peshwazarabic18 نوفمبر، 20100

لاشك في أن أهمية العلوم والمعارف تكمن في خدمتها لأغراض إنسانية، خاصة عندما تتعلق خلاصاتها وتطبيقاتها بالكشف عن الحقائق والإفادة منها. ولكن حينما “توظف” هذه المعارف والعلوم لأهداف سياسية وحيدة الجانب، فإنها لابد وأن تنحرف عن طبيعتها وأهدافها الإنسانية السامية لتتحول إلى “خادمة” منصاعة للحاكم أو للطبقة الحاكمة أو للموقف السياسي المقصود. وللمرء أن يلاحظ هذه المسلمات قبل مناقشة شيوع ظاهرة إستخدام علم الإحصاء في العالم العربي لخدمة أهداف سياسية تحت عناوين مغرية من نوع “إستطلاع الرأي”، وهي عناوين يراد لها أن تخدم تمرير رأي معين، بإسم الجماهير، على أنه رأي غير قابل للنقاش لأنه رأي الغالبية. وهكذا إنتشرت في وسائل الإعلام العربي ظاهرة إستطلاعات الرأي على نحو ملفت للنظر في الفترة الأخيرة، ليس كمحاكاة للإستطلاعات التي تقدمها معاهد علمية متخصصة في الولايات المتحدة الأميركية (كمعهد غالوب)، ولكن كأداة لتمرير أفكار “مبيته” أو موصى بها، أو كعصا لضرب “الرأي العام” الحقيقي وتحجيمه.
الملاحظ في هذا السياق هو أن إستطلاعات الرأي العام هي ظاهرة أميركية لها تاريخ فلسفي طويل يتصل بطبيعة “العالم الجديد” وبميله القوي إلى التفرد وتكريس الإختلاف مع أوربا، خاصة مع بريطانيا. لذا ناقشت أذكى العقول البريطانية (خاصة في عصر الثورة الصناعية) هذه الظاهرة ولم تؤل جهداً في نقدها، إبتداءً من تشارلز ديكنز Dickens و جون ستيوارت مل Mill وإنتهاءً بعبقريات رفيعة من عيار ماثيو آرنولد Arnold وأوسكار وايلد Wilde. والحق، فإن مسألة الإستطلاعات لا يمكن أن تؤخذ عنواناً واحداً ووحيداً للديمقراطية، ذلك أن النقاد البريطانيون لظاهرة الأمركة Americanization الكاسحة، من أمثال الأسماء المذكورة أعلاه، عدّوا الموضوع نموذجاً للإنجراف وراء رأي “الأكثرية” بديلاً عن “الأقلية”، بإعتبار أن الحكمة وبًعد النظر هي من صفات الأقلية وليس من صفات الأكثرية التي كان ينظر اليها بإزدراء ودونية أحياناً!
بيد أن أميركا تبقى أميركا، “عالم جديد” متمسك بإتباع الأغلبية على حساب الأقلية درجة تطوير هذا الإتجاه بطرائق علمية رصينة تبلورت في إستطلاعات المراكز العلمية والصحافة الرصينة من عيار الـ(نيويورك تايمز) أو الـ(واشنطن بوست). هذه الصحف والمراكز التخصصية تقدم خلاصات إستطلاعات الرأي بطرق مسؤولة، لأنها تضطلع بها بأساليب إحصائية دقيقة، فتقدم هذه الخلاصات دون تحوير أو تغيير أو ليّ أو عمليات تجميل، درجة أنها تكون مستعدة للمساءلة القانونية وللتدقيق العلمي من قبل اية جهة أخرى، حكومية أو قضائية. لذا يُعتد بإحصائيات أو إستطلاعات معهد غالوب على نحو علمي من قبل أرفع مراكز صناعة القرار في واشنطن.
وإذا كانت المحاكاة من أفضل أساليب التعلم، فإننا في العالم العربي لا نتعلم كثيراً لأننا في أغلب الأحيان نعجز عن المحاكاة الدقيقة، الأمر الذي يفسر عدم دقة إحصائيات وإستطلاعات الراي والجداول الرقمية التي تقدمها الفضائيات والصحف والمجلات وحتى الكتب المختصة أحياناً، خاصة الآنية، الإعلامية والدعائية، التي راحت تعتمد إستطلاعات الرأي لموضوعات تافهة من نوع إستطلاع رأي الجمهور بأداء راقصة أو بمغنِ ! أما في الموضوعات السياسية المهمة والحساسة، فإن هذه الإستطلاعات غير قابلة للتحقيق أو للتدقيق، ولكنها تسرب عبر الشاشات وصفحات الحرف المطبوع بلا مسؤولية وبلا قانونية وبغض النظر عن الوسائل العلمية التي اعتمدت للخروج بخلاصاتها. هكذا يحاكي بعض العرب الأميركان في الشكل دون المضمون.
