تعد قضية التقارب والوحدة العربية والإسلامية من أهم القضايا التي انشغل بها التفكير الإحيائي العربي والإسلامي منذ بداية القرن العشرين، وقد تم التركيز على هذه الفكرة كهدف كبير يسعى إليه العرب والمسلمون في كثير من الدراسات والكتب والمؤتمرات التي جرى (ويجري) التأكيد فيها باستمرار على أن التقارب بين المذاهب الإسلامية ضرورة وواجب ديني ودنيوي استناداً إلى النص المقدس وسيرة الأصحاب والفقهاء والعلماء، كما وتم اعتمادها أولوية (وثابتة) فكرية لدى معظم الحركات والتيارات والجماعات الإسلامية في كل أنحاء العالم العربي والإسلامي.
ولكن الذي حدث –في سياق التحولات الهائلة- هو أن البناء النظري لهيكلية الدعوة إلى تحقيق هدف الوحدة بقي مستغرقاً في الجانب الذاتي الشعوري الذي يحشد الخطابات الانفعالية، ويثير الحماس اللاعقلاني، ويهيج العواطف الجياشة.. ولكن من دون وجود أي فعل عملي مؤثر، الأمر الذي انعكس عجزاً كاملاً عن تحقيق أية وحدة على أرض الواقع (إسلامية كانت أم علمانية)..
وبالإضافة إلى ذلك كانت خطابات دعاة الوحدة في ذلك الوقت -ويبدو أنها لا تزال بمعظمها كذلك- تركز على إثارة المشاعر العروبية والإسلامية في مواجهة قضية المصير المشترك والعدو المشترك الذي يتمثل في ضرورة إسقاط الصهيونية والاستكبار العالمي.. بحيث يظهر الأمر في الواقع وكأن خطاب الأيديولوجيا العروبية والإسلامية –كغيره من الخطابات الأيديولوجية- لا ينبني ولا يكتمل عوده إلا في أجواء التوتر والتناقض والقلق والعف الدائم.. وهنا تبدأ عملية حشد النصوص والأدلة التي تثبت صحة وجهة نظرهم هذه.. وهي أدلة معروفة للجميع على كل حال.. ولكن المسألة هي أننا في الوقت الذي لا نقلل فيه من حجم التحديات الخارجية التي يتعرض لها العرب والمسلمون، وضرورة لمّ شملهم في مواجهتها، لا نريد لهم أن يبالغوا (إلى درجة المزايدة وممارسة التضليل وتزييف الوعي وزيادة جرعات الاستقطابات الأيديولوجية الحادة) في طرح شعاراتهم وأهدافهم في واقع كوني صعب ومعقد ومتشابك.. بحيث أنهم إذا عجزوا عن تحقيقها من أول مواجهة استنكفوا عنها وتركوها (بعد دفع التكلفة الباهظة طبعاً) بحجة قوة تلك التحديات وأنهم لم يحسبوا حسابها من قبل.. حيث أن المواجهة تحتاج إلى نفس طويل وبعد نظر ووعي دقيق في تقدير حجم الهدف المطروح والمطلوب تحقيقه.. وهدف الوحدة لا يزال للأسف -في خطابات أكثر التجمعات والنخب والتيارات الإسلامية- فارغاً من مضمونه الواقعي العملي، ولا يستند إلى مشروع نهضوي عام، ركيزته العقل والعلم والتفكير الدائم الذي يقوم على دراسة متغيرات الزمان وتحليل جغرافيات الواقع السياسي والإنساني العالمي، ومعرفة طبيعة ما يدور في عالم اليوم والغد.
من هنا نحن نعتقد بأن العرب والمسلمين لا يمكن أن يتحركوا خطوة واحدة لا في طريق التضامن ولا في طريق الوحدة ما لم يطرحوا على أنفسهم أسئلة إشكالية هامة أسميها أسئلة الوعي الأساسية، ويحاولوا الإجابة عليها عملياً، وهذه الأسئلة هي:
-كيف يمكن تحقيق التضامن والتلاقي والتكامل السياسي والاقتصادي في ظل سيطرة أجواء ومناخات التخلف الفكري والتعصب الثقافي والتفكك السياسي والتبعية الحضارية العلمية الكاملة على واقعنا المعاصر الذي يمكن اعتباره أسوأ ما وصل إليه العرب في تاريخهم القديم والحديث، بحيث بات من شبه المستحيل لمجتمعاتنا اليوم أن تحل أبسط الخلافات وأتفه المشكلات بالأساليب العقلانية السلمية أبداً، بل أصبح استخدام القوة وتكريس وسائل العنف المختلفة هو الحكم والفيصل بينهم؟!..
-وهل يمكن للعرب والمسلمين الآن تحقيق تلك الوحدة المنشودة (عربية أم إسلامية، دينية أم علمانية)، وهم لم يستطيعوا بعدُ إنجاز استقلالهم السياسي والاقتصادي الحقيقي عبر البدء الفوري والعاجل بإصلاحات سياسية وثقافية واقتصادية تغير واقع الحال السائد كشرط أساسي لا بد منه للسير على طريق تلك الوحدة المزعومة؟!.
