عدم المغادرة؟ الاستعمار أو الاحتلال هو نوع من أنواع الانتقال من مكان إلى أخر ثم الاستقرار و السكون في المكان الجديد. و قد عرف تاريخ البشرية أنواع مختلفة من هذه الانتقالات المكانية. أما الانتقال عبر الزمن و احتلال الزمن لم يتم التطرق له إلا من خلال بعض الدراسات الفيزيائية النظرية الصرفة.
بعيدا عن الخيال العلمي الزمن يتجه باتجاه واحد من الماضي نحو الحاضر و المستقبل. و هكذا نتجه جميعا. و المادة لا يمكنها أن تنتقل من الحاضر نحو الماضي أو ما يسمى بانعكاس الزمن (أو الزمن السالب). من الناحية ألنظريه يمكن التعامل فيزيائيا مع الجسيم المنفرد هكذا و لكن الأجسام المركبة فالأمر مختلف. على أية حال ليست المادة هي ما نقصده في هذه الدراسة و إنما الأفكار و العادات و التقاليد ألاجتماعية.
وهنا نناقش مسألتين هما:
1-    الانتقال عبر الزمن
2-    السكون و احتلال الزمن
إن الأنماط الفكرية المختلفة يمكن أن تنتقل أو تحتل الزمن كما تحتل المادة المكان. و انتقال الأفكار عبر حواجز الزمن المختلفة مسالة طبيعية وهكذا و صلتنا أفكار و عادات الأقدمين و هذا الانتقال هو السبب الأساسي وراء تراكم المعرفة لتتطور و تنمو.
أما ألاستقرار الزمني أو الوقوف الزمني فهو حالة تصف الجمود و عدم التغير و مواكبة الزمن. وهناك الكثير من التيارات الفكرية التي ترى في الماضي النموذج الفريد الواجب بقائه وهذا ما يعني السكون و البقاء عند فترة زمنية معينه و عدم الرغبة في تجاوز حاجز الزمن. هذه الظاهرة هي ظاهرة احتلال الزمن و البقاء فيه وعدم مغادرة موقع معين فيه.
ظاهرة احتلال الزمن و محاولة التوسع بتصدير الثورات الفكرية القديمة عبر ألازمان الأخرى ظاهرة إجحاف لا تختلف في شيء عن ظاهرة احتلال المكان من قبل شعوب أخرى و فرض إرادتها على شعوب ألاماكن المحتلة. هذه الظاهرة هي السبب الأساسي وراء ما سبق وان أسميناه بالتناقض ألظرفي (ٍSituational paradox) و لكن بجانبه الزمني. و كما لا توجد أفضلية لمكان ما على أخر إلا من خلال اعتبارات نسبية فكذلك لا يوجد زمن أفضل من أخر.
لقد عرف الفكر العربي الإسلامي القديم ظاهرة الجمود الزمني ويمكن أن تكون مقولة المفكر الإسلامي الأول الإمام علي بن أبي طالب “لا تُكرهوا أبناءكم على أخلاقكم فإنهم خلقوا لجيل غير جيلكم” هي أقدم إشارة فكرية أدركت هذه الظاهرة و التي عمرها بحدود 1400 سنة. إنها تصريح بعدم الجمود و البقاء عند إحداثيات الإباء. هذه المقولة تأشر نقطة مهمة في تجنب المساهمة في خلق التناقض الزمني كظاهرة اجتماعية مابين جيلين ( جيل الآباء و جيل الأبناء). فكيف سيكون الحال لو تم التجاوز إلى عدة أجيال؟
أن معظم ظواهر التناقض الاجتماعي و المشاكل الفكرية و السياسية التي تعيشها الدول العربية و الإسلامية سببها الأساسي هو الاستعمار الزمني و السكون في إحداثيات الزمن القديم. لقد بقيت هذه الشعوب في حالة سبات حضاري لمدة طويلة من الزمن مما شكل ظاهرة فريدة في تاريخ المجتمعات البشرية. وأخطر تأثير لهذا الاستعمار الزمني هو سيطرته الفكرية التي تعيق حركة نهوض و تقدم هذه الشعوب بالرغم من إمكانياتها المادية الكبيرة.
لاشك أن من يفضل مكان على أخر يذهب و يقيم في المكان الذي يرغب به و على ذلك يجب ان يفعل من يحب الماضي عليه ان يذهب اليه ليعيش فيه لا ان يفرضه على الحاضر ليحتله.
© منبر الحرية، 30 مارس 2009

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.
جميع الحقول المشار إليها بعلامة * إلزامية

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

تواصل معنا

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018