وحيث يمثل إستخدام علم الإحصاء لأغراض سياسية حرفاً خطيراً لمسار وأهداف هذا النظام العلمي من أجل التاثير، عن بعد، على الراي العام لتشكيله كما يريد “راعي” الإستطلاع، فإن علينا أن نعترف أن ماضينا كان سباقاً في توظيف التاريخ لأهداف سياسية. فمنذ نهاية عصر الخلفاء الراشدين (رض) برزت على سطح التاريخ العربي الإسلامي الأهمية القصوى لتوظيف التورخة والمؤرخين بالطرق السياسية من أجل أهداف من نوع تبرير إدعاء اسرة أو سلالة معينة بالخلافة على حساب اسرة أخرى، أو من أجل تتبع الأصول العائلية والقبلية عبر أنواع النسابين المرتزقين، خاصة مع تصاعد الصراع بين العرب والأعاجم في العصر “الذهبي” للحضارة العربية الإسلامية التي شهدت صعود نجم “الشعوبية” كإفراز سلبي من هذا النوع من الشوفينيات. لذا لم يكن من الغريب أن يجد الباحث، من بين رجالات “البلاط”، المؤرخين والنسّابين المعتمدين من قبل صانع القرار، إضافة إلى شعراء البلاط ومداحيه وجنرالاته ومهرجيه من بين سواهم من أفراد الحاشية المتخصصين. لقد كان مؤرخ البلاط عبر تواريخ الأمم من أهم “الموظفين” الذين يتم إستدعائهم لإستشارتهم عند الحاجة، خاصة عندما يظهر مطالبون جدد بالسلطة. إن أهم واجبات هذا النوع من المؤرخين هو الاحتفاظ بالوثائق وبشجرات العائلات وبكل مامن شأنه تمجيد الحاكم وإصطناع خلفيته التاريخية، بغض النظر عن علمية ما يقوم به.
بيد أن الطريف في هذا السياق هو أن ظاهرة توظيف العلوم بهذه الطريقة قد تواصلت حتى في العصر الحديث وبعد تحقيق العديد من الدول الإسلامية والعربية الإستقلال السياسي. وهذا ما تمت ملاحظته مع الحملة التي شهدتها العقود الأخيرة من القرن الماضي، تحت عنوان “إعادة كتابة التاريخ”، حيث تمت رعاية اللجان الكبيرة والمؤتمرات المتعددة المشحونة بالإيفادات وبالولائم وبالمكافآت النقدية من أجل تحقيق تسجيل إنتقائي أو إنتخابي لصفحات التاريخ، على النحو الذي يخدم أهداف هذا العلم “الوطنية” أو التعبوية. وهكذا عاش المؤرخون والنسابون عصراً ذهبياً في العديد من هذه الدول، خاصة عندما كانوا يتميزون عن سواهم في تتبع أنساب الرعاة إلى شخصيات أو أسر تاريخية لها وقعها الإعتباري والعاطفي في النفس الجماعية. وكانت أخطر الظواهر قد تمثلت في ركوب المؤسسات الأكاديمية لخدمة مثل هذه الأغراض، وهكذا أسست معاهد ومؤسسات بحث مختصة بـ”ضخ” أطروحات الماجستير والدكتوراه التي تمجد الحاكم وتطري أفكاره وتطلعاته أو تبرر ما أقدم عليه من أفعال.
وليس ببعيد عن هذا النوع من التوظيف السياسي، تبرز ظاهرة “الإستفتاءات” التي تشبه الإستطلاعات، حيث تأتي النتائج الباهرة، كما كان متوقع لها، بنسب لا علمية ولا واقعية من نوع 99.9% أو 100% على طريق خدمة الأهداف السياسية للمتنفذين، كما حدث في إستفتاءات “الترئيس” التي إعتمدت في عدد من الدول العربية في العقود الأخيرة.
لقد كانت ظاهرة تسخير العلوم والمعارف في تاريخنا القديم والحديث معروفة بوصفها حالة مؤسفة، ولكن أن يقوم البعض بوضع قناع العالِم على وجهه وعباءة الأكاديمي على كتفيه من أجل تمرير أرقام يراد لها تشكيل الراي العام بطرائق منحرفة، فإن هذا هو من أخطر ما يحيق بالجمهور العربي اليوم.
© منبر الحرية، 13 أبريل 2009

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.
جميع الحقول المشار إليها بعلامة * إلزامية

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

تواصل معنا

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018