حين تصبح الحرية معجزة من المعجزات

peshwazarabic18 نوفمبر، 20100

لكل إنسان الحق في حرية التفكير والتعبير ، وله الحق في العيش بكرامة واحترام، لا يكمم فمه، ولا توضع أمامه القيود والعراقيل لكبح طاقاته أو الحد من أنشطته وتحركاته ، لا يظلم ولا يُظلم ، لا يسفه ولا يُسفه ، لا يعتدي ولا يعتدى عليه ، هذا ما جاءت به الشرائع السماوية واتفقت عليه جملة وتفصيلا ، وهذا ما أقرته القوانين الأرضية والمواثيق الدولية ، وهذا ما حثت على تطبيقه اتفاقيات ومعاهدات تاريخية  ودعت إلى الالتزام به منظمات وهيآت وجمعيات دولية وقطرية .
لكن وفي شيء قد يسمى عبثا بالوطن ، وفي بلد يرقص مسؤولوه على أنشودة ” منبت الأحرار ، مشرق الأنوار ” ، لا يمكن لأي باحث عن الحرية في معانيها النبيلة وغاياتها السامية إلا أن يقف مصدوما من هول ما سيرى ويسمع في دولة يدعي الممسكون بزمام قراراتها بأنها دولة حق وقانون ، ولا يمكن لهذا الباحث في نهاية المطاف إلا أن يصلي صلاة الجنازة ويقيم حدادا دائما  على حرية تم تنكيس أعلامها ومحو ما تبقى لها من آثار جميلة من قبل حماة ودعاة العهد الجديد.
قد يختلف معنا في هذا الطرح ثلة من المتفائلين بمسيرة مغرب ما بعد الحسن الثاني ، وقد لا يتفق وإيانا كثير من الساسة حول هذه النظرة الخاصة بالحرية في مملكة محمد السادس ، وقد نوصف بأننا عدميون من أتباع التشاؤم الهدام ، وقد ننعت بأننا متسرعون في إصدار الأحكام ، وقد نتهم بأننا نطلق الكلام على عواهنه دون الإتيان بأدلة وحجج تزكي وجوب الحداد في وطننا . لكن من ينظر بحياد في واقعنا المعاش سيجد لا محالة أن الحرية في هذا البلد أضحت معجزة من المعجزات لا يتمتع بها إلا من أوتي جوامع القربى وروابط الصلة بمحيط ومراكز صنع القرار ، وتقييم أبسط لمظاهر وصور الحريات بصفة عامة خلال عشرية العهد الجديد يزكي هذا الأمر ، فإذا أخذنا حرية التعبير ـ على سبيل المثال لا الحصر ـ و تأملنا في كيفية تعامل السلطات معها في هذا العهد لما كفتنا في رصد وتعداد الخروقات المسجلة بهذا الخصوص كتب ومجلدات ، ذلك أن المنظرين لهذا العهد عمدوا وبعقلية ناسخة للماضي إلى تكميم الأفواه المعارضة لهم بأساليب وحشية ، فطوروا لهذا الغرض آليات سنوات الرصاص ،واستغلوا في هذا التطوير مؤسسات وسلطات قمعية حولت كل مواطن يعبر عما يعتريه ويخالجه بطريقة من الطرق التعبيرية السلمية، والتي لا تتوافق ومشاريعهم الذاتية إلى متهم يبحث لنفسه عن براءة مفقودة لا تمنح له إلا بعد التوقيع على جملة محاضر تلزمه بعدم التفكير في التعبير وتجبره على عدم التعبير عن التفكير . وهكذا سمعنا طيلة عشر سنوات عن مواطنين يختطفون آناء الليل وأطراف النهار ويعذبون في مخافر ومعتقلات لأنهم حاولوا التغريد خارج سرب ” المنظرين ” وبحثوا بحق عن حرية حقيقية تخول لهم العيش بكرامة وتبعدهم عن وطن تمتهن فيه الآدمية وتبخس على أراضيه كل الحقوق ، ولا زلنا لحدود اليوم نسمع عن صحفيين ومدونين ومفكرين وباحثين ونشطاء حقوقيين وسياسيين يلقون خلف قضبان سجون احتقارية بتهم لا يستسيغها عقل ولا يقبلها حر حتى يكونوا عبرة لغيرهم ممن سولت لهم أنفسهم الاستعانة بالألسنة والأقلام وأدوات التكنولوجيا الحديثة، للتعبير عن ذاتهم ومجتمعهم وإيصال أصواتهم إلى أبعد الحدود . والنتيجة بطبيعة الحال استمرار للماضي الأسود فينا ، وإتلاف لما تبقى من حروف الديمقراطية ، وتوزيع للحرية على حسب المقاسات ، وزرع للخطوط الحمراء على كل الجهات ، وتربص دائم بكل من يجعل من اللاءات سلاحا له في المناسبات النضالية والمواسم الاحتجاجية .
