peshwazarabic18 نوفمبر، 20100

لا يفلت الذين تابعوا الثقافة العربية عبر العقود الخمسة الأخيرة من القرن الزائل، إمتداداً إلى هذا اليوم، من الإنطباع القاضي بأنها ثقافة قد سقطت في فخ أو دوامة الإجترار والتكرار. وتتجلى هذه الظاهرة المؤسفة على نحو لا يقبل الشك عبر أية مراجعة، مهما كانت سريعة، لما يسمى بالدوريات الثقافية الرئيسة التي كانت تصدر في بيروت، ثم ما لبثت وأن راحت تنتشر كالفطر في مختلف العواصم العربية التي غالباً ما أرادت حكوماتها أن تبدو مواكبة لركب الثقافة العربية المعاصرة أو راعية لها عبر التودد إلى أبرز كتابها ودعاتها وممثليها عن طريق إنتاج وإعادة إنتاج ثم تسويق مجلات ثقافية من هذا النوع الذي وقع ضحية لتكرار الأفكار ولإجترار القضايا المثيرة للجدل اللانهائي الذي يملأ الرأس بالضجيج اللامجدي، ناهيك عن رعاية هذه العواصم لأنواع المؤتمرات والمهرجانات والمنتديات الثقافية والأدبية التي، هي الأخرى، تقدم البينة تلو البينة على عِنّة ثقافة وجدت نفسها حبيسة بين جدران زنزانة إختارها لها “أساطين النهضة العربية” منذ نهايات القرن الماضي لتبقى هناك تجتر ذات الأفكار وذات اللازمات عبر لغة غدت “محنطة” بسبب هذا النمط من التكرار ونظراً للعجز الذي أبداه هؤلاء “الرواد” عن إيجاد أو إبتكار مصطلح عربي موازي للتطورات المعاصرة مصطلح فكري، لا مترجم ولا معرب، بل من معطيات عقل ذكي قادر على إيجاد موطيء قدم لنفسه في عصر متغير مشحون بالجديد والمشرق.
ربما يستفز هذا المدخل هؤلاء الذين قدموا أنفسهم كفلاسفة للعالم العربي في عصره الراهن، وأغلبهم (للأسف) كانوا ناقلين أو معربين لما إكتسبوه عبر حضورهم في صفوف المدارس الأوربية، ثم الأميركية مؤخراً. لقد قدم هؤلاء أنفسهم وكأنهم “أبناء رشد” أو “ابناء خلدون” جدد، خاصة في المغرب العربي حيث كانت لعبة المصطلح المترجم أو المعرب من أكثر الألعاب إثارة وأغراء للقراء العرب من المحيط إلى الخليج، الأمر الذي قاد إلى ظهور جيوش من الكتّاب أو “المحاكين” على سبيل إجترار ذات الأفكار، وذات المصطلح المرة تلو الأخرى حتى ضقنا ذرعاً بهذا التكرار الذي عبر عن نفسه في مختلف حقول وفضاءات الثقافة، إن فكراً وفلسفة، أو أدباً وشعراً: وهكذا بقينا نراوح في ذات البقعة عاجزين عن فك الإرتباط بقضايا أصبحت مدعاة للتندر والإستهزاء من قبل الغربيين المتابعين لثقافتنا الحائرة منذ يقظة النهضة حتى اليوم بين الحداثة والتراث، التراث والمعاصرة، بين الشعر الحر والشعر التقليدي، بين قصيدة النثر ونثر القصيدة، وكأن العالم ينتظر بياناً يقدمه أحد خريجي الجامعات الفرنسية لحل هذه الأزمات والأسئلة والإستفهامات الكبيرة التي أعيت جميع المثقفين العرب منذ بداياتهم عبر قراءات مجلات وصحف بيروت المختصة بهذا النوع من المجادلات اللامجدية في زمن يناقش العالم فيه قضايا ومسائل أكبر وأوسع، بينما نبقى نحن نئن ونشكي من ويلات الإستعمار والإمبريالية، ناكرين معنى لفظة “إستعمار” التي صارت بدرجة من العجمة والغموض أمام أعيننا، أنها غدت قادرة على حمل جميع أعبائنا المثقلة بالتراجع والنكوص، وجميع خطايانا دون أن تبقى قادرة على حفظ المعنى الجوهري كما إستقر في قعر العقل العربي، راسباً على نحو تصعب معه إزالته أو إقتلاع شأفته.
لقد إعتادت ثقافتنا وصفحاتنا الإعلامية والفكرية التكرار والإجترار حتى صار الأخير هو وسيلتنا الوحيدة لتغذية العقل العربي الذي إمتص كل ما يمكن أن يمتص من المكرور والمجتر درجة أنه راح يعاني من سوء تغذية وفقر دم بسبب إستحواذ عدد من الأقلام والأسماء على هذه الثقافة باعتبارها هي “أنوار اليقين” لثقافة قابعة في نهاية نفق لا ضوء فيه ولا فتحة ضوء يمكن أن تقود إلى أجواء الإنفتاح على العالم وعلى الثقافات الأخرى التي تحررت مما يشغلنا ويستحوذ على عقولنا من قضايا ومصائب جعلتنا ندور في فراغ وحلقات مفرغة منذ سقوط الدولة العثمانية حتى الآن، درجة ظهور من يدعو لعودتنا إلى العثمانية وإلى ذلك العصر الذي ثرنا عليه وإستبدلناه بالكولونياليات الأوربية ثم بالإستعمار الإستيطاني الذي قدم لنا “أم المشاكل”، ثم “أم المعارك” التي لم نزل في إنتظار انفضاضها حتى نباشر مرحلة تكرار وإجترار جديدة!
لقد دأبت الدوريات الثقافية الشهيرة التي غالباً ما تنتهي عناوينها بلفظة “العربي” أو “العربية”: الثقافة العربية، قضايا عربية، آفاق عربية، العالم العربي….إلخ، نقول بقيت هذه الدوريات والمجلات تحتكر الخطوط العامة لتوجيه التفكير الثقافي في العام على نحو يؤول إلى لجم التجديد والإبتكار وبترهما وإلى وضع العقل المبدع في صومعة مظلمة لا مخرج منها. وهكذا إحتكرت بعض الأقلام أهم التوجيهات بطريقة أنها تحولت إلى ديكتاتوريات ثقافية، أشبه ما تكون بالديكتاتوريات الحكومية، أو “الديناصورات” الثقافية التي توجب التمرد عليها وإزالتها كي تدفع الثقافة في عالمنا العربي بنفسها إلى عالم جديد، عالم شجاع لم يعد يقبل بالتكرار وبالعِنّة غير القادرة على التوليد والتجدد.
© منبر الحرية، 09 يونيو/حزيران 2009

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.
جميع الحقول المشار إليها بعلامة * إلزامية

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

تواصل معنا

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018