تشترك الغالبية العظمى من المؤسسات الأكاديمية العربية بمشاكل ومعضلات متناظرة أو متطابقة أحياناً. وبغض النظر عن التمايزات والإختلافات القطرية والإقليمية المحدودة التي غالباً ما ترد إلى تنوع ظروف كل بلد عربي على جهة، فإن التناظر يبقى هو السمة الأبرز للكينونات الجامعية العربية. وتدل العلاقة الشائكة والمنطوية على التنافر أو التجافي بين الجامعة والمجتمع في أغلب هذه الدول على ما نفترضه من “شراكة” جامعية عربية في الإشكالات والإخفاقات، الأمر الذي يبرر تصاعد الأصوات عالية في مرافق أغلب الحكومات العربية بالشكوى من أن المؤسسة الأكاديمية لا تلبي متطلباتها وطلباتها من ناحية، ومن أن مخرجات التعليم العالي في الدول المعنية، برغم سخاء الحكومات العربية عليها، تبقى دون المستوى المطلوب معرفياً وعلمياً وعملياً، الأمر الذي يبرر حاجة هؤلاء الخريجين إلى “تدريب جديد” أثناء الخدمة الوظيفية In- Service Training. لذا كانت ظاهرة الحديث الشائع عما يسمى بـ”الأمية المقنّعة” المنتشية في الدوائر الإعلامية والثقافية العربية من إفرازات هذا “الطلاق بالثلاثة” بين المجتمع والجامعة.
وللمرء أن يتريث حيال توظيف كلمة “الطلاق” في مثل هذا السياق المعقد، ذلك أن المقصود به هو ليس المسافة الواسعة الفاصلة بين الجامعات وجموع الجمهور والنشء والشبيبة، وإنما المقصود به هو تحول أغلب الجامعات العربية إلى “مكائن” صماء للإنتاج الواسع من الخريجين الذين نادراً ما يرقون بمستوياتهم الثقافية والمهنية التخصصية إلى مستويات المؤمل والمطلوب من قبل دوائر القطاعين العام والخاص على حد سواء. لذا، فإنه من ناحية أعداد الطلبة المنتظمين بالدراسة والمقبولين بصفوف المؤسسات الجامعية هي بدرجة من الإرتفاع أن المخرجات راحت تتدنى على نحو متوالية هندسية نظراً لغياب المفاهيم الأكاديمية الصحيحة والعريقة، وبسبب غلبة إهتمام القيادات الجامعية بالكم وليس بالنوع، على طريق إرضاء القيادات السياسية من خلال تقديم “أرقام” صماء بأعداد الدارسين والخريجين.
وتبقى القيادات الجامعية في الدول العربية حبيسة لهذا النوع من “التخريج بالجملة” الذي يزيد من تدهور العلاقة بين الجامعة والمجتمع، ذلك أن الأخير عندما يقتطع جزءاً كبيراً من مدخولاته وإيراداته من أجل الإستثمار الأكاديمي البعيد المدى، فإنه ينتظر أن يحصد الفوائد من السنابل المعطاء الثقيلة. بيد أن السنابل المنتشرة عبر أراضي واسعة كأقطار العالم العربي غالباً ما تظهر ضعيفة ومنحنية، ليس بسبب ثقلها، وإنما بسبب الأمراض المعرفية والثقافية والإجتماعية التي تخترقها. ويمكن أن تُرد هذه الظاهرة المؤسفة إلى غياب فلسفة تربوية جامعية واضحة المعالم بأهداف صلدة يمكن توخيها في العمل الأكاديمي. إن غياب مثل هذه الرؤية بين العديد من القيادات الجامعية هو الذي سوّغ لها سياسات القبول الواسعة وسياسات التوسع في فتح التخصصات والدراسات العليا الجديدة دون دراسة وافية للإمكانيات وللكوادر المؤهلة للإضطلاع بمثل هذه التوسعات الخرافية احياناً. في جامعة بغداد، على سبيل المثال، يشكل عدد طلبة كلية واحدة فقط رقماً أكبر بكثير من عدد طلاب جامعة كاملة بكليات وفروع متنوعة النخصصات في الولايات المتحدة الأميركية أوكندا أو ألمانيا. وفي الوقت ذاته، برزت في الكليات العربية ظاهرة تحول الصف الدراسي أو ما يسمى بقاعة المحاضرات “تجاوزاً” إلى شيء أشبه ما يكون بعلبة الساردين، حيث يزدحم الطلبة والطالبات في الصف، جلوساً ووقوفاً قبالة أستاذ مسكين مستباح، منهك من تكرار ذات الجمل وذات المعادلات على السبورة صباحاً وظهراً ومساءً. هذا ما يبرر ظاهرة غياب الحاجة إلى حضور المحاضرات وتعاظم حالة أعداد الطلبة المتغيبين الذين لا يجدون الفائدة المرجوة من الإستماع إلى المحاضرة أو من المشاركة في النقاشات العلمية التالية لها. في مثل هذه القاعات المكتظة والمحشوة بالطلاب والطالبات تتلاشى الحاجة إلى المناظرات الفكرية وإلى الأسئلة والأجوبة والمشاركة الصفية، خاصة وإن جملة واحدة من كل طالب تكفي لتمديد مدة المحاضرة لساعات. وهكذا برزت ظاهرة تفضيل “المذاكرة” في البيت أو الدراسة “على الحساب الخاص” بين جموع غفيرة من الطلاب الذين لا يرومون من الإلتحاق بالجامعة سوى الحصول على “وجاهة” الشهادة الجامعية التي تؤهلهم للتعيين ولركوب مركب الدولة الكبير الذي يجهزهم بالوظائف وبالمرتبات المناسبة لتأهيلهم للزواج ولتأسيس عائلات، وهكذا. هذه دورة شريرة من “التنمية المتراجعة” أو العكسية التي نعاني منها، والتي تخفت أصواتنا عند الحديث حولها، خشية تناهي هذه الأصوات إلى مسامع الوزراء والمسؤولين الكبار.
إن من يطلع على المؤتمرات والندوات وحلقات النقاش الجامعية الإقليمية والعربية لابد وأن يتفاجاً (إن كان غير عارف بالحقائق على الأرض) باعدادها وتعقيدات موضوعاتها، الأمر الذي يعطي إنطباعاً بالتقدم المهول للمؤسسات الجامعية. بيد أن الحقيقة تختلف عن مثل هذه “اليافطات” والأنشطة الإعلانية والإعلامية التي يراد منها الترويج للإيفادات ولتغيير الجو بالنسبة لبعض المشاركين بها. أما المنظمات الأكاديمية الإقليمية، فإنها لم تعد سوى عناوين لهيئات أو منظمات شبحية لا تزيد عن مكاتب مهجورة مزودة بالضرورات المكتبية وبالسكرتيرات اللائي لا يُحسّن سوى المهاتفات والمناقشات حول أسعار المواد الإستهلاكية في الأسواق المحلية. ويبدو أن “إتحاد الجامعات العربية” غير قادر على الإضطلاع بتفعيل دور محسوس وقوي على سبيل الإتساق والتطوير العربي في حقول الجامعات الرسمية والخاصة، ذلك أن الدوائر الأكاديمية لم تسمع منه عن أي نشاط حقيقي فاعل، بل أن بعض الأساتذة حتى لا يعرفون بوجود مثل هذا الإتحاد !
إن القيادات الجامعية والقيادات السياسية في كل دولة عربية بحاجة إلى الإلتقاء للإرتقاء بمستوى الأداء الأكاديمي. هذا ما لا يمكن أن يتم عن طريق إقتصار رؤية القيادات السياسية كـ”ممول” فقط، ممول لبناء وتأسيس جامعات وكليات جديدة لا يهمه سوى الأرقام والمخرجات المجردة. إن الحاجة تبدو اليوم ماسة لأن تضطلع هذه القيادات، بنوعيهما، على الإلتزام بفلسفة أو بعقيدة جامعية تجيب على عدد من الأسئلة المهمة، ومنها: (1) دور الجامعة في المجتمع كمركز مستنير للتطوير والتقدم؛ (2) دور الجامعة في دعم وتكريس خطط التنمية الوطنية والقومية، كمنهل ومصدر للأفكار والمشورة والخطط والكوادر؛ (3) ما هي المؤسسة الأكاديمية، هل هي مركز للبحث والإستقصاء العلمي فقط، أم إنها مصدر لتخريج الكوادر والخريجين ؟ (4) من هو خريج الجامعة، هل هو الإنسان العارف والمتقن لمهارة ما، أم إنه الإنسان المهذب The Gentleman المجرد ؟ (5) هل يمكن للجامعة الإضطلاع بأدوار في دعم الحكومة في المجالات الإستشارية ومجالات إعارة الخدمات، أم إنها ينبغي أن تحافظ على مسافة “جمالية” مقدسة بينها وبين دوائر الدولة ؟ (6) كيف يمكن الإستفادة من التجارب الأكاديمية في الدول المتقدمة، هل يتحقق هذا عن طريق الإستنساخ المجرد أم عن طريق “النسخ” الأعمى للتجارب الأجنبية بإعتبارها دخيلة وغير موائمة للواقع المحلي؟
إن مناقشة هذه وسواها من القضايا الحساسة يمكن أن تساعدنا في بناء فلسفة لمؤسسات أكاديمية رفيعة ترقى بنفسها إلى تأملات المجتمع وآمال العاملين فيها من أساتذة وطلبة وموظفين. بدون مثل هذه الفلسفة تبقى الكليات والمؤسسات الأكاديمية، التي تنتشر في المدن والقرى العربية كما ينتشر “الفطر”، من نتاجات فائض الأموال والتفاخر بالكم على حساب النوع، الأمر الذي يحيلها من جامعات بمعناها الفلسفي الكوني الصحيح إلى ساحات أو إقطاعيات للتشبث الفردي وللإجتهاد الشخصي الذي يباشر الكلية أو الجامعة وكأنها مشروعاً إستثمارياً مسجلاً بإسم الفرد أو بإسم الموقع.
© منبر الحرية، 02 نوفمبر/تشرين الثاني2009