حين تمسي الحرية في الوطن مكرمة ويصبح التمتع بها معجزة ، وحين يكون القمع سنة ومنهاجا ، وحين يصبح التعبير عن الرأي جرما عظيما يذيق صاحبه سوء العذاب ، لا يمكن لهذا الوطن إلا أن يكون مقبرة للأحياء . وحين تغلق مقرات الصحف والجرائد ويرابط على أبوابها عسكر مدجج بالسلاح لمجرد أن صحفييها حرروا تحقيقات أو تقارير تنتقد الوضع السوداوي القاتم أو نشروا على صفحاتهم رسوما كاريكاتيرية ساخرة أو آراء لاذعة تكشف بجرأة عن المستور وتفضح المخفي، فلا يمكن لوطن كهذا أن يعيش فيه المواطن إلا غريبا وبائسا ومتشائما . وحين تحجب المواقع والمدونات الالكترونية وتصادر حواسيب أربابها وأصحابها قبل أن تتحول إلى صكوك اتهامات غريبة تجرجرهم في محاكم تدينهم دون النظر في ملفاتهم لمجرد إيمانهم بالحرية وتصديقهم لشعارات رفعها ويرفعها منظرو العهد الجديد ، فلا يمكن لوطن هذه أحواله إلا أن يتشح مواطنوه بالسواد ويعلنون الحداد على الحرية إلى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا .
حين تقول منظمة هيومن رايتس ووتش  بأن الحكومة المغربية ” تلجا إلى تشريعات قمعية وبمساعدة قضاء مجامل لعقاب وسجن المعارضين …، وكل ذلك من أجل حراسة الخطوط الحمراء التي تحرم انتقاد المؤسسة الملكية ” … وحين تقول منظمة العفو الدولية بأن طي صفحة الماضي بالمغرب سيبقى ” مجرد تمرين في العلاقات العامة لا غرض له سوى تحسين صورة المغرب ” وسيظل ” مجرد وعد ضائع ”  ، … وحين نقرأ ما تبقى من التقارير الدولية والتي تصنفنا مع الدول التي ينعدم فيها السلم ، أو تخندقنا مع البلدان التي تتفنن في انتهاك حقوق الإنسان أو تجعلنا في أسفل سافلين مع الأوطان التي لم تستطع الرقي عن خانة التخلف والتقهقر .
حين نسمع ونقرأ كل ذلك ونقارنه بما تجود به علينا الحكومة والسلطات بهذا البلد من بيانات رسمية منفوخة بالأكاذيب ، ومواقف مماطلة ومحملة بأرقام ثقيلة على ميزان وميزانية الإنجازات ، وتصريحات مفرطة في تضخيم التبريرات والتسويفات ، لا يمكننا إلا أن نتساءل بغصة أمام هذه التناقضات والمفارقات عن الوقت الذي سينتهي فيه هذا النفاق السياسي .
إن قمع الحريات وتكميم الأفواه ووأد الأصوات المعارضة وغير ذلك من الأساليب الرجعية المتبعة حاليا والمنبوذة على مر التاريخ ، لا يمكن أن يساهم في بناء حاضر آمن أو مطمئن ، وإن فسح المجال للغيورين على هذا الوطن ومواطنيه ، وتمكينهم من الإدلاء بدلائهم في مختلف القضايا والشؤون دون تضييق عليهم أو تحقير لآرائهم وأفكارهم  لهو السبيل الأنجع والأنجح لمواجهة ما يعترض هذا البلد من عوائق وحواجز تحول دون تقدمه وتقف في سكة مزاحمته لدول وبلدان استطاعت باحترامها لآدمية الإنسان وبتحقيقها لحقوقه وبتعظيمها لقيم الحرية و مرتكزاتها أن تحرر شعوبها من أزمات الداخل وتربصات الخارج.
© منبر الحرية، 19 فبراير/شباط 2010

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.
جميع الحقول المشار إليها بعلامة * إلزامية

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

تواصل معنا

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018