ثم –في الأصل، وفي الأساس- ما هو المبرر الفكري والعملي للحديث الراهن عن قضية الوحدة (أو مجرد اتحاد أو تكامل العرب والمسلمين مع بعضهم لتحقيق بعض مصالحهم هنا وهناك) في مواجهة عالم كوني معولم لا نزال بعيدين عن تحقيق أدنى تأثير في صنع وبرمجة بعض سياساته واتجاهاته التي تسيطر عليها مؤسسات سياسية واقتصادية دولية عملاقة ونافذة كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة الدولية وتحالف الدول الصناعية السبع وو.. غيرها؟!.
إن المسألة الكبرى التي عجزنا حتى الآن عن فهمها وتمثلها هي أنه لا يمكن تحقيق أي عمل أو هدف نرغب به من دون إنجاز وبناء شروطه ومتطلباته الرئيسية ولبناته الأساسية الداخلية في كل بلد من البلدان العربية والإسلامية حيث أن لكل بلد مشاكله والتزاماته وعلاقاته وتعقيداته وأزماته الخاصة والعامة.
وأنا هنا لا أريد أن أجعل القارئ محبطاً ومتشائماً.. ولكن القضية هي أنه قلّ –في كل واقعنا التاريخي الفائت والحاضر- أن واجهنا قضايانا والتزاماتنا بعقول باردة قلوب واعية شفافة تعترف بالأخطاء وتدقق بالتفاصيل، وتنزع إلى دراسة الجزئيات والتأسيس عليها بهدوء وشجاعة ومسؤولية جزئية أوكاملة.. فنحن نظهر غالباً ووربما دائماً –في عالمنا العربي والإسلامي- انفعاليين وفوضويين (فوضى الأيديولوجيا، والسياسة، وفوضى الاجتماع والاقتصاد، وفوضى القرار والاستراتيجيا)، نضع أنفسنا في مواجهة شعارات وطموحات وأهداف كبيرة وواسعة الآفاق تستلزم إمكانيات ميدانية وإجرائية ضخمة قد لا تكون متوافرة لدينا مباشرةً.. أي أننا لم نعمل أبداً على قطع خطوات عملية حقيقية تناسب حجم الهدف في بعده العملي الممكن التحقق والانجاز.. والنتيجة الحتمية لذلك هي الفشل الذريع في كل شيء والبدء بموشحات توجيه اللوم والسب واللعن للأعداء، وتوزيع الاتهامات الجاهزة على الآخرين هنا وهناك.. ومن النادر أن نجد –في اجتماعنا الديني العربي والإسلامي- من يوجه اللوم لنفسه، ويمارس النقد لواقعنا الداخلي، ويحمله مسؤولية الفشل الكبير في تحقيق الهدف، مع العلم أن إحداث أي تجديد أو تطوير في داخل الفكر الإسلامي يحتاج إلى مراجعة نقدية شاملة..
وبالنظر إلى ذلك أستطيع أن أقول بأننا لا نمتلك أسس واضحة نستطيع تمثلها والسير عليها للوصول إلى تحقيق أي هدف من أهدافنا (ومن بينها هدف الوحدة المزعومة)، والدليل على صحة هذا الزعم هو وجود كل هذا المناخ العام الضاغط من اليأس والكسل والتعب الذي تعاني منه شعوبنا نتيجة انعدام أي فرصة أمامها لتحقيق التغيير الحقيقي المنشود.. وهذا ما يدفعني إلى التساؤل: إلى متى ستبقى الأجيال المتلاحقة تدفع الأثمان الباهظة لأهداف لم تتحقق، ومقاصد لن تنجز بالاشتراطات السائدة والمناخات والرموز القائمة حالياً التي كلفت الأمة كثيراً من الدماء والدموع؟!!.
إنه سؤال إشكالي خطير ومأساوي، يضعنا أمام حقائق واقعنا المعقد، ومشاهد الدمار الهائلة التي نراها تتكرر فصولاً أمام أعيننا وبصورة شبه يومية، والتي نعتقد بأنه من المستحيل الوقوف في وجهها والبدء الجدي في تفكيك عراها من دون أن ننجح في بلورة مشروع التغيير الداخلي العربي الداخلي، من حيث هو رؤية فكرية وسياسية واضحة المعالم والأساليب.. ومن حيث هو قوة منظمة وواسعة الانتشار قادرة على قيادة عملية تحويل حقيقي للعالم العربي في اتجاه تحرير المجتمعات من العوائق الفكرية والسياسية والاقتصادية والقانونية التي تكبلها وتشل نشاطها وتفاعل أبنائها مع أنفسهم ومع الآخرين.. أي في اتجاه التنمية النشطة والتعددية السياسية واحترام حرية الإنسان كموجود فاعل ومؤثر.
© منبر الحرية، 23 أبريل